شعورٌ عارمٌ بالغبطة والسعادة ، طيرٌ محلّقٌ بلا أجنحة ،الفضاءُ الرَّحبُ لا يسعه ؛ فالفرحةُ تغمرُ كيانَه ، حتى لا تكاد قدماه تطأ الأرضَ من شدةِ السعادةِ التي تسربله ؛ وهو يقرأ إسمه بين أسماء الناجحين ،ليس هذا فحسب بل ولقد كان مجموع درجاته عاليا ؛ ومعدله أكثر من سبعٍ وتسعين بسبعة ِأعشار الدرجة ؛ وهذا ما يمنحـه الفرصة لدخول أي كلية عالية المستوى ، كالكليّة الطبيّة أو أحدى كليات الهندسة المرموقة ، معـدلٌ سيؤهله للبدء بحياة جديدة أسمها الحياة الجامعية ؛ حيثُ الفتياتُ الجميلات ،اللواتي كثيراً ما سَمِع عنهن من أخيه الأكبر ، كيف يكنَّ ، وكيف يتعرّفـن على (زملائهن ) وكيف يتعرف الزملاءُ بهن ! نعم لقد كدَّ وتعب من أجل هذا اللحظة الموعودة والتي طالما حلم بها ، نعم لقد وفّي نذراً ، وعهداً قطعه على نفسه أن يكون نجاحه ليس نجاحاً عادياً؛ بل متميزاً ؛ ليشار إليه بالبنان وليقال عنه : الأول على مدرسته ، أو الأول على مدارس الرصافة أو على بغداد مثلاً أو حتى العراق ؛ فطالما سيكون من الأوائل في بغداد ؛ فمن الضروري أنه سيكون من الأوائل على العراق للعام 2001 ؛ وهاهو يعلم اليوم ، إنه الأول على تربية الرصافة ، بمعدّل سبعٍ وتسعين درجةً وسبعةِ أعشارِ الدرجة !
لقد كان يحلم ومنذ دخوله القسم العلمي ؛ بأن يكون طبيبـــاً ؛ فلقد زهد في أن يكون إداريـاً أو محامياً بل صيدلانياً أو مهندســاً ؛ فعائلته الكبيرة والصغيرة تكاد تغصُّ بالمهندسين من كافةالإختصاصات الهندسية ، إعتباراً من الهندسة المعمارية ، والكيمياوية ، والمدنية والإنشاءآت ، والنفط ، وآخرها هندسة الطرق والجسور ، وتذكّـر عمته ؛ فلقد كانت مهندسة ري وبزل ، ولن يكون صيدلانيا ً ؛ لأن الصيدلة ستعني أن يجلس وراء منضدة عالية ، ووراءه عشرات الأغلفة التي بداخلها أنواعٌ متعددة من الأدوية ذات الروائح النفّاذة والتي تُثير عنده الحساسية ، أو يدور من رفٍ لآخر ليوفّـر الدواء لمن جاء يطلبه ، بل وسيكون كعطارٍ في سوق الشورجة لكنه إستدرك و قال في سره ( مع الإعتذار للصيادلة فلولاهم لهلك البعض ) ؛ لذا فهو قد فكّـــر : سيكون من الأجدر و الأنسب له وللعائلة أن يكون طبيباً ؛ السبب بسيط ٌ جــــداً ؛ لأن ليس في العائلة من كان يحمل لقب {طبيب – دكتور} ولا يريد أن يكون إقتصادياً خريج إدارة وإقتصاد ؛ فهذه إختصاصات إنسانية وهو فرع علمي ، ولا يريد أن يكون محاميـا ؛ لما يحمله المحامي من مراوغة وإخفاء لبعض الحقائق من أجل تبرئة موكله ؛ حتى وإن كان قاتلاً مع سبق الإصرار والترصد ، وهذا أيضاً لخريجي الدراسة الأدبية !
أريدُ أن أكون طبيبـــــاً بشريا ! ردد ذلك مع نفسهِ وسرح بخياله ، ياله من شعورٍ طاغٍ بالزهو والغبطة وهو في أعلى درجة من درجات نشوة النجاح ، وتصّور نفسه كيف سيكون وضعه ، عندما يضع السماعة - والتي ستكون شعاره في الطب - وهو يضعها في إذنيه ويستمع إلى دقات قلب أول مريض يفحصه .... لا لا سيكون هو أولُ من يجرّب السماعة ؛ عندما يفحصها بعدةِ نقراتٍ من إصبعه ، بعدهـا يضعها على جنبه الأيسر ليستمع إلى ضربات قلبه المتسارعة ، ثمَّ يمد يده اليسرى ليجسَّ النّبضات المتسارعة و التي يكاد شريانهُا ينفجرُ تحتَ ضغط إبهام يده اليمنى ؛ يتأكد بعدها أن كلَّ شيءٍ سيكون على مايرام . ؛ أنها الآن صالحة لإستبقال مرضاه ، وبالتأكيد ستكون اُنثى ؛ فهن رقيقاتٌ ، سريعاتُ العطب ، ولأقل وعكة صحيّـة يذهبن للطبيب !
لطالما حلم أن يكون قريباً من النساء ؛ لا حبـــاً بهن فحسب ؛ و لأنهن دائمات التعطّــر وقلما تجد إحداهن وهي تسير بلا عطرٍ فواح ، أوبلا زينةٍ كاملة ، أصابع ملونة البنان ، وألاظافر تزهو بأجمل الألوان ، تسريحات الشعر وهو يتماوج كشلال ( كَـلي علي بك ) ما أجمله من شلال ومن شعور بالشعر وهو ينسدل على أكتافهن التي تكاد تنكسر من رقتها كحرير ناعمٍ ، ياللروعة وياللجمال أنه حقاً ما يتمناه المرءُ وما يرغب فيه . لا يعرف كيف تسلل له الشعور بأن الرجال أكثر عرضه من النساء للإصابة بمختلف الأمراض أو إصابات العمل ؛ فهو والحالة هذه سيكون مضطراً لفحص الرجال مع ما يفوح من أجسادهم من رائحة العرق والتي تجعله يشعر بالغثيان عندما يمرق أحدهم من جانبه ، وفكّـر هذا لايهم طالما أن النقود التي سيجنيها ستكون كافية لإكمال دراسته ، دراسته ! نعم سيُكمل الدراسة التي تؤهله لأن ينال أعلى المراتب العلمية ، الماجستير ، لكنه وفي الثانيةِ الثانية َإستدرك ؛ لماذا لا تكون دراسته، الماجستير والدكتوراه في نفس الوقت ! نعم هذا أفضل وأقل عناءً وهو في نفس الوقت سيبُقيني منشغلاً بجو الدراسة والإستفادة من كلَّ ثانية أقضيها من أجل الحصول على مبتغاي .
وفكّـــر : هو الآن في السابعة عشر ؛ [فلقد سبق زملاءه بعامٍ دراسيٍّ كاملٍ نتيجةً لتفوقه الدائم في الدراسة ] ، غضٌّ ، قد خُطَّ شاربه توّاً ،لكنه قويُ البنية ، جسمٌ رياضي ، يكاد طوله يكون أفضل من أقرانه . مع ما يمتاز به عنهم بما يملكه من روح المثابرة والجـد في اُمور الدراسة والتحصيل العلمي ؛ فما كان ليفوّت محاضرة واحدة خلال السنة الدراسيّة الأخيرة
وثانية ثاب إلى رشده ؛ فللوصول إلى مبتغاه النهائي أي { الدكتوراه } عليه أن يحسب بدقة كم سيكون عمره وقتذاك !
وكما تعوّد أن يفعل كلما أراد أن يخطو خطوة في تحصيله العلمي والمهني ؛ بــــــــــدأ يحسب وكانت بداية حسابه الرقم { ستة } !
و بأصابعه بدأ يحسب ، لكن، بتمهلٍ وبدون إستعجالٍ أو تهــوّر ؛ لأن المستقبل مهمٌ و يجب أن يتم الحساب له دونما تهاون ، ودونما إغفال لأي جانب من جوانب الحياة الأُخرى ؛ ستة ، نعم ستة ؛ الكلّية الطبية الدراسة فيها ستُّ سنوات ،ثلاث أو اربع سنوات طبيباً مقيمـــاً ، سنة دراسية تحضيرية للماجستير أو على أكثر تقدير سنة ونصف ، لتكن سنتان ! وستكون ثلاث سنوات للدكتوراه ؛ وأفرد أصبع الخنصر من يده اليسرى ، {ست سنوات، أربع سنوات البنصر ، الوسط سنتان ، السبابة ثلاث سنوات ، الإبهام وكان هو المحصلـة النهائية ، خمسة عشر عامـــــا }، وأضاف سبعة عشر ؛ فكانت النتيجة { إثنان وثلاثون }، واتسعت عيناه رعبـــاً ممزوجـــاً بالإندهاش ؛ فأعاد الحساب ثانيةً على عجل ،( ست + أربع+ إثنان + ثلاث= إثنان وثلاثون ) وصرخ يا الله يا مندادهيي ! إثنتان وثلاثون سنـــةٍ على أقل تقدير ، متى سأتزوج ، متى سأكوّن عائلة ، متى ...... آلاف المشاريع في بالي ، السفر ، التمتع بمباهج الحياة ، وهل سأتزوج عندما أتخرج من الكلّـــية أم عندما اُنهي الدكتوراه ، أم خلالهما ، أو أثناء الماجستير؟ وعاد يُسائل نفسه ،أنا أعرف إن الزواج والطب خصمان أبديان ؛ خاصة لمن كان مثلي يريدالحصول على ما يُريد بأسرع وقت ! الزوجة لها حقُهـــــــا ، والطبُ والمرضى لهم الحق أيضاً في إهتمامه بهم ، والعيادة ...العيادة ! كيف نسي أن يضع العيادة في حسبانه ، الطبيب ( يجب أن تكون له عيادة ) هذا هو المنطق الصحيح والمعمول به في جميع الأوقات وفي جميع البلدان ، نعم ستكون لي عيادة ، لكن متى سأكون في العيادة ومتى سأعود إلى البيت ؟ الزوجة لها حقها الطبيعي والمرضى لهم حقهم والمستشفى والخفارات ، والحالات الطارئة ويمكن أن يطلب أحدهم عيادة في بيته كيف سيكون وضعه لو أن أحداهـن جاءها المخاض وأرادت أن تضع وليدها ! تُرى كيف ساُوفق بين الإثنين ؟
ياإلهي ما أصعب أن يكون الإنسان طبيبـــــا ! وماذا لو تزوّج وأنجبت زوجته مولوداً ؟ ماذا ؟ وليدٌ في البيت ؟ كيف هذا ؟ لا ، لا أُريد أن أتزوج كيلا يُفسدَ عليَّ الوليدُ ما اُخطط له ؛ إن المستقبل أكثر أهمية من إنجاب الأطفال ، لكن أبي يحبُّ الأطفال ، وسيكون سعيداً عندما يحمل حفيده بين يده ،يناغيه ويلاعبه ويدلعه ، وماذا عن أمّـي ؛ فهي الأخرى لا تمّـــلُّ من الإنجاب ، ورعاية الأطفالِ هوايتها المفضّلة ؛ فمنذ أن وعيت وتفتحت عيناي في هذا العالم ، وأُمّـي أمّـا حاملاً أو أنها وضعت وليداً جديداً قبل شهر أو شهرين ! إنه أمر لا يُصدّق ! ياإلهي ما العمــــــل ؟ لو حملت زوجتي ووضعت توأمـــــــاً ، توأم ! إنها والحق يقال ستكون الطامة الكبرى ! كيف سيكون وضعي ووضع زوجتي وهي تتحمّـل أعباء بكرين ، البكر الواحد حمل ثقيل على الزوجةِ الحديثةِ الولادة ؛ لطالما سمعتُ أن المولود البكر تكون تربيته في غاية التعب والإرهاق للأم ، تؤأم ، وماذا سيحدث لو كان التوأم مختلطا ! وماذا يفرق لو كان كذلك لا أدري ولا اُريد أن أعرف ، لا ،لا إن هذا الأمر خارج عن إرادتي وإرادة زوجتي ، إنها إرادة الله أن نبتليَّ بتوأم ! لا يهم سأتدبر الأمر مع أمي ، وإن كان الأمر فوق طاقتها سأعمل على إستخدام مربيّة ، أو مدبرة منزل لتحملَ بعض الأعباء عن زوجتي . وما هي إلا لحظة ، حتى إستدرك هذا الموقف الطاريء ، لكن كم سيكلّــــف هذا الإستخدام وأنا في أول سلّمة على طريق بناء حياتي المهنيـّة ؟ وفي اللحظة التالية ، همس يحاور نفسه : إذا كان أمر الزواج بهذا التعقيد سأقوم بتأجيل الزواج لما بعد الدكتوراه ، هذا أفضل وأسلم لكن ، من سيقوم بأمور البيت ، في حال قيامي بتأجير بيتٍ بعيداً عن بيتنا الحالي ؟ ، ولماذا تأجير بيت ؛ وسأكون في معظم الأوقات في المستشفى ، لكن من سيقوم بغسل ملابس وتهيئة الطعام ، -الزواج والطب خصمان لدودان - ؛ فلهذا فمن الأنسب ألّا اتزوج لأني لن أكون متفرغـاً للزوجة ومطاليبها التي لن تنتهي ؛ خاصة وأنها ما زالت عروسا ! ومن يضمن لي أنها ستكون متفرغة لي ولإحتياجاتي ، إحتياجاتي ! وحينها هوت على أمِّ رأسه صاعقة لم يكن قد وضع لها حساباً ولم يعرها قبل الآن أية أهمية ؛ أنا دكتور ، و.. وضعي الإجتماعي يحتّـم عليِّ أن أتزوج بمن تليق بمستواي وبمركزي ومركزها يجب ألّا يقـل عن مستواي العلمي ؛ فقد يحدث وأن اُعيّن أستاذاً في إحدى الكليّات الطبيّة وعندها سيكون الأجدر أن تكون زوجتي طبيبة أيضـــا أو لنقل : لتكن مهندسة على أقلِّ تقدير؛ لأن المهندسين أقل إنشغالاً من الأستاذة في الكليات الطبيّة ، وانتبه لامر قد سها عن باله : في أي المواضيع سيكون إختصاصي ؟ إختصاصي ، هو طب الأطفال ، لا ، لا الأطفال لا يتكلمون ليفصحوا عمّـا بهم ، إذن سأكون طبيب باطنية ، ولماذا لا يكون الأمر باطنية وأطفال ؛ لكثيراً ما أقرأ في شارع الرشيد ، وحافظ القاضي ، وشارع السعدون بالذات ( دكتوراة باطنيّة وأطفال ) ، وسرعان ما نفى تلك الفكرة أيضا ، أنا لا أحب أن اعالج الأطفال ؛ لأني لا أعرف كيف اُمسك بأحدهم ، إذن سأختار ( جلدية وتناسلية ) وغرق بعدها بضحكة مكتومة وهو يتساءل : ما علاقة الجلدية بالتناسلية ؟ ألم يكن الأجدر أن تكون بولية وتناسلية ؛ للمجاورة بين الإثنين ! لا يهم ، ليكن ما يكن ،المهم أني الدكتور ......ولم يُكمل الجملة التالية ؛ فلقد كانت هناك يدٌ توضع على كتفه الأيمن وصوت أبيه يسمعه يقول له : هيا لنذهب إلى دائرة الجوازات لإستخراج جوازسفر باسمك ؛ ليتسنى لنا الخروج من العراق بأسرع وقت ؛ فسيكون عمرُك في العام القادم ثمانيةَ عشرَ عامــــاً ولن يكون بعدها بمقدورك مغادرة البلــــــد ، ولن نغادر بدونك ......