طباعة هذه الصفحة
الجمعة, 07 حزيران/يونيو 2013

مصير الشيطان

  هيثم نافل والي
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

قبلَ وأثناء حرب الخليج الأولى؛ عاشَ عزيز سلام، معَ زوجته إلهام عواد في مدينة بغداد، لا يملكان في حياتهما، سوى كرامتهما وعزة نفسيهما التي توارثاها بجدارة عن أجدادهما.

كانَ يحيى وحيدهما... عاشَ وشّبَ على الدلال المفرط، خاصةً من أمه التي لا ترفض له طلباً مهما كان،   ومرات قبلَ أن يشير إليها بأصبعه الصغير.

يعمل أبوه الصائغ بورشة تابعه له، في نفس المنطقة التي يسكنها، يصوغ فيه خواتم الزواج الرجالية، تلك التي يصنعها من مادة الفضة؛ ينقش عليها من الداخل، اسم الزوجة وتاريخ  الزواج بيده الخشنة التي يظهر عليها آثار جراح قديمة مازالت وكأنها لم تندمل بعد؛ لاستعماله أدوات الصياغة البدائية التي لا يفكر بتغييرها لنقص المال؛ لذلك كانَ يصوغها بطرقها ومعالجتها حرارياً في نفس الوقت، بينما ينقش الأسماء والتواريخ بقطعة حديدية مدببة من طرف واحدة، غالباً ما تنزلق أثناء النقش جانباً، فتأكل من لحم يده أكثر مما تحفره في الخواتم.

في حين كانت أمه ربة بيت وعلى قدر بسيط من التعليم، تتعامل مع من يحيطون بها بالفطرة، ولا تطمح إلا لإسعادهم، لتعيش من أجلهم، كراهبة.

عاشَ يحيى بلا كفاءه تذكر؛ واستمرَ يأخذُ مصروفه اليومي من أبيه.

وفي احد الأيام التي كانَ يقضي فيها عطلته الربيعية في منطقة الحبانية معَ أصدقائه للترفيه عن نفسه بعد فصل دراسي منهك! وعلى شاطئ البحيرة الجميلة آنذاك، تعرفَ على طيف قاسم، والتي تعتنق نفس ديانته، وهذا ما شجعه أكثر ليقدم على الخطوة التالية، وهو يعلم علم اليقين، بأن في مجتمعه الضيق لا يعترفون ولا يسمحون بالعلاقات التي تسبق الزواج، فطيف كانت بالنسبة له حلما يراه في الحقيقة.

طيف، تلك الشابة الجميلة، ذات العينين الخضراوين بلون الشجر... أنجذبَ لها، لتبادله الشعور ذاته، ليكونا بعد ثلاثة أشهر من تعارفهما خطيبين دونَ تخطيط مسبق لحياتهما القادمة، بعد أن أقنع أبويه بخبث وحيلة ومكر الثعلب، بجدوى الزواج المبكر! سمعهُ الأب وهو صامت لا يعرف ماذا يجيب، بينما فرحت الأم بطيبتها الساذجة بقرار ابنها الوحيد.

لم يعش بعدَ زواجه أكثر من تسعة شهور في منزلهم القديم، ليقرر فجأة السفر إلى خارج العراق برفقة زوجته، على الرغم من أنه مازالَ طالباً جامعياً. صعقت الأم بالخبر، وبدأت توسلاتها المكوكية أولاً مع الزوجة، وعندما لم تصل معها إلى أي اتفاق، ولم تجد فيها أذنا صاغية، استغفرت ربها وقالت في سرها: مسكينة لا تعلم ماذا ينتظرها هناك في الغربة. ثمَ حاولت معَ ابنها تترجاه بقلب يعتصرهُ الألم، في كل كلمة تنطقها:

 يا بني لا تجعل حسرتي عليك تأكلني، فأنا لم أعش إلا من أجلك، لا تفكر بأنانية الطفل، فكر بأبيك المريض الذي أصبح نظره  ضعيفاً جداً، لا يرى الخواتم التي يصوغها إلا بشق النفس، وأنا، ماذا تظنني؟ كيفَ سأعيشُ بدونك؟ هل فكرت بنا؟ لا تكن قاسياً كالصخر، أتوسل إليك بأن لا ترحل وتتركنا، لا تقتلنا في الحياة، أرجوك، وأجهشت في بكاء متواصل مر الذي يقطع أوصال من يراها، إلا ابنها الجامد كقالب من الثلج، يسمعها ويراها تبكي وتنتحب، وهو يتأفف من الضجر!

سمعَ الأب بالخبر، فأوصى ابنه بأن يزوره في ورشته بعد انتهاء دوامه الرسمي، كي لا تسمع الأم ما سيدور من حديث فيؤذيها؛ انتظر الأب طوال النهار ولم يأتيه! وفي المساء كررَ طلبه بعدَ أن تعذر يحيى بأسباب وجدها والده بأنها واهية، غير مقنعة، لكنه لا يملك الكثير من الأوراق في يده، وهو يعلم بأن ابنه يستطيع السفر دونَ الرجوع إليهما، رغم ذلك أصّرَ على مفاتحته بالموضوع لعله يتراجع فيغير رأيه، لكن انتظار الأيام القادمة لم تجدِ نفعاً؛ وفهم الأب تلك النوايا على أنها أجوبة صريحة، لا يريد يحيى المواجهة في موضوع قد حسمه وأصبحَ في حيز التنفيذ، فأجبرهما على الخضوع، وهم صاغرون.

ودعتهم الأم بالدموع، والأب بالأحضان والقبل، بينما يحيى يستعجل الوقت ويأمر زوجته متلذذاً، صارخاً:

هيا يا طيف، سنتأخر على موعد الطائرة، ألم تنسي شيئاً؟ هلً أخذتِ معك كل أشيائك الثمينة؟ لأننا قد نحتاجها هناك، من يعلم؟ ثمَ يلتفتُ إلى أبيه وهو يغمز قائلاً:

وأنتَ يا أبي لا تنسانا، فإننا هناك سننتظر ما ستبعثه لنا من مال، سأتصل بكم كلما احتجتُ إلى شيء، أعدكما بذلك! ثمَ آمراً زوجته مجدداً: هيا يا طيف فالطائرة...

ناحت أمه: معَ السلامة يا بني، كن حذراً وأعتنِ بنفسك وبزوجتك جيداً، اتصل بنا كلما سمحت الظروف بذلك، أرجوك، وهي تودعه أجهشت بالبكاء، تجعل من يراها يموت آلاف المرات، إلا ابنها.

سافرَ يحيى وهو مازال بعد لم ينهِ دراسته الجامعية، بينما كانت زوجته قد أنهت دراستها الإعدادية، لتبدأ حياتهما الجديدة في مدينة نيويورك الأمريكية، وسط انبهار وتعجب استمرَ لعدة أسابيع، فالحضارة الحديثة، والبنايات الشاهقة، والشوارع  المزدحمة، حتى بدت المدينة لهما وكأنها تدور، كل شيء فيها يجري بسرعة حتى الأطفال الذين مازالوا يحبون.

اضطرا  للعيش على ما تقدمه لهم بلدية المدينة من معونات، تلك التي تقدم للذين هم تحت خط الفقر، بالإضافة إلى دعم الكنيسة، ذلك بتزويدهما بالمواد الغذائية التي نفد تاريخ صلاحيتها، ولكنهم يوزعونها للفقراء، حتى تعود يحيى بالوقوف في طابور طويل مرة كل بداية أسبوع للتزود بما يفيض من تلك المواد.

فكرَ يوماً بالاتصال بأهله عندما بدأ الجوع ينهش بطنيهما، بعد أن فشلت كل محاولاته للحصول على فرصة عمل يعيشان منها، خاصة وأنه لم يكمل دراسته الجامعية؛ انتظرَ ذلك اليوم لحين قدوم المساء في توقيت بغداد:

-  الو... مرحباً يا ماما، أنا يحيى.

- نعم يا حبيبي، كيفَ هي صحتك؟ وكيفَ حال زوجتك؟ ألم تصبح زوجتك حاملاً بعد؟ هل تأكلُ جيداً؟ قل لي بصراحة ولا تخبئ شيء على أمك يا ولد...

- نحنُ... نحنُ بخير يا ماما، كيفَ حالَ أبي؟ قولي له أرجوكِ بأننا نحتاج إلى بعض المال، والعنوان قد أرسلته في رسالتي الأخيرة لهذا الغرض!! أرجو أن يعجل الإرسال يا ماما.

- رددت منزعجة:

الو... الو...  انقطع الخط، ولم يقل أي كلمة وداع، لا أحبك يا ماما، ولا أي كلمة اشتياق؛ ثمَ  استطردت وهي تدافعُ عنه:

قد لا يملك حق الاتصال؟ لذلك انقطع الخط! ثمَ أردفت متألمة: لم يعطني فرصة للكلام، كي أخبره بما حصل!! ولكن كيف سيقع الخبر عليه؟ لا، لن أخبره، آه... يا ربي، ماذا يمكن لي أن أفعل؟ أنه رجل وعليه أن يتصرف أيضاً كالرجال، لكنه وحيدي وأخافُ عليه، لم أعد أملك في الحياة سواه، آه... رأسي يكاد ينفجر، يا ألهي( هكذا كانت تخاطب نفسها، كالمجنونة )

بعدَ ثلاثة أسابيع، عاودَ الاتصال مجدداً:

- الو... مرحباً يا ماما، نحنُ مازلنا ننتظر المساعدة، ألم يرسل أبي شيئاً؟

- ... سكون، كصمت القبور بلا جواب.

- الو، ماما هل تسمعينني؟

- نعم يا بني أسمعك جيداً،  ولكن...

فضحها صوتها المرتبك، بكت بصوت موجع، كمن تقطع يده دونَ مخدر.

- ماما، ماذا حدث؟ تكلمي أرجوك، هل أبي بخير؟

- بصوت مرتجف، وبنبرة حزن عميق، وبحسرة خانقة كالمرء الذي يشعر بأنه سيموت بعد ساعة أردفت قائلة:

أبوك يا بني... قد... قد ماتَ قبلَ خمسة وعشرينَ يوماً، ودفن في مقبرتنا، وقد تصرفت بورشته كي أسدد تكاليف الدفن، حتى أنها لم تكفِ، ولم يسوَ قبره سوى بحفنة من التراب، دون زهور يا يحيى، هل سمعت؟ دون زهور... وأجهشت في البكاء مجدداً.

-  الو... ماما، أرجوكِ أن تتحلي بالصبر، وأن تمسكي أعصابك  فالوقت يجري، والمكالمة تكلفني كثيراً،  أرجو أن تركزي معي، وقولي لي بسرعة، ماذا ترك لنا أبي؟!

- نعم يا بني، أنا أتفهم ظروفكم جيداً، لكن أبوك لم يترك لنا ما هو ثمين، وأنتَ تعلم بأنَ الفضة التي كانت بحوزته، لا تساوي شيئاً يذكر الآن، وأدوات الصياغة التي يمتلكها كلها قديمة والصدأ يملؤها، فكل هذه الأشياء لا تساوي اليوم حق كيس من الطحين الأسمر المخلوط بالنخالة؛ آه... يا بني ماذا أقول لك؟ الأمور لم تعد كما كانت عليه في السابق، وعلى الرغم من أنك لم تتركنا سوى ستة أشهر، ولكن كل شيء قد تغير هنا وبسرعة مذهلة...

- ماما، سأضطر لغلق الخط... ينقطع الخط دون أن يودعها، وهي مازالت تتحدث...

معَ السلامة يا بني، اعتنيا بصحتكما أرجوكما، افعلا ذلك لأجلي، واعلم بأني أحبكما كثيراً جداً، أجهشت في بكاء متواصل، كما يبكي الطفل، وأضافت:

 لقد أصبحت وحيدة يا بني، لا أحد باتَ يتكلم معي أو يسمعني سوى الجدران، حتى أنني بتُ أصدق إنها فعلاً تتحدث معي وتعيد عليّ كل ما أقوله!! أشعر بأنها تتألم لآلامي، بل حتى أنها تبكي معي، فأشعر بدموعها ندية ورطبة عندما ألمسها بحنان أم... براحة يدي. ثمَ واصلت وهي تتنهد:

إلا تصدقني؟ ماذا دهاك يا بني؟  لقد باتت كلماتك قاسية كضربات السوط، وثقيلة كالحجر على قلبي، أريد أن أتكلم معك... إلا تشعر أنت بهذه الحاجة؟ أأصبحَ قلبك إلى هذا الحد صلداً كحجر الصوان؟ لا أريد منك شيئاً سوى التحدث معك، هل هذا كثير؟ أنا أمك يا يحيى، هل تفهم ما يعني هذا؟ حتى أني ترددتُ في رفض عرض جارتي الطيبة أم عماد، لأنَ هذا لا يرضي الله ولا أحداً، فهي مسؤولة عن أسرة كبيرة ولها طفلٌ مريض بالربو، قد يختنق في أي لحظه، حتى ابنها عماد الموجود في إيطاليا، تأخر عن إرسال الأدوية الضرورية له، وهي قلقة جداً هذه الأيام وتكاد تجن، كيف يمكن لي قبول عطفها؟! حينَ قالت: لو أحببتِ، أستطيع أن أبقى معك أثناء الليل.

(تتحدثُ معَ نفسها، كأنها تحضر روح لعزيزٌ لها، أدركها النعاس، غفت معَ حزنها ووحشتها ببراءة طفل وهي جالسة بلا ظل)

بدأت الأم تعاني الوحدة القاتلة، سماعها الأصوات ليلاً جعلها قلقة لا تستطيع النوم، حتى أنها بدأت تصدق الأوهام، كأنها حقيقة تنظر لها كالمرآة، قطع عنها النور، بسبب تأخر الدفع، استعاضت عنه بوهج الشموع، حتى ثقب الباب بدا لها في الليل مثل عين وحش يترصد حركاتها، باتت تتقلب في السرير وكأنها نائمة على جمر، أصبحت هزيلة، كبالونه أفرغت تواً من الهواء، وعيونها ملتهبة حمراء بلون الدم، أنهكها السهد، لتنهض في صباح اليوم التالي تستقبله، كي تبيع فيه قطعة أخرى من أثاث منزلها، بعدَ أن بدأت ببيع جهاز التلفاز ومن ثم كانت قد تصرفت بطاولة الطعام والكنبة والأسرة واحداً تلو الآخر وحتى المذياع الكبير المستقر على الرف، الذي شاطرهم حياتهم... استقطعت جزءا من المال الذي باعت به تلك الأشياء لتشتري فيها بطاقة كي تتصل بابنها...

- الو... نعم يا ماما إني أسمعك.

- حبيبي، كيف صحتك؟ وكيفَ هي زوجتك؟ لم تعد تتصل بي! هل نسيتني يا بني؟ أرجوك أبقِ الخط مفتوحاً ليلاً، فأنا بدأت أشعر بالخوف هنا بمفردي، أريد أن أسمع شهيقكَ وزفيرك، كي أشعر بالأمان، وأعدُ نبضات قلبك لأنام، أرجوك أنا سأتحمل تكاليف المكالمة، لا تقلق من ذلك، لن أكفلك شيئاً؛ ثمَ دمدمت بتهالك:

يا حبيبي أريدك فقط أن تكون معي، فالوضع هنا قد تغير كثيراً، هناك من يريد سرقتي أو قتلي، أراهم في كل ليلة يحومونَ حول المنزل، صدقني يا ولدي... ترتجف وتتلوى كطير مذبوح.

- ماما، أرجوكِ وصلي لي سلامي إلى صديقي جبار، أنتِ تعرفينه، إنه زميل الدراسة، قولي له إنني مشتاق جداً لتلك الأيام التي قضيناها معاً، إنها أيام لا يمكن نسيانها، سأحاول الاتصال به قريباً، حين يكون لدي بعض المال، لا تنسي يا ماما، لأجلي...  وينقطع الخط مجدداً دونَ مؤاساة أو كلمة حب أو حتى وداع.

- سأذهب إليه اليوم بعد الظهر يا ولدي، لا تقلق، سأفعل ذلك من أجلك، ما دامَ هذا الأمر يجعلك سعيداً وراضياً. لكنك لم تقل لي، هل أستطيع أن أكون بجانبك ليلاً؟ فأنه سيأتي وسيجلب معه الخوف!! هل تعلم ماذا يعني الشعور بالخوف لامرأة في سني؟! أراك كالصنم بلا عواطف، ماذا جرى لك؟ أنسيت اهتمامي بك وسهري الليالي؟ أجبني بالله عليك ولا تجعلني أكلم نفسي كالمجنونة، ماذا... ها... ؟ لماذا لا ترد؟ هل أنت شيطان بجسد إنسان؟ ثمَ هتفت وهي مجروحة الشعور، دونَ وعي:

لا، أنت يحيى ابني، حبيبي... ثم تنتحب، ترتجف، تبكي بلا صوت، تغمض عينيها، تنكسُ رأسها فتغفو وهي جالسة كالميت.

شاخت في الستة أشهر الأخيرة، كما لو أنها ستونَ عاماً، غزا الشيب رأسها فجأة وبسرعة غريبة، كما تنتشر الغيوم الملبدة بالأمطار في شهر نيسان، انحنى ظهرها ليصبح كقوس الرماية، فتبدو للناظر ذابلة، كزهرة قطفت من أشهر خلت.

كبَر القلق في داخلها كما يكبر الجنين في رحم أمه، باعت إبريق الشاي الذي كانت تحتفظ به، وقالت تحدثُ نفسها وهي منهكة:

ماذا يعني إبريق الشاي بالنسبة لي؟ لا شيء. فأنا لم أحضر الشاي منذُ موت زوجي، ولا أرغب باحتسائه من دونه، إذن لا جدوى من الاحتفاظ به! واشترت بثمنه بطاقة لتتصل بابنها الذي لم تسمع صوته منذ مدة:

- الو، بصوت متثائب، منْ هناك؟

- أنا أمك يا نظر عيني.

- أه يا أمي، هل تعلمين كم الوقت الآن؟

- لا يا ولدي، فعندنا هنا مازالت الشمس تلعب معَ الأطفال، فالطفل يحاول أن يهرب من ظله، لكن الأخير يلاحقه بإصرار لا يعرف التعب، مثلي يا ولدي!

- نعم يا أمي، نعم، ولكني متعبٌ جداً الآن، لأنني قضيت اليوم بطوله في المستشفى مع زوجتي، لقد سقط الجنين للمرة الثالثة، هل عرفت الآن لماذا أنا متعب؟ وأرجوكِ يا أمي لا تلاحقينني كالظل، فأنا لم أعد طفلاً، سأتصلُ بكِ غداً، أعدكِ بذلك، يغلق الخط...

- انتظرتُ مكالمتك طويلاً يا بني، وبعتُ آخر إبريق احتفظتُ به ذكرى من أبيك، كي اتصلُ بك. إن داخلي يا ولدي قد حطمته، كما يتحطم الزجاج، والجراح في داخلي تنزف شوقاً لك، هل تسمعني يا ولدي؟ إن حبك يأكلُ قلبي، كما تأكل آفة السرطان جسم الإنسان، فأنا لم أطه الطعام منذُ أيام ولا أرغب في الأكل بمفردي، لا أريد إلا أن أكون بجانب أبيك، لقد اشتقت إليه كثيراً، لم أعد أطيق الانتظار، ما رأيك أنت؟ هل تسمعني؟

باعت فراشها، لتفترش الأرض وتلتحف الفراغ، كي تشتري بإصرار مرة أخرى بطاقة، فتعاود مجدداً ودونَ ملل الاتصال... وهي تشعر بأنها لم تعد تقوى على الحركة أو حتى الكلام، ونهايتها باتت مجرد لحظات، ولكنها تريد سماع صوت ابنها، قبل أن ترحل وإلى الأبد.

- الو، نعم يا أمي لقد عرفتكِ مباشرةً!! ما وراءك؟!

- إني جائعة يا ولدي، وخائفة، أشعر بالهزال الشديد، لم أعد أقوى على الوقوف، بالله عليك لا تغلق الخط، بالله عليك...

ينقطع الخط.

فتسقط سماعة الهاتف من يدها الصغيرة المرتعشة، تتوقف الحياة في قلبها، كوردة قطعت من غصنها.   

في هذه اللحظة، كانت زوجته تنظر له جامدة مثل عمود ملح، كزوجة لوط... تنظر له بعينين ثاقبتين، مثل عيين الصقر، فأدارَ رأسهُ  نحوها وسألها بنبرة مشفقة:

لا تتأثري يا زوجتي العزيزة على سقوط الأجنة، نحنُ ما زلنا شباباً، والحياة ما زالت أمامنا طويلة، لا تيأسي من رحمة الله... وعندما لم تبدِ أي حركة، تقرب منها، رفعَ يدها فسقطت من تلقاء نفسها، كجلدة السوط، وأحسَ ببرودة جسدها، رجعَ إلى الوراء مذهولاً، يشد شعره بقوة دون شعور، وبدأ يعوي:

ماذا يا حبيبتي؟ هل سترحلين وتتركيني... هكذا؟ لا، لن أسمح لكِ، ها... لن أسمح لكِ، ماذا... أين الهاتف؟ يلتفَ حول نفسه كالمجنون، يصرخ عالياً، تباً، أين الهاتف؟ لقد كانَ للتو هنا، يجده ويطلب أمه...

ما من أحد يجيب...

يفقد أعصابه، يرمي السماعة بقوة على الحائط، فتتحطم، يبكي بهستيريا وكأنه في كابوس يرى رأسه في يده... وينوح:

 لماذا لا تردين علي يا أمي... ها... لماذا؟ ثمَ صرخَ بتهالك مفضوح:

أنا خائف يا أمي، فزوجتي تنظر لي، لكنها يابسة وصلبة كصارية مركب، ماما أجيبيني... قولي لي بأنكِ مازالت تحبينني؟ قولي أي شيء، أريد أن أسمع صوتك الملائكي كي أشعر بالراحة، أني أجن يا أمي، أجن... وأجهش في البكاء وهو يضرب رأسه بالجدار المقابل له بقوة، ينزف... فتنزلقُ الدماء سريعاً على وجه، يفضُ ملابسه دون فتح أزرارها، كالسكران ويخرجُ إلى الشارع عارياً، يصرخ برعونة متضرعاً:

أماه، أماه أجيبيني، إنني خائف، وحيد... ثم أردف بعد غصة:

إنني شيطان، نعم يا أمي أنا شيطان، لكنني أبقى ابنكِ، هل تسمعينني؟

في نفس تلك الليلة... دخلَ اثنان من السارقين وهما جائعان، إلى أحد المنازل...

-         أرى المنزل مظلماً، كالقبر( قالَ أحدهما )

-         أجابهُ الآخر مرتبكاً: نعم، ورائحته نتنة كرائحة جثة متفسخة.

-         يرتطم الأول بشيء في الأرض، ويقول هامساً: ما هذا؟ كأنه صرة مليئة بالخشب.

-         لنحملها إلى الخارج، لعلنا نجدُ فيها كنزاً ثميناً أو شيئاً يؤكل؟!

يحملان ما ضناه صره، وعندَ عتبة الباب الخارجي من المنزل، ينظران إليها... فإذا بهما يفاجأن بجثة امرأة، يتلفتان حولهما بهلع، لا يعرفان ماذا يفعلان... شاهدتهما الجارة أم عماد، فصاحت في وجهيهما، فزعة:

ماذا أرى؟ من هناك؟ ماذا تحملان؟ اتركاني أتأكد بنفسي...!

تتقدم أم عماد نحو السارقين ببطيء شديد، كالضرير، فتصعق صارخة، وهي تضربُ صدرها بيدها، وتنوح بصوتٍ موجع:

إلهام يا عزيزة قلبي، ومهجة عيني، لقد كنتِ ظلاً لأجسادنا، وصدى لكلماتنا، هكذا تكون نهايتك على يد الشيطان؟! 

ماتت الأم العظيمة الصابرة.

بعدَ معاناة كبيرة، نتيجة حب عظيم، منحته إياه، استحقت عليه الموت الذليل، بعد رحلة عذاب وجوع ومهانة تلقتها من فلذة قلبها، ولو كانَ صدرها قد أنفجر، لأغرقَ الدنيا بالوحشة، اشتياقاً لابنها الوحيد.

روت أم عماد للسارقين الجائعين الحكاية... وهي في حالة من الذهول، بقلب يعصرهُ الألم وعيون حمراء تملؤها الدموع.

يطبقُ صمتٌ عميق ورهيب للحظات، يتفرس كل منهما وجه الآخر، تكاد تنطقُ نظراتهما بسؤالٍ واحد:

جثة إلهام؟

 فاتفقا على دفنها بجانب زوجها في مقبرتهم غرب بغداد، دونَ الشيطان!

 

الدخول للتعليق