• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 08 كانون2/يناير 2017

شيء عن الفكر الديني للصابئة المندائيين

  تحسين مهدي مكلف
تقييم هذا الموضوع
(2 عدد الأصوات)

الصابئة المندائيون أتباع يوحنا المعمدان والذين يستوطنون منذ القدم بلاد مابين النهرين (العراق) والجزء الجنوبي الغربي من ايران، يعتقدون ويؤمنون ان ديانتهم هي الديانة الموحدة الأقدم، بل لعلها تكون الأولى في التأريخ، اذ تُرجعها كتبهم الدينية والتأريخية الى زمن آدم أبو البشرية الذي يعتبرونه أول انبياؤهم، اذ تذكر تلك الكتب في بعض نصوصها ان التعاليم الربانية الأولى اُنزلها اللـه على آدم بواسطة الملاك المبجل جبرائيل الرسول (كابرئيل شليها) لتكون تلك التعاليم والوصايا مرشدا لآدم ولذريته من بعده، ونهجا تسير عليه البشرية جمعاء. وفيما بعد جُمعت تلك التعاليم وكُوّن منها كتاب الصابئة المقدس المسمى (كنزا ربا) أي الكنز الكبير أو العظيم والذي يعتبر مرجعهم الأول في كل مايخص العقيدة والشؤون الدينية والوصايا والفكر اللاهوتي.

وتتلخص عقيدة الصابئة بالأيمان باللـه الواحد الخالق لكل شئ، والأيمان بالآخرة ومحاسبة النفس، وكذلك الأيمان بخلاص النفس وعودتها الى عالم الأنوار (الفردوس). وان تعاليمهم تنزه الـله وتدعو الى عبادته وتشدد على وجوب الأيمان بالأله الواحد والخشوع له وتدعو الى حياة القداسة المثلى. جاء في كتابهم المقدس (كنزا ربا) {اني دعوتكم الى الحياة التي لا موت فيها، والى النور الذي لا ظلام فيه... فاخرجوا الى طريق الحياة اُخرجكم الى طريق السماء حيث لا موت ولا ظلماء}، وجاء في نفس الكتاب على لسان آدم {طريقي الذي صعدت به مطمئن القلب والعيون، سيصعد به الناصورائيون العادلون، والمؤمنون الكاملون والمؤمنات الكاملات حين من اجسادهم يخرجون}.

ويتحدث كتاب الصابئة المقدس (كنزا ربا) في أحد فصوله عن عملية خلق آدم وموته، هذا شئ منها {وأتى رسول الحي .. ووقف على وسادة ادم، قال: ياآدم قم على قدميك، واخلع ثوب الطين الذي عليك، فقد انتهى عمرك في هذا العالم. قال ادم: ان اتيتُ معك ، فدنياي من سائسها؟ من يبذر البذور المباركات... من يحمل الماء من دجلة والفرات؟ .. قال المخلص: ياآدم قم اذهب الى بلدك الذي منه اتيت ... اِلبس ثوب الأنوار وعلى عرشك المضئ الذي اعده لك الرحمن، اجلس كما اراد لك الحي}،{وجلس آدم على عرشه الذي ثُبّت له بأمر ربه، محاطا بالأضوية والأنوار}.
والنص يشير كما هو واضح ان لأدم مكانة سامية في السماء ، لذلك اعتبره الصابئة المندائيون اول نبي لهم، جاء في كتاب تعاليم يوحنا المعمدان {يآدم اسمع وآمن ، طوبى لمن سمع وآمن ، يا آدم خذ العهد، طوبى لمن اخذ العهد من بعدك. ياآدم تطلع جيدا وارتق، طوبى لمن ارتقى من بعدك}، ويذكر كتاب كنزا ربا المقدس ان آدم مات وأُصعِدَ الى السماء، وقد عرّجت نفسه ( نشماثا) فقط دون الجسد (سْطونا) فالأجساد لا تصعد الى السماء {ياآدم لا يصعد جسد الى عليين}، وذلك لكون الاجساد مخلوقة من العالم المادي الأرضي الزائل، اما النفس الأنسانية (نشماثا) فأنها تعود الى عالم الأنوار الذي أتت منه لكونها نسمة من نسمات الخالق وهي خالدة لاتفنى.

وبحسب الكتب الدينية للصابئة فان آدم خُلق من طين وكذلك حواء، وان الله وهب حوّاء لآدم ليتكاثر بهما العالم }وبأمر الله خُلقت له حواء زوجة ليتكاثر العالم، ويستمر غرسهم فيه{، ان تعاليم هذه الديانة تؤكد على وجوب الزواج {اتخذوا لانفسكم ازواجا، وتناسلوا منكم ليزداد عددكم}، كما تُنبه الى وجوب الأنجاب والأثمار {ايّها العزاب ايتها العذارى .. ايها الرجال العازفون عن النساء .. ايتها النساء العازفات عن الرجال .. هل وقفتم على ساحل البحر يوما؟ هل نظرتم الى السمك كيف يسبح ازواجا؟ هل صعدتم الى ضفة الفرات العظيم؟ هل تأملتم الأشجار واقفة تشرب الماء على ضفافه وتُثمر؟ فما بالكم لا تثمرون؟}، وفي شاهد آخر {ايها الأصفياء الذين اصطفيتهم: أقيموا اعراسا لأبنائكم، وأقيموا أعراسا لبناتكم، وآمنوا بربكم ...}.

الصابئة المندائيون يعتبرون المياه المتجددة الجارية (يردنا) أصل الحياة }مع الماء تدفقت الحياة، الحياة مع المياه تدفقت، منها انبثقت{، والمياه هي رمز الحياة الأولى ومنها تكون كل شئ، ومن المياه المتجددة الحية تكونت الحياة {واذ صار يردنا العظيم، صار الماء الحي .. الماء المتالق البهيج ومن المياه الحية، نحن الحياة صرنا}، والماء لديهم هو أساس جميع الشعائر والطقوس، فهو مادة التطهر ورمز الحياة وبعدم توفره لا يمكن اجراء أي طقس. فالماء وفق معتقدات ديانة الصابئة يعتبر أساس الحياة وهو موجود منذ البدء وقبل كل شئ وفق ماجاء بكتابهم المقدس }داخل مانا كان الضياء، ومنه كانت اليردنا الصغرى، ومنها كان يردنا العظيم{، وفي الكتاب ذاته ورد ان الحياة الأولى انبثقت من المياه الحية (يردنا) }من يردنا العظيم انبثقت النطفة الخفية الأولى{، والمندائيون لم يقرنوا الماء بالحياة فحسب بل قرنوه بالنور (الضوء) ايضا، والمياه الجارية المتحركة تعتبر في عرف الصابئة مياها حية متجددة، مياها نورانية مشبعة بالنور وعامرة بالحياة، ولهذا النوع من المياه ملاك خاص هو الملاك (برياويس) ويكنى بملك المياه الجارية (يردنا) التي يشعر معها الأنسان بالبهجة وبأستمرار الحياة وحركتها، وهي على العموم اكثر صفاء ونظافة من المياه الراكدة غير المتحركة وغير المتجددة والتي يُشعر معها الأنسان بالسكون وانعدام الحياة وعدم النقاء }لا يُحسب الظلام على النور، الدار المظلمة لا تُنير والمياه العكرة لا تبهج{. والصابئة يعتبرون المياه الراكدة مياها آسنة تسكنها الأرواح الشريرة.

يوم العبادة الرسمي المشترك بالنسبة للصابئة هو يوم الاحد (هبّشبّا)، وهو اليوم الوحيد الذي يمكن فيه تأدية طقوس التعميد والزواج، بسبب وجود الملاك الشاهد على طقس التعميد وهو ملاك الاحد (هبّشبّا)، يقول كتابهم المقدس {أحبوا ملاك الأحد وعظموا يومه}، والأحد مقدس لديهم ايضا لأنهم يعتقدون ان الملاك الكبير (مندا آد هيي) جاء الى العالم في هذا اليوم وهو اول ايام الاسبوع عندهم، لذا فانهم يحترمونه ويعطلون فيه عن العمل، ولديهم صلاة خاصة بهذا اليوم تسمى صلاة الاحد، هذا شيء منها { باسم الحي العظيم ، لتمنحني العافية انا (فلان) في صلاة الأحد اقف على نور الأثير وعلى النور العظيم الذي يتظافر ... }. والديانة المندائية تتشابه في ذلك مع المسيحية، كما تشترك معها أو تتشابه في مجال التعميد ولبس الزنار وطريقة الصيام (الأمتناع عن أكل اللحوم فقط)، كما تشترك الديانتان في مبدأ احترام يوحنا المعمدان ووجود طعام الغفران والموقف من الختان . الا ان المندائية تحرم الرهبنة (وتحديدا مبدأ عدم زواج الرهبان) لأنها بأعتقادهم مبدأ يقوم ضد قانون الحياة وضد وصايا الله الواردة في كتبهم في هذا المجال .

يتجه الصابئة المندائيون عند أداء الصلاة الى جهة الشمال لأنها باعتقادهم مصدر النور والخير ومكان وجود عالم الأنوار (آلما دنهورا) عالم الحق او الفردوس حيث وجود عرش الله والسماوات العليا والملائكة، وعالم النور هذا هو عالم النزاهة والعدالة (مشوني كشطا) العالم الذي لا احزان فيه ولا اوجاع ولا مظالم، هو عالم السعادة الدائمة، وهنالك ملاك (أُثرا) خاص لجهة الشمال ولعوالم الأنوار يسمى الملاك (اباثر). والصابئة المندائيون قديما كانوا يسترشدون بالنجم القطبي للأستدلال على ناحية الشمال. وهم يتوجهون في صلاتهم الى تلك الناحية وكذلك عند التعميد أو نحر الذبائح، كما يكون وجه المتوفى عند دفنه فى مواجهة الشمال ايضا. والشمال بالنسبة لهم هو مصدر الخير والنور وكل ماهو سام ومقدس، اما الجنوب فهو جهة وموقع القوى الشريرة والمياه العكرة والخطاة، ويطلقون عليه تسمية عالم الظلام (آلما دهشوخا) الذي يصفه كتاب كنزا ربا {وأما عالم الظلام، عالم الشرور والآثام .. فأرض مقفرة مسعورة، دُفعت الى اقصى الجنوب، بعيدا عن المعمورة، عوالم من دخان ونار تعج بالأشرار}، وعالم الظلام هذا اِنبثق او تكون من المياه السوداء الآسنة .
لا يوجد في كتب الصابئة المندائيين كلمة او تعبير (شيطان)، اذ انهم يطلقون على جميع القوى الشريرة الموجودة في عالم الظلام تعبير الأرواح الشريرة (ملاخي ، ومفردها ملاخيا) التي هي بمثابة الشيطان واجناده في ادبيات الاديان الاخرى. وبحسب عقيدة الصابئة فأن تلك الارواح تؤذي الأنسان مالم يتحصن ويتسلح بالأيمان والطهارة الدائمة والتقرب الى اللـه من خلال العبادة اليومية، فالأرواح الشريرة التي هي مصدر الشر والشقاء في هذا العالم الأرضي، تسعى الى ابعاد الأنسان عن طريق الحق والصواب، فتغريه بمغريات العالم الكثيرة لتوقعه في الخطيئة ومن ثم تقوده الى الهلاك.
ويذكر كتاب (كنزا ربا) ان كبرى تلك الأرواح هي (الروها) ومعناها الروح الشريرة، اما ابنها (اور) فهو سيد عالم الظلام او العالم السفلي وهو العالم الذي تقيم فيه وتنبعث منه تلك الأرواح الشريرة، ويوصف عالم الظلام ايضا بأنه عالم المياه السوداء العكرة أو الآسنة {لا يُحسب الظلام على النور، الدار المظلمة لا تنير والمياه العكرة لا تُبهج والظلام لا يتسع}.

والفرق بين عالمي النور والظلام يوضحه المخطط التالي :

عالم النــور عالم الظـلام
جميل المنظر ومريح قبيح المنظر ومخيف
كامل ومنتظم غير كامل (تسوده الفوضى)
نقي غير نقي (معتم)
طاهر غير طاهر (نجاسه وفساد)
لونه البياض لونه السواد
يسوده الخير والحق يسوده الشر والعصيان والخطيئة
عناصره: النور والهواء والمياه الجارية عناصره: النار والحرارة الآكلة والمياه السوداء
يملك على هذا العالم - الملائكة - يملك على هذا العالم - الأرواح الشريرة -
موقعه الشمال موقعه الجنوب

وهذا الوصف او الصورة المجازية لهذين العالمين المتناقضين تُماثل عالمي الخير والشر او الفردوس والجحيم في ديانات اخرى، ومنها ايضا انبثقت فكرة الثنائيات المتضادة كالطهارة والنجاسه، الجمال والقبح، النور والظلام، الحياة والموت ... الخ

والصابئة المندائيون، او اتباع يوحنا المعمدان كما يطلق عليهم الغربيون، شديدو التمسك بتقاليدهم واُصول ديانتهم، وملتزمون (رجال الدين على وجه الخصوص) بالتطبيق الحرفي لمراسم طقوسهم العديدة والمعقدة نوعا ما، يقول سام بن نوح وهو من انبياء الصابئة {لم اقع في دائرة الأنحراف والنسيان ... دعوات الآباء تلازمني، وتمسكي شديد بالتعاليم}، فهم لا يحيدون عما جاءت به كتبهم الدينية من تعاليم ووصايا الا بالقدر الذي تفرضه عليهم احيانا بيئتهم ومحيطهم، فيتجاوزون مكرهين اشياء بسيطة ليس لها تأثير على جوهر عقيدتهم، او يستبدلون اشياء باخرى تفرضها عليهم الحياة المعاصرة، لكن ذلك لا يعني ان هذه الديانة مرنة أو اِنها تتقبل التغيير دائما.

....................................................................

الدخول للتعليق