• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 04 نيسان/أبريل 2013

يحيى بن زكريا ( يوحنا المعمدان ) نبي الصابئة المندائيين

  ترميذا يوهانا نشمي
تقييم هذا الموضوع
(4 عدد الأصوات)

من الامور المعروفة ان طائفة الصابئة المندائيين من الطوائف الاصغر عددا في عالمنا اليوم، ولكن هل هذا يعني تجاهلها وعدم سماع صوتها !! وهل يعني ايضا ان نتجنى عليها وعلى تاريخها ونبعدها عن الساحة الانسانية ونقلل من شأن تمسكها بنبيها ونعتبره مجرد "شفيع" كما فعل استاذنا جان صدقة في مقالته الاخيرة الموسومة (يوحنا المعمدان قديس في المسيحية ونبي في الاسلام) والتي نشرت مؤخرا في جريدة التلغراف*، وقد خلا العنوان الرئيسي للمقالة المذكورة من ذكر اسم اتباع هذا النبي الحقيقيين وهم الصابئة المندائيين !! ربما قد خفي على صاحب المقالة ان الصابئة المندائيين يؤمنون بان النبي يحيى يوحنا احد انبيائهم الاربعة الرئيسيين والتي تدور حولهم ديانتهم ومعتقداتهم، ولا يوجد دين يدعي هذا الادعاء غيرهم، فكان الاحرى بكاتب المقالة ان يتعب نفسه في البحث في عشيرة هذا النبي !! وسوف لا استطرد هنا للرد على المقالة المذكورة انفا، لان فيها من المغالطات التاريخية بخصوص الصابئة الشيء الكثير، ولكني سوف احاول ان اعرض لصورة النبي يحيى يوحنا كما يرسمها لنا الادب المندائي. 

أن الحديث عن النبي يحيى (يوحنا) ذو الشخصية التاريخية والدينية المؤثرة والمهمة جدا على الصعيدين الروحي والتاريخي، ليس بالحديث اليسير، وذلك لعدة أسباب منها:

· عدم وجود دراسات حقيقية خاصة بحياة هذا النبي في المكتبات العربية.

· اختلاف القصص حوله، الدينية والتاريخية، على الرغم من كونه أحد الأشخاص المهمين في الحركة الدينية التي انتشرت قبل وبعد الميلاد بسنوات في حوض الأردن وأورشليم.

· المكان والزمان اللذان شهدا وجوده، كانا من اهم مراحل التاريخ الديني والفكري والانساني على حد سواء، لما شهدته فلسطين ومنطقة حوض نهر الاردن قبل الفا عام، من صراعات فكرية وايدولوجية وسياسية في ظل الاحتلال الروماني للمنطقة، والتزمت والسيطرة اليهودية الدينية على المنطقة انذاك. ادت الى ظهور جماعات وطوائف تدعو الى اتجاهات فكرية مختلفة، بعضها حافظ على البقاء، والبعض الاخر انحل واختفى. وفي خضم هذا الصراع الفكري كان للنبي يوحنا (يحيى) يلعب دورا حياتيا وفكريا مهما قبل وبعد وفاته وعبر مؤيديه. 

السبب الرئيسي في هذا الغموض هو انه لم يكن مؤسسا لجماعة دينية معينة خاصة به، ولم يطرح فكرا خاصا، ولم يأتي بدين جديد. لان حتى الصابئة المندائيون والذين يعتبرونه أحد آبائهم الأربعة المقدسين وأخرهم، وحلقة مهمة من حلقات تاريخهم الديني والحياتي، يعترفون بان ديانتهم لم ينشاها هذا النبي، وانما كانت قبله وهو الذي أعاد الحيوية في فكرها وطقوسها الدينية، فهو النبي والرسول (نبيها وشليها) الذي انقذهم من ظلم اليهود، وارجع اليهم روحية المفاهيم التي يؤمنون بها. وان كلمة الرسول لا تعني هنا من ياتي بدين جديد او مؤسس لفكر خاص، وانما جاءت كلمة (رسول – شليها) بالمندائية بمعنى المنقذ ورسول من اجل اعادة بناء العقيدة والدين. 

فلذلك يؤمن المندائيون بان هذا النبي جاء ليرجع الناس الى الشريعة الاولى شريعة الإنسان الأول (ادم وحواء). لأن المندائيين يؤمنون بان شريعتهم ما هي الا شرعة الحياة الفطرية (شرشا اد هيي) التي عرفها والتزم بها آدم أبو البشر (أول إنسان عاقل). وتتلخص هذه الشرعة بمعرفة وعبادة خالقا وسيدا لهذا الكون والذي يسموه ب (هيي اي الحي او الحياة) فلذلك سموا انفسهم بالمندائيين اي (العارفين في اللسان الارامي المندائي ومن جذر الكلمة مندا-عرف او علم).

ان لهذا النبي في الأدبيات والتراث الديني الصابئي المندائي الكثير من الروايات والقصص التي تستحق ان يعرفها الباحثون وعامة الناس. والذي وصفه الانبياء والرسل الآخرين بأعظم الصفات. فها أنا اقدم للقارئ العربي الكريم فرصة معرفة النظرة الصابئية المندائية لاحد أنبيائها، الا وهو النبي يحيى بن زكريا – يوحنا المعمدان (مبارك اسمه). من خلال الادب الصابئي المندائي، وسوف يكون مصدري الاول كتاب (دراشا دْ يهيا – تعاليم يحيى) المخطوط باللغة المندائية (وهي احدى اللهجات الارامية الشرقية)، وهو أحد كتبهم المقدسة والمعتمدة بعد كتابهم الكبير (كنزا ربا – الكنز العظيم). والاثنين مترجمان الى العربية. 

بدءا يجب ان نعرف الاسم الحقيقي لهذا النبي، ولماذا هذا الاختلاف بالتسمية ما بين يحيى ويوحنا؟. ان الاسم الآرامي المندائي لهذا النبي هو (يهيا يوهنا) أو (يهيا يهانا) - أي يحيى يوحنا (وهو اسم مركب) .. وبالعربية (يحيى) – الجزء الأول من اسمه الآرامي المندائي ، وبالمصادر المسيحية (يوحنا) – الجزء الثاني من اسمه الآرامي المندائي. اي يصبح اسم هذا النبي ب(يهيا يوهنا - يحيى يوحنا) وهو اسم مركب كما تعلمون.

اما كلمة المعمدان التي تلتصق بتسميته المسيحية (يوحنا المعمدان) ليست اسم وانما لقب (كنية) عرف بها وذلك لتمسكه بتعميد الجموع الغفيرة التي كانت تقصده لتنال غفران الخطايا والدخول الى ملكوت الانوار. ولقد ورد هذا اللقب وهذه التسمية في النصوص المندائية ايضا، فقد ورد باللسان المندائي الارامي ما يلي (يوهنا مصبانا) أي يوحنا الصابغ، لان الصباغة هي المعمودية المندائية التي كان يمارسها. اما معنى الكلمتين التي تؤلفان اسمه المركب فتدوران حول معنى الحياة. ولقد وردت معاني كثيرة لاسم هذا النبي في كتب التراث العربي نورد اهمها: (الذي أحيا عقر أمه) لان أمه كانت عاقر لا تنجب ، أو (الذي أحياه من الخطيئة) أو (المحيي) لانه سوف يحيي الأيمان وعبادة الخالق في قلوب الناس.

ولد يحيى يوحنا حوالي سنة 34 – 36 قبل الميلاد (حسب التراث المندائي) وحوالي سنة 1 قبل الميلاد (حسب التراث المسيحي). وذكر ايضا بانه ولد في سنة 6 او 7 قبل الميلاد. وان التقويم الصابئي المندائي المستعمل حاليا والذي يسمى ايضا بالتقويم اليحياوي (نسبة الى يحيى) يبدأ من مولد هذا النبي. مع العلم ان المندائيين يحتفلون بعيد ميلاده (23 ايار) في عيد يسمى (دهفة اد دايما)، ولو ان هنالك راي لبعض رجال الدين المندائيين يقول بان هذا اليوم ليس عيد مولده وانما هو يوم تقبله للصباغة الاولى (التعميد)، فلذلك يسمى هذا اليوم شعبيا عند المندائيين ب(بعيد التعميد الذهبي) والذي يتقبل خاصة الاطفال الصغار التعميد المندائي في هذا اليوم. 

ولد النبي من أبوين كبيرين طاعنين في السن، وهذا ما تتفق عليه المصادر الادبية المسيحية والاسلامية ايضا. فالأب اسمه (زكريا) ويلقب او كنيته (آبا سابا) أي الأب الشيخ، لانه ذا مرتبة دينية واجتماعية عالية، عند اليهود والمجتمع آنذاك. ومعنى اسمه ممكن ان ياتي من كلمة (زكايا) في اللسان المندائي الارامي وتعني (القديس، النزيه، المنتصر). وكان عمره 99 سنة عندما ولد النبي. ولقد بارك الأب زكريا ولده النبي واعترف بنبوته. اما والدة هذا النبي فاسمها في المندائية (اينشبي) او يلفظ لفظا شائعا ب(اينشوي)، وبالعربية (اليصابات) وبالإنكليزية (اليزابيث)، وجاء ايضا اسمها في المصادر العربية ب(اليشاع)، وكانت عمرها 88 سنة، عندما ولدت النبي (يهيا يوهنا) وهي لم تنجب أبدا لأنها عاقر، وتذكر مصادر الادب المندائي بان (انشبي) شربت من الماء السماوي (يردنا اد ميا هيي – يردنا ماء الحياة) بقدرة الرب العظيم وبمعجزة اللاهية ، وتلبية لدعائها، فحبلت بالنبي الموعود (يهيا يوهنا). فهي لم ترى ابنها النبي بعد ولادته، إلا عندما صار عمره 22 عام، وجاء لها فعرفته من خلال غريزة الأمومة، وصاحت بوجه اليهود عندما أرادوا تسميته بأسماء يهودية مثل (بنيامين، شوموئيل .. الخ) .. ورفضت وأبت إلا أن تسميه ب(يهيا يوهنا) ممن وهبه الحياة.

ولد النبي وفق البشارة الإلهية لأبويه زكريا واينشبي وهي المعجزة الأولى، معجزة الولادة .. وان الله وهبه الحكمة وعلمه الكتاب وهو صغير في حال صباه فقد كان عمره 22 سنة عندما دعي كنبي في أورشليم .. وبعد ولادته مباشرة، وقبل ان تقع عينا والدته عليه، أخذه الملاك أنش أثرا الى ( بروان طورا هيوارا – جبل بروان الابيض) وتم تعميده بعد بلوغه سن الثلاثين يوما. واخذ ينهل الحكمة وتعاليم الرب العظيم من قبل ملائكته الابرار الى ان بلغ سن الثانية والعشرين، بعدها أعطي التاج والصولجان واصبح من الناصورائيين العظام (الناصورائي هو المتبحر بالعلوم الربانية)، وعاد بصحبة الملاك الى مدينة اورشليم ليجهر بدعوته واصلاحه الناس. 

ان القصة المندائية التي تؤكد على ان هذا النبي قد تتلمذ وعاش ونشا بعيدا عن اورشليم، في منطقة تعرف ب (جبل بروان الابيض) تاخذنا الى امكانية وجوده وتعليمه قد تمت ما بين جماعة الاسينيين في منطقة قمران، وممكن ايضا ان يكون هذا الجبل هو احد التلال والجبال المحيطة بمنطقة قمران (جنوب شرق البحر الميت). ومن باب اخر ممكن ان يكون ما بين الصابئة المندائيون في حران. والاخيرة فيها جدل كبير سوف احاول ان اناقشه في مناسبة اخرى بخصوص العلاقة ما بين الصابئة المندائيين الحاليين وصابئة حران القدماء.

ان الأدب المندائي المدون يتحدث عن زواج هذا النبي وتكوين عائلة كبيرة من بنين وبنات. فيذكر انه تزوج من فتاة اسمها (انهر) والذي يعني اسمها في اللسان الارامي المندائي (الأحسن، الاشرق، الاضوء)، ورزق ايضا بخمسة ذكور وثلاثة اناث، واسمائهم هي كالاتي: الذكور : هندام ، بهرام (ابراهيم) ، انصاب (الثابت) ، سام ، شار. والإناث : شارت ، رهيمات هيي (رحمة الحياة)، انهر زيوا (انهر الضياء).

توفي النبي يهيا يوهنا في فلسطين حوالي عام 28 / 30 للميلاد .. وكان يعيش حياته في التقشف والصلاة. فقد كان له مجموعة من التلاميذ ( 360 ترميذي)، وأن تلاميذه قاموا بدفن جسده بعد ارتقائه إلى عوالم النور، في دمشق سوريا واصبحت مرجعا للمندائيين وبعد ذلك صارت كنيسة إلى أن جاء الوليد بن عبد الملك الأموي وزينها بالفيسفساء وجدد بناءها وأصبحت تعرف بالجامع الأموي. وان هنالك اماكن اخرى يدعي الناس بانها ترجع لهذا النبي وخاصة في الاردن وفلسطين.

ابتدات قصة ولادته برؤية عجيبة راها احد كهنة اليهود في اورشليم، اختلت فيها موازين الطبيعة، اذ راى كوكبا هبط على انشبي ثم ارتفعت نار تتوهج في باب بيت زكريا. وحصل اضطراب في الاجرام السماوية، والارض انحرفت عن مكانها، ونيزك انحدر نحو اليهود واخر نحو اورشليم، وارتفتعت سحب الدخان في بيت المقدس. وعندما تليت هذه الرؤية على كهنة اليهود، اوعز رئيس الكهنة (اليزار – اليعازر) بان يستعان بتفسير تلك الرؤية بالكاهن (ليولخ) وهو كاهن ذو علم بتفسير الاحلام. فكتبوا رسالة يشرحون فيها الرؤية واعطوها الى (طاب يومين) ليوصلها الى ليولخ، وجاء تفسير الرؤية من قبل ليولخ بالاتي:

( سوف تلد انشبي ولدا ويدعى نبيا في اورشليم وانه سيقوم بتعميد الناس في الماء الجاري "يردنا" وسقيهم ماء الحياة "ممبوها"، فالويل لكم يا كهنة اليهود، اذا ماولدت انشبي مولودا، ويل لك يا معلم الصغار، وويل للتوراة، اذا ماولد يحيى في اورشليم. ان يحيى يجيىء ويصبغ في يردنا، وسيكون نبيا في اورشليم ).

فسرها الكهنة بان هذه رؤية ستتحقق بميلاد نبي من صلب زكريا وانشبي (اليصابات). وعلى اثرها ثار كهنة اليهود على الاب الشيخ زكريا، وقال (اليزار) له ( ابتعد عن اورشليم ولا تلقى الفتنة في اليهود )، ورد الاب الشيخ زكريا بصفع الكاهن اليزار على خده، قائلا له: (هل هناك من مات ثم عاش ثانية، حتى تلد انشبي مولودا؟ هل هناك من اصيب بالعمى ثم ابصر، او كان كسيحا ثم قام، حتى تلد انشبي مولودا؟ هل الاخرس يستطيع ان يكون معلما كي تلد انشبي مولودا؟ منذ اثنتين وعشرين سنة لم اقترب من زوجتي، فأي مصير ينتظرها وينتظركم، اذا ولدت انشبي مولودا؟!! ). 

فاعتمل الغضب والكره في قلوب كهنة اليهود الكبار، وخططوا شرا للتخلص من الوليد وامه .. وعلى اثره غضب الاب الشيخ زكريا وهمَ بالخروج من المعبد، فتبعه اليزار فراى ثلاثة اسرجة ضوئية تسير معه. فساله مستفهما عنهما، فقال له زكريا: ( يا اليزار يا رئيس جميع الكهنة، المشاعل التي عبرت امامي لا اعرف من تحرس؟!! والنار التي اتت من خلفي، لا ادري من ستلتهم؟!! ولكن اسمعوا: اي مصير ينتظرها، وينتظركم، اذا ما ولدت انشبي مولودا؟!! ).

وعرف عن هذا النبي بانه قوي وذو تاثير كبير على محيطه، ولقد جاء في الادب المندائي، وعلى لسان (يهيا يوهنا) بان مصدر قوته كانت من خلال تسبيحاته لخالقه وعبادته له، والتي صار بها كبيرا في الدنيا .. فهو لم يقم عرشا بين اليهود، ولا كانت نيته تبؤء المناصب وكراسي الحكم، لانه صاحب دعوة تصحيحية كان قد بداها في فلسطين، فقد كان زاهدا في الدنيا ولم يحب اكاليل الورود، ولم تغره النساء، ولم يكن من شاربي الخمر ولا اكلي اللحوم، ولم ينسى ابدا محبته وعبادته لابيه السماوي (الحي العظيم)، ولم يترك صباغته (تعميده) ولا رسمه الطاهر، ولم ينسى يوم الاحد المقدس. فلقد كانت مجمل احاديثه وتعاليمه تدور حول حيازة نعيم ملكوت الحياة بعد الموت. فهو يذكر الغفاة والجهلة والنبلاء والذين يتدثرون بنعيم هذه الدنيا الفانية، ويقول لهم: ( ماذا ستفعلون من اجل ان ترحل نفوسكم نقية من اجسادكم الى عالم النور بعد الحساب ؟ ).

وان لهذا النبي الكثير من الوصايا والتعاليم والحكم التي وردت في الكتب المندائية، والتي تدعو الى العبادة والنزاهة وتنقية الانفس. وسوف اورد بعضا منها للقارىء العربي، وخاصة ما يسمى منها بالراسيات:

 

رأس الحقيقة .. لا تفسد كلمتك، ولا تحب الفساد والكذب. 

راس ايمانك .. الأيمان بملك الأنوار المقيم والثابت في كل الفضائل.

راس ثباتك .. أن تقاضي نفسك.

كن كالجبل التي تنو فوقه الأزهار والأشجار ذو الرائحة العطرة.

راس علمك .. لا ترمي نفسك بالتهلكة.

راس معرفتك .. لا تقول ما لاتعرف.

راس طهارتك .. لا ترمي نفسك بالرجس.

راس ايمانك .. اعطف على الأنفس العانية والمضطهدة.

تشبه بمائدة الطعام التي تقدم للجياع وهي مبتهجة.

الحكيم من لا يبني بيتا بدون سقف.

 

كان النبي المعلم (يهيا يوهنا) حسن المظهر والوجه والصورة ، وهو على اكمل أوصاف الصلاح والتقوى ، وهو شديد الشبه بوالديه، فتذكر المصادر المندائية بان فمه وعينيه وانفه تشبهان فم وعين وانف والدته اينشبي ، وشفته وجبهته وطوله، تشبهان شفة وجبهة وطول والده زكريا ، ويقال أن النبي عند ولادته كان يضيء البيت لنوره وحسن وجهه وجماله. فكان لباسه البياض دائما، ماسكا عصا السلام (مركنا). وكان مبارك اسمه حكيم وحليم وذو نفاذ بصيرة وطبعه هادئ وودود ومتواضع ومتصدق وجميل الصورة وله جاذبية قوية وحديثه ممتع وكلامه رصين ومبني على تعاليم ربه، وكان محبا ومكرما ومجلا لأبيه وأمه وزوجته. وينقل أن النبي يحيى عندما يصلي تغرورق عيناه بالدموع من كثرة خشوعه .. ويقال أيضا انه عندما يبدا بالصلاة في الصباح الباكر ، حتى طيور السماء تركن إلى أعشاشها وتنصت لصوته وتراتيله النورانية الخاشعة . فكان يحب ويقدس يوم الأحد ، وكان يسهر ولا يغمض له جفن في ليلة السبت لاستقبال يوم الأحد ونهاره ليبدا بالصلاة. فتلك الصورة الشخصية لهذا النبي رسمها لنا الادب المندائي بكل وضوح. على الرغم من ان هنالك اسئلة كثيرة تدور حول حياته من مختلف الجوانب، تبقى مبهمة ويلفها الغموض لحد الان.

ان هذا النبي كان ينهمك في تعميد الجموع الغفيرة التي تطلب الرحمة والغفران من الرب وعلى يديه من خلال تعميده المشهور، فقد كان تعميده موجه لليهود وغير اليهود وبدون استثناء. ويجري ذلك كله في النهار، حيث ينصرف في الليل الى تلقين تلاميذه ومن يبغي المعرفة الحية، تعاليمه وووصاياه وافكاره الدينية.

اما بخصوص العلاقة ما بين يوحنا والمسيح .. فهما ومثلما هو معروف تعاصرا لفترة زمنية في منطقة اورشليم وضواحيها. ولقد جاء المسيح الى يوحنا المعمدان لكي يتقبل المعمودية على يده، وفي البدء رفض يوحنا تعميده ولكن في النهاية انصاع وعمد المسيح، وقد كان لهذا التعميد اهميته اللاهوتية والاجتماعية بالنسبة للاخير. ولحد هذه اللحظة هنالك بحوث ودراسات جدلية كثيرة في مجال العلاقة التاريخية والروحية ما بين هذان النبيان.

واذا اردنا ان نكون باحثين محايدين يجب ان ناخذ جميع النصوص الدينية (اي كان مصدرها) ونجردها من محتواها الميثولوجي الديني، ومقارنتها بالاصول الاخرى، وتحليلها حسب المعطيات التاريخية والاجتماعية في عصرها، لكي نخرج بصورة ربما تكون اقرب الى الحقيقة التاريخية. على العموم تبقى مساءلة حياة هذا الرجل النبي محط اهتمام الكثير من الباحثين (الغربيين) لما له اهمية في اكمال حلقات مفقودة من التاريخ الايدولوجي والروحي في فترة التاريخ المسيحي المبكر وكيفية نشاتها. فلذلك من الاهمية ان نقوم بعرض حياة هذا النبي من وجهة نظر مندائية، لكي نحاول مقارنتها مع وجهاة النظر الاخرى التي تصدت لهذا الموضوع في ادبياتها. على الرغم من اننا قمنا بعرض الجزء اليسير من تلك الرؤية المندائية وذلك بما سمحت لنا مساحة الكتابة في هذا المنبر الاعلامي المفيد.

* جريدة عربية تصدر في استراليا، الاربعاء 23 حزيران 2004 العدد 4191.

الدخول للتعليق