• Default
  • Title
  • Date
الجمعة, 05 نيسان/أبريل 2013 10:21

صابئة حران والمندائيون اليوم

لقد تحدث في هذا الموضوع اغلبية الباحثين والكتاب والمؤرخين، قديما وحديثا، العرب والاجانب، المندائيين وغير المندائيين .. وبقيت الاراء متضاربة مابين مؤيد ورافض لفكرة ان صابئة حران هم امتداد للصابئة الموجودين في بطائح العراق.

اعتقد ان هذا الموضوع يجب ان يولى اهمية كبيرة من قبل الباحثين وخاصة المندائيين منهم لانهم وبكل بساطة معنيين بالموضوع اكثر من غيرهم، فبالاضافة الى حقيقة البحث العلمي مهما تكن، والتي من المفروض ان يلتزم بها الباحث ايا كانت جنسيته او دينه او اتجاهه السياسي او الادبي .. الخ .. فهنالك امر اخر يجب على الباحثين المندائيين ان يعوه وهو مسالة اظهار الحقائق عن دينهم وتراثهم ووجودهم التاريخي، لانه الدفاع عن الهوية والوجود المندائي، واعتقد شخصيا ان هذا الجانب، اقصد صابئة حران والمندائيين، له من الاهمية في اظهار الكثير من الامور الخافية، واثبات لحق مفقود، وتواجد تاريخي على الساحة الانسانية يجب ان لانهملها البتة في التاريخ المندائي.

ونحن نرى بان كلمة حران والقصص المتداولة حولها في المندائية لم تاتي في الكتب المندائية او في التراث المندائي المتداول اعتباطيا, وانما له ربط جدا وثيق ما بين هذه المدينة بكل ما تمثله على مختلف الاصعدة والصابئة المندائيون. ولا يلاقي أي من المهتمين صعوبة في الانتباه لتلك العلاقة عند قراته لكتب التراث العربي والتي زخرت بالكثير من الروايات حول هذا الموضوع .. واني لا ادعي بان تلك العلاقة هي واضحة وضوح الشمس ولا غبار عليها, فعلى العكس تشوبها الكثير من علامات الاستفهام التي تنتظر الباحثين والمهتمين للاجابة عنها. ولكني ادعو لعكس منهج البحث من عدم وجود تلك العلاقة مابين الصابئة الحرانيون والصابئة المندائيون (صابئة الوقت الحاضر) الى وجودية تلك العلاقة ولنجعلها منطلقا لدراساتنا حول ذلك الموضوع, وسوف نرى بان هناك الكثير يستحق اعادة النظر في تلك المسالة الشائكة ربما. بالاضافة الى الانتباه وعدم نسيان للزمن والعصر الذي تعيشه الطائفتين اللتان نقارنهما.

فحران التي نقصدها بحديثنا في هذ ه المقالة ، من المدن الهامة، في التأريخ الانساني، والصابئة المندائيون لهم حصة في هذا التأريخ العريق لا بل من صناعه ومن مبدعيه الأوائل، لانهم من الأقوام التي سكنت هذه المدينة .. التي سمي بها كتابهم التاريخي (حران كويثا).

وفي الحقيقة توجد اكثر من مدينة سميت حران، فحران في تركيا وحران في سوريا وحوران في العراق.

وادي حوران في العراق:

وهذه ملفتة للنظر للغاية وتحتاج إلى دراسة وبحث، بالإضافة إلى تنقيب اكثر جدية في هذه المنطقة التي تقع ما بين محافظتي كركوك والرمادي ،في الهضبة الغربية بالذات، وكانت تعرف (بصرى) وهي عاصمة الأنباط، وتقع على طريق تجاري معبد ومهم في الحضارات السابقة (بين الشام ومصر وبلاد فارس) .. ففي عام 1995 نشرت مجلة (ألف باء) العراقية مقالا مطولا عن رحلة قامت بها مجموعة من الباحثين الجيولوجيين إلى هذه المنطقة لدراسة طبيعة الأرض، وصدفة وجدوا الكثير من النقوش والرسوم القديمة المحفورة على جدران الصخور الكبيرة هناك، ولا أريد هنا ان أتجنى كوني مندائيا ولكن الصور المنشورة وما حوته من رسوم أدهشت كل من رآها وتمعن بها، واعتقد بان للمندائيين شيئا من هذه المنطقة!!.. فكتبت إحدى الزائرات لهذه المنطقة وهي الدكتورة سحر شاكر مقالة في المجلة المذكورة وتدعوا المنقبين والباحثين المختصين للذهاب واستطلاع الامر، باعتبار ان هذا الموضوع هو ليس من اختصاصها الذي هو علم طبقات الأرض، وقد دبجت مقالتها بعناوين((اكبر متحف عراقي في الهواء الطلق، تتمنى متاحف العالم ان تحوز على قطعة واحدة منه .. الإنسان العراقي القديم يترك آثاره قبل 2500 إلى 7000 سنة قبل الميلاد)). وقد حاولت مع بعض الاخوة والأخوات المندائيين المهتمين ان نصل إلى تلك المنطقة بعد اخذ الموافقات الرسمية، وبمصاحبة الدكتورة المذكورة، ولكن اصطدمنا بعائقين أساسيين هما الدعم المادي المكلف، ورفض دائرة السياحة للطلب المقدم لان هناك ثكنة عسكرية للجيش العراقي قرب المنطقة.

معنى كلمة حران:

جاء في كتب المؤرخين العرب عدت معاني نلخصها كالآتي:

• · ابن جبير (إنها بلد اشتق تسميته من هوائه).

• · ياقوت الحموي (سميت بهاران ، أخي إبراهيم الخليل ، لانه أول من بناها فعربت ، فقيل حران).

• · الطبري (أن نوحا خطها ، عند انقضاء الطوفان ، وخط سورها بنفسه وفيها منازل الصابئة).

• · أبا الفرج ابن العبري (ان الذي بناها هو قينان على اسم هاران ابنه).

• · هناك رأي عند بعض العلماء بان معنى حران (الطريق).

• · والبعض الآخر يقول بان حران جاءت من ألاكدية (حرانو HARRAANU ) بمعنى محطة او عاصمة تجارية، وذلك بالنسبة الى موقعها المميز بين اشور وبابل وسوريا.

المندائية من العقائد الباطنية:

من المعروف عند جميع الباحثين ان المندائية في مراحل كثيرة من تاريخها صح تصنيفها من ضمن العقائد الباطنية أو السرية التي لا يفشي معتنقيها أسرار وأمور عبادتهم وفكرهم ، وليس موضوعنا ألان ان نبحث بالأسباب الحقيقية التي جعلت المندائيين يخفون أفكارهم وعقائدهم ويتجنبون البوح بها وان ينظروا إلى سريتها بالمنظار المقدس ..وسوف نقوم به في مناسبة أخرى .. من هذا المنطلق فمن الطبيعي جدا ان لملة كهذه مغلقة على نفسها لا تفشي من أسرار عبادتها شيء .. ان تنعت وتوصف من قبل المؤرخين ، لا بل وحتى في نظر الناس المجاورين لهم ، بنعوت وصفات لا تمت إلى حقيقة عقائدهم بشيء .. فتكثر بذلك الدعايات والتؤيلات والتفاسير العيانية الغريبة لمجمل الفعاليات والمراسيم التي يمارسها معتنقي هذا المذهب .. ولان الديانة المندائية ديانة غير تبشيرية او أغلقت لاسباب كثيرة ومن مدة طويلة .. ولان أصحاب هذا المذهب حافظوا على عدم الكشف عن أسراره منعا للإساءة أليه عند عدم فهمه أو للضغوط والاضطهاد الكبير الذي تعرضوا أليه على فترات مختلفة .. ولان التسامح والسلام صفة أصيلة في أهل هذا المذهب ومن أخلاقيات تعاليمهم الروحية.

فقد وجد البعض في هذه المرتكزات تربة صالحة لبذور افتراءاتهم الباطلة، ورواياتهم الرخيصة البعيدة عن الذوق والمنطق فاصدروا الإشاعات لترويج ما أبدعته نفوسهم المريضة من أباطيل، ودس رخيص واتهامات حاقدة، ومن هذه الأراجيف اتهام أهل التوحيد الأول والقديم بعبادة الكواكب والنجوم.

وحقيقة ان ابن النديم والشهرستاني مثلهم مثل بعض المؤرخين العرب القدماء لا يختلفون عن هؤلاء المؤرخين الذين دبجوا كتبهم بالكثير من الطوائف وتحدثوا عن معتقداتهم وأفكارهم .. وهم في الحقيقة بعيدين كل البعد عن حقيقة تلك الطوائف .. وهذا لا يخفى عن القارئ المحنك عند قراءته لكتاب الفهرست لابن النديم والملل والنحل للشهرستاني وغيرهم. فجميع الروايات التي نقلها ابن النديم والمسعودي عن عبادة وحياة الصابئة في حران، اعتقد بان مصدرها من الرهبان السريان والمؤرخون المسيحيون في منطقة الرها، الذين اشتهروا بعدائهم وغيرتهم من علماء ومفكري الصابئة الحرانيون الذين اشتهروا في بلاط الدولة الإسلامية، وارتفعت مكانتهم، فكانت سبب في النهضة العلمية والمعرفية آنذاك. على كل أن هذه الروايات ليست سوى دعايات رخيصة هدفها النيل من المكانة المميزة التي حضي بها الصابئة آنذاك.1 ¨

ولقد أعلن الكثير من العلماء المعاصرين مثل سميث وسيغال وحتى الليدي دراور، شكوكهم في ما يخص صحة الروايات التي نقلها الكتبة والمؤرخون العرب عن ديانة الصابئة في حران. فهم يعتقدون بأنه ليس من الحكمة الثقة برواة معادين.

اسم الديانة في حران:

يقول الكاتب محمد عبد الحميد الحمد في كتابه (صابئة حران واخوان الصفا) والباحث س. كوندوز في كتابه (معرفة الحياة) ان الحرانيون ليسوا بالصابئة. ويستخدمون اسم (ديانة حران، الديانة الحرانية) شانهم بذلك شان أغلبية الباحثين والمؤرخين، واعتقد على كثرة ما بحثته من هذه التسمية، أن فيها تشويها كبيرا للحقيقة .. كيف ذلك ؟!! هذا ما سوف اعرضه الان:

لا اعتقد بان هذه هي التسمية الحقيقية لهذا الدين المجهول الاسم عند المؤرخين العرب القدماء، فمن غير المعقول أن يسمى دين على اسم مدينة !!

لقد ذكرنا بان مدينة حران، مدينة متعددة الشرائع والعبادات حالها حال مدينة بغداد مثلا، فمن الخطا ان نطلق تسمية ديانة بغداد او الديانة البغدادية!!.. ونحن بذلك نختزل جميع الديانات والاتجاهات الفكرية في تسمية واحدة ونبخس حق كل دين موجود في المدينة، وبذلك تضيع الاتجاهات الوثنية مع الديانات التوحيدية!!.

ومن جانب آخر ذكر مار يعقوب الرهاوي والمتوفى سنة (708) في كتابه الأيام الستة ((عندما اطلع على كتاب هرمس الحكيم وهو من كتب الحرانية المقدسة قال عنهم: وهؤلاء القوم عند الناس لهم اسماء مختلفة منها الكلدان والحرانيون والحنوفون)) .. نستنتج من كلامه شيئين مهمين، اولهما: ان هؤلاء القوم عند الناس والأقوام المجاورة يعرفون بعدة اسماء منها التسميات التي أوردها!!.. والسؤال هو ماذا كانوا هم يطلقون على أنفسهم؟! هل كانوا يطلقون على دينهم (دين حران) نسبة الى المدينة التي كانوا يقطنوها!! هل من المعقول والجائز ان يطلق اسم مدينة على دين!!.. وإذا أراد أحد المسيحيين في العراق ان يعبر عن جنسيته، ويقول انا عراقي، فهل هذا معناه ان ديانته عراقية او ديانته اسلامية باعتبار ان الدين الرسمي في العراق هو الإسلام!!.. نفس الشيء يحصل للفرد اليهودي او الصابئي الساكن مدينة حران، يقول انا يهودي حراني او يهودي من حران او انا صابئي حراني!!.. مثلما هناك تسميات أوردها بعض المؤرخين مثل صابئة البطائح وصابئة حران، فهذا لايعني بان هنالك فرقتين من الصابئة، وانما المراد بالتسمية التوضيح بان هذا الصابئي من حران وان ذاك من البطائح وهي منطقة في جنوب العراق!!.. وفي وقتنا الراهن سمعت تسمية مشابهة لهذه التسمية ويصح ان نوردها الان، فهناك ما يسمى بصابئة العراق وصابئة إيران، هل المقصود من هذه التسمية فرقتين او طائفتين من الصابئة؟!!.. فهذا اعتقد خلط كبير وواضح للتسمية التي أوردها المؤرخون قديما.

كما ان هنالك الكثير من الاسماء التي وردت في كتب المؤرخين التي تذيل بكلمة (الحراني) وهم ليسوا من الصابئة وانما بعض منهم مسيحيين او يهود او اسلام، وهذا يثبت ما ذهبت اليه.

ولقد ورد شيء جميل وملفت للنظر في كتاب (هدية العارفين) للباباني ص 5، وهو يتحدث عن ابو اسحاق الصابئي الحراني فورد الاتي:

(الحراني: ابو اسحاق ابراهيم بن سنان بن ثابت بن قرة ابن مروان بن ثابت الحراني ثم البغدادي الطبيب من الصابئة توفي سنة 335). اذن فكنيته تشير الى مكان وليست الى دين او معتقد او طريقة فكرية. فهو اشار بانه الحراني أي نسبة الى (حران) لانه جاء او اصله من تلك المدينة، ومن ثم اصبح البغدادي، لانه نشأ وترعرع وعاش فيها.

وان الأسماء التي أوردها مار يعقوب الرهاوي واضحة المعنى أيضا، وأنا أتساءل هل ممكن ان تعني تسميتهم بالكلدان، انهم من الأصل في وادي الرافدين ونزحوا الى تلك المدينة؟! أم ان لديهم ارتباط وثيق وصلة قرابة بالكلدان في وسط وجنوب العراق؟!!.. وماذا تعني يا ترى تسمية الحنوفون التي أطلقت عليهم من قبل الأقوام المجاورة، وهل ممكن ان تعني الحنفيون او الأحناف!!.. وللعلم ان هذه التسميات أيضا قد أطلقت على الصابئة المندائيون. فقد ذكر المسعودي في كتابه (التنبيه والاشراف) ص 86، بان دين الصابئة وهي الحنيفية الاولى.

المندائيون الفلسطينيون:

كان الصابئة يقطنون تلك المدينة المسماة بحران، وعندما هاجر الصابئة المندائيون الفلسطينيون في القرن الأول الميلادي بعد دمار أورشليم حوالي سنة 70 للميلاد على يد القائد الروماني تيطوس،صعدوا الى هذه المدينة، لان لهم اخوة في الدين. فبقي منهم في حران، والبقية الباقية اثرت النزول الى وادي الرافدين عن طريق النهرين، وخاصة عن طريق نهر الفرات حسب اعتقادي، ومروا ايضا ب(بصرى – حوران) عاصمة الانباط، للالتقاء والاستقرار اخيرا مع اخوتهم ايضا الصابئة الموجودين في البطائح .. وكانت هذه الهجرة تحت رعاية الملك اردوان (يعتقد بأنه الملك البارثي ارطبانوس)،هذا ما ذكره الكتاب المندائي التاريخي (حران كويثا).

ومن المهم ذكره هنا، بان هناك عين ماء تسمى (عين الذهبانية او عين العروس) ألان ، وموقعها جنوب تل ابيض مقابل إحدى أبواب مدينة حران التاريخية، والتي كانت تسمى من قبل أهل حران ب(المصبتا) أي بمعنى التعميد او الصباغة وهو الطقس المشهورة به ديانة الصابئة سواء أكانوا في حران او في بطائح العراق!!.. ويقال أيضا ان هذه العين تابعة لإبراهيم الخليل، هذا حسب ما أورده الكتبة والمؤرخون العرب ومنهم ابن جبير. ويروي أحد المشاهدين لهذا المكان بان عينه الجارية قد جفت في بداية التسعينات من هذا القرن. ويذكر أيضا بان هذه العين كانت للمياه الجارية الساخنة!!.. وكان الناس يقصدونها من اجل الشفاء من بعض الأمراض الجلدية خاصة. وهذا يذكرنا بالقصة المندائية المتوارثة حول تواجد أجداد المندائيين في منطقة جبلية، وكانوا يتعمدون في مياه ساخنة شتاءا!!.

ومن باب آخر إذا أسلمنا بقصة ايشع القطيعي النصراني، فلماذا بقت تسمية الصابئة إلى اليوم تطلق على هؤلاء الناس او ذلك الدين المجهول الهوية والاسم؟!!

وقد ورد في كتاب (شذرات من كتب مفقودة في التاريخ) الذي استخرجها وحققها الدكتور إحسان عباس، حديث عن كتاب (الربيع) المفقود لغرس النعمة بن هلال الصابئي، ولا اشد من انبهاري وانا أقرا ان معظم الروايات المنقولة على لسان غرس النعمة عن شخص قريب له يسمى أبو سعد الماندائي، إذ يقول غرس النعمة ((حدثني أبو سعد المندائي قال: ......الخ .. وحدثني المندائي ... الخ))، وهذه أول مرة تأتي هذه التسمية (المندائي) على لسان أحد الأشخاص المنتمين الى الصابئة الحرانية في النسب .. فقد كان والد جده أبو إسحاق الصابئي المترسل المعروف. وان المحقق للكتاب المفقود لم يعلق على هذه الكلمة (المندائي) واعتبرها اسم لعشيرة!!.. وللعلم ورد ذكر أحد العلماء المشهورين أيام العباسيين اسمه أبو الفتح المندائي، وهو صابئي من أهل حران!!. ومن الأهمية أن نذكر أيضا ورود اسم زهرون أو أل زهرون عند ذكر الكثير من أسماء الصابئة الحرانيون والمشهورون في البلاط العباسي. فاسم زهرون هو من الأسماء المقدسة الواردة كثيرا في النصوص الدينية المندائية، وهو اسم أحد الملائكة، وان نفس الاسم تكنى به عشيرة من كبريات العشائر المندائية ولحد ألان، وهي عائلة (أل زهرون).

الصابئة المندائيون في حران:

أن الصابئة المندائيون وحسب كل الدلائل والإشارات التاريخية كانوا يسكنون مدينة حران ومساهمون بتاريخها وحضارتها، ولكن هذا لايعني وجودهم في المنطقة لوحدهم .. وأما حران فهي مدينة كبيرة مختلفة الشرائع والعبادات والمذاهب .. حالها حال مدينة بغداد مثلا ، فيوجد فيها الصابئي والمسيحي واليهودي والمسلم واليزيدي وغيرهم . وكانت حران في مطلع القرن الثامن الميلادي، مجتمعا متعدد الاعراق والديانات. تعيش في ظل ثقافة عربية إسلامية، والظاهر ان أهل الرها الذين يدينون بالمسيحية كانوا على نقيض مع ثقافة حران فلذلك وردت حران في كتابات أهل الرها بأنهم عبدة أوثان ووصفوهم بمختلف الصفات السيئة وهذا يدل على وجود خلاف فكري وعقائدي معهم.

واعتقد أن المؤرخين العرب صار عندهم خلط واضح ما بين الصابئة المندائيين وتسميتها، وبعض الطقوس الوثنية وعبادة الكواكب التي تمارسها بعض المذاهب القديمة .. وهذا يظهر جليا عند وصفهم للصابئة في معرض حديثهم ، فهم في بعض الفقرات يأتون على وصف مذهب الصابئة بصفات تدل على وثنية خالصة ، وفقرات أخرى يأتون بصفات تدل على وحدانية خالصة !!. والحق يقال ان المشاهد العياني لاي من الطقوس المندائية او غيرها وان لم يشاهدها مسبقا، يظن للوهلة الاولى بانها تمت بصلة لطقوس عبادة وثنية واشراك بالله!! ولكن يصل الى هذه النتيجة فقط عندما يستند الى تفسيره الخاص بدون الرجوع الى اصحاب الشان في المراسيم او الطقوس المذكورة وتفسيرهم لها وما يبغونه منها. فمثلا تقبيل تمثال السيد المسيح او مريم العذراء من قبل بعض المؤمنين المسيحين، او تقبيل الحجر الاسود في الكعبة اثناء الحج عند المسلمين .. هل نستطيع ان نقول ان مثل هذه الممارسات تمت بصلة الى الوثنية؟ او هي من بقايا عبادة الاوثان والشرك بالله في الازمان الغابرة؟ وهنالك الكثير من على شاكلة تلك الامثلة نستطيع ان نوردها.

ومثلما أوضحنا سابقا أن المؤرخين العرب اعتمدوا على الرواية الشفهية والتناقل بين شخص وآخر على كتابتهم لتاريخهم وهذا يعطي الدليل المنطقي على خلطهم وتؤيلهم لأمر الصابئة.

مثال واقعي حاصل:

وبودي أن اسرد مثال واحد فقط يكفي لأبين صحة ما ذهبت أليه حول هذا الموضوع .. جميع المندائيين يعرفون الدعايات والتؤيلات المغرضة التي يبثها بعض الناس الجهلة والتي تدور في مخيلتهم على الرغم من كذبها وتلفيقها وعدم عدالتها ، ومثال هذه الدعايات (وهو أن الصابئة يخنقون الميت قبل وفاته .. أو بإسقاط الذبيحة (الخروف) من فوق سطح البيت وبعد ذلك يتم خنقه وأكله!!) وصدقها الكثير من أبناء المجتمع العراقي مع الأسف الشديد بدون تمحيص وتدقيق والبعض منهم من الف الكتب وألقى المحاضرات حولهم بالاعتماد على دعايات وتؤيلات لا أساس لها من الصحة .. ولقد دعيت ذات مرة لحضور محاضرة في إحدى الكنائس المسيحية في بغداد بعنوان (الصابئة المندائيون) لأحد المحاضرين المعروفين على مستوى الكنائس في العراق .. ولقد كان عدد الحضور حوالي 60 شخص من كلا الجنسين .. ولا اشد من اندهاشي وهو يتطرق لمواضيع حول المندائية لا تمت بصلة لها .. وهو حديث بالحقيقة اقرب إلى حديث بعض العامة الذي لايمت إلى حقيقة البحث العلمي وأصوله، فهو يقول من جملة ما يقوله، بان الصابئة المندائيون يعبدون كوكب الجدي!!.. وغيرها كثير اتحف بها محاضرته التي ليست سوى اعطاء رؤية خاطئة جدا ومنافية للحقيقة عن الصابئية المندائية، سواء عن قصد او عن غيره .. وعندما انتهت المحاضرة وبعد تحدثي معه وسألته عن المصادر التي اعتمدها في محاضرته هذه .. فكانت الفاجعة عندما قال لي بأنه اعتمد على مقالة لانستاس ماري الكرملي المنشورة في مجلة المسرة المسيحية الصادرة عام 1969م ، وكتاب الصابئة في حاضرهم وماضيهم لمن يقولون عنه بالمؤرخ عبد الرزاق الحسني، وقصته المعروفة مع سيادة المرحوم الكنزبرا دخيل الكنزبرا عيدان (ولي رجعة حول هذا الكتاب في مناسبة أخرى!) وعلى ما يعرفه من معلومات متفرقة حولهم من المحيط العام (أي الدعايات والتؤيلات التي تحدثنا عنها والتي سمعها من شرذمة المجتمع) .. فأنا حقيقة اعجب لمثل هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالمثقفين والباحثين وهم ابعد بكثير من أن يكونوا بهذا الشكل .. فكيف على الباحث أن يخوض في مثل هذا الموضوع معتمدا على دعايات وتؤيلات تقال هنا وهناك ولا أساس لها من الصحة ؟!! والظاهر أن أغلبية المؤرخين والكتبة العرب من هذا الصنف .. أبعدنا الله عن هؤلاء الذين يشوهون أخبار الأولين بقصد أو بغيره معتمدين على شائعات ودعايات واهية، وأبعدنا الله أيضا عن الباحثين من أمثال صاحبنا الذي اعتمد في إلقاء محاضرة عن تاريخ وطقوس وأفكار وعبادة المندائيين الوجه الأخير من روحانيات العصر القديم ، على مقالة بسيطة نشرت في إحدى المجلات!!!

فلما حاججت أخينا بكيفية اعتماده على تلك المصادر فقط .. قال وعذره اشد من فعلته .. (لاوجود لمصادر حول المندائية في المكاتب) ، ولحسن حظي كنت جالبا معي ما يقارب السبعة كتب تدور حول المندائية ومن مختلف الجوانب والمتوفرة في المكتبات العامة والخاصة .. فعندما تفحصهن وتأكد من أن الغالبية العظمى من الكتب إصدار دور النشر العراقية ، فظل خجلا لا يعرف بماذا يجيب .. ومن أمثاله كثير!!.. ونحن لا ننكر بقلة الكتب الصحيحة والموثوقة التي تتناول الصابئة المندائيين في المكتبة العربية .. ولكن هذا لايعني أن نتجنى وان ننشر الأفكار غير الصحيحة حول مجموعة من الناس!! وهذا ما فعله بالضبط أخينا بالله.

فلا نستغرب إذا عزيزي القارئ الكريم ، من ابن النديم والشهرستاني وغيرهم من المؤرخين العرب الذين يقولون بان الصابئة يحرقون الإنسان ويسلخون جلده ويقطعونه اربا، وبعد ذلك يأكلونه. وهذه العملية هي جزء من طقوسهم وقرابينهم للقمر أو الكواكب الأخرى !!.. وغيرها من الأكاذيب كثير تجده عزيزي القارئ في كتاب الفهرست لابن النديم والملل والنحل للشهرستاني. واعتقد ان القارئ لهذا الكتاب يشعر بأنه يشاهد أحد الأفلام المرعبة عن آكلي لحوم البشر!!.

ومعروف عن المؤرخين العرب القدماء ، انهم يعتمدون في مادتهم العلمية والتاريخية على الرواية الشفهية من شخص لأخر دون تمحيص وتدقيق بالأمور التاريخية المنقولة .. وان الرجل ابن النديم يعترف بان مصدر معلوماته أشخاص آخرين .. لا نعرف نحن ألان مدى صحتهم ومدى حسن نواياهم ومدى معرفتهم بالصابئة آنذاك ، وهل كانوا أصدقاء أم أعداء حاسدين ؟! .. واعتقد أن ابن النديم لا يعرفهم شخصيا ولم يقابل واحد منهم البتة .. أكيد أن معلوماته عن الصابئة جاءت عن طريق السماع .. وأعوذ بالله من هكذا مؤرخين ينقلون أخبار التاريخ عن طريق السماع !! .. ومثلما يقول المثل الدارج ((بين العين والأذن أربعة أصابع)) ، وأنا بدوري أقول ((أن بين الحقيقة والخيال ، والصدق والكذب ، شعرة واحدة)).

صابئة حران والدولة الاسلامية:

وان كان الصابئة في حران وثنيين حسب زعم ابن النديم ،فكيف أذن استطاعوا أن يصوبوا مواضع الرياسة في مجال الثقافة والعلم والأدب في الدولة الإسلامية ؟! .. وكيف قبل سادة الدولة الإسلامية بذلك؟!..ونحن نعرف جيدا ما للدين الإسلامي من حزم على إنكار وهدر وإباحة الكفار الوثنيين !! ..وهذا الأمر يأخذنا إلى نتيجة مفادها أن لصابئة حران حجة قوية وأساس توحيدي قوي استطاعوا من خلاله بسط شخصيتهم واحترامهم آنذاك. ومن الجدير بالذكر انهم حصلوا على رخصة أمير المؤمنين في ممارسة شعائرهم وطقوسهم بشكل علني في أماكن عباداتهم !!.

اما بخصوص اهتمام صابئة حران بالفلك والتنجيم واخذ الطالع وشرح طبيعة الكواكب واسمائها وميزاتها ومتعلقاتها، فهذا يظهر جليا واضحا لمن له معرفة أو قراءة في كتاب مندائي اسمه (أسفر ملواشي)!!.. وللعلم أن جميع الأديان والملل والمذاهب القديمة والحديثة في جميع شعوب العالم، اهتمت بهذه الناحية من الحياة الإنسانية ولديها تراث كبير في هذا النوع من المعرفة، وربما لا بل أكيد انه اكثر من الأدب والتراث المندائي!!. فهذا لايعني ان جميع التراث المكتوب باللغة المندائية مثلا، بالضرورة أن يكون تراث مقدس ويعبر عن عبادة المندائيين!!.

الصابئة وحركة اخوان الصفا:

اضافة الى ان هؤلاء الصابئة الذين عملوا في البلاط العربي الاسلامي كان لهم اثر جدا كبير على الفكر العربي الاسلامي .. وكثير من الحركات الفكرية التي ازدهرت آنذاك .. كان الفكر الصابئي له التاثير الكبير عليها .. وخاصة يكفي هنا ان نضرب مثل واحد في هذا الموضوع وهو بما يسمى باخوان الصفا وهي حركة فكرية ازدهرت في العهد الاسلامي .. فانا اتفق مع الكاتب عبد الحميد من ان فكر هذه الحركة (اخوان الصفا)اغلبيته مستمد من الفكر الصابئي .. وخاصة وان الفكر الصابئي كان متداولا في العهد العباسي والاموي من خلال جهابذة العلم والادب الصابئة من امثال ثابت بن قرة وابو اسحاق الصابئي ... الخ.

وهذا يظهر جليا عند قراءت نا لبعض الرسائل التابعة لهذه الحركة والتي تسمى (رسائل اخوان الصفا) فوجدت فيها فصلا كاملا عن علاقة حسابية فلكية رقمية، نفسها موجود في كتاب مندائي يسمى (أسفر ملواشا - سفر الأبراج) اعتقد بانه ترجمة حرفية عربية لما موجود في هذا الكتاب المندائي !!!

إضافة للتشابه الغريب والعجيب للأفكار الغنوصية الموجودة في هذه الرسائل، مع أجزاء من ديوان مخطوط باللغة المندائية يدعى (ألف ترسر شيالة – ألف واثنى عشر سؤال). سوف اعقد مقارنة ما بين فكر طائفة اخوان الصفا والمندائيون في مناسبة اخرى.

شخصيات من صابئة حران في البلاط الاسلامي:

فابن النديم يذكر في فهرسته اكثر من عشرة أسماء لامعة من صابئة حران كانت لهم مواضع الرياسة في كثير من مجالات العلم والمعرفة وحتى الدولة وعلى مدار سنين طويلة. فقد جاء في كتب المؤرخين وفي كتب الأفذاذ من علماء الصابئة الحرانيين عن ثابت بن قرة الصابئي الحراني المعروف بعلمه الوفير والذي تميز بعقليته الموسوعية في الفلسفة والرياضيات، فقد تخرج ثابت والذي كان قد برز من بين اقرانه، واصبح من أخوان العهد والثبات (ابني قايما)، وصار له الحق في كشف الأسرار، وقد دعي (صديقيا) كما ورد عند ابن النديم، وهي تعني الحكماء الإلهيين، او من كان حكيما كاملا في أجزاء علوم الحكمة. وأنا اعتقد ان هذه الكلمة محرفة أو من كلمة (ناصورائي زديقي ) المندائية، والتي تعني المتبحر بالعلوم الدينية والمعرفية والإلهية او من كلمة (زاديقي) أي الصديق. وبالإضافة إلى ذلك فان الباحثة الإنكليزية الليدي دراور المتخصصة بالدراسات المندائية تؤكد بان المفكرين الحرانيين كثابت ابن قرة ومدرسته كانوا من عباقرة الصابئة الناصورائيين المندائيين الذين يمارسون التعميد وكانوا أوفياء لدينهم الذين عليه ولدوا. ولقد كتب ثابت رسالة في مذهب الصابئين وديانتهم، كما أن ولده سنان بن ثابت قام أيضا بترجمة بعض الصلوات والأدعية الصابئية الى اللغة العربية، فلديه رسالة في شرح مذهب الصابئين ورسالة في النجوم ورسالة في اخبار ابائه واجداده وسلفه، ورسالة في قسمة ايام الجمعة على الكواكب السبعة الفها لابي اسحاق الصابئي ، واحتمال جدا ان تكون بعض ماورد في كتاب (اسفر ملواشي – سفر الابراج) المخطوط باللغة المندائية، من تاليفه او تاليف والده.

ولدي حدس كبير يقول بان بعض الاعلام المندائية التي حافظت على الدين والكتب، والذين ورد ذكرهم في الكتب المندائية، ولانعرف ماهي اسمائهم الحقيقية، لان اسمائهم الواردة في الكتب هي دينية .. اعتقد بان من فيهم ثابت وغيره.

وللعلم ان مؤرخ الفلسفة المعروف ابن حزم يشير في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) الى ان الحرانيين هم من الصابئة الذين يرد ذكرهم في القران. وقد صنف عبد القادر الجزائري في كتابه (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل)، العرب قبل الاسلام، أصنافا: صنف اعترف بالخالق، وانكر البعث. وصنف عبدوا الاصنام. وصنف عبدوا الملائكة. وكان منهم من يميل الى اليهودية ومنهم من يميل الى النصرانية ومنهم من يميل الى الصابئة وكانت بقيت عندهم، بقايا من دين اسماعيل وابراهيم الخليل.

هل المندائيون اهتموا بالتاريخ ؟!!

من الأجدر أن نعترف بان الأمور التاريخية التي وصلتنا عن طريق الكتب والمخطوطات المندائية، هي ضئيلة ولا تشبع فضول الباحث. ولكن في نفس الوقت من المرفوض القول بان المندائيون لا يهتمون بكتابة تاريخهم أو التاريخ بصورة عامة. فان محاولاتهم من خلال ما وصلنا عن طريق الرواية الشفهية وديوان حران كويثا (وخاصة إذا خلصنا الأخير من بعض التزويقات والخيالات والتي تتشابه مع بعض الكتب التاريخية القديمة) وكذلك الازهارات (وهي عبارة عن ذيول تاريخية وردت في آخر الكتب والدواوين المندائية) ما هو إلا إثبات واضح وصريح من تمكن المندائيون من كتابة ونقل التاريخ الآمين .. ولكن اعتقد بان هنالك الكثير من الكتب المندائية، وربما التاريخية قد فقدت أو مخبأة لحد هذه اللحظة !!! أو ربما أتلفت عمدا أو عن غير قصد أو لم تكتشف لحد الان .. لأننا لحد هذه اللحظة لا نمتلك تقرير كامل وموثق لعدد الكتب والمخطوطات المندائية .. ولا ننسى من محاولة البعض التخلص من كل ما يتعلق بالمندائية وبشتى الوسائل. وذلك لأغراض ربما تكون سياسية في عصر معين أو دينية أو اجتماعية في عصر آخر.

فعلى قلة الكتب والمخطوطات المندائية الموجودة في حوزتنا الان، او المخبأة والتي لم ترى النور لحد هذه اللحظة، والتي تتحدث عن التاريخ المندائي، لا يمكن القول بان ليس هناك تاريخ مندائي او ان التاريخ المندائي ليس ذو أهمية في تاريخ المناطق التي سكنها المندائيون قديما !!!.. وبنفس الوقت لا يمكننا القول بان المندائية كانت لها تاريخ معقد وعميق كالحظارة اليونانية او غيرها.

الاتهام الاول يرجع اليوم:

ومثلما اتهمنا اليوم بعبادتنا من أناس سواء ليس لديهم فهم حقيقي وعلمي للديانة الصابئية المندائية او من أناس حاقدين رغم معرفتهم الحقيقة، اتهم ايضا أجدادنا الأوائل بعبادتهم ووصفوا بالوثنية او الشرك بالله من أناس على نفس الشاكلة السابقة .. فعلى الرغم من الاضطهاد الذي حصل لأجدادنا الصابئة المندائيين في مدينة حران، الذي أدى الى إسلام بعضهم وتنصر البعض الأخر خوفا، بقي الكثير منهم على دينهم أمينين، صامدين متحملين الظلم لاجله، واستطاعوا رغم هذا الظلم والاضطهاد ان يتبوؤا مراكز مهمة في الدولة الإسلامية وغيرها بفضل عزيمتهم وعلمهم واخلاقهم، فقد كان ابو اسحاق الصابئي من نساك دينه والمتشددين في ديانته وفي محاماته على مذهبه . وقد جهد فيه عز الدولة ان يسلم فلم يقع له ولما مات رثاه الشريف الرضي ، وقصته وقصائده مع ابي اسحاق معروفة للجميع.

وقال ثابت بن قرة الصابئي الحراني ((عندما اضطر الكثيرون، الى ان ينقادوا الى الضلال، خوفا من العذاب، احتمل آباؤنا ما احتملوه بعونه تعالى، ونجوا ببسالة ولم تتدنس مدينة حران هذه المباركة)).

ومن جملة الظلم والغزو الذي تعرض له الصابئة في التاريخ فهو كثير، فقد ذكر في كتاب (لسان الميزان) لابن حجر العسقلاني، بان الامير محمد بن مروان بن الحكم الاموي قد غزا الصابئة مرارا وسبى بها.

وأريد هنا أن انقل شيئا ملفتا من كتاب (الفهرست) ، لكي أبين مدى الخلط الذي ذهب أليه ابن النديم في كتابته ونقله للتاريخ ، فهو يتحدث عن طائفة اسمها (الكشطيين) وجاء بالنص ما يلي:(يقولون بالذبائح والشهوة والحرص والمفاخرة . ويقولون انه كان قبل كل شيء ، الحي العظيم ، فخلق من نفسه ابناً سماه نجم الضياء : ويسمونه ، الحي الثاني . ويقولون بالقربان والهدايا والأشياء الحسنة ).

فمن هم الكشطيين هؤلاء ؟ (للعلم أن هذه الكلمة مندائية الأصل وجاءت من كلمة كشطا أي الحق أو العدل أو العهد، وهذه الكلمة نفسها تطلق على المندائيين في الكتب الدينية !!) .. يلاحظ القارئ الكريم مدى الخلط الواضح في كلام ابن النديم في تعريف هذه الطائفة .. وهناك الكثير في كتاب الفهرست لابن النديم.

أن ابن النديم ليس سوى ناقل للدعايات والإشاعات بدون تمحيص أو تدقيق ، والعهدة على القائل والناقل كما يقولون !! .. أقول من أين اخذ محاضرنا الذي تحدثنا عنه ، أسلوبه بالبحث ، الظاهر والله اعلم أن الشغلة متوارثة من أجداده الأوائل !!

اما ايشع القطيعي النصراني وقصته حول الصابئة ورحلة المامون فهي قصة واهية ومغرضة دحضها اغلب الباحثين من أمثال الليدي دراور وناجية المراني وعزيز سباهي في كتابه الأخير، وحتى الشاعرة المندائية لميعة عباس عمارة في بحث لها.

وبودي أن انقل بيتين من الشعر في هذه المناسبة للشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي فهو يقول:

وما كتب التاريخ في كل ما روت لقرائها إلا حديث ملفق
نظرنا لامر الحاضرين فرابنا فكيف بأمر الغابرين نصدق

وهذا فعلا ما حصل عندنا (الصابئة) فنحن موجودين على قيد الحياة وممكن التحقق من امرنا بكل سهولة، ولكن ننعت ونضرب في عبادتنا للخالق ويقولون أننا نخنق الميت!!

فهذا في الحقيقة مأخذ كبير على المؤرخين العرب ومصداقية التاريخ الذي كتبوه .. وأنا لا أقول بان كل التاريخ الذي كتبوه هو غير صحيح وغير موثوق فيه .. ولكن على الباحثين اليوم أن يدققوا ويتفحصوا كل ما ينقله المؤرخين العرب لنا، وهذا ما تنص عليه أصول البحث العلمي الدقيق. وقد أكدت الباحثة الإنكليزية الليدي دراور التي عاشت فترة طويلة في جنوب العراق تدرس التراث المندائي. قالت (في جملة ما أورده المؤلفون العرب من روايات يوجد بها قدر لاباس به من الحقيقة، وهو ان لدى الحرانيين ما يشتركون به مع الصابئة المندائية، الذين يسكنون أهوار جنوب العراق).

وحسب اطلاعي وبحثي في هذه المسالة بالذات، بان الصابئة قديما وحديثا هم المندائيون أنفسهم .. وان صابئة حران ما هم إلا امتداد لصابئة العراق وفلسطين المندائيين .. واحتمال ان يكون قد تشبه بعض الأقوام بالصابئة لفترة معينة قصيرة ولحالة خاصة، ولكن هذا لا يعني بوجود فرقتين من الصابئة المندائيين. وان فطاحل العلماء والمفكرين الصابئة الذين اشتهروا في البلاط الإسلامي ما هم إلا صابئة مندائيين.

واليوم كما في السابق،من منا قام بمدح دين آخر غير دينه أو على حساب دينه فكل المناقشات والجلسات وخاصة الدينية منها ليست سوى إظهار عيوب الأديان الأخرى وبث الدعايات والتؤيلات السيئة عليها .. وهذا الحال لم يظهر ألان أو هو وليد عصر ما يسمى بالديانات السماوية او الكونية مثلما اصطلح على تسميتها احد الكتاب .. بل هو موجود منذ فجر التاريخ وبالضبط عندما بدا الإنسان يعبد قوى الطبيعة .. فهذه الحالة لاتمت بصلة إلى الإيمان الحقيقي والى جوهر عبادة شيء اسمه الله .. وتذكرني هذه الحالة بمقولة لأحدهم بما معناه (أن الوطنية هي حب الوطن والإخلاص له ولايعني كره الأوطان الأخرى) وأنا أقول ألان (إن حب دين معين والأيمان به لايعني بالضرورة كره الأديان الأخرى).

اجدادنا في حران:

على كلا بودي أن أوضح للمندائيين بان ليس كل ما يكتب عليهم قديما وحديثا، هو حقيقة يجب التسليم لها. فلا يجوز أن نبتري اليوم من أجدادنا العظماء الذين جاهدوا في سبيل ان تبقى المندائية وان نخلق نحن اليوم مندائيين. فحق علينا اليوم ان نفتخر بهم وان نعتز بانتمائنا لهم، لا بل و أطالب ايضا بان نحيي رموزنا القدماء وان نحتفل بهم كل عام ومن هؤلاء كثير فعلى سبيل المثال: ثابت بن قرة وأبو إسحاق الصابئي الذين كانوا أعلام عصرهم ولهم الفضل في كثير من العلوم الان، وهم الصابئة المندائيون الاصلاء الذين حافظوا على إيمانهم رغم الظلم والاضطهاد الكبيرين الذي لحق بهما وبأجدادهم ، حيث ورد على لسان ثابت بن قرة ما يلي ( ((عندما اضطر الكثيرون، الى ان ينقادوا الى الضلال، خوفا من العذاب، احتمل آباؤنا ما احتملوه بعونه تعالى، ونجوا ببسالة ولم تتدنس مدينة حران هذه المباركة)).

.. وأطالب أيضا بأهمية وضرورة إعادة وتجميع كتابة تاريخنا المبعثر في ضوء معطياتنا الجديدة، ويجب أن لا ننسى بان تاريخ حران والصابئة هناك ما هو إلا جزء من التاريخ المندائي العريق. كما وأشجع جميع المثقفين والباحثين الصابئة المندائيين للبحث في هذا الموضوع بالذات، لاثبات حقنا في تاريخنا المفقود، ولاثبات حق أجدادنا في نسبنا لهم!!.

ومما تقدم ،ارفض وبحجج اعتقد بانها ليست ضعيفة .. مقولة الكاتب عبد الحميد الحمد بان (لاصلة بين مذهبي الصابئة المندائية والصابئة الحرانية. فالمندائية حصاد بيئة فقيرة في معطياتها الحضارية. لذا لم يكن لهم أي تأثير على الشعوب المجاورة!!). وبودي أن أعيد ما قاله نبينا الحبيب يهيا يهانا (مبارك اسمه) حين سأله بعض المندائيين عن مصيرهم في حقبة معينة، قال لهم (سيأتي اليوم الذي إذا نظروا للرجل الذي يلبس عمامة بيضاء وهميانة ، تعتريهم الدهشة ويأتون ويسألونكم " تعالوا من نبيكم؟ حدثونا عنه؟ وما هو كتابكم؟ ولمن تسجدون وتعبدون؟" وانتم لا تعلمون ولا تعرفون!! .. ملعون ومخزي من لا يعرف ولا يعلم أن ربنا هو ملك النور العظيم، ملك السماوات والأرض الواحد الأحد) دراشا اد يهيا -بوثة رقم 17. وأنا أسأل المندائيين (الصابئة) كم واحد مر في هذا الموقف؟!!!!.

بعض التشابهات المهمة

بين الصابئة في حران والصابئة في البطائح*:

• الصابئة في حران يجيدون اللغة الآرامية، وكانت لهجتهم افصح اللهجات الآرامية .. وهذا ينطبق على اللغة التي يتحدث بها المندائيون الان والتي كتبت بها كتبهم المقدسة وغيرها من ادبياتهم واشعارهم .. وهي (اقصد اللغة المندائية) احدى اللهجات الارامية.

• لديهم من الصلوات ثلاثة، وهي الواجبة يوميا (صبحا، ظهرا، عصرا)، ولا تتم إلا بعد أداء الاغتسال أو الوضوء .. وهذا يشابه ما لدى الصابئة المندائيون الان بما يعرف ب(الرشاما والبراخا) وهي الصلاة الفرضية الواجبة والرسمية في اوقاتها الانفة الذكر.

• يدفنون الميت باتجاه الشمال .. ويحرمون اللطم والبكاء والحزن على الميت، لان هذه الأفعال سوف تعيق الروح في معراجها. ويحرمون الانتحار .. ايضا يقوم المندائيون بدفن موتاهم باتجاه الشمال ويحرمون الحزن واللطم والبكاء وايذاء الجسد على الميت، تحريما قاطعا، لان هذه الافعال تؤدي الى عرقلة مسير النفس (نشمثا) الى عوالم النور من قبل الارواح الشريرة.

• يقدسون المياه الجارية الحية، ويعتقدون بأنها محروسة من قبل الأرواح الخيرة النورانية .. ان المندائية والمياه الجارية الحية والتي تعرف باليردنا، شيئا واحدا لايقبل الفصل .. فكرا وتطبيقا. وان المياه الجارية الحية (اليردنا) مهمة في عملية الخلق والتكوين ومهمة في ولادة الانسان في طقس التعميد (مصبتا) ، ولاننسى بان اليردنا الارضية محروسة من قبل اثنين من الكائنات النورانية الاثيرية وهما (شلمي وندبي).

• الأيمان بخلود الأرواح، وان أرواح الأفراد لها صلة بأرواح أسلافها وتعاني قبل أن تتطهر، إلى أن تتحد بالجسد النوراني في ملكوت الله .. اصلا ان عيشة الانسان المندائي المؤمن (المتهيمن) هي للحياة الاخرى في عوالم النور وليست للحياة الارضية، ويجب ان تعود النفس (نيشمثا) الى علة الوجود (الخالق) بدورة كاملة، لانها نفحة من ذاته العظمى .. ولكن يجب ان يتم لها التطهير الكامل من الشوائب التي علقت بها اثناء حياتها الارضية، لكي ترجع هذه الجوهرة (كيمرا) صافية نقية كما خلقها الحي (هيي)، فلذلك يجب ان تدخل في اماكن العقاب والتطهير المسماة (المطراثي). وبعد ان يتم ذلك، تتحد النفس (نيشمثا) مع جسدها النوراني (دموثا) أي الشبيه النوراني الذي لايتكون من اللحم والدم.

• يخضعون إلى رؤسائهم الدينيين بدلا من السلطة الزمنية في حل قضاياهم الدينية والدنيوية .. ايضا يخضع المندائيون الى رؤسائهم الدينيين لحل مشاكلهم او لاداء المراسيم الدينية.

• قبلتهم واحدة وقد صيروها نحو جهة الشمال، لاعتقادهم بأنها مركز علة الوجود .. ان الاتجاه الرسمي الذي يتجه به الانسان المندائي اثناء اداء طقوسه وواجباته الدينية، هي الى جهة الشمال المسماة (اواثر)، وما النجمة القطبية (نجمة الشمال) التي اتهم بعبادتها الصابئة المندائيون سواء في حران او في بطائح وادي الرافدين، ليست سوى دليل واشارة وطريقة علمية لمعرفة اتجاه الشمال، وبالتالي معرفة اتجاه مكان بوابة اواثر أي بوابة الرحمة لملكوت الحي (بيت هيي).

• لديهم الوضوء في الماء الطاهر المطهر، ويتطهرون من الجنابة وعند الاتصال الجنسي ومن لمس الميت، كما يعتزلون الطامث .. نفس ما تنص عليه العادات والتقاليد المندائية.

• يحرمون أكل إناث البقر والضان والحوامل من الحيوانات .. نفس تحريم المندائية لها.

• لايتم الزواج الا بولي وشهود، ولا يقرون مبدا تعدد الزوجات. ولا يسمحون بالطلاق او هو محرم إلا في حالات خاصة جدا.

• عقد القران (المهر) إذا كان لامراءة (ثيب) ينجس الكاهن الذي يقوم به.

• يحرمون لبس اللون الأزرق والاسود، ولباسهم المفضل الثياب القطنية البيضاء.

• يقدمون الطعام من اجل راحة نفس الميت ولمدة 45 يوما.

• يستعدون لتجنيز الميت قبل خروج الروح من الجسد، لان الروح لا تتطهر إذا لم تخرج من بدن طاهر، لذلك يجب غسل المحتضر، وإلا تعذر تطهيره ولمس الميت.

• يحمل نعش الميت اربعة رجال انحدروا من عائلة أصيلة النسب مؤمنة، منذ ثلاثة أجيال.

• يقدسون الطبيعة بكل اشكالها، وواضحة في مفاهيمهم وطقوسهم التي تدعوا الى الرجوع الى الطبيعة.

• لديهم أعياد تقام في مواعيد معينة، يذهبون بها للاغتسال في المياه الجارية، طلبا للطهارة وغفران الخطايا.

• يقدسون نبات الآس (الياس) المستعمل في طقوسهم وخاصة في أكاليلهم.

• صيامهم في أيام معدودة متفرقة على أيام السنة، ويمتنعون فيها عن أكل اللحوم.

• يسمون الله في لغتهم ب (مارا اد آلما) أي رب الكون.

• لاياكلون أي شيء غير مذبوح بطريقة إيجابية، أي، كل حيوان يموت بسبب مرض او حادث او لم يكن مذبوحا.

• يتجنبون ويحرمون الختان (الطهور) فهم لا يعملوا أي تغيير في عمل الطبيعة.

• المرأة مساوية للرجل في متابعة قوانين الدين وتستلم نصيبا مساويا للذكر في الميراث.

• يعتبرون ان بعض الأمراض التي تصيب الإنسان والتي تعتبر غير نظيفة ، هي نجاسة عظيمة مثل الجذام وهو الأكثر نجاسة، فعلى سبيل المثال ترك إبراهيم مجتمعه بسبب ظهور الجذام على قلفته (وهي نفس الرواية المندائية حول إبراهيم)، فكل من يعاني من هذا المرض يعتبر نجسا. وهذه الأفكار موجودة عند أديان أخرى مثل اليهودية.

• هذا بالإضافة إلى الكثير من التشابه الكبير في الأفكار والفلسفة واللاهوت الديني، وفي النظرة اللاهوتية للرب العظيم ووجوده وكينونته. ربما في مناسبة أخرى سوف اعقد مقارنة أوسع في مجال الفكر واللاهوت الديني.

* راجع كتاب (صابئة حران واخوان الصفا) عبد الحميد الحمد، وكتاب (معرفة الحياة) س. كوندوز ترجمة الدكتور سعدي السعدي، وأيضا كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني وكتاب (الفهرست) لابن النديم.

¨ فقد قالت الليدي دراور في كتابها الصابئة المندائيون مايلي (وبالنسبة للمؤرخين العرب فقد كانوا منذ اقدم الازمان يعتمدون على الرواية، ولذا لايمكن قبول بيناتهم او تقاريرهم الا على هذه الصورة؛ كما يمكن ان يقال نفس الشيء حول مالدينا من معلومات عن الصابئين دونها الكاتب السرياني "برخوني" فقد كان يدون معلوماته كمجادل يريد الحط من فئة مارقة ؛ ولكن كتابه على كل حال يعطينا أدلة على نقض كل ما قرره عن الصابئين).

معجم الادباء .. ياقوت الحموي ص 892.

يتيمة الدهر .. الثعالبي ص 529.

صبح الاعشى .. القلقشندي ص 25.

يقصد الملابس الدينية البيضاء المندائية (الرستة).

اغلبية هذه التشابهات استخرجتها او وردت في كتاب (صابئة حران واخوان الصفا) للكاتب عبد الحميد الحمد ‍‍؟

نشرت في تاريخ

الصداقة والمصادقة لغة تعني المخالة، والخليل صديق . والصداقة تدخل في باب الصدق وترتبط به بل ومنه تشتق . ولا شك أن الصدق ضد الكذب فيكون منشأ الصداقة تأسيسها على الصدق والتصديق قولاً وفعلاً، سراً وجهراً، حقاً وإحقاقاً. ومن الصداقة التصدق والصداق وكل ما يحمل إيجاب المعاني من صفات حسنة يرجى منها وبها إقامة العلائق على المودّة والرعاية والإيثار وحمل الأوزار والتلذذ بالمشاركة في الطيبات ، والمواساة في تحمّل النازلات ، ومبعثاً للسلوى وعوناً على البلوى.. فعـّدت هذه الصفة من أفضل الصفات الحميدة المرغوبة والمطلوبة ، بل ومعياراً من معايير الحكم على الأفراد والشعوب والأمم. ُكتبت حولها القصص ونظمت فيها الأشعار وضربت لها وبها الأمثال.
ومع أن مآثر الصداقات موجودة عبر الزمن ، فإن الصداقات التي وثقها التأريخ بكثرة أحداثها وعِبر مآثرها معدودة. ومن الصداقات التي ُتذكر في التراث العربي تلك التي قامت بين الإمام أبو الحسن الموسوي الشريف الرضي وأبو إسحق أبراهيم بن هلال الصابي. لقد إستوقفتنا هذه الصداقة في معانيها وقيمها ومآثرها ؛ ذلك أن وقائعها قد وّثقت في الكثير من جوانبها شعراً ونثراً لأديبين متقدمين ومبرزين في صناعتهما وعلو شأنهما. كما أنها إستوقفت الكثيرين إعتباراً وعبراً، ذوقاً وتذوقاً ، شهادةً وإستشهاداً. غَمط حقها البعض مدخلا ً للنيل من قيمة الصديقين ، وأعلى شأنها بل وإقتدى بها من َسمت نفسه الى القيم الفضلى.
بُنيت صداقة الشريف الرضي وأبو إسحق الصابي على روح المحبة والإيثار والسماحة والفضل الذي ناسب بين الصديقين والذي كتب لصداقتهما أن تعيش بعمرهما ويبقى ذكرها مقرونا بإسميهما، فإستحقت الوقوف عندها إستجلاء لما كان أثناءها وبعدها فيما تميزت به من خصال وما جعلها تذكرعند المثال. ومن ذاك:

1- أنها لم تقم على تقارب في السن بين الشريف الرضي وأبو إسحق ، فالأول شاب في مقتبل العمروالثاني كبير السن. فما جمع إذن هو هذا التقدير المتبادل لما يملكه الإثنان من طباع مشتركة ولغة متناسبة وعلو شأن وأهليّة لم يساعد الزمان على أن تأخذ موقعها. ولذا يخاطب الشريف الرضي صديقه بقوله: "... أني ومثلك معوز الميلاد" . ولقد تفوقت علاقة الصداقة بين الإثنين على موجبات فارق السن فترى أبا إسحق ، وهو في شيخوخته، يعتذر للشريف الرضي حين لا يستطيع زيارته المعتادة والمتبادلة فيقول:
أقعدتــــنا زمانـــةٌ وزمـــــــــــــانُ جــائرٌ عــن قضاء حــق الشريفِ
والفتى ذو الشباب يبسط في التقـ صير عُذر الشيخ العليل الضعيف
ويأتي رد الشريف الرضي مبرزاً قيمة صداقتهما وعمقها، بل وطيب أصل ومنبع الرضي وتربيته التي إنسحبت للصابي والتي يرى في ملزماتها ما يراه الفتى الصالح لأبيه، فيقول مجيباً الصابي مرةً:
ولو أنّ لي يومــاً على الدهر إمرةً وكان ليّ العدوى على الحدثــــان
خلعتُ على عطفيك بُرد شبيبتـــي جَواداً بعمري وإقتبال زمـــــــاني
وحَمّلتُ ثقل الشيب عنك مفــارقي وإن فَلّ من غربي وغضّ عنـاني
ونابَ طويلاً عنك في كُل عـارضٍ بخطٍ وخطوٍ أخمصي وبنـــــانـي

أيُ محبةٍ إذن وأي فادٍ وأي صداقة تفتدى . إنها ـ لا شك ـ توامق الروحين.

2- إختلاف ديانة الصديقين . فالشريف الرضي هو أبو الحسن محمد بن الحسين النقيب الموسوي الممتد نسبه الى الرسول محمد(ص). وأبو إسحق هو إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حيون من الصابئين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم في سورة البقرة والحج والمائدة بإعتبارهم من الموحدين وذوي الكتاب. ومقابل نسب الشريف الرضي كان إلتزام الصابي بديانته حسبما يُذكر، فقد عرض عليه عز الدولة بختيار البويهي الوزارة إن أسلم، لكنه بقي على ديانته. لم تجمع بين الصديقين إذاً عُصبة الدين، وبالمقابل فإنهما قـّدما الدرس الطيب في الإحترام المتبادل كلٌ لعقيدة الآخر طالما أن الجامع هو الإيمان بالله وتوحيده. وكان وعي الصديقين لهذا الأمر عالياً وتحملا كل ما يمكن أن يكون سهما ً للنيل من هذه الصداقة من هذا المدخل. بل أن هذا الأمر كان درساً في التسامح والتواد والدليل على أن السمات المشتركة التي يبنى عليها التقارب والتواد يمكن أن تتخطى عصبة الدين على أن لا تخالفه. وتقدير الصديقين لهذا الأمر كان بارزاً. تأمل ما يقوله الصابي عارفاً ومقيًماً نسب الشريف الرضي، بل وأحقيته في الخلافة :

ألا أبلغا فرعــاً نمَتهُ عُروقـــهُ الى كل ســام ٍ للمفاخــر بــانِ
محمّداً المحمــود من آل أحمـد أبا كل بكـر في العُلى وعوان
وقوله:
أبا حسن لي في الرجالِ فراسةٌ تعودتُ منها أن تقولَ فتصدقـا
وقد خبرتني عنك أنّك مـــــاجدٌ سترقى من العليا أبعـد مرتقى
فوفيتك التعظيم قبل أوانـــــــــه وقلت أطال الله للسيـد البقـــــا

ويرى الشريف الرضي في الفضل الذي ناسب بين الصديقين أساس الأسس وهو بذلك يرد على من قلل من قيمة أساس تلك الصداقة، فيقول في مرثيته العصماء للصابي:

الفضـــل ناسب بينــنا إن لم يكـن شرفي مــناسبه ولا ميـــلادي
إِلا تــكن من أُســرتي وعشـائري فلأنت أعلـقهم يــداً بــــودادي
أو لا تكن عالي الأصول فقد وفى عِظــمُ الجدود بسؤدد الأجــداد
وقوله:
مَن مبلغ لي أبـــا إسحاق مألــكةً عن حنو قلبً سليم الســرِ والعلـــــن ِ
جرى الوداد له مني وإن بعُــدت منّا العلآئقُ مجرى الماء في الغُصن
لقد توامــــقَ قلبانــــا كأنهمــــــا تراضعا بــــدم الأحشــاء لا اللبــــن

3- كانت صداقة بين رأسين في صنعة واحدة، تلك هي صناعة الأدب شعراً ونثرا. وغالبا ما يجُر التقدم في الصنعة صاحبها الى التنافس مع من هو رأس فيها. والأمثلة في هذا المجال كثيرة أوضحها ما كان بين الشاعرين جرير والفرزدق. الا ّ أننا نجد أن ما جمع بين الشريف الرضي وأبي إسحق كان كبيرا في جملة أمور، بل أ ن علو شأنهما في الأدب كان يصب في بحر صداقتهما ليزيدها عمقاً وإتساعاً وديمومة. وكان من قيمة الصداقة أن يسعى كل منهما لدى الآخر في صنعته كي يقتني قينةً منه. فهذا الشريف الرضي ينفذ ُ رُقعاً لأبي إسحق يسأله فيها إنشاء عهد له يقدمه للخليفة العباسي الطائع لله في أمر نقابة الطالبيين يوضح أغراض العهد بكلام بهي. ويتعهد الصابي أن يُنشأ عن الشريف الرضي وبلسانه. وإذ يُنفّذ الصابي ما يطلبه الرضي يقدمه متواضعا وهو يقول له في أمر ما طلب: " .. والله يا سيدي لو كتبت أنت ما إستكتبتنيه، وكفيت نفسك ما إستكفيتنيه، لكنت أجرأ مني يداً ولساناً، وأطول شأواً وميدانا وأكثر إصابة وإحساناً..". ويكتب الصابي مرة أخرى مجيباً الرضي بعد أن إستجاب لطلب آخر في إنشاء رقعة أخرى للخليفة الطائع لله ".. ولولا تخوفي من مخالفة مراسمه وتحرجي من الوقوف عن أوامره لما أجبت الى هذه الحال علماً مني بأنه، أدام الله تأييده، إذا تولاها بنفسه ورماها بالعفو من هاجسه كان أفرس مني على حصانها، وأحذق بتصريف عنانها.."
لقد قدم لنا الشريف الرضي الدرس في تذوق صنعته بيد غيره والإنشاء عنه بلسان غير لسانه وهو المتصرف باللغة ومعانيها وبلاغتها، بل إنه غدا يتفاءل بكتابة الصابي في ما كان يطلب أن يصيب عند الخليفة وفي ذلك يقول للصابي: ".. وقد كان، أدام الله تأييده، تفضل بإنشاء العهد الذي سألته إنشاءه بتقليد النقابة وتجديد الولاية ، وكان عهداً ميمون النقيبة مبارك الشيمة ، لأن الأمر الذي أ ُلتمس له إنتجز سريعاً، وإنقاد مطيعاً.." . وبالمقابل فإن أبا إسحق حين يكتب مقطوعات من الشعر في السر وحفظه ، فإنه يرسل ما كتب الى الشريف الرضي يسأله أن يحكم فيها .. وحين يأتيه جواب الرضي يفرح به كثيراً فيكتب له ".. فلو استطعت أن أٍسعى الى أنامله ( أي أنامل الشريف الرضي ) التي سطّرت تلك البدائع، ورصفت تلك الجواهر لفعلت مسارعا حتى أودعهن عن كل حرف قبلة.. إذ كنّ للفضائل معادن وللمحاسن مكامن".

4- إنها صداقة غير مبنية على مصالح ذاتية. فالشريف الرضي سيد قومه، نقيب الطالبيين والناظر في مصالح المساجد والتسيير بالحجيج في أيام المواسم. وأبو إسحق الصابي صاحب ديوان الإنشاء وصانع الكلام الذي ذاع صيته وأصبح نادرة زمانه في البلاغة وعلو مكانته الى الحد الذي طُلب الى الوزارة لولا تمنعه. وهو القائل:

ولي فِقرٌ تضحى الملوك فقيـــرة اليها لدى إحداثها حين تطـرقُ
أردُّ بها رأس الجمــــوح فينثنـي وأجعلها سوط الحـرون فيُعتق

ويؤيده الشريف الرضي بذلك تماما حين يرثيه بإعتماد معنى هذين البيتين حين يقول:
فِقرٌ بها تُمسي الملوك فقيــــــرةً أبداً الى مبــداً لهـــــا ومعــــادِ
وتكون سوطــا للحرون إذا ونى وعنانَ عُنق الجامح المتمادي

إذن، ما جمع بين الصديقين كان أسمى من أية مصلحة سائلة، وأرقى من ذاتيات زائلة قد تهدد كيان هذه الصداقة في حال قلتها أو عدم تحققها، بل يمكن أن تكون مدخللاً للنيل منها بالرغبة أو الغلبة.. وكان ذاك وراء أن تدوم هذه الصداقة رغم تقلب الأحوال وبخاصة بعد النكبة التي تعرض لها الصابي في عهد عضد الدولة، وما ذاك الاّ لأن بناءها كان على أُسس روحية متينة وغير طمعية المقصد. تأمل مخاطبة الشريف الرضي للصابي لتقف على ما ذهبنا اليه في أخائهما:

أخاء تساوى فيه أنساً وإلفــــــــةً رضيعُ صفاء أو رضيع لِبـــــــــان
تمازج قلبـــانا مــــــزاج أخــــوة وكلُ طلـــوبي غايــــةً أخـــــــوان
وغيــرك ينبـو عنه طرفي مجانبا وأن كــان منــي الأقربَ المتــداني
وربَّ قريبً بالعـــداوة شاحـــــط وربَّ بعيــــدً بالمــــــــــــودة داني

بل أنظر كيف يرى الشريف بصديقه السلو عن آخرين لما وجده من إجحاف أو مصلحيّة، فيقول:

فلولا أبو أسحــاق قــل تشبثــي بخــلٍ وضربي عنـــده بجــــران
هو اللافتي عن ذا الزمان وأهله بشيمـــــة لا وان ِ ولا متـــــواني

وهو الذي يجيب الصابي رداً على تهنئة الأخير له بعيد الفطر".. وتهنأت به دون التهاني كلها ووعدته أمام المسار بأجمعها، علماً أنّ دعاءهُ، أدام عزه، لي وتهنئته إياي يصدران عن قلب غير متقلب وود غير متشعب.. وإلى الله أرغب في إيناسي ببقائه ، وصلة جناحي أبداً بأخائه .. والشوق يجذبني اليه كما يجذبة اليّ، والنزاع يهفو بي نحوه كما يهفو به نحوي.. ولم لا وقد وضعنا قدمينا في قبال واحد، وإستهمنا في طارف من الأدب تالد، ووالله إنني لأتمنى أن ينفرج له صدري إنفراجةً فيرى فيه مكانه المكين ووده المصون، اللذين لا يشاركه فيهما مشارك ولا يملك موضعه منهما مالك."

5- إنها صداقة دامت ردحها على مدى حياة الصديقين دون أن تشوبها شائبة أو تعيبها عائبة، وهي قد إمتدت طويلاً حتى وافى الصابي الأجل قبل صديقه. ولم يفسح رجحان عقلي الصديقين المجال أمام أية محاولة للنيل من هذه الصداقة أو تعطيلها، فقد إمتدت متبادلة بروح سماحة وتبادل مجالسة ومخاطبة. فمع إنشغال الشريف الرضي تجده يتوق لمجالسة صديقه. وإن تأخر فما أجمل إعتذاره حين يقول: " إذا كانت القلوب، أطال الله بقاء سيدي الشيخ وأدام عزه وتأييده وسعادته ونعمته، تتناجى بالمِقة، والعيون تتلاحظ عن محض المودة والثقة، والباطن في الصفاء يُصّدق العالن، والخافي في الوفاء يحقق الظاهر، أُلغيت المعاذير بالعوائق التي تعوق عن المزاورة ، والحواجز التي تحجز عن المواصلة، وأُعتمد على صفاء النيّات، وصحيح أديم الطويات. وكان الواحد منا في الزورة التي ينتهز فرصتها ويهتبل غرتها غير مشكور ولا محمود.. وهذه جملةٌ تنوب عن التفصيل، وقليل يكفي مؤونة التكثير، في العذر لتأخري عن حضرته، وقضاء ما يجب عليّ من حقه..".
وتتناغم إجابة الصابي لرسالة صديقه بمشاعر يفيض ماء رونقها وتتعطر الأجواء بعبيق رحيقها، وتحفظ لهما البلاغة حسن الصنعة بما يحق علينا أن نشيد في كل ما نقول ونعيد. يكتب الصابي:" وصلت رقعة سيدنا الشريف النقيب، بادئة بالفضل والتفضل، وسابقة الى الكرم والتطول، ولولا العلة التي قد أخذت بمخنقي وجثمت على مدارج نفسي، لما أخللت بقصد حضرته والمواظبة على خدمته، فالله سبحانه يعلم أن عيني ما تكتحل بغرة هي أعز عليّ من غرته، ولقد أهدى اليّ يوم تجشمه العناء الى داره التي أنا ساكنه فيها بمشاهدة ضياء وجهه ومناسمة شريف خلقه، تحفةً لا يكاد الزمان يسمح لي بمثلها، ولا يمكنني من إهتبال غرتها..".

6- عمق هذه الصداقة وتعدد أبعادها وشموليتها إدراكا بأنها مؤسسة على قيم الأصالة وشيم الصدق والعدالة وكانت دعائمها عديدة حتى في هموم الدنيا وجور الزمان فلا يتحرج الصابي من شكواه لصديقه ما فعل الزمان به حين يقول:

قد كنت أخطو فصرت أمطــــــو وزاد ضعفي فصرت أُعطـــــو
خانت عهودي يـدي ورجلـــــي فليس خطـــوٌ وليس خـــــــــطُ
هاتيك حالي فهــــــل لعـــــذري إذا تأخــرت عنـــــك بســـــــط

ويظل الصابي يتوق لرؤية صديقه حتى أيامه الأخيرة، إذ يذكر الثعالبي في يتيمة الدهر أن قصيدة أبا إسحق للشريف الرضي التي مطلعها " أبا كل شيء قيل في وصفه حسن.." بينها وبين وفاة الصابي إثنا عشر يوماً، ولعلها آخر أشعاره. وبهذا فإنه يختم بلاغته بمناجاة صديقه وفيها يقول:

أقيك الردئ ليس القِلى عنك مُقعــدي ولـــــكن دهانـــي بالزمـانـــة ذا الــزمن
فإن تنأ عنك الدار فالذكر مــا نــــاى وإن بان مني الشخــص فالشوق لم يبن
وإن طال عهـد الإلتقــــاء فــدونـــــه عهــود عليهـــا من رعــايتنـــا جُنــــــن

وبحقوق تلك الصداقة وإخائها، فإن أبا اسحق لا يتوانى، بعد أن أدرك قرب منيته، في أن يوصي الشريف الرضي بأهله وبنيه، وما ذاك الاّ إدراكا لإيفاء الرضي وصيانته لحقوق الصداقة وطيب العلاقة وأن يجد الصابي في صديقه أفضل الذخر الذي يذخره لخلفه فيوصيـــه:

هو الأجل المحـــتوم لي جَــد جِـدهُ وكــــان يــــــــُريني غفلــة المتـــواني
هنالك فاحفظ في بنــــيّ أذمتــــــي وذد عنهُـــم روعــات كـــــل زمـــــان
فإني أعتـــدّ المــودّة منــك لـــــــي حُسامــا بــه يقضون فــي الحــدثــــان
ذخرت لهــم منــك السجــايا وإنهـا لأَنفـــــــع مــــــــمّا يــذخر الأ بــــوان

وتجد الوصية كل القبول والإمتثال من قبل الشريف الرضي فيتعهد لصديقه الصابي ويقول:

وإنك ما إسترعيت مني سوى فتـىً ضمومٍ على رعي الأمــانة حـــان
حفيظٍ إذا ما ضيّــع المــرء قومـــه وفي ٍ إذا مــا خـــــُوّن العضــــدان

7- إنها صداقة وإن إنقطعت بين الإثنين بوفاة الصابي، فإن وصلها قد دام على حياة الشريف الرضي في عهده وتعهده لها . وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من إنها قائمة على خلوص السريرة وسمو الروح بالطباع الأميرة والحاجة للصديق الصدوق بديلاً عن عشيرة. ولا يبالي الشريف الرضي حين يرثي صديقه نثراً و يقول: ".. والى الله أشكو دهراً حال دونه وقطّع ما بيني وبينه، وأفردني عنه إفراد الأُم عن جنينها والشمال عن يمينها.. إن فقده أعرى ظهري على كثرة حُماتي وأنصاري، وأوحدني على أقاربي وعشائري..". وإذ نجد أن لا حاجة للشريف الرضي بأبي إسحق في صنعته أو بمركزه أو بنسبه أو بكثرة أتباعه؛ الاّ أن حاجة النفس الى الصفاء والنقاء وإقرار القدرات والإمكانات وتذوق الأصالة والإبتكار بل وإدراك أن الإثنين خانتهما الدنيا في أن يحتلا موقعهما المطلوب كل في سمو مكانته، كان كل ذلك وراء تقارب مبني على أسس مشتركة غير مادية. وخير ما يصف ذلك قول الشريف الرضي :" وبعد، فبيننا- يقصد هو والصابي- من مناسبة الخلائق ومشاكلة الطبائع، ثم من المودّة التي ألّفت بين شخصينا وضربت برواقها علينا، وما كنا نتهاداه من ألطاف الفضائل ونتشاراه من أعلاق المناقب ما يعذرني أن أفرط جزعي لفقده وإنكشف بالي من بعده..".
وحمداً لله إن وفاة الصابي كانت قبل وفاة صديقه ليُرزق الأدب بمرثية للشريف الرضي في صديقه يصفها الثعالبي بأنها " قصيدة فريدة أفصح بها بُعد شأوه في الشعر وعلو محله في كرم العهد، وقد تميزت بحسن ديباجتها وكثرة رونقها وجودة ألفاظها ومعانيها". وقد تـّوج الشريف الرضي بهذه القصيدة الصداقة التي ربطته بأبي إسحق فكانت بحق مأثرة تَغنّى بقيمها ومعانيها وألفاظها الكثيرون، ولا شك أن الجميع يذكر إستهلالها:

أعلمتَ مَن حمـــلوا على الأعــــــواد؟ أرأيت كـــيف خبــا ضياء النـادي؟
جبلٌ هـوى لو خــرَّ في البــر إغتـدى مـــــــن وقعــه متتــابع الأزبــــاد
هـــذا أبو إسحـــــــق يغلق رهنـــــــه هـــل ذائـــد أو مــانع أو فـــــــادي
إن الدمــوع عليــك غيـــر بخيلـــــــةٍ والقلب بالسلــــوان غيـــرُ جــــواد
ياليــت أني ما إقتنيــتك صـــاحبــــــاً كــم قنيــــةٍ جلبت أسـىً لفــــؤادي

بل ويؤكد الشريف الرضي لمن عتب عليه بمبالغة الرثاء بأن أبا إسحق" الأحق من كل أحد بقولي فيه في المرثية التي رثيته بها وهي من المراثي الأعيان والأشعار الأعلام" :

ولقد كبــا طيفُ الرقــاد بناظــــــري أسفــاً علـــيك فـــلا لـَعــا لرُقــــادي
ثكلتك أرضٌ لــم تــلد لك ثانيـــــــــاً إنــــي ومثلــك معـــوز الميـــــــلاد
ضاقت عليّ الأرضُ بعـــدك كلـــها وتركتَ أضيقهـــا علـــيّ بـــــلادي

ولم تكن صداقة الشريف الرضي وأبو إسحق لتقف عند حد مرثية الأول الفاخرة، بل إن قيم الصداقة والعلاقة القائمة في القلب ظلت تحرك المشاعر فتفيض إرتجالاً. فها هو الشريف ينشد حين مر وإجتاز بقبر الصابي بمنطقة الجنينة من أرض كرخايا:

أيعـــــلم قــــبٌر بالجنينــة أنــنـــا أقمنا به ننعـى النَــدى والمعـــاليا
عطِفنا فحيينــا مساعيــه إنهـــــا عِظام المساعي لا العظام البوالـيا
نزلنا إليه عن ظهـور جيــادنــــا نكفكف بالأيدي الدمـوع الجواريا
أقول لركب رائحيـــن تعـرجـوا أُريكــم فيه فرعاً من المجد ذاويـا
ألا أيها القبــرُ الذي ضم لـــحده قضيباً على هام النوائب ماضيــا
هل إبن هلالٍ منذ أودى كعهدنـا هلالاً على ضوء المطـالع باقيــا؟

ويبقى الشريف الرضي يذكر صديقه بأحق الذكر، ويدلل على عمق الرابطة بالمشاعر النابطة. وحين يمر بعد عشر سنوات على قبر صديقه، ولا شك أنه دارس، فتثير فيه عهود الصداقة العواطف التي تفيض بداهة، وما أحلى ما ينشد:

لولا يذم الركبُ عندك موقفــــي حييتُ قــــبرك يا أبـــا أسحــــــق
كيف إشتياقك مُذ نأيت الــى أخ ٍ قلــق الضمـــير إلــيك بالأشــواق
أمضي وتعطفنـي اليـك نــوازع بتـــنفس ٍ كتـــــــنفس العشــــــاق
إن تمضِ فالمجد المُرجب خـالدٌ أو تـَفنَ فالكلــلمُ العِظــام بواقـــــي

لله درهما، فحلان من فحول الأدب، تلاقحت أصلاب قلميهما بالمودّة والصفاء، فضربا لنا أطيب المثل في معنى الصداقة والوفاء. تعلمنا منها دروس السماحة وكرم الود وذكر الفضل بما أوجب علينا- أحفاداً- أن نذكرالعهد بكل ما يُعتبر من حقوق تلك الصداقة بين الشريف الصديق والصديق الشريف، بمنحها ما تستحق من الإشادة قدر ما تمنحنا من أحاسيس الحب والفخر والسعادة.

المراجع
الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر.
ديوان الشريف الرضي
نسخ رسائل النظم والنثر بين الشريف الرضي وأبو إسحق الصابي

نشرت في تاريخ

لموقع مدينة واسط المتميز وسط العراق شأن بارز ودور مهم في تأريخ العراق منذ تأسيسها على يد (الحجاج بن يوسف الثقفي ) عام ( 83هــ) واختيارها مركز للعراق خلال فترة العصر الاموي ، وتقول باحثة الأثار (جنان خضير منصور ) في مقالتها الموسومة ( تاريخ واسط ) المنشورة في مجلة فيزوبوتاميا ( بلاد النهرين ) العدد( 5 و 6) والمنشورة على صفحات الانترنيت تقول : عن بناء المدينة
(امـا عن تاريخ بناء المدينة فقد اختلفت المصادر في تحديده، إلا ان معظمها يجمع علي ان عملية البناء تمت بين الاعوام 83هـ ــ 86هـ/ 702 ــ 705م أي في أواخر حكم الخليفة عبد الملك بن مروان الذي استأذنه الحجاج في انشاء المدينة. واني ارجح بناء مدينة واسط سنة 83هـ/702م معززين الرأي بما وصلنا من مسكوكات فضية (دراهم)، مضروبة بهذه المدينة حيث تعتبر المسكوكات وثائق اساسية ومهمة جداً يعتمد عليها في تتبع مسيرة التأريخ وفك الاشكالات والتداخلات التي يقع فيها كتابه. ويحتفظ المتحف العراقي بدرهم فضي مضروب بواسط سنة 83هـ، كما ويحتفظ بدرهم اخر من ضرب سنة 84هـ. وهذا يقدم لنا دليلا علي ان بناء المدينة كان قبيل عام 83هـ واخذت تستكمل بعد ذلك مرافق المدينة حتي عام 86هـ. لقد وصفت واسط بناء وتخطيطاً بأنها كانت تقع علي الجانب الغربي لنهر دجلة يقابلها علي الجانب الشرقي مدينة قديمة تسمي كسكر. وقد ربط المدينتين جسر من السفن على كل جانب من جانبي النهر جامع، وكان يحيط بالمدينة سور وخندقان، إلا ان( بحشل)1 يذكر انه كان للمدينة سوران وخندق ) .
وكذلك تشير الباحثة جنان خضير منصور الى ان ياقوت الحموي يقول :) واسط اكتسبت اسمهما من موقعها الوسط بين البصرة والكوفة والأحواز ) .


وبعد سقوط الحكم الاموي وانتقال الخلافة للعباسيين وبناء بغداد على يد ( ابو جعفر المنصور) عام 145هـ ، وأختيارها عاصمة للدولة العباسية ، بقيت واسط من الأقاليم المهمة في العراق ، وخلال القرن الرابع الهجري حدثت تقسيمات أدارية مهمة في العراق أصبحت واسط ، أحدى الولايات المهمة والمرموقة حيث ضمت مدنا ًعديدة وقرى وقصبات كثيرة .


ويشير الأستاذ عبد القادر سلمان المعاضيدي في كتابه الموسوم ( واسط في العصر العباسي )2 وكان يسكنها خليط من العرب والفرس والاتراك والديلم والنبط * والزط **، وقد تعايشت فيها طوائف دينية الى جانب المسلمين ، اذ كان هناك نصارى ويهود وصابئة مندائيون .
ويوضح الأستاذ المعاضيدي : لقد كانت مناطق وجودهم ( الصابئة المندائيين) تمتد من واسط الى خوزستان في منطقة (الطيب ماثا ) بعد هجرتهم ونزوحهم من مدينة حران وقبلها من فلسطين ، كما ورد ذلك في أحد كتب المندائيين كتاب (حران كويتا )3 المدون باللغة المندائية .
كما أن هناك العديد من المصادر تشير الى أنهم سكنوها قبل الفتح الاسلامي بزمن طويل ، وعندما جاء الفتح الاسلامي ذهب وفد من الصابئة لمقابلة القائد العربي المسلم وعرضوا عليه أمرهم فأقرهم على دينهم فأكسبهم ذلك قوة ومنعة بأعتبارهم أصحاب كتاب وظلوا بين المسلمين يؤدون الجزية . فقد كتب الأستاذ عزيز سباهي ***في كتابه الموسوم ( جذور الصابئة المندائيين ص193 مانصه ( ونحن تعرف ومن كتاب حران كويتا أن أنش بر دنقا ، وكان يشغل أعلى المراكز الدينية عند المندائيين ، قد ذهب وبصحبته مجموعة من وجهاء المندائيين إلى قائد الجيش الإسلامي وأوضح له طبيعة دينهم وعرض عليهم كتابهم الديني ( الكنزا )4 لكي يضمن لقومه التسامح الذي خص به القرآن أهل الكتاب ، وقد تم له ذلك ).
وفي صفحة 180 من كتاب الاستاذ عزيز سباهي يقول : (ورد في كتابهم ( حرّان كويتا ) أنهم كانوا جماعة كبيرة ، وأن في الأيام الأولى من وجودهم في بلاد ما بين النهرين وليس في ميسان وحدها ، كان هناك أربعمئة مشكينا ( أي مندي ، وهو المعبد المندائي ) .
وعن دور الصابئة في المساههمة في بناء الحضارة في بلاد الرافدين يشير الاستاذ ( عزيز سباهي ) في صفحة 9 من كتابه ( جذور الصابئة المندائيين ) ( لعب الصابئة ، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة ، دورا ً ملحوظا ً في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد مابين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام ، ولاسيما بعد ازدهار الحضارة العربية ــ الإسلامية أيام العباسيين ، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية ـــ الإسلامية ) .
يشير الاستاذ عبد القادر سلمان المعاضيدي في كتابه ( واسط في العصر العباسي ) لقد سكن الصابئة المندائيون في الجانب الغربي من مدينة واسط وكان لهم درب خاص بهم سمي( درب الصاغة) لانهم كما يشير المؤرخ ( الخطيب البغدادي ) أشتهروا بمزاولة الصياغة كحرفة خاصة بهم .
ويشير الاستاذ عبد القادر المعاضيدي في بحثه لقد ساعد وجود الصابئة في واسط على ظهور علم الفلك فيها لمعرفتهم الواسعة في علم الفلك والرياضيات تلك المعرفة التي نقلوها معهم من مدينة حران المشهورة في علم الفلك. ويشير الى وجود ( البيت المندائي ) الذي يعد من أهم البيوتات التي ساهمت في بناء وتطوير الحياة الفكرية والثقافية في واسط ، فيقول ( أذ اشتهرت في واسط عائلة عريقة في القضاء والعلم والرواية وهي من اصل (مندائي ) ساهمت في تطور الحياة العلمية فيها .
ومن ابناء هذه العائلة المندائية كما ورد في كتاب الاستاذ عبد القادر المعاضيدي :
1 ـــ القاضي ابو العباس أحمد بن بختيار أبن المندائي توفي سنة 552 هـ 1157 م وهو قاض ٍ وكاتب .
2 ـــ أخوه أبو السعادات علي بن بختيار أبن المندائي وكان أديبا ً وشاعرا ً وكاتبا ً وقد تولى القضاء في واسط .
3ـــ أبو الفتح محمد بن بختيار أبن المندائي توفي سنة 605هـ ـــ 1208 م وقد تولى القضاء في واسط .
4 ــ أبو حامد محمد بن محمد أبن المندائي فقيه توفي سنة 602 تولى القضاء في واسط .
5 ــ أبو العباس أحمد بن محمد أبن المندائي وكان من رجال العلم والحديث توفي عام 642 هــ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) بحشل : هو ( أسلم بن سهل الواسطي ) توفي في 292 ألف كتاب ( تاريخ واسط ) وقد كان من كبار الحفاظ العلماء من أهل واسط ، وقد حقق الكتاب كوركيس عواد .
( 2 ) كتاب ( واسط في العصر العباسي ) للأستاذ عبد القادر سلمان المعاضيدي ، أستاذ العلوم الأسلامية ، والكتاب دراسة تأريخية قيمة عن أحوال واسط الادارية والأجتماعية والثقافية والإقتصادية و كذلك عن الحياة السياسية وطوائفها الدينية خلال العصر العباسي لفترة من ( 324 هـ لغاية 656هـ ) أو (953 لغاية 1258 م) .
* النبط : هم من الأراميين سكان العراق القدماء وكان هؤلاء يسكنون البطائح ويشتغلون بالزراعة وقد أطلق المسلمون بعد فتح العراق على سكان السواد اسم النبط . المصدر السابق
** الزط : أصلهم من بلاد السند وهم مربوالجاموس وقد تحولوا أخيرا ً الى قطاع طرق حتى قضى عليهم الخليفة المعتصم وكان يقدر عددهم قرابة ( ألـ ) 27 ألف . المصدرالسابق
وكذلك تشير عديد من المصادر ان الزط هي احدى اسماء الغجر . فقد ورد في كتاب ( الغجر الظرفاء المنبوديين ) الطباع والدكتور منذر الحايك : يعدد الكتاب بعض التسميات العربية القديمة للغجر كالزط والسبابجة, وتجمع المصادرالعربية على أن الزط قوم من بلاد الهند وبالتحديد من حوض نهر السند, ويعتقد أن (زط) عرّبت عن أصلها (جت) وهي باللغة الهندية اسم هؤلاء القوم الذين كانوا يعرفون بـ(زنوج الهند) بسبب بشرتهم السمراء .
*** الأستاذ عزيز سباهي : مناضل وسياسي ، وكاتب وباحث له العديد من الاصدارات والدراسات والبحوث ، وكتابه ( (اصول الصابئة المندائيين ) يعد من الدراسات القيمة التي أضيفت للمكتبة العربية فيما يخص الديانة المندائية لما احتواه من مصادر غزيرة متنوعة ، بالاضافة إلى تحليلاته وشروحاته الوافية .
( 3 ) كتاب ( ديوان حران كويتا )أو ( ديوان حران كويته ) وهو محاولة لعرض تأريخ الطائفة المندائية . وقد وضع الكتاب ودن في بداية العهد الإسلامي الأول . وقد ترجمته السيدة دراور ونشرته سوية مع كتاب ( تعميد هيبل زيوا ) في الفتكان عام 1953. المصدر:عزيز سباهي ( اصول الصابئة المندائيين) ص15
( 4 ) كتاب الـ ( كنزا ) هو كتاب ( كنزا ربا ) ، أو الكنز العظيم ،أو السيدرا ، هي جميعها أسماء لكتاب واحد الا وهو الكتاب المقدس للصابئة المندائيين ، وكنزا يكتب بالمندائية بالجيم وليس بالكاف وأثرنا على كتابته على كتابته يهذا الشكل لان المندائيين ينطقون الجيم كاف . المصدر ( أسماء الأعلام المندائية في ( كنزا ربا ) ص2 وهو دراسة ماجستير في اللغات السامية ( اللغة المندائية ) ـــ جامعة بغداد 1997 للأستاذ عبد المجيد سعدون الصباحي

نشرت في تاريخ

يحتفل المندائيون في الثامن عشر من شهر كانون الاول بمناسبه ابو الهريس المصادف الاول من شهر تموز المندائي وهي ذكرى تأبينيه لضحاياهم الذين قتلوا على يد اليهود في فلسطين ? حيث يشهد التاريخ بأن الحركه الثيوقراطيه اليهوديه في اورشليم ازدادت سيطرتها وتعصبها للمذهب الرسمي للديانه اليهوديه مما ادى الى اضطهاد جميع المذاهب اليهوديه المنشقه والاديان الاخرى ، والتمرد على الرومان الذي انتهى باحتلال تيطس لاورشليم المدينة المحصّنة وحرق الهيكل في نهاية سنة 70 ميلادي.
ومن جملة الاديان التي اضطهدت تحت فتره الثيوقراطيه اليهوديه كانت المندائيه حيث تمت ابادت 365 تلميذا للنبي يحيى وهذا مايؤكده التراث المندائي المدون في هران كويثا:
"وبعد مغادرة يهيا يهانا جسده عادوا اليهود الى قواهم السابقه ... واصبحوا متغطرسين.... ثم اطلقوا صيحات باطله ضد اتباع انش اثرا رئيس العصر فأراقوا دمائهم بحيث لم يترك رجل من التابعين و الناصورائيين ... فأرتدت روافد الاردن .... وانطفاء نور رايات اباثر.... وجاء هيبل زيوا فحرق ودمر اورشليم وجعلها ركاما وخرائب"

وبذلك هاجر60 000 ناصورائي من فلسطين برعايه الملك البارثي ارطبانوس الثالث 38-12 ميلادي )المسمى في التراث المندائي اردوان ملكا ( طالبين الامان في بقاع اخرى ? متذكرين ضحاياهم في كل طقوسهم ? مؤبنينهم في اليوم الاول من شهر تموز المندائي ? معدين بذلك لوفاني جماعي يرمز له بالهريسه وتتكون من سبعه حبوب ?لذلك سميت المناسبه ابو الهريس?
كما ان هناك روايات من التراث الشفهي تشير الى هذه المناسبة بانها احياء ذكرى الذين غرقوا في طوفان نوح ?ع? فبعد ان ارست السفينه على البر قام نوح بعمل هريسه من الحبوب المتبقيه السبع للغرقى من الدين المندائي
وهناك روايه اخرى توضح بان هذه المناسبه هي ذكرى غرق جنود فرعون الذين تعقبوا اليهود حيث يُعتقد البعض من الجنود كانوا مندائيين.
فلا يوجد دليلا قاطعا للروايتين في التراث المندائي المدون ولا في طقوسهم ايضا
ولكن سواء ان كانت تحيى هذه المناسبه على اسلافهم تلاميذ يهيا يهانا او بناءً على الروايتين الشفهيتين فهي مناسبه ?حياء ذكرى اسلافهم الذين قتلوا نتيجه اضطهاد المندائيين عبر التاريخ.
حيث يسرد لنا التاريخ المندائي الكثير من حقب الاضطهاد والابادات الجماعيه بحق هذه الطائفه المسالمه ومن اهم هذه الاحداث اسرد اليكم التالي:
فمن جراء الاضطهاد والقتل الجماعي لتلاميذ النبي يحيى هاجر 60 000 ناصورائي ?مندائي? باحثين عن ارض مسالمه تأويهم لكي يمارسوا شعائرهم بسلام فلم يجدوا افضل من وادي الرافدين الذي كان في ذلك الوقت بلد الثقافات والعلوم والحريه وعلى التحديد في المنطقه الجنوبيه التي تميزت بحرية الاديان و وفره المياه ? فاحبوها وقدسوها كاسلافهم فانتشرت الديانه المندائيه في العصر البارثي ممتدين مع امتداد دجله والفرات متمتعين بحريه الاديان ? وسرعان ما حددت حريه الاديان في وادي الرافدين عند مجئ سلاله الفرس الساسانيه ? حيث فرضت الديانه الزرادشتيه كديانه رسميه سنه273 ميلادي ? فاضطهدت المندائيه وقلت دور عبادتهم من400 الى 170 فقط.
وهذا ما يؤكده الاثار المتبقيه للحضاره الساسانيه حيث نقر? في منحوتات نقش رستم الاثري حول الاديان التي اضطهدت في ذلك الوقت:
" طرد اليهود والبوذيون والبراهمانيون والنزاريون والناصورائيون... خارج الامبراطوريه"

اما في 640 ميلادي بعد تغلغل الجيوش الاسلاميه في وادي الرافدين اضُطهد المندائيون واريقت دمائهم بالرغم من ان وفد مندائي برئاسه "الريش امه" انش ابن دنقا قابل رئيس الجيوش الاسلاميه ?يُعتقد سعد ابن ابي وقاص? وحصلوا على الامان كاهل الكتاب . فقد اصدر فقهاء المسلمين في حقب مختلفه فتاوى اباده جماعيه بحقهم ? ابرزها فتوى الاصطخري المعروف بفقيه العراق تحت حكم الخليفه العباسي القاهر بالله عام 932 -934 ميلادي ? حيث افتى الاصطخري وهو شافعي المذهب بقتل الصابئه جماعياً.

وان القينا الضوء حول وضع المندائيين في القرون الوسطى فنلاحظ على سبيل المثال في القرن الرابع عشر تحت حكم السلطان محسن بن مهدي على مدينه ميسان حيث تعرض بعض الرجال لامرأة مندائيه وتصدا لهم المندائيون دفاعا عن شرفهم فاعلنت الحرب عليهم وذبح رجال الدين والنساء والاطفال والرجال في ميسان وضواحيها ? وهذا ما يذيله احد رجال الدين المندائي في احدى الدواوين.
كما تلقوا المندائيين لظغوط واضطهادات متعدده من قبل بعثات المبشرين المسيحيين الاوربيين في القرن السادس عشر معتبرين المندائيه ديانه مسيحيه هرطقيه ? مستخدمين مع المندائيين سياسه التذويب العرقي .

اما تحت حكم السلاله القاجريه في ايران تحديدا عام 1780 لاقى المندائيون الاباده الجماعيه مع شتى انواع التعذيب الا انساني حيث يشهد عليها احد رجال الدين المندائي ويذيلها في احدى كتاباته ? كما يتطرق للحادثه الاثاري الفرنسي المعروف De Morgan في كتابه Mission Scientifique en Perse موصفا الاتي:
"رموا ) الفرس( رجال دين الصابئه في السجون وعذبوهم....فقد قام الفرس بقتل الكثير منهم والبعض خرمت اجسادهم بالمسامير والبعض الاخر شوهت اجسادهم بقطع اجزاء منها فكانوا يقطعون اعضاء الجسم مبتدئين باصابع القدم واصابع اليدين والبعض من رجال الدين سلخ جلده وهو حي واحرقت عيونهم الحديد الساخن الاحمر ثم يقطعون رؤوسهم وبعضهم حرق حيا !
كان سجناء الصابئة يحضرون تعذيب وقتل اصحابهم? ..... قام الفرس بقطع يد اليمنى للكنزابرا ادم الذي كان من بين السجناء الذي فر الى تركيا."

وبعد وباء الكوليرا عام 1831 ميلادي الذي قضى على نحب جميع رجال الدين ? حيث يُسرد لنا في تذيلات الكتب المندائيه المقدسه حول حقب الاضطهاد العصيبه كالتهجير القصري والاختتان الاجباري.
وفي عام 1870 تحت حكم ناصر الدين شاه القاجري الذي لطخ ايديه بدماء المندائيين الابرياء مستعملا ضدهم كل الاساليب البشعة ? حيث تم ابادة اغلب المندائيين في منطقه شوشتر والمناطق المحيطه بها مثل دزفول فأظطر العوائل المتبقيه بالهجره الى الاهواز فرارا من الموت المحتم.
والحديث يطول بسرد الاحداث ولكن نستذكر ايضا من تاريخنا المعاصر ضحايانا السياسيين الذين قتلوا من اجل مبادئهم الساميه لخدمه الوطن وضحايانا الذين سفكت دمائهم الطاهره من اجل خدمه العَلم ? ايضا ضحايا القصف العشوائي واخيرا ضحايانا الذين قتلوا ومازالوا يقتلوا في العراق لكونهم مندائيون.

فيا اخواني واخواتي المندا ئيون وكل محب لهم وصديقهم لنحيي مناسبه ابو الهريس تخليداً لضحايانا وعلى ارواحهم الطاهره الذين سفكت دمائهم الزكيه البريئه عبر الزمن
فلنخلد اسلافنا القدماء الذين قتلوا من اجل دينهم
فلنخلد سياسيونا الذين قتلوا من اجل مبادئهم الساميه
فلنخلد ضحايانا الذين قتلوا في اراضي المعارك من اجل خدمه وطنهم
واخيراً فلنخلد ضحايانا الجدد الذين يُقتلوا من اجل هويتهم
لنطلق على هذه المناسبه "يوم الاضطهاد المندائي"
لكي تبقى ذكراهم خالده عبر الزمن وليبقوا شمعه احترقت لتنير الطريق للاجيال القادمه
ولتتظافر الجهود بين كل الخيرين لنصره المندائيين ودفع الظلم عنهم.

نشرت في تاريخ

الصابئة المندائيون جزء من سكان العراق الاوائل عبر تأريخه الحضاري في بلاد مابين النهرين-سكنوا بطائح جنوب العراق وفي منطقة الطيب في ميسان قريباً من الانهار الجارية التي كانت تشكل اهمية كبيرة

في حياتهم الاجتماعية واقامة الطقوس الدينية وامتدت ديانتهم ايضاً الى فلسطين والشام ومصر زمن الفراعنة. ان تأريخ الصابئة المندائيين يلفه شيء من الغموض، وذلك لانزوائهم وانغلاقهم الديني بسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له خلال فترات متعاقبة من تاريخهم. فأثروا هذا الأنزواء كوسيلة للحفاظ على دينهم وتراثهم.
وللصابئة كتيب يسمى (حران كوثيا) يتحدث عن هجرة المندائية التي قاموا بها من اورشليم في فلسطين سنة 70م بعد الاضطهاد الذي حصل لهم على يد السلطات الدينية والحكومية في هذه المدينة الحديثة التي كان يسيطر عليها الحكم الروماني فعادوا الى موطنهم الاصلي وادي الرافدين وكانت هذه الهجرة برعاية الملك أردوان(أرطبيانوس الثالث) ولقد جاء ذكر الصابئة في ثلاث أيات من القران الكريم سورة البقرة،سورة المائدة،سورة الحج.
وفي منتصف القرن السابع الميلادي عرفت هذ الطائفة لأول مرة في اوساط الباحثين الاوربيين ومنهم (ليدز بارسكي) (الليدي دراور) التي استطاعت في كتاباتها عن المندائية ان تزيح الكثير من الغموض عن ديانتهم وتأريخها وتراثها.
ومن اجل هذا عاشت مع الصابئة في جنوب العراق ودرست احوالهم عن قرب. وترجمت العديد من الكتب والمخطوطات المندائية الى اللغة الانكليزية.. واهمها كتاب الصابئة المندائين. الذي ترجمه الى العربية الاستاذان نعيم بدوي وغضبان الرومي.
وفي العقدين الاخيرين من القرن العشرين، تمكن عدد من مثقفي الصابئة بترجمة العديد من الكتب الدينية الى اللغة العربية اضافة الى بعض الكتب التي تخص الميثولوجيا المندائية.. فقد ترجم الكتاب المقدس (كنزاربا) ودراسة بهيا) تعاليم يحيى(ع) والنياني والقلستا.
وكلمة الصابئة مشتقة من الفعل الارامي المندائي -صبا-أي غطس او ارتمى في الجاري أما المندائيون فهي مشتقة من الفصل الأرامي- دا- التي تعني (العالم -العارف- فيكون معنى الصابئة المندائيين هو.
الصابغون العارفون بدين الحق واتفق اغلبية الباحثين والمستشرقين على ان كلمة صابئي جاءت من الجزء الأرامي وليس العربي للكلمة.. وهناك تسميات أخرى لهم.
المغتسلة-(من غسل) اي تطهر ونظف في الماء اي ربى شلماني-من (شلم)، أرامية تعني المسالم.
أبنيء نهورا-أبناء النور
اخشيطي من كشطا-أي اصحاب الحق
لغتهم
اللغة المندائية هي اللغة التي وردت بها المخطوطات الصابئية فكل الكتب الدينية ماتحتويه من تعاليم وصلوات وتراتيل مكتوبة بهذه اللغة. وأول من قرأ الابجدية المندائية هو ادم(ع) وبقية المختارين الاصفياء ومنهم يحيى بن زكريا(ع) وهي مقدمة عند جميع الصابئة واللغة المندائية هي لهجة من الآرامية التي تنتسب الى المجموعة السامية كالبابليين والاشورية والكلدانية.
واقدم ماالف عنها كتاب المستشرق الالماني (نولدكه) سنة 1875 تحت عنوان قواعد اللغة المندائية-ذلك القاموس المندائي انكليزي الذي الفته الليدي دراور.
وقام في السنوات الاخيرة بعض ابناء الصابئة بتأليف بعض الكتب في المندائية فقد أنجز الشيخ خلف عبد ربه مع المهندس خالد كامل القاموس المندائي-العربي) واستطاع الاستاذ امين فيصل تأليف كتاب قواعد اللغة المندائية الذي اعتمد كمصدر في المجمع العلمي العراقي.
وتتكون الابجدية المندائية من أثنين وعشرين حرفاً تكتب من اليمين الى اليسار. وبسبب اقتصارها على المراسيم الدينية فقد بقيت مفرداتها محدودة.
المعتقدات
يقوم جوهر الديانة الصابئية المندائية على أن الله واحد انبعث من ذاته وانبعثت الحياة من لدنه.. ومن اركان الديانة المندائية:
التوحيد: حيث جاء في افتتاحية الكتاب المقدس كنزاربا، الصفحة الاولى- مبارك اسمه..
باسم الحي العظيم (سبحانك ربي العظيم. اسبحك بقلب طاهر ايها الحي العظيم المتميز عن عوالم النور- الغني من كل شيء- الغني فوق كل شيء نسألك الشفاء والظفر وهداية الجنان وهداية السمع واللسان.. ونسألك الرحمة والغفران امين ياربنا - يارب العالمين.
وعلى اساس ماجاء في كتبهم الدينية المقدسة فأن الصابئة المندائيين يعتقدون برب عظيم خالق للكائنات الروحية والمادية.. وكذلك الاعتقاد بان النفس في الجسم يجب ان تعود الى خالقها في عالم الانوار بعد موتها.
وهذه دلالة على وحدانية الدين المندائي
التعميد:
الصباغة-(صبغة الله)
ويعتبر الركن الاساسي وهو فرض واجب على كل صابئي مندائي ويهدف الى فتح باب الخلاص والتوبة وغسل الذنوب والخطايا والتقرب الى الله. ويتم هذا الطقس في الماء الجاري (اليردنا) ويكون يوم الاحد على رأس الايام المقدسة لأن الله بدأ الخلق فيه. والتعمد بدأ في عوالم النور العليا حيث تعمدت الملائكة وأنزل الى الارض عن طريق الملاك جبريل الرسول (هيبل زيوا) حيث قام ليتعمد ادم وحواء ثم اصبح سنة لآدم وذريته من بعده.
ومن مستلزمات التعميد في الديانة الصابئية:
أ- الماء الجاري-ماء الحياة (مياهيا) واكليل الريحان والآس وهما يرمزان الى الحياة وطيبها.
ب- الملابس الدينية الخاصة (رستا) وهي ملابس قطنية او من الكتان الابيض ويرمز اللون الابيض الى الطهارة والنور يرتديها رجل الدين والشخص المتعمد بعد أن ينزع كل قطعة من ملابسه الاعتيادية.
ج- اشياء تمثل حاجات الانسان البدائية وهي طبق من الطين (طريانا) وكوب ماء وأناء لوضع البخور وراية بيضاء حول خشبة مصنوعة على هيئة علامة (+) وترمز الى راية السلام (شيشلام) والمعروفة في اوساط كثيرة (الدرفش).
وخطوات التعميد تبدأ بالنزول الى الماء والغطس فيه والارتسام مع ذكر اسم الله تعالى وشرب شيء منه بعد ذلك يتبادل المعمد نعمة الخبز ومعها شيء من الماء ثم يختتم رجل الدين التعميد بأن اليد اليمنى على رأس المتعمد ويقوم بعدها بالمصافحة لاداء يمين الحق.
ويعطى للمتعمد الاسم الديني (الملواشة) التي ترافقه حتى نهاية الحياة..وبعد مجموعة من التراتيل الدينية الخاصة ومنها اتيت الى الماء بارادة الله وارادتي. الماء الذي يهيئ القوة نزلت الى الماء واصطبغت وتقبلت الرسم الزكي وارتديت ملابس النور واحكمت اكليل الورد الغض برأسي وذكرت اسم الله العظيم علي.

نشرت في تاريخ
الأربعاء, 03 نيسان/أبريل 2013 09:18

ألامة المندائية

هذه هي قصة أمتنا . كان الصابئة ، وهم الأبناء الحقيقيون لأدم *1 بغرا *2 وحواء كاسيا ، يعيشون في سيرانديب (سيلان) قبل 250 ألف عام . وقضى الوباء عليهم جميعاً عدا زوجين هما رام ورود . وأصبح لهما أبناء وبنات تكاثروا بدورهم حتى كثروا أخيراً وكونوا العنصر البشري. ولكن بعد 150 ألف عام، وبأمر من*3 (هيبل) زيوا، اندلعت ألسنة اللهب في الأرض كلها ونجا اثنان فقط وهما شوربي وشرهبيل . وكان لهما أبناء وبنات ، وتكاثروا فأصبحوا شعباً مرة أخرى .هذا كله حدث في سيرانديب . وبعد 100 ألف عام جاء أمر من بيت الحي إلى نوح ، وذلك قبل ثلاثمائة عام من الفيضان ، قائلاً "ابن فلكا (كيوالا) ، لأن العالم سوف تدمره المياه" ، فجيء بخشب الصندل من جبل حرّان ، وبُني الفلك بطول ثلاثين جاما ، وعرض ثلاثين جاما ، وارتفاع ثلاثين جاما، والجاما هو قياس بطول الذراع . وسأل نوح عن آية فقيل له عند ظهور الأنجارا في التنور (والأنجارا هي براعم خضراء من القصب الغض) فستكون تلك هي الآية . وبعد مضي ثلاثمائة عام ، كانت زوجة سام, وكنة نوح, تخرج القصب الملتهب من التنور ، وكانت على وشك وضع خبزها فيه حين رأت في وسط النار, أنجارا خضراء نابتة ، فقطعتها وأعطتها لنوح ، وعندما نظر إليها بدأت روحه تتوثب في داخله .
جاء نوح بزوج من كل الحيوانات ، حتى البرية منها, كالأسود والأرانب ، ودفعهم داخل الفلك ودخل هو وكنته في الفلك . أما سام فكان في البرية يرعى غنمه . فادلهمت السماء بالغيوم وظلت تمطر لاثني وأربعين يوماً وليلة ، وهطل المطر من السماء وارتفع منسوب مياه الأرض . وساق سام أغنامه إلى الجبال لكنها غرقت مع كل الأشياء الحية الأخرى . استطاع سام أن يصل إلى الفلك ، ولأنه كان مغلقاً صعد على سطحه ، وهناك كان هيول زيوا يمنحه الأكل في أوقات الوجبات . وكان الفلك يترنح فوق الماء هنا وهناك لأحد عشر شهراً . ولم يكن هناك شيء سوى الماء ، والشيء الوحيد المنظور فوق المياه كان الفلك . وكانت الجبال ، والأوطان ، والمدن كلها مغطية . وأخيراً جاءت الرياح بالفلك بالقرب من مصر ، وتوقف هناك . وعندما أدرك نوح بأن منسوب المياه قد انخفض أرسل الغراب قائلاً له "اذهب ، وتجول طائراً ، وائتني بأنباء الدنيا " ، فطار الغراب ، ولكن عندما رأى جثة تطوف فوق الماء نسي كلمات نوح وبدأ يأكل منها . وانتظر نوح وأخيراً عندما لم يعد الغراب أطلق حمامة. وطارت فرأت الغراب يأكل من الجثة ، وكذلك رأت شجرة زيتون خضراء تنمو فوق الماء ، فأخذت غصناً منها في منقارها، وعادت إلى نوح ومنحته إياه . فقبّلها وفتح الباب وخرج من الفلك بصحبة كنته ، ورأيا ساما جالساً على سطح الفلك . فنادى نوح ابنه قائلاً "اهبط ! أنا أبوك وهذه هي زوجتك" فهبط سام وعانق زوجته ووالده ، وشكر بيت الحي لسلامتهم وصحتهم . ثم خرج وبنى بيتاً من الطين ليعيشوا فيه ، بينما ذهب نوح يتجول في الأرض ليستمتع بمشاهدها، يتمشى فيها ويستعيد صحته . وجاءت روهه فرأت نوحاً وادعت ظهور زوجته .
ألقت عليه التحية وقالت "أنا زوجتك أنهورايتا!" فأخذها وحبلت منه وأنجبت ثلاثة أبناء هم ، حام ، ويام ، ويافث . وهؤلاء هم أسلاف العناصر البشرية ، فأصبح حام أباً للجنس الأسود ويام أباً للأمم البيضاء وإبراهيم واليهود ، ويافث أباً للغجر. أما سام وزوجته أنهار فهم أسلاف المندائيين . وبعد مضي ستة آلاف عام فقد بنى البيت المقدس (أورشليم) القدس . وفي القدس أشركت *4 روهة في ملكها موسى من بني إسرائيل . وكان موسى ضد المندائيين وظل يخاصمهم في مصر . وكانت لأردوان (أردبان) الملك المندائي رؤية ، وسمع صوتاً قادماً من بيت الحي قائلاً: "قم واخرج من هذا المكان من أجل صحتك وراحتك" فقام وأخذ المندائيين معه وخرجوا من مصر ، وجاءوا إلى البحر الذي أنفلق تاركا طريقاً تحفه جبالاً من المياه على الجانبين ، وهكذا خرجوا من مصر . وبقي فروخ ملكا، شقيق أردوان ملكا، في مصر يحارب اليهود هناك حتى حاصروه وهزموه فهرب. وعندما رأى بأن طريق البحر ما زال مفتوحاً ، ذهب هو وشعبه خلاله، ولكن عندما بلغوا منتصف البحر أطبقت عليهم جبال المياه فغرقوا جميعاً.


أما أردوان ملكا ومعه ستين ألفاً من المندائيين ظلوا يسافرون ويسافرون حتى وصلوا أخيراً إلى طور ماداي ، وانفتح أمامهم الجبل ، لأنه كان عالياً وكبيراً وصعب الاجتياز ، فدخلوا عليه وذهبوا خلفه . فانغلق مرة أخرى فقال هيبل زيوا إلى أردبان ملكا "ابق هنا مع المندائيين، ولن تدور عليك الاثنتا عشر (علامات البروج) والسبعة (كواكب)" . وطاردهم موسى ، وعندما وصل طور ماداي لم يستطع الاستمرار فعاد وذهب إلى أورشليم .


وعاش اليهود هناك حتى أنجبت إينشوي يحيى (يوحنا المعمدان). وكان زكريا *5 وإينشبي كلاهما قد تقدم بهما العمر الآن ، وحدث هكذا : فبعد أن شربت إينشوي الماء حبلت منه . ورأى أحد اليهود في منامه بأن زكريا سوف يصبح أباً ، وأن ابنه سوف يصبح نبياً ، وانتظروا ليقتلوا يحيى . وبعد تسعة أشهر ، وتسعة أسابيع ، وتسع ساعات ، وتسع دقائق ، أنجبت إينوشوي ابنها ، فجاء*6 أنوش ـ أثرا وأخذ الطفل *7 وحمله إلى فرات ـ زيوا (وهو نهر في السماء توأم نهر الفرات في الأرض) ووضعه تحت شجرة كانت تحمل فاكهة تشبه حلمة الثدي . وكان يحيى يرضع من حليبها لثلاثين يوماً ، وأرسل أنوش ـ أثرا امرأة اسمها *8 صوفان لوليثا لترعاه . وفي يومه الحادي والثلاثين جاء أثرا ليعمده في نهر الأردن . وعلمه ا ، ب ، كـَ ، وأتاه بكتاب الأرواح (سيدرة أدنشماثا) ووضعه بين يديه ، وعلمه أن يقرأه ويتلوه . وعلمه كل سبل بيت الحي . وعندما بلغ سن الواحد والعشرين جاء أثرا إلى يحيى ليجعله ترميدا . فعلموه جميع الطقوس الإيمانية وأمروه ليرافق أنوش ـ أثرا إلى أورشليم ، ليصبح يحيى نبياً هناك . فجاءوا بسفينة (بيلوم) وسافر كلاهما، وذهبا فجاءا عبر نهر الأردن إلى أورشليم .
وعند وصولهما هتف أنوش أثرا بصوت عال قائلاً : " إن كان في هذا المكان أحد قد أضاع طفلاً ، دعه يأتي ويطالب بحقه!" . وسمعت خادمة إينشوي ذلك ، ولاحظت الأوصاف فعادت إلى سيدتها حاملة الخبر ، وقالت "إن عينيه تشبه عيني إينشوي، ووجهه يشبه وجه زكريا" . وكانت إينشوي قد بلغت الثمانين من العمر ولم تعد تحيض إلاَّ أنها كانت نظيفة وطاهرة . وكان زكريا أيضاً قد طعن في السن . وعندما قالت الخادمة "رأيت فتى يشبهكما يجلس على سفينة في النهر ، قامت إينشوي ، وفي أوج فرحتها سارت باتجاه النهر .
فجاءت إينشبي إلى يحيى في النهر ، وأسرعت بالدخول في الماء حتى بلغ صدرها ثم إلى حلقها ، فضمها يحيى إليه وقبَّلها . فوبخه أنوش أثرا قائلاً : "لماذا قبلت هذه المرأة ؟ هذا سلوك مرفوض ، فلماذا فعلته؟" أجاب يحيى "عفوك سيدي ، إنها والدتي ، الحي ، وضعني لتسعة أشهر في رحم هذه المرأة. وكنت أنام بخفة في رحمها ، لأنني أحببتها . إنها أمي ، ويتوق قلب كل ابن إلى والدته!" . فقال أنوش أثرا "نعم ، هذا صحيح ، فالرجل يجب أن يُكرِّم والديه!" .
وعندها دخل يحيى أورشليم . وكان يبرئ الأعمى والمريض ، وجعل الكسيح يسير . فغضب الرهبان وجاءوا إلى يحيى وأمروه بأن يترك المدينة فوراً . رفض يحيى أن يذهب وتحداهم قائلاً : " ائتوا بالسيوف وقطِّعوني إرباً ، تعالوا بالنار وأحرقوني ، أو الماء فأغرقوني!" فرد عليه الرهبان "نحن نعلم أن السيوف لا تقطِّعك، ولا النار تحرقك, ولا الماء يغرقك" وعندما بدأ يحيى بقراءة كتابه كنـزا رباَّ ، نطقت عصافير الهواء تُمجِّد الحي، وفتحت الأسماك أفواهها تُعظِّم مندادهيي .
راوي القصة رجل دين مندائي من إيران قام بروايتها امام الباحثة الانكليزية الليدي دراور التي اهتمت بالديانة المندائية اهتماما كبيرا منذ العشرينيات من القرن الماضي والتي جعلت من بحوثها عن هذه الديانة نبراسا انار طريق الباحثين من بعدها وقمت انا بدوري بعد الاطلاع على هذه الشذرات من كتبنا الدينية والتي صيغت بصيغة ادبية بديعة قمت بترجمتها الى اللغة العربية لان بها ترابط زمني متسلسل يفيد المندائي ،مع التنويه الى ان اغلب ما جاء في القصة اعلاه هو من صلب الكتب الدينية المندائية مثل "دراشا اد يهيا وكَنزا ربا وهران كَويثا .

ملاحضات المترجم الى العربية:
1• آدم بغرا : هو أبونا آدم الجسد ، ونقول بغرا وذلك لتميزه عن آدم كسيا أي آدم الروح وهو موجود في عالم مشوني كُشطا .
2• هوة كسيا : هي حواء الروح وهي زوجة ادم كسيا وليس ابينا ادم الجسد (ادم بغرا).
3• هيبل زيوا : هو ملاك الرب جبريل "مبارك اسمه " .
4. روهة : هي روح الشر.
5. إينشبي : هي ام النبي يهيا يهانا مبارك اسمه وزوجة زكريا ويقابله بالعربية (اليصابات) .
6. انوش ـ اثرا وهو آحد ملائكة الرب وهو احد ابناء ادم كسيا الذين اوكلهم الرب لرعاية العالم وهو الذي علم ابونا ادم وامنا حواء في بداية الخلق.
7. في هذا المقطع يوجد قليل من الاختلاف وهو وكما جاء في دراشا اد يهيا وهران كَويثا ان الملاك انوش اثرا اوكل احد الارواح وهي صوفاني بأخذ المولود الجديد الى جبل بروان وهو الحبل الابيض حيث هُيأة له احد الاشجار المقدسة والتي اسمها (إلانا اد ماربي يانفي) الشجرة المرضعة للاطفال.
8. صوفان لوليثا : هي احد الارواح الخيرة التي اوكلت اليها مهمة رعاية النبي يهيا يهانا مبارك اسمه.

نشرت في تاريخ
الأربعاء, 03 نيسان/أبريل 2013 09:41

بمناسبة ذكرى ثورة 14 تموز

ذكريات نقابية
حين يتسامى وهج الحرية,ويغمر زوايا الحياة تنجلي امامه بقايا الظلام وتتلاشى.وتتفتق عن طاقات حديدية كانت مغمورة او كانت
تحت نير الحكم الاستبدادي الثقيل .هكذا تجمعت ارادات شابة تواقة للتمتع بالحرية ونيل حقوقها المركونة تحت ركام النسيان و
التعسف لتفرض ارادتها المشروعة وتثبت وجودها كطبقة باقية محركة للحياة في ظل حكم وطني ولاول مرة تفرض هذه الشريحة
من الطبقة العاملة وهم عمال الصاغة في العراق ارادتها في اثبات وجودها بتنظيم نقابي يوحد كلمتها ويحقق ويوجه ارادتها لنيل
حقوقها المغبونة و المصادرة وتحت شعارات وطنية وعمالية انعقد اول تجمع لعمال الصاغة و لاول مرة في تاريخ العراق وفي الموقع
الذي يتواجد فيه الغالبية من عمال الصاغة الا وهو خان الالوسي الملاصق لخان الشابندر الذي كان يزهو بمعارضه الظخمة في
عرض المصوغات الذهبية والمجوهرات واكبر اسواق الصاغة في العراق ان ذاك. انعقد هذا المؤتمر بعد ثورة 14 تموز الخالدة
بعدة اشهر لتفوز القائمة التقدمية الموحدة بالتزكية بسبعة اعضاء للهيئة الادارية منهم الاخ المرحوم صبري سباهي
رئيسا للهيئة الادارية و الاخ المرحوم خيري عبود لفتة(ابو طلعت) نائبا للرئيس وسعيد شلش العسكري سكرتيرا للهيئة الادارية
والاخ السيد حازم(لا يحضرني اسم والده) محاسب للهيئة الادارية وثلاثة اعضاء في الهيئة الادارية............ .....ء
============ ========= ==
وتتهيأ النقابة و بكامل اعضائها وكادرها القيادي لاستقبال الواحد من ايار عيد العمال العالمي ليكون اظخم وانسق موكب
نقابي يتهادى في نهر شارع الرشيد من بين جموع النقابات اللتي ابدعت في مواكبها وحشودها العمالية,كان موكب
نقابة الصاغة الذي تتقدمه سيارة كبيرة(لوري) مطوق باربعة جدران ظخمة على شكل قلعة سجن ينتصب في وسطه
شامخا عامل بعضلات مفتولة وبدلة عمل زرقاء رافعا يديه الى الاعلى وسلاسل حديدية مقطعة بمعصميه وهو يصرخ
بفم مفتوح على شدقيه تتبعه كوكبه من العمال بملابس حريرية براقة بيضاء وحمراء وقبعات حمراء وهي ترفع الاعلام
العراقية والوطنية كذلك تتبعها كوكبة اخرى وهي تحمل لافتات ملونة وعريضة زخرفت عليها شعارات وطنية وعمالية
انية و مستقبلية ومن خلفهم جموع عمال الصاغة والصاغة انفسهم اشتركوا في المسيرة العمالية,فكانت الهتافات
والاناشيد الوطنية والدبكات تلهب الحشود المتراصة على الرصيفين بالتصفيق المتواصل والاهازيج الشعبية فكان
حقيقة عرس عراقي موحد ضم كل الشرائح العراقية مختصر ضم كل اطياف الشعب العراقي واتذكر مقطع من
اهزوجة لعيد العمال
يا عيد الاحرار
ياعيد الاحرار
يا اول ايار
بالارض تسطع انوار
نحيي بالفرح ليله ونهاره
ومن الذكريات التي لا زالت عالقة في الذهن ذلك الشاب النشط ,الشاب النحيل الذي كان طاقة متحمسة من
النشاط و الحماس والهتاف المتواصل و المحرك الرئيسي لموكبنا (عبد الاله سباهي) بين جموعنا الشبابية الذي
كنا نتحلق حوله وهو يردد الهوسات الشعبية و الشعارات الوطنية مما كان موكبنا العمالي محط و انتباه وسائل الاعلام
والمراسلين الصحفيين كبيرا جدا و من الباب الشرقي وحتى وزارة الدفاع في باب المعظم وعلى امتداد شارع الرشيد
كانت المواكب تتحشد امام وزارة الدفاع ليطل عليها الزعيم عبد الكريم قاسم وقادة الثورة الاخرين بمعيته ليحيوا
هذه الجموع العمالية بعيدها الاغر عيد الاول من ايار............ ......... ...ء

... السويد

نشرت في تاريخ
الإثنين, 19 تشرين2/نوفمبر 2012 22:59

البرديصانية فرقة غنوصية وليست مندائية

كانت الشعوب في غرب اسيا, من الهند حتى الأناضول ومصر قد شهدت قبل ألفي عام صراعات شتى. كانت الحضارات القديمة في ما بين النهرين والى الغرب منها حتى مصر تخلي السبيل امام وافدات حضارية جديدة تصدرها الاغريق والرومان والفرس. وكانت هذه الحضارات تتصارع فيما بينها بالسلاح والفكر والأديان والتقاليد . كانت معتقدات الأقوام وتصوراتهم عن الكون والخلق والإنسان تعاني من البلبلة والتغيرات في كل جانب. لم يكن ثمة من خلاص في كل جانب من جوانب الحياة. لذلك كان طبيعيا ان تنبثق في غمرة هذا الاضطراب أديان ومعتقدات وأفكار ونظم سياسية شتى. وصار يجري الحديث عن مخلصين وعن سبل يصطنعونها للخلاص . وتغدو الأديان في هذه الحال السبيل الأيسر والأفضل للخلاص مما كان يكابده الناس من صنوف العذابات والروح التي لم تعد أوضاعهم السياسية والاجتماعية قد أبقت على اي امل فيها , صار البحث يجري عن مسرات لها في عالم اخر تصنع له اخيلتهم أشكالا مختلفة. وشاعت لهذا الاخلاق الرواقية. أخلاق الدعة والرضا والسكينة والتسليم. 

كان من بين ما أفرزته هذه الحقبة: المسيحية بمذاهبها العديدة والغنوصية باطيافها المختلفة والزرادشتية وألوان اخرى غامضة من الأديان والمعتقدات. ولان تدوين الأفكار لم يكن يجري بيسر آنذاك . اضطربت الصورة كثيرا حتى لم يعد من السهل التمييز فيما بينها . وتحديد ما هو الأسبق ومن تأثر بمن . ومن نادى بهذا ومن دعا الى ذاك . في غمرة هذا الاضطراب ولدت المندائية . كيف ومتى وفي اي مكان بشر بها اولا ، كل هذه وغيرها من الجوانب الروحية والاجتماعية باتت غامضة الان ولا سبيل مجد للعثور على بدايات هنا ، والى القطع في هذا ال جانب او ذاك . وان كان كبار من درس المندائية يذهب الى انها ظهرت قبل المسيحية بقليل.[1] 
من بين ما أفرزته هذه الحقبة من ظواهر اجتماعية كانت الغنوصية. لن يكون من المجدي البحث عمن نادى بها اولا وأين وكيف فلن تحظى هذه التساؤلات باجابات شافية . وقد انصرف الى البحث في هذه الظاهرة الاجتماعية كثيرون دون ان يقطعوا فيها بشي. فمنهم من أرجعها الى ما قبل المسيحية ، ومنهم من عدها انعكاسات اجتماعية لهذه المسيحية. ومنهم من حصرها في اطار الدعوة المسيحية وما تولد عنها من صراعات مذهبية ،وغيرهم عدها من الانعكاسات الاجتماعية التي ولدها تدهور اليهودية الرسمية. وزاد في الامر تعقيدا ان اختفى كثير مما خلفه دعاتها بفعل الاضطهادات الكنسية التي ساندتها الامبراطورية الرومانية بعدان تبنتها رسميا. وما كتب عنها جاء في الأعم منه بعد ازدهار فرقها بازمان طويلة وفي اطار الرد عليها من جانب الآباء المسيحين او فلاسفة الافلاطونية المحدثة و بتحامل ملحوظ. 
ان الغنوصية ، باختصار، تجيب على تساؤلات الانسان الحائر: من كنا وماذا اصبحنا وأين كنا. وأين القي بنا والى اين نحن سائرون ومن اي شيئ يجري تخليصها وكيف وما هو الميلاد وما هو البعث ومن اين تولدت الشرور ومن ولدها. والغنوصية بألوانها المختلفة تزدري العالم الذي تعيش فيه ، وترى انه مصدر الشرور، والخلاص منه يتم عبر وسيط سماوي يهبط الى العالم لإرشاد النخبة. والطرق التي ترسمها لخلاص البشر تتباين في تلاوينها. 
كان من اسباب انحسار الغنوصية واندثار معظم فرقها الاحتراب الذي دخلته فرقها فيما بينها. ولان هذه الفرق انبثقت في مواطن عديدة من العالم القديم حملت تبايناتها المحلية التي تولدت عن معتقدات وأوضاع هذه المواطن وكانت هذه التباينات تغذي الاحتراب وتوفر للسلطات الحاكمة، الرومانية والفارسية الذرائع لاضطهادها، وخلفها في هذا الاضطهاد من ورث هذه السلطات. 
المندائية كانت واحدة من هذه الفرق الغنوصية أثرت ان تنزوي أخير في بطائح ميسان حيث لا سبيل الى ملاحقتها ، مثلما انزوت فرق اخرى هناك. من اين تلقت اولا أفكارها الدينية ؟ امر يشوبه كثير من الغموض. ولا يوضح احد كتبها( حران كويتة) الذي يمس تاريخها مسا خفيفا ، الكثير في هذا الشان. وبات الحديث هنا يقرب من الحدس . والشواهد التي يزودها كتابها الاساسي ( الكنزا ربا) عن الأدوات التي كانت. تستخدمها والمواد المصنوعة منها كالحديد وغيره ، والشواهد الاخرى التي تدور حول الخصومات الدينية التي كانت تدخلها ، لا تؤكد انها طائفة قد اوغلت في القدم كثيراً. في المقابل ثمة شواهد تدل على انها كانت تنتشر خارج بطائح ميسان في بعض الأوقات. ولأن الطائفة اعتمدت الذاكرة في الأساس للاحتفاظ بأدبها الديني ، شاب هذا الادب شيء من الاضطراب والخلط والتحوير احيانا ، شان الأديان الاخرى . 
في احد الكراريس التي خلفها اتباع ماني منذ القرن الرابع (وربما الخامس الميلادي) يشار بوضوح تام الى ان ماني كان يعيش مع والده فاتك (وهو فارسي الاصل وكان قد اعتنق المندائية وعاش بينهم هو وزوجته في ميسان مع الطائفة المندائية). يشار في هذا الكراس أيضاً الى ان رئيس الصابئة المندائيين كان يدعى (الخسايي او الحسح كما يدعوه ابن النديم في الفهرست ) لكن الكراس المانوي هذا لا يوضح لنا امر الخسايي هذا اين ومتى اصبح رئيساً للطائفة . الا ان المصادر المسيحية رغم عدم دقتها وتشوشها تشير الى ان الخسايي هذا وجد عند البحر الميت وانه كان يدعو الطائفة الى التعميد و يشدد على ذلك, ان تطهر أوانيها وكل ما تأكله بالماء الجاري . 
من بين ما تذكره المصادر المسيحية ان الذي حمل راية الغنوصية في مصر وفلسطين كان يدعي والنطس (فالنتينوس) في منتصف القرن الثاني الميلادي (136-155) م في الوقت الذي كان فيه مرقيون يدعو الى غنوصيته فيما بين النهرين اساسا في الفترة ذاتها (140-150 ). بيد ان انشط الدعوات الى الغنوصية نهض بها ما يدعى بر ديصان فيما بين النهرين وهو ما ستتوقف عنده بالتحديد لان (الكنزا ) تشير اليه. 
ولد بر ديصان في مدينة الرها في شمال ما بين النهرين في 154 م وتوفي في أرمينيا عام 222م وسمي بر ديصان نسبة الى نهر ديصان الذي يمر بمدينة الرها في جنوب الأناضول ( وتدعى المدينة باسم أورفا ألان) كتب عنه كثير من المسيحيين والمؤرخين الإسلاميين إذ كتب عنه افرام السرياني وتيودور برخوناي وابن العبري وإيرنياوس. كذلك كتب عنه ابن النديم في الفهرست، والشهرستاني في الملل والنحل، وابن حزم الأندلسي في الملل والأهواء والنحل. ولما كان بر ديصان شاعرا مبدعا بالسريانية ذاع صيته كثيرا وقد وضع أوزان الشعر السرياني ونظم الأناشيد الحارة التي كان يترنم بها الشباب دفاعا عن المسيحية. 
ولد وثنيا ثم تنصر، وحارب مرقيون، الا انه مال بعد ذلك الى والنطس. ثم رفض أفكار الوالنطية وصار يبشر بأفكاره الخاصة التي شاعت كثيرا بفعل فصاحته وشعره. وتعرض بسب ذلك الى خصومة الكثيرين, لا سيما من بين الكتاب ورجال الدين المسحيين. يقول ابن النديم ان لابن ديصان كتب عديدة في النور والظلمة وروحانية الحق وكتاب المتحرك والجماد. وله أيضاً كتاب شرائع البلدان وكتاب القدر. 
يذهب الشهرستاني في الملل والنحل "الى ان اصحاب ديصان اثبتوا أصلين نورا وظلاما. فالنور يفعل الخير قصدا واختيارا, والظلام يفعل الشر طبعا واضطرارا .....فما كان من خير ونفع وطيب وحسن فمن النور، وما كان من شر وضرر ونتن وقبح فمن الظلام. وقال بعضهم ان النور انما دخل (اجزاء ) الظلام اختيارا ليصلحها ويستخرج منها اجزاء صالحة لعالمه فلما دخل تشبث به زماناً فصار يفعل الجور والقبح أضراراً لا اختياراً ، ولو انفرد في عالمه ما كان يحصل منه الا الخير المحض والحسن البحت وفرق بين الفعل الاضطراري وبين الفعل الاختياري ".[2] 
ويقول ابن النديم في الفهرست " ان الديصانية فرقتان: فرقة زعمت ان النور خالط الظلمة باختيار منه ليصلحها فلما حصل فيها ورام الخروج عنها امتنع ذلك عليه, وفرقة زعمت ان النور أراد ان يرفع الظلمة عنه لما احس بخشونتها ونتنها شابكها بغيراختياره. مثال ذلك ان الانسان اذا أراد ان يرفع عنه شيئا ذا شضايا محددة ,دخلت فيه فكلما دفعها أزدادت ولوجا فيه "[3] ولعل ما أورده الشهرستاني وابن النديم يذكرنا بأسطورة ابثاهيل ونزوله الى العالم الأسفل وصراعه مع آلهة الظلام في المندائية) يرد ذكر بر ديصان في (الكنزا ربا) (الكتاب السادس صفحة 203 من الطبعة الأسترالية في كتاب دنانوخت). 
يقول دنا نوخت " أنا فقيه الدين الحكيم ودواة كتاب الآلهة والقوي والفخور والمترفع الذي ليس له سيد في بيته ولا يحتوي ملكه او قصوره الشامخة او دوره السفلى على من هو اكبر منه سنا .ان كتبي هذه مفتوحة على راحتي في حين سفر تذكار اخبار الايام يثقل على ساعدي" (الاشارة هنا ترد الى كتاب سفر تذكرة في كتاب ملاخي، الإصحاح الثالث من العهد القديم والأصحاح السادس من أستير ومواقع اخرى في العهد القديم). 
يصف دنا نوخت كتاب ديصاي الذي كان يتصفحه بالصغير الا ان أقواله كبيرة تتدفق من الكلمات تعبيرا عن بلاغته. يفهم من هذا ان رجل الدين المندائيي اخذ بشاعرية برديصان المتدفقة,ولا عجب في ذلك اذ اشتهر هذ الداعية الأغنوصي بالبلاغة الأخاذة التي كانت قد اكسبته شهرة واسعة لاسيما بين الشباب الذي كان يترنم بشعره. الا ان دنانوخت الرجل الوقور سرعان ما يتدارك نفسه فيرمي بالكتاب الى النار. لكن دون ان يمحو هذا من تأثره به فيعاود قراءته وسرعان ما يعجب به ثانية. وللمرة الثانية ينتفض ويقذف بالكتاب الى الماء ويعود الى رشده والى ما آمن به. 
ان كتاب دنانوخت هذا يؤكد المعلومة التي قيلت ان الديصانية قد أوجدت لها اتباعا بين صابئة بطائح ميسان بعض الوقت .على أية حال يشير المؤرخون الذين تناولوا الحديث عن هذه الفرقة الغنوصية ان آثارها قد انمحت في القرن الخامس الميلادي بتأثير الحملة التي شنها اتباع ماني عليها. 
أخيرا نقول ان دعوة بر ديصان كانت هي الأقرب الى المندائية الا انها لم تكن مندائية خالصة وانتهى أمرها بعد حين في الوقت الذي اتسع شان المانوية وامتد كثيرا حتى وجدت اتباعا لها في غرب الصين شرقا وشرق أوربا في الغرب وعاشت حتي القرن الثالث عشر الميلادي بينما عاشت المندائية حتى الان . 
مصادر البحث
1. ابن النديم , الفهرست , طبعة دار المعرفة , بيروت 1997
2. الشهرستاني , كتاب الملل والنحل، مكتبة الأنجلو المصرية , القاهرة , الطبعة الثانية 
3. يوسف رزق الله غنيمة , بر ديصان وبدعته, مجلة المشرق , بيروت ,1920
4. الكنزا ربا. منشورات الماء الحي, سدني. استراليا الطبعة الثانية. كانون اول. 2000ميلادي 
[1] للإفادة هنا نذكر ان المؤرخ اليهودي يوسيفوس ولد في عام 38 م وتوفي في بداية القرن الثاني اي قيل ولادة بر ديصان ،وانه الف كتابيه "حروب اليهود " "والعصور القديمة " في نهاية القرن الاول الميلادي
[2] صفحة 230-231
[3] 412صفحة

نشرت في تاريخ

يعتبر البروفيسور كورت رودولف من أبرز العلماء الألمان الذين اهتموا بتاريخ الأديان وفلسفتها, وهو حجة في موضوع الغنوصية. درّس في جامعات أميركية عدة وشغل منصب بروفيسور في جامعة فيليبس في مدينة ماربورغ الألمانية قبل تقاعده. من أهم أعماله كتابه الشهير "الغنوصية: طبيعة وتاريخ الغنوصية" (الترجمة الانكليزية 1987), وكتاب "المندائيون" (بالألمانية 1960-1961 في مجلدين), وكتاب آخر بالانكليزية عن المندائيين (لايدن 1978), كما ترجم أحد كتبهم الدينية "ديوان نهرواثا" (أي ديوان الأنهر, برلين 1982). وهو عضو فخري مدى الحياة في الاتحاد الدولي لتاريخ الأديان. وهنا حوار أجري معه على هامش أحد المؤتمرات المتخصصة.

هل تحدثنا عن أصل الصابئة المندائيين في سياق وجود نظرتين الى هذا الشأن؟

- كان هناك بعض المستشرقين الأوروبيين في القرن التاسع عشر, ومن بينهم الألمان, يعتقدون بأن أصل الصابئة هو المشرق, إذ رأوا أن كثيراً من الأمور يمكن تفسيرها من خلال الأصول البابلية. ولاحقاً, بعد ترجمة ليدزبارسكي للنصوص المندائية الى اللغة الألمانية, تغيّر رأي المستشرقين وعلماء الأديان والمؤرخين. فهناك مؤشرات في النصوص المندائية تقول انهم قدموا من الغرب, أي فلسطين وسورية. لأن هناك نصوصاً تشير الى أن المندائيين الأوائل تعرضوا لاضطهاد اليهود, الأرثوذوكس منهم على وجه الخصوص, فتركوا سورية وفلسطين لاحقاً وتوجهوا عبر تلال الجزء الشمالي من وادي الرافدين الى الجزء الجنوبي منه, ربما في رحلة استغرقت نحو 100 عام وبدأت في القرن الأول الميلادي قبل أن يصلوا الى جنوبي وادي الرافدين في القرن الثاني. بالتأكيد قد يكون هناك أفراد من بابل أو جنوب وادي الرافدين ممن اعتنقوا المندائية, لكن لا بد أنه كان هناك أشخاص آخرون على معرفة بالطقوس والتعميد قدموا من الغرب. وأعتقد بأننا لا نستطيع تفسير كل ما يتعلق بالمندائيين من ميثولوجيا وثيولوجيا وأيديولوجيا وغيرها إستناداً الى أواني الأدعية وحدها. لكنها نظرية أو فرضية, ومن المحتمل أن يكون أمر الهجرة ابتكر لاحقاً. لكني إذا اقتنعت بذلك, فسأقبله.

هل هناك أدلة أثرية أو تأريخية ملموسة تشير إلى مثل هذه الهجرة؟

- الأدلة الأثرية المندائية المعروفة هي أواني الأدعية فقط, التي عثر عليها في بدايات حملات التنقيب في المدن السومرية والبابلية. وهناك مئات الأواني مكتوبة بالخط المندائي, وأقدمها يعود الى القرن الثالث.

لكن المعروف أن الأحراز الرصاصية هي الأقدم!

- هذا صحيح, وهي أقدم الأدلة على النصوص المندائية المعروفة وتعود الى القرن الثالث.

وهذه وجدت في الشرق حيث يعيشون الآن, لكن لم يعثر على شيء من هذا القبيل على طول خط الهجرة المفترضة من فلسطين الى جنوبي وادي الرافدين.

- هذا صحيح أيضاً, على رغم أن مستشرقاً يهودياً تحدث عن ألواح رصاصية, لكنهم إبتاعوها في اسرائيل ولم يعثروا عليها هناك, بل هي منقولة من وادي الرافدين.

وهل هناك إشارات في كتب المؤرخين القدماء مثل يوزفوس فلافيوس الى ما يرجح حصول مثل هذه الهجرة؟

- أحد أشهر النصوص المندائية الذي يتحدث عن هذه الهجرة هو "هران جويثا" (حران الداخلية, الجوانية) وحران هي مدينة في شمال وادي الرافدين تقع اليوم في تركيا. بداية النص مفقودة, وتبدأ بذهاب المندائيين الى التلال بقيادة ملك يدعى أردبان, وهو بلا شك أحد الملوك الفرثيين, ولعله أرتبان الرابع. وهذا يؤكد أن المندائيين هاجروا في القرن الأول ولم يضطهدهم الملوك الفرثيون, على نقيض الملوك الساسانيين الذين حكموا بعدهم. ونجد في شهادة كارثير رئيس الكهنة الزرادشتيين المكتوبة على الصخر تعبير "المغتسلة" وكذلك إسم الناصوريين. لكن الاسم قد لا يخص المندائيين, فهو يعني المسيحيين أيضاً.

ذكرت الناصوريين قبل قليل, ونعرف أن هناك عدداً من الطوائف سكنت شرقي الاردن وحملت أسماء مشابهة, ألا يُحتمل أن تكون هذه الأسماء تسميات مختلفة لطائفة واحدة, المندائيين مثلاً؟

- هذا صحيح في شكل جزئي فقط. فالاسم يعني المراقبين, ونُسبت الكلمة في السابق الى الناصرة التي هي محل ولادة السيد المسيح, لكن الأمر غير واضح, فليس لدينا أدلة بأن الناصرة كانت موجودة في الأزمنة القديمة. لذلك يجب أن يرتبط اسم الناصورايي والنازاريين والنوصريم وغيرهم بتصرف خاص لمجموعة من الناس. لكننا غير متأكدين من الأمر, فهذه الأسماء أطلقها أجانب على هذه الطوائف, عدا المندائيين فهم يستعملون الناصورايي كإسم خاص بهم.

بالنسبة إليّ, هناك بعض التشابه بين المندائيين والقمرانيين من ناحية الأفكار, وحتى التسميات. ومن المثير وجود بعض المتوازيات بين المندائية والقمرانية, مثل الاصطفاء, كذلك التشابه في طريقة دفن الموتى والاغتسال والتقويم القمراني الشمسي الذي يختلف عن التقويم اليهودي الرسمي؟

- قد يكون ذلك بالدرجة الرئيسة بسبب الاغتسال, وهو من الطقوس الجوهرية. ومن المحتمل وجود طوائف أخرى لها طقوس مشابهة مثل الكسائيين والأسينيين. أعتقد بأن ذلك كان جزءاً من حركة أسميها الحركة المعمدانية التي لها علاقة جزئية باليهود غير الأرثوذوكس. فهناك تأثيرات لبعض الأفكار اليهودية التي نعرفها من العهد القديم, لكن من جانب آخر نلمس تأثير الأفكار الزرادشتية. ويذكرني التقويم المندائي بالتقويم الزرادشتي الذي يختتم العام بفترة خمسة أيام (ما يقابل البنجة وهو عيد الخليقة عند الصابئة المندائيين).

البروفيسور رودولف اشتهر بدراساته عن الغنوصية, فما هي الغنوصية؟

- الغنوصية لها علاقة بالمعرفة الخاصة بأصل النفس البشرية وبكيفية عودة النفس الى عالم النور. ولدينا شهادات عدة من الأقباط وهراطقة مسيحيين تتحدث عن جماعات تأثرت بهذه الأفكار تعود الى القرن الأول الميلادي, وربما كانت موجودة في فترات أقدم, لكن بالتأكيد عاشت هذه الجماعات عصرها الذهبي في القرنين الثاني والثالث الميلاديين. والفكر خليط من أفكار مسيحية ويهودية وإغريقية, خليط من أفكار الحركات التي كانت موجودة في أواخر العصور القديمة. فالثقافة اليونانية الغربية تمازجت بالمصرية الشرقية. هذه الجماعات عاشت في مناطق متفرقة, وليست متوحدة يقودها كاهن أعلى أو أسقف بتنظيم صارم كالبابوية لدى الكاثوليك, بل كانت مجاميع مختلفة عاشت في أماكن متفرقة. المندائيون أقاموا في الشرق لكن ليس في المدن الكبيرة بل في الريف, وعاشوا في الأهوار والبطائح التي هي جزء من وادي الرافدين, حيث عاش الهراطقة أيضاً في فترة الحكم الاسلامي بحسب ما نعلم من المؤرخين المسلمين. والمندائيون ليسوا نساكاً لأنهم يتزوجون وينجبون الأطفال على نقيض كثير من الغنوصيين الآخرين الذين حُرّم عليهم الزواج. وعلى رغم وجود آراء عن الزهد في النصوص المندائية, لكنها ليست ذات ثقل كبير.

هناك إشكالية لا تزال عصية على الحل, وهي علاقة صابئة البطائح بصابئة حران؟

- أعتقد بأن صابئة حران لا يرتبطون بالمندائيين في شكل وثيق, فهم جماعة مختلفة. وأعتقد بأن المندائيين استعملوا تسمية الصابئة وتقبلوها. فإبن النديم يتحدث عن صابئة الأهوار (البطائح).

تحدث إبن النديم في أحد الفصول عن الصابئة وعرض لأفكارهم وتقاليدهم التي نعرفها إلى اليوم, غير أنه عاد في الفصل اللاحق فتحدث عن صابئة حران وسرد قصة أيشع القطيعي وواقعتهم مع المأمون؟

- إبن النديم كان يعرف المندائيين. ولا نعلم عن وجود عادات وطقوس مماثلة للطقوس المندائية في حران. إن الأمر لا يعدو أكثر من التشابه "الفلســفي".

نشرت في تاريخ
السبت, 17 تشرين2/نوفمبر 2012 16:19

قمران: مدينة الملح والمخطوطات

البحر الميت: قبل نحو خمسين عاما لم يكن يعرف (خربة قمران) سوى الرعاة والسكان البدو في المناطق القريبة من البحر الميت.

ولكن بعد أن اكتشف صبيّان من عرب التعامرة ما عرف باسم مخطوطات البحر الميت، أصبح اسم قمران اسما عالميا، لم ينقطع زوارها حتى الان، ويجيء سياح ومغامرون وصحافيون وباحثون إليها مقتفين أثار الراعيين الذي اكتشفا المخطوطات، واحدهما واسمه محمد الذيب توفي قبل سنوات في الأردن والثاني اسمه محمد حامد يعيش على بعد كيلومترات معدودة منها ولكنه لا يستطع الوصول إليها بسبب الحصار الإسرائيلي.

بيضاء مخضرة
تقع خربة قمران شمال غربي البحر الميت، وتبلغ مساحتها 2 كلم. يخترقها واد سحيق ممتد من بيداء بيت لحم ويصل البحر الميت، وتطل على جبال مؤاب الأردنية، لذلك فهي تشكل موقعا استراتيجيا هاما مثلها مثل المنطقة المحيطة بها.
وتحيط بها مغر قديمة جدا، وجميعها كما يعتقد الباحثون طبيعية، باستثناء إحدى المغر التي يرجح بأنها حفرت باليد وعثر فيها على مخطوطات كثيرة.
وتقع قمران ألان تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي الذي أهل الموقع وحولها إلى منتجع سياحي، بعد أن أغلقها بعد الاحتلال في حزيران 1967، وبنى فيها مرافق سياحية مختلفة كالمطاعم والمتاجر السياحية، ويدير هذه المرافق كيبوتسات استيطانية موجودة في المنطقة، وتتقاضى حكومة الاحتلال رسوم دخول وتقدر اربحاها السنوية من ذلك بنحو خمسة ملايين دولار، وهي بموقعها على مرتفع يطل على البحر الميت تشكل موقعا سياحيا ملائما يضفي عليها عبق التاريخ النابض من الكهوف والتلال، لمسة سحرية أخرى.
والوصول إلى قمران ألان يتم عبر الطريق العريضة الموصلة إلى البحر الميت، ومن هناك يتم الانعطاف يمينا في طريق صغيرة تتدرج ارتفاعا حتى الوصول إلى المرتفع الذي اختاره الاسينيون موئلا لهم، وهم طائفة دينية اختارت الحياة المشاعية فيما بينها وما زال الباحثون مختلفون حول طبيعتهم الدينية.
وحسب الباحث الأثري الدكتور لويس حزبون فان "قمران اسم عربي، لعله مشتق من كلمة قمرة أي لون البياض المائل إلى الخضرة نسبة للون أرضها الكلسية البيضاء الضاربة للون الأخضر لما يتخللها من النباتات المفيدة للرعي، وآخرون يرون ان قمران مثنى قمر إذ يعكس القمر ضوءه على سطح البحر الميت المجاور للمنطقة، فيظهر وجهان للقمر ومنهما جاءت كلمة قمران، إلا انه ليس لهذا الاسم وجود في الكتاب المقدس، والأرجح أن قمران كانت تدعى سكاكة أو مدينة الملح المذكورتين في جدول مدن يهوذا في سفر اشعيا".
ويعتقد انه في القرن الثامن قبل الميلاد بنى يوتام بن عزيا مدينة الملح في المنطقة المعروفة ألان قمران، للدفاع عن القوافل التجارية المارة بالقرب من البحر الميت.
ويضيف حزبون "مع مرور الزمن انقرضت هذه المدينة، وفي عام 150ق.م. بدأت ثورة المكابين لتطهير الدين اليهودي من العناصر اليونانية. إلا أن حكم الحشمونيين عمل على إعادة العناصر اليونانية، مما آثار غضب اليهود الأتقياء المعروفين ب(الحاسديم)، ومنهم من تكيف مع الوضع الجديد ومنهم من قطع كل صلة مع الكهنوت الرسمي وانعزلوا للحياة المتقشفة في قمران وهم الاسينيون، وكان عددهم خمسين شخصا ولهم رئيس يلقب بمعلم الصلاح، وأعاد الاسينيون بناء قمران على الأنقاض السابقة".

سحر الموقع
ربما من الصعب وصف السحر الذي تحمله هذه البقعة الصغيرة المطلة من عل على قاع العالم واخفض نقطة فيه وهي البحر الميت.
يشاهد الزائر على المدخل الرئيس لقمران برجا للدفاع مكونا من ثلاثة طوابق، الطابقان السفليان من حجر والثالث من قرميد، بني البرج عام 103 قبل الميلاد وأعيد ترميمه بعد زلزال عام 31ق.م. ومكن الرومان دعائمه، ومن على البرج يستطيع الزائر أن يلقي نظرة شاملة على المنطقة، حيث قنوات كانت تنقل المياه من خلال نفق محفور في الصخر إلى قناة أخرى، ومن ثم إلى بركة كبيرة، يبدوا أنها كانت تستعمل لترسيب الطين الممتزج بالماء قبل أن يجري في قناة المياه الرئيسية إلى جميع الآبار الأخرى.
وكان للدير بركتان للاستحمام تصلهما المياه من خلال القنوات التي كانت تستخدم من قبل طائفة الاسينين الذين سكنوا المنطقة وكتبوا المخطوطات التي اكتشفت.كحمام طقسي قبل الدخول إلى غرفة الطعام، إذ كان للطعام طابع مقدس، وبجوار غرفة الطعام مخزن الأواني الخزفية والمؤن وجد فيه 770 أناء، مرتبة كل دزينة على حدة، و210 صحون و75 كأسا، واوان أخرى للطعام والشراب.
يقول حزبون (لجماعة الاسينين نمط حياة ديمقراطي كما يبدو من غرفة المجلس ومنها ينتقل المرء إلى غرفة الكتابة أو حجرة النساخ في الطابق الأول عن طريق درجات، وتحتوي غرفة الكتابة على طاولة يبلغ طولها 5امتار، ومحبرتين، وقد نسخ هنا كثير من المخطوطات التي اكتشفت).
وفي الجانب الشرقي هناك ساحة صغيرة يحيطها مطبخ و غرفة لغسل الملابس ومكوى ومستودعات كبيرة مطلية بالكلس، وجنوبي هذه البنايات توجد غرفة الطعام والاجتماعات، ومخزن الأواني الخزفية والمؤن وأحواض مياه أخرى ومصنع للأواني الخزفية مع فرنين، أحدهما يستخدم للأواني غير المستعملة لكل يوم فستخر للجرار الكبيرة، بعد غسل الفخار في حوض، كان يوضع في حفرة دائرية فيها دولاب يدور بحركة الرجلين فتشكل الأواني الفخارية بقوالبها المختلفة ثم يوضع في الفرن لجعله صلبا، وبالقرب من الأفران بئر شق على اثر زلزال حدث عام 31ق.م.
ويحيط الجانب الشرقي سور من الحجارة يفصل المباني عن المقبرة، التي تقع على مسافة 50مترا شرقي الدير باتجاه البحر الميت، وتحوي 1100 قبرا للذكور لم تتجاوز أعمارهم الأربعين، وبين القبور ممرات مستقيمة، وكل قبر موضوع نحو الاتجاه الشمالي الجنوبي، وكان يدفن الميت على ظهره في حفرة يبلغ عمقها مترا واحدا، وللتدليل على القبر يوضع فوقه حجر على شكل بيضوي، يرمز إلى حضور الإله المتعالي الواحد-كما يذكر حزبون.
والى الشرق منها تقع مقبرة أخرى تحوي قبور غير منسقة نبش فيها عظام سبعة نساء وطفلين واكتشفت مقابر أخرى إحداها شمالي دير قمران وجد فيها عظام للنساء والرجال.
وعن ملاحظة وجود مقابر للنساء، رغم أن طائفة الاسينين الذين كانوا يعيشون في قمران لم يكونوا يتزوجون، يرى البعض أن ذلك يدل انه ربما عاشت بجوار الجماعة الرئيسية، جماعات أسينية أخرى كانت تمارس الزواج.
وهناك أيضا في الجهة الغربية بئر ماء ومطحنة وإسطبل له معالف تكفي لثمانية حيوانات، وفرن للخبز، واثنان من صهاريج المياه، أحدهما دائري تصلهما المياه عن طريق سد مبني في وادي قمران مرتبط بقنوات واقنية تصل كل الآبار.

مدينة المخطوطات
أنتج الاسينيون، الذين سكنوا قمران، المخطوطات التي اكتشفت فيما بعد وبعد ألفي عام، واعتبرت من أروع المكتشفات الحديثة التي يمكن أن تعيد كتابة التاريخ وتلقي اضواءا كاشفة على الميثولوجية الدينية.
ومن بين المخطوطات المكتشفة:
*كتاب النبي اشعيا: نشرته المدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية عام 1950، وكان مكتوبا بخط عبري قديم على رق طوله سبعة أمتار وأربعة وثلاثين سنتيمترا.
*تفسير حبقوق، وهو أحد أنبياء اليهود، والتعليق عليه والذي يتحدث عن الفواجع التي ستحل بالجيل الأخير الذي سيشهد نهاية العالم.
*كتاب النظام: وهو يمثل عقائد طائفة من اليهود فيها معاني التضحية وحب المساعدة.
*حرب أبناء النور مع أبناء الظلام: وفي هذا المخطوط ما وجد من تشابه بين صفات معلم الخير أو معلم الصلاح المختار من الله مخلصا للعالم ووقوفه في وجه الكهنة، وبين السيد المسيح (عليه السلام) الذي واجه اليهود والرومان.
*مخطوط لامك والد النبي نوح: وهو مكتوب باللغة الآرامية ويتضمن تعليمات لإدارة الحروب بين أسباط لاوي ويهوذا وبنيامين المدعوين بأبناء النور والايدومين والمؤابين والعمونين والفلسطينيين والإغريق المدعوين بأبناء الظلام.
*مزامير التسبيح والشكران: وتبلغ عشرين مزمورا وتشبه مزامير العهد القديم.
*قطع أخرى من أسفار متنوعة وشملت كتب (الابوكريفا) ويقصد بها كتب التوراة التي رفضتها الكنائس المسيحية لعدم صحتها كما اعتقدت هذه الكنائس (تسمى الأسفار غير القانونية)، وكتابات أخرى تتعلق بمذاهب سكان قمران من الاسينين الذين عاشوا، حسب تاريخ المخطوطات من القرن الثاني قبل الميلاد حتى عام 70م، ومن هنا أهمية الكشف عن مخطوطاتهم ومحتوياتها، ولأنها أقدم بألف عام من أقدم مخطوط للعهد القديم المعروف ألان بالإضافة إلى اختلافها عنه، باستثناء ما يعتبره السامريون المقيمون فوق جبل جرزيم في نابلس أقدم مخطوط للتوراة لديهم وهو مخالف على أية حال للعهد القديم المعروف والمتداول.
*الوثيقة الدمشقية: وسميت بذلك لان محتوياتها تشبه محتويات وثيقة دمشق التي عثر عليها في كنيس يهودي بالجيزة قرب القاهرة، وهي خاصة بجماعة تعتقد بان الله أرسل أليها معلم الحق ليخلصهم من ذنوبهم فخرجوا إلى دمشق وسموا أنفسهم أبناء العهد الجديد.

صراع وعلم

بعد أن اكتشف الصبيان المخطوطات الأولى في قمران، بدأت جهود حكومية أردنية للبحث في تلك المنطقة، ومعها بدا ما يعرف باسم تهريب المخطوطات، حيث سعت إسرائيل منذ البداية للحصول عليها.
نجحت بالفعل في شراء بعض هذه المخطوطات، وعندما انتصرت في حزيران 1967، كان احد أهداف الجيش الإسرائيلي الوصول إلى المتحف الفلسطيني في القدس الشرقية المعروف باسم (متحف روكفلر) حيث توجد المخطوطات، وتم نقلها إلى متحف الكتاب في القدس الغربية، حيث اشرف على دراستها السياسي والباحث يغئال يادين.
وتتهم اوساط علمية كثيرة إسرائيل بعدم الكشف عن محتويات جميع المخطوطات، لان من شان هذا الكشف أن يهدد الركائز الراسخة حول تاريخ اليهودية.
والواقع أن الخلاف ليس فقط بين إسرائيل وعلماء أجانب ولكن أيضا بين الباحثين والعلماء الإسأيضا كانتنفسهم، الذين اتهم بعضهم حكومته باستغلال المخطوطات لأهداف سياسية ودينية.
ورغم هذا الجدل فان المخطوطات المكتشفة جعلت من قمران أسطورة حية على مدى الأجيال.

ولم تكن قمران والبرية المحيطة بها فقط المكان الذي اختزن كل تلك الثروة من المخطوطات، بل أيضا كانت بحيواناتها وطيورها، مجالا حيويا للباحثين البيئيين لإجراء بحوثهم.
ولا يعرف ماذا تختزن قمران ومنطقة البحر الميت من أسرار لم تكتشف حتى الان

نشرت في تاريخ