• Default
  • Title
  • Date
الأربعاء, 21 تشرين2/نوفمبر 2012 05:54

المندائيون لا يعرفون التَّيَمُّمَ

بعد نيسان (أبريل) 2003 نزلت فتاوى بالبصرة على رأس الصَّابئة المندائيين، أصدروها مَن هم حديثو العهدٍ باعتمار العِمامة، وأقصد أنهم لم يطلعوا بعد على أحكام دينهم، فنحن في زمن العِمامة صارت زياً بديلاً عن أزياء كثيرة تحكمت بالعراقيين وزالت، والأيام في تداول. لا أقصد العِمامة الملفوفة فوق الرأس، إنما الملفوفة حول أنياط الفؤاد، إنه التَّدين السِّياسي، الذي يدعي صاحبه أنه مكلف بواجب شرعي يمارسه في الحكم والمعارضة، وعندما يقول «واجب شرعي» يعني أنه مكلف مِن الله، وبالتالي هو ظل الله الماشي على الأرض والمتوج بتكليفه.
‎ تطور اضطهاد المندائيين، مِن فتاوى القتل والتَّهجير واستغلال ضعف هذه الطَّائفة الأصيلة في تاريخ العِراق وتاريخ جنوبه بالذات، إلى منعهم مِن الماء، وهو وسيلة عبادتهم، مع أنهم يشيرون بأيدهم إلى الله نفسه، الذي يعبده محافظ البصرة ومانعو الماء عن حوض منديهم (معبدهم)، والمندي مفردة منحوتةٌ مِن لغتهم الآرامية الدَّينية، وتعني العقل أو المعرفة. بمعنى آخر هو مكان العقل ومحل المعرفة، ومعرفة مَن؟! معرفة ال له، لذا عُرفوا بالمندائيين أي العارفين بالله، والله واحد لكن اختلفت طرق عبادته، وهو قد أراد وأوجب اختلاف الطرائق. فليعلم مانع الماء على المندائيين بالبصرة، وهم أهلها قبل أن يحل أجداده فيها، أنهم يعبدون الله الذي يعبده هو أيضاً، على شاطئ النَّهر.
‎ شاهدهم، أو سمع عنهم، النَّديم (ت 438 هـ)، فذكرهم في كتابه «الفهرست»، بمغتسلة البطائح. يعني قبل ألف عام ويزيد شوهدَ الصَّابئة المندائيون يتعمدون في ماء الأهوار، فمَن له الحق بعد كل تلك العشِرة مع المكان مِن منع عبادتهم. يبدو أن مجلس محافظة البصرة، والمتنفذون هناك، أخطأوا طريق الجنة، فهو لا يمر عبر اضطهاد هذه الطَّائفة، التي تُحرم القتل ولو دفاعاً عن النَّفس، ورايتهم، قبل أن يعرف العالم مجالس السِّلم ومصطلح السَّلام العالمي، هي الرَّاية البيضاء، وليس: «شيشلام ربه» لديهم سوى ملاك السَّلام.

‎ أطالب آل بحر العلوم، وهم مِن وجهاء النَّجف، ولهم وجاهة عند سلطات اليوم، وأخص بالذكر السَّيد محمد بحر العلوم، ألا ينسى الصَّداقة بين والده السيِّد علي (ت 1962) والشَّيخ الصَّابئي المندائي عنيسي الفياض، أليس والده هو القائل، وهذا ما سمعته مِن بحر العلو م نفسه:


‎بيني وبين أبي بشير صداقة/ تبقى مدى الأيام والأحقابِ
‎أني لأرجو الودَ يبقى بيننا/ ‎ كودادِ سيدنا الرَّضي والصَّابي


‎ مَن مِن رؤساء البصرة اليوم أشرف مِن الشَّريف محمد الحسين الرَّضي (ت 406 هـ)، وكانت صداقته مع الصَّابئي الكاتب والأديب أبي إسحاق إبراهيم بن هلال (ت384هـ) مشهورة. أليس هناك خشية مِن هذا التَّاريخ، تدعون أنكم كنتم مظلومين فكيف يتسنى لكم ظلم آخرين، ولو كان للمندائيين سيوف مشهورة ما حال بينهم وبين الماء أحد، لكنهم، مثلما وصفناهم سابقاً مثل طيور الماء لا تجد بينها كاسراً.
‎ إذا ضاق الماء على المسلم رفع التُّراب وتيمم، ومع ذلك قيل: «إذا حَضَر الماءْ بَطلَ التَّيمُّم»(التِّكريتي، الأمثال البغدادية المُقارنة)، ولا أظن أن البصري في تاريخه اضطر إلى التَّيمُّم، أو أذن لصلاة الاستسقاء، لكثرة الماء. أما المندائيون فلا يعرفون التَّيمُّمَ، ومنع الماء عنهم لا يعني سوى الاعتداء على دينهم وقتلهم.

نشرت في تاريخ
الإثنين, 19 تشرين2/نوفمبر 2012 22:59

البرديصانية فرقة غنوصية وليست مندائية

كانت الشعوب في غرب اسيا, من الهند حتى الأناضول ومصر قد شهدت قبل ألفي عام صراعات شتى. كانت الحضارات القديمة في ما بين النهرين والى الغرب منها حتى مصر تخلي السبيل امام وافدات حضارية جديدة تصدرها الاغريق والرومان والفرس. وكانت هذه الحضارات تتصارع فيما بينها بالسلاح والفكر والأديان والتقاليد . كانت معتقدات الأقوام وتصوراتهم عن الكون والخلق والإنسان تعاني من البلبلة والتغيرات في كل جانب. لم يكن ثمة من خلاص في كل جانب من جوانب الحياة. لذلك كان طبيعيا ان تنبثق في غمرة هذا الاضطراب أديان ومعتقدات وأفكار ونظم سياسية شتى. وصار يجري الحديث عن مخلصين وعن سبل يصطنعونها للخلاص . وتغدو الأديان في هذه الحال السبيل الأيسر والأفضل للخلاص مما كان يكابده الناس من صنوف العذابات والروح التي لم تعد أوضاعهم السياسية والاجتماعية قد أبقت على اي امل فيها , صار البحث يجري عن مسرات لها في عالم اخر تصنع له اخيلتهم أشكالا مختلفة. وشاعت لهذا الاخلاق الرواقية. أخلاق الدعة والرضا والسكينة والتسليم. 

كان من بين ما أفرزته هذه الحقبة: المسيحية بمذاهبها العديدة والغنوصية باطيافها المختلفة والزرادشتية وألوان اخرى غامضة من الأديان والمعتقدات. ولان تدوين الأفكار لم يكن يجري بيسر آنذاك . اضطربت الصورة كثيرا حتى لم يعد من السهل التمييز فيما بينها . وتحديد ما هو الأسبق ومن تأثر بمن . ومن نادى بهذا ومن دعا الى ذاك . في غمرة هذا الاضطراب ولدت المندائية . كيف ومتى وفي اي مكان بشر بها اولا ، كل هذه وغيرها من الجوانب الروحية والاجتماعية باتت غامضة الان ولا سبيل مجد للعثور على بدايات هنا ، والى القطع في هذا ال جانب او ذاك . وان كان كبار من درس المندائية يذهب الى انها ظهرت قبل المسيحية بقليل.[1] 
من بين ما أفرزته هذه الحقبة من ظواهر اجتماعية كانت الغنوصية. لن يكون من المجدي البحث عمن نادى بها اولا وأين وكيف فلن تحظى هذه التساؤلات باجابات شافية . وقد انصرف الى البحث في هذه الظاهرة الاجتماعية كثيرون دون ان يقطعوا فيها بشي. فمنهم من أرجعها الى ما قبل المسيحية ، ومنهم من عدها انعكاسات اجتماعية لهذه المسيحية. ومنهم من حصرها في اطار الدعوة المسيحية وما تولد عنها من صراعات مذهبية ،وغيرهم عدها من الانعكاسات الاجتماعية التي ولدها تدهور اليهودية الرسمية. وزاد في الامر تعقيدا ان اختفى كثير مما خلفه دعاتها بفعل الاضطهادات الكنسية التي ساندتها الامبراطورية الرومانية بعدان تبنتها رسميا. وما كتب عنها جاء في الأعم منه بعد ازدهار فرقها بازمان طويلة وفي اطار الرد عليها من جانب الآباء المسيحين او فلاسفة الافلاطونية المحدثة و بتحامل ملحوظ. 
ان الغنوصية ، باختصار، تجيب على تساؤلات الانسان الحائر: من كنا وماذا اصبحنا وأين كنا. وأين القي بنا والى اين نحن سائرون ومن اي شيئ يجري تخليصها وكيف وما هو الميلاد وما هو البعث ومن اين تولدت الشرور ومن ولدها. والغنوصية بألوانها المختلفة تزدري العالم الذي تعيش فيه ، وترى انه مصدر الشرور، والخلاص منه يتم عبر وسيط سماوي يهبط الى العالم لإرشاد النخبة. والطرق التي ترسمها لخلاص البشر تتباين في تلاوينها. 
كان من اسباب انحسار الغنوصية واندثار معظم فرقها الاحتراب الذي دخلته فرقها فيما بينها. ولان هذه الفرق انبثقت في مواطن عديدة من العالم القديم حملت تبايناتها المحلية التي تولدت عن معتقدات وأوضاع هذه المواطن وكانت هذه التباينات تغذي الاحتراب وتوفر للسلطات الحاكمة، الرومانية والفارسية الذرائع لاضطهادها، وخلفها في هذا الاضطهاد من ورث هذه السلطات. 
المندائية كانت واحدة من هذه الفرق الغنوصية أثرت ان تنزوي أخير في بطائح ميسان حيث لا سبيل الى ملاحقتها ، مثلما انزوت فرق اخرى هناك. من اين تلقت اولا أفكارها الدينية ؟ امر يشوبه كثير من الغموض. ولا يوضح احد كتبها( حران كويتة) الذي يمس تاريخها مسا خفيفا ، الكثير في هذا الشان. وبات الحديث هنا يقرب من الحدس . والشواهد التي يزودها كتابها الاساسي ( الكنزا ربا) عن الأدوات التي كانت. تستخدمها والمواد المصنوعة منها كالحديد وغيره ، والشواهد الاخرى التي تدور حول الخصومات الدينية التي كانت تدخلها ، لا تؤكد انها طائفة قد اوغلت في القدم كثيراً. في المقابل ثمة شواهد تدل على انها كانت تنتشر خارج بطائح ميسان في بعض الأوقات. ولأن الطائفة اعتمدت الذاكرة في الأساس للاحتفاظ بأدبها الديني ، شاب هذا الادب شيء من الاضطراب والخلط والتحوير احيانا ، شان الأديان الاخرى . 
في احد الكراريس التي خلفها اتباع ماني منذ القرن الرابع (وربما الخامس الميلادي) يشار بوضوح تام الى ان ماني كان يعيش مع والده فاتك (وهو فارسي الاصل وكان قد اعتنق المندائية وعاش بينهم هو وزوجته في ميسان مع الطائفة المندائية). يشار في هذا الكراس أيضاً الى ان رئيس الصابئة المندائيين كان يدعى (الخسايي او الحسح كما يدعوه ابن النديم في الفهرست ) لكن الكراس المانوي هذا لا يوضح لنا امر الخسايي هذا اين ومتى اصبح رئيساً للطائفة . الا ان المصادر المسيحية رغم عدم دقتها وتشوشها تشير الى ان الخسايي هذا وجد عند البحر الميت وانه كان يدعو الطائفة الى التعميد و يشدد على ذلك, ان تطهر أوانيها وكل ما تأكله بالماء الجاري . 
من بين ما تذكره المصادر المسيحية ان الذي حمل راية الغنوصية في مصر وفلسطين كان يدعي والنطس (فالنتينوس) في منتصف القرن الثاني الميلادي (136-155) م في الوقت الذي كان فيه مرقيون يدعو الى غنوصيته فيما بين النهرين اساسا في الفترة ذاتها (140-150 ). بيد ان انشط الدعوات الى الغنوصية نهض بها ما يدعى بر ديصان فيما بين النهرين وهو ما ستتوقف عنده بالتحديد لان (الكنزا ) تشير اليه. 
ولد بر ديصان في مدينة الرها في شمال ما بين النهرين في 154 م وتوفي في أرمينيا عام 222م وسمي بر ديصان نسبة الى نهر ديصان الذي يمر بمدينة الرها في جنوب الأناضول ( وتدعى المدينة باسم أورفا ألان) كتب عنه كثير من المسيحيين والمؤرخين الإسلاميين إذ كتب عنه افرام السرياني وتيودور برخوناي وابن العبري وإيرنياوس. كذلك كتب عنه ابن النديم في الفهرست، والشهرستاني في الملل والنحل، وابن حزم الأندلسي في الملل والأهواء والنحل. ولما كان بر ديصان شاعرا مبدعا بالسريانية ذاع صيته كثيرا وقد وضع أوزان الشعر السرياني ونظم الأناشيد الحارة التي كان يترنم بها الشباب دفاعا عن المسيحية. 
ولد وثنيا ثم تنصر، وحارب مرقيون، الا انه مال بعد ذلك الى والنطس. ثم رفض أفكار الوالنطية وصار يبشر بأفكاره الخاصة التي شاعت كثيرا بفعل فصاحته وشعره. وتعرض بسب ذلك الى خصومة الكثيرين, لا سيما من بين الكتاب ورجال الدين المسحيين. يقول ابن النديم ان لابن ديصان كتب عديدة في النور والظلمة وروحانية الحق وكتاب المتحرك والجماد. وله أيضاً كتاب شرائع البلدان وكتاب القدر. 
يذهب الشهرستاني في الملل والنحل "الى ان اصحاب ديصان اثبتوا أصلين نورا وظلاما. فالنور يفعل الخير قصدا واختيارا, والظلام يفعل الشر طبعا واضطرارا .....فما كان من خير ونفع وطيب وحسن فمن النور، وما كان من شر وضرر ونتن وقبح فمن الظلام. وقال بعضهم ان النور انما دخل (اجزاء ) الظلام اختيارا ليصلحها ويستخرج منها اجزاء صالحة لعالمه فلما دخل تشبث به زماناً فصار يفعل الجور والقبح أضراراً لا اختياراً ، ولو انفرد في عالمه ما كان يحصل منه الا الخير المحض والحسن البحت وفرق بين الفعل الاضطراري وبين الفعل الاختياري ".[2] 
ويقول ابن النديم في الفهرست " ان الديصانية فرقتان: فرقة زعمت ان النور خالط الظلمة باختيار منه ليصلحها فلما حصل فيها ورام الخروج عنها امتنع ذلك عليه, وفرقة زعمت ان النور أراد ان يرفع الظلمة عنه لما احس بخشونتها ونتنها شابكها بغيراختياره. مثال ذلك ان الانسان اذا أراد ان يرفع عنه شيئا ذا شضايا محددة ,دخلت فيه فكلما دفعها أزدادت ولوجا فيه "[3] ولعل ما أورده الشهرستاني وابن النديم يذكرنا بأسطورة ابثاهيل ونزوله الى العالم الأسفل وصراعه مع آلهة الظلام في المندائية) يرد ذكر بر ديصان في (الكنزا ربا) (الكتاب السادس صفحة 203 من الطبعة الأسترالية في كتاب دنانوخت). 
يقول دنا نوخت " أنا فقيه الدين الحكيم ودواة كتاب الآلهة والقوي والفخور والمترفع الذي ليس له سيد في بيته ولا يحتوي ملكه او قصوره الشامخة او دوره السفلى على من هو اكبر منه سنا .ان كتبي هذه مفتوحة على راحتي في حين سفر تذكار اخبار الايام يثقل على ساعدي" (الاشارة هنا ترد الى كتاب سفر تذكرة في كتاب ملاخي، الإصحاح الثالث من العهد القديم والأصحاح السادس من أستير ومواقع اخرى في العهد القديم). 
يصف دنا نوخت كتاب ديصاي الذي كان يتصفحه بالصغير الا ان أقواله كبيرة تتدفق من الكلمات تعبيرا عن بلاغته. يفهم من هذا ان رجل الدين المندائيي اخذ بشاعرية برديصان المتدفقة,ولا عجب في ذلك اذ اشتهر هذ الداعية الأغنوصي بالبلاغة الأخاذة التي كانت قد اكسبته شهرة واسعة لاسيما بين الشباب الذي كان يترنم بشعره. الا ان دنانوخت الرجل الوقور سرعان ما يتدارك نفسه فيرمي بالكتاب الى النار. لكن دون ان يمحو هذا من تأثره به فيعاود قراءته وسرعان ما يعجب به ثانية. وللمرة الثانية ينتفض ويقذف بالكتاب الى الماء ويعود الى رشده والى ما آمن به. 
ان كتاب دنانوخت هذا يؤكد المعلومة التي قيلت ان الديصانية قد أوجدت لها اتباعا بين صابئة بطائح ميسان بعض الوقت .على أية حال يشير المؤرخون الذين تناولوا الحديث عن هذه الفرقة الغنوصية ان آثارها قد انمحت في القرن الخامس الميلادي بتأثير الحملة التي شنها اتباع ماني عليها. 
أخيرا نقول ان دعوة بر ديصان كانت هي الأقرب الى المندائية الا انها لم تكن مندائية خالصة وانتهى أمرها بعد حين في الوقت الذي اتسع شان المانوية وامتد كثيرا حتى وجدت اتباعا لها في غرب الصين شرقا وشرق أوربا في الغرب وعاشت حتي القرن الثالث عشر الميلادي بينما عاشت المندائية حتى الان . 
مصادر البحث
1. ابن النديم , الفهرست , طبعة دار المعرفة , بيروت 1997
2. الشهرستاني , كتاب الملل والنحل، مكتبة الأنجلو المصرية , القاهرة , الطبعة الثانية 
3. يوسف رزق الله غنيمة , بر ديصان وبدعته, مجلة المشرق , بيروت ,1920
4. الكنزا ربا. منشورات الماء الحي, سدني. استراليا الطبعة الثانية. كانون اول. 2000ميلادي 
[1] للإفادة هنا نذكر ان المؤرخ اليهودي يوسيفوس ولد في عام 38 م وتوفي في بداية القرن الثاني اي قيل ولادة بر ديصان ،وانه الف كتابيه "حروب اليهود " "والعصور القديمة " في نهاية القرن الاول الميلادي
[2] صفحة 230-231
[3] 412صفحة

نشرت في تاريخ

يعتبر البروفيسور كورت رودولف من أبرز العلماء الألمان الذين اهتموا بتاريخ الأديان وفلسفتها, وهو حجة في موضوع الغنوصية. درّس في جامعات أميركية عدة وشغل منصب بروفيسور في جامعة فيليبس في مدينة ماربورغ الألمانية قبل تقاعده. من أهم أعماله كتابه الشهير "الغنوصية: طبيعة وتاريخ الغنوصية" (الترجمة الانكليزية 1987), وكتاب "المندائيون" (بالألمانية 1960-1961 في مجلدين), وكتاب آخر بالانكليزية عن المندائيين (لايدن 1978), كما ترجم أحد كتبهم الدينية "ديوان نهرواثا" (أي ديوان الأنهر, برلين 1982). وهو عضو فخري مدى الحياة في الاتحاد الدولي لتاريخ الأديان. وهنا حوار أجري معه على هامش أحد المؤتمرات المتخصصة.

هل تحدثنا عن أصل الصابئة المندائيين في سياق وجود نظرتين الى هذا الشأن؟

- كان هناك بعض المستشرقين الأوروبيين في القرن التاسع عشر, ومن بينهم الألمان, يعتقدون بأن أصل الصابئة هو المشرق, إذ رأوا أن كثيراً من الأمور يمكن تفسيرها من خلال الأصول البابلية. ولاحقاً, بعد ترجمة ليدزبارسكي للنصوص المندائية الى اللغة الألمانية, تغيّر رأي المستشرقين وعلماء الأديان والمؤرخين. فهناك مؤشرات في النصوص المندائية تقول انهم قدموا من الغرب, أي فلسطين وسورية. لأن هناك نصوصاً تشير الى أن المندائيين الأوائل تعرضوا لاضطهاد اليهود, الأرثوذوكس منهم على وجه الخصوص, فتركوا سورية وفلسطين لاحقاً وتوجهوا عبر تلال الجزء الشمالي من وادي الرافدين الى الجزء الجنوبي منه, ربما في رحلة استغرقت نحو 100 عام وبدأت في القرن الأول الميلادي قبل أن يصلوا الى جنوبي وادي الرافدين في القرن الثاني. بالتأكيد قد يكون هناك أفراد من بابل أو جنوب وادي الرافدين ممن اعتنقوا المندائية, لكن لا بد أنه كان هناك أشخاص آخرون على معرفة بالطقوس والتعميد قدموا من الغرب. وأعتقد بأننا لا نستطيع تفسير كل ما يتعلق بالمندائيين من ميثولوجيا وثيولوجيا وأيديولوجيا وغيرها إستناداً الى أواني الأدعية وحدها. لكنها نظرية أو فرضية, ومن المحتمل أن يكون أمر الهجرة ابتكر لاحقاً. لكني إذا اقتنعت بذلك, فسأقبله.

هل هناك أدلة أثرية أو تأريخية ملموسة تشير إلى مثل هذه الهجرة؟

- الأدلة الأثرية المندائية المعروفة هي أواني الأدعية فقط, التي عثر عليها في بدايات حملات التنقيب في المدن السومرية والبابلية. وهناك مئات الأواني مكتوبة بالخط المندائي, وأقدمها يعود الى القرن الثالث.

لكن المعروف أن الأحراز الرصاصية هي الأقدم!

- هذا صحيح, وهي أقدم الأدلة على النصوص المندائية المعروفة وتعود الى القرن الثالث.

وهذه وجدت في الشرق حيث يعيشون الآن, لكن لم يعثر على شيء من هذا القبيل على طول خط الهجرة المفترضة من فلسطين الى جنوبي وادي الرافدين.

- هذا صحيح أيضاً, على رغم أن مستشرقاً يهودياً تحدث عن ألواح رصاصية, لكنهم إبتاعوها في اسرائيل ولم يعثروا عليها هناك, بل هي منقولة من وادي الرافدين.

وهل هناك إشارات في كتب المؤرخين القدماء مثل يوزفوس فلافيوس الى ما يرجح حصول مثل هذه الهجرة؟

- أحد أشهر النصوص المندائية الذي يتحدث عن هذه الهجرة هو "هران جويثا" (حران الداخلية, الجوانية) وحران هي مدينة في شمال وادي الرافدين تقع اليوم في تركيا. بداية النص مفقودة, وتبدأ بذهاب المندائيين الى التلال بقيادة ملك يدعى أردبان, وهو بلا شك أحد الملوك الفرثيين, ولعله أرتبان الرابع. وهذا يؤكد أن المندائيين هاجروا في القرن الأول ولم يضطهدهم الملوك الفرثيون, على نقيض الملوك الساسانيين الذين حكموا بعدهم. ونجد في شهادة كارثير رئيس الكهنة الزرادشتيين المكتوبة على الصخر تعبير "المغتسلة" وكذلك إسم الناصوريين. لكن الاسم قد لا يخص المندائيين, فهو يعني المسيحيين أيضاً.

ذكرت الناصوريين قبل قليل, ونعرف أن هناك عدداً من الطوائف سكنت شرقي الاردن وحملت أسماء مشابهة, ألا يُحتمل أن تكون هذه الأسماء تسميات مختلفة لطائفة واحدة, المندائيين مثلاً؟

- هذا صحيح في شكل جزئي فقط. فالاسم يعني المراقبين, ونُسبت الكلمة في السابق الى الناصرة التي هي محل ولادة السيد المسيح, لكن الأمر غير واضح, فليس لدينا أدلة بأن الناصرة كانت موجودة في الأزمنة القديمة. لذلك يجب أن يرتبط اسم الناصورايي والنازاريين والنوصريم وغيرهم بتصرف خاص لمجموعة من الناس. لكننا غير متأكدين من الأمر, فهذه الأسماء أطلقها أجانب على هذه الطوائف, عدا المندائيين فهم يستعملون الناصورايي كإسم خاص بهم.

بالنسبة إليّ, هناك بعض التشابه بين المندائيين والقمرانيين من ناحية الأفكار, وحتى التسميات. ومن المثير وجود بعض المتوازيات بين المندائية والقمرانية, مثل الاصطفاء, كذلك التشابه في طريقة دفن الموتى والاغتسال والتقويم القمراني الشمسي الذي يختلف عن التقويم اليهودي الرسمي؟

- قد يكون ذلك بالدرجة الرئيسة بسبب الاغتسال, وهو من الطقوس الجوهرية. ومن المحتمل وجود طوائف أخرى لها طقوس مشابهة مثل الكسائيين والأسينيين. أعتقد بأن ذلك كان جزءاً من حركة أسميها الحركة المعمدانية التي لها علاقة جزئية باليهود غير الأرثوذوكس. فهناك تأثيرات لبعض الأفكار اليهودية التي نعرفها من العهد القديم, لكن من جانب آخر نلمس تأثير الأفكار الزرادشتية. ويذكرني التقويم المندائي بالتقويم الزرادشتي الذي يختتم العام بفترة خمسة أيام (ما يقابل البنجة وهو عيد الخليقة عند الصابئة المندائيين).

البروفيسور رودولف اشتهر بدراساته عن الغنوصية, فما هي الغنوصية؟

- الغنوصية لها علاقة بالمعرفة الخاصة بأصل النفس البشرية وبكيفية عودة النفس الى عالم النور. ولدينا شهادات عدة من الأقباط وهراطقة مسيحيين تتحدث عن جماعات تأثرت بهذه الأفكار تعود الى القرن الأول الميلادي, وربما كانت موجودة في فترات أقدم, لكن بالتأكيد عاشت هذه الجماعات عصرها الذهبي في القرنين الثاني والثالث الميلاديين. والفكر خليط من أفكار مسيحية ويهودية وإغريقية, خليط من أفكار الحركات التي كانت موجودة في أواخر العصور القديمة. فالثقافة اليونانية الغربية تمازجت بالمصرية الشرقية. هذه الجماعات عاشت في مناطق متفرقة, وليست متوحدة يقودها كاهن أعلى أو أسقف بتنظيم صارم كالبابوية لدى الكاثوليك, بل كانت مجاميع مختلفة عاشت في أماكن متفرقة. المندائيون أقاموا في الشرق لكن ليس في المدن الكبيرة بل في الريف, وعاشوا في الأهوار والبطائح التي هي جزء من وادي الرافدين, حيث عاش الهراطقة أيضاً في فترة الحكم الاسلامي بحسب ما نعلم من المؤرخين المسلمين. والمندائيون ليسوا نساكاً لأنهم يتزوجون وينجبون الأطفال على نقيض كثير من الغنوصيين الآخرين الذين حُرّم عليهم الزواج. وعلى رغم وجود آراء عن الزهد في النصوص المندائية, لكنها ليست ذات ثقل كبير.

هناك إشكالية لا تزال عصية على الحل, وهي علاقة صابئة البطائح بصابئة حران؟

- أعتقد بأن صابئة حران لا يرتبطون بالمندائيين في شكل وثيق, فهم جماعة مختلفة. وأعتقد بأن المندائيين استعملوا تسمية الصابئة وتقبلوها. فإبن النديم يتحدث عن صابئة الأهوار (البطائح).

تحدث إبن النديم في أحد الفصول عن الصابئة وعرض لأفكارهم وتقاليدهم التي نعرفها إلى اليوم, غير أنه عاد في الفصل اللاحق فتحدث عن صابئة حران وسرد قصة أيشع القطيعي وواقعتهم مع المأمون؟

- إبن النديم كان يعرف المندائيين. ولا نعلم عن وجود عادات وطقوس مماثلة للطقوس المندائية في حران. إن الأمر لا يعدو أكثر من التشابه "الفلســفي".

نشرت في تاريخ
الصفحة 7 من 7