• Default
  • Title
  • Date
الإثنين, 01 نيسان/أبريل 2013 20:08

الأيام الخمسة البيضاء ( البارونايا )

الأيام الخمسة البيضاء ( البارونايا )

 

د. غسان صباح النصار

 

بتاريخ 17/3 ميلادي 2009 الموافق 1 كبيسة (بارونايا) 2015 يوهاني ، من هذا العام تمر علينا مناسبة مباركة ، وهي بداية (البارونايا) بأيامها النورانية الخمسة وهي ذكرى خلق عوالم النور (آلمي دنهورا) وتجلّي عظمة الخالق (م) في خلقه (بداية الخليقة العلوية) .وهي نور لا يشاطره ظلام ، ونهار لا يقاسمه ليل ،ولذلك تجدنا نصلي صلاة الصبح (قوم قوم بهيري زدقا...الخ) في كل أوقات اليوم ولو كان ليلا ،ابتهاجا ً بالنور الذي تجلى على العوالم في هذه الأيام .

ولكوننا أبناء النور وهو منبع عقيدتنا المندائية فأنها تعتبر أقدسُ مناسبة دينية. وعملية الخلق موضحة في كَنزا ربّا ، الأسرار/ القسم الأيمن/ سِفرُ الخليقة ، وفيه يتحدث هذا السِفرُ المجيد متفرداً ًبالقول ، سارداً أسرار البداية ، بأن ما يشابه الانفجار العظيم جعلَ العالم ينبثقُ ويتوسعٌ من الثمرة الأولى :

? باسم الحي العظيم..الأغنى والأسمى

هذا هو السّرُّ.

هو الكتاب الأولُ لتعاليم الحي الأزلي

الذي لا بداية له.

الثمر داخل الثمر. والأثير داخل الأثير ?.

 

كما تقرأون فأن الحي أزلي سرمدي لا بداية له ، هو الخالق ، والخليقة النورانية التي بدأت هنا هي عوالم النور السامية (آلمي دنهورا) ..بدأت كأنها ثمرة واحدة أو كيان متوهجُ واحد ، وحين بدأت تنبض بالحياة بدأ توسعها العظيم وانفجارها في السديم ، لتتولد من الحياة والأفلاك والعوالم:

? ثمارٌ لا حدود لها ، وربواتٌ لا عدد لها ، طلعت من الثمر العظيم الذي لا حدَّ لهُ.. مسبّحةٌ للوعاء العظيمِ ذي الوقار، الحالّ بالأثير العظيم?.

ومن هذا التوسع المنقطع النظير كان (أثير الضياء العظيم) ومن الضياء (زيوا) كانتْ (الحرارةُ الحيّة)، ومن الحرارة الحية كان النور ( نهورا ):

? وبأمر ملك النور العظيم ذي الوقار

حلَّ الثمرُ داخل الثمرِ العظيم..

وبأمرهِ سبحانَهُ

كان أثير الضياءِ العظيم

ومن الحرارة الحيَّة كان النّور ?

فكان:

اليوم الأول : انبثاق وتجلّى عظمةُ (ربا إيلايا) وهي صفة القِدم الأزلية السامية التي يتفرد بها الحي العظيم (م.أ).

اليوم الثاني : تتجلّى عظمتهُ في المكان فيكون (مارا إد ربوثة إيليثا) وهي صفة العظمة والسيادة الأبدية التي يتفرد بها الحي العظيم (م.أ) .

لاحظ إنّ في اليومين الأول والثاني كان الانبثاق والتجلي ، أي صار الانتشار في المكان وبداية الحدث والفعل والزمن ..إنها الكينونة الأولى ..وهنا كأنه يتحدث عن الضياء(زيوا) العظيم الذي حلّ بالأثير العظيم لتتكون الحرارة الحية والتي منها كان النور.

اليوم الثالث: تجسّدتْ المندائية (والمندائية = المعرفة أو العلم) بأعظم صفة للخالق (العارف) بخلق المانا (وهي صفة أعظم من الأثري والملاك) الكبير والعظيم (منداد هيي) ، فكانت المعرفة رأسَ صفات الخالق وتاجاً لمختاريه ، و الاسم الذي تسمى به رسالة النور (المندائية) . 

اليوم الرابع : تتجلّى عظمة مثيل العهد أو الحق (دموث كُشطا) ، أي تجلّي صفتي المثيل (الدموثا) والعهد أو الحق (الكوشطا أو الكُشطا) التي يتفرد بها الحي العظيم(م.أ).

اليوم الخامس: فهو يتميز باكتمال العالم السماوي الأول السامي حيث انبثق (اليردنا السماوي) والذي هو أصل الحياة في عوالم النور ومنه انبثقَتْ (الحياة العظمى) :

? وإذ صارَ يردنا العظيم ، صار الماءُ الحيّ..

الماء المتألق ُ البهيج.

ومن الماء الحي ، نحن الحياةَ صرنا

ثم صار الأثريون?.

والحياة العظمى تتحدث في نصوص ( كَنزا ربّا ) مع مندا هيي (م.أ) ، وكأنها المتحدث باسم الحيّ وقدرته ، رغم إنها مخلوقة منه ولكنها عظيمة وواسعة لأنها تمثل عرشاً لأتساعه وتجليه ،كما أنها مكان ولادة وانبثاق العوالم تباعا (الأول فالثاني فالثالث فالرابع) :

?من يردنا العظيم بدأتْ الحياة، وقوّمتْ نفسها مثيلاً لمانا العظيم الذي منه انبثقَتْ?.

ومن أهم المراسيم التي تُجرى في هذه المناسبة طقس الصباغة المبارك والذي أساسه العهد (الكشطا) ، حيث نُعاهد أنفسنا أن نبدأ حياة جديدة مليئة بالمحبة والتسامح مع بعضنا البعض، وكذلك يُرفعُ طقس الرحمة (اللوفاني) لأحبتنا وذوينا الذين فارقوا الحياة داعيين لهم بغفران الخطايا والذنوب، وكذلك طقس ( القماشي ) ، و تكريز بيت الطين (الشخنثا). ونحن في هذه الأيام نلتزم بواجب الصوم الكبير (حيث الابتعاد عن المعاشرة الزوجية، وصوم جوارحنا عن كل أثم يشين لنفس الإنسان) والالتزام بتناول الأطعمة المندائية الطاهرة المباركة باسم الحي. وواجب على الفرد المندائي منح الصدقة المباركة إلى الفقراء المحتاجين، فهي أيام الدعاء والرجاء والابتهال والصلاة والصيام والصدقة والعمل الصالح والابتعاد عن كل ما يسيء للنفس ، وهناك قبل البنجة ، خمسة أيام مُبطلة ثقيلة ، والتي يجب فيها الالتزام بالصومين الكبير والصغير ويوم واحد بعد البنجة . وكل برونايا وانتم بخير . 

قبل أن أدخلَ في صلبِ الموضوع ، وهو (البشميهنوثة المندائية ) أي (بشميهون إد هيي ربي)، والتي تبدأ بها نصوصنا المباركة ، أرجو ان نتوقف قليلا ًعند مفهوم التوحيد في الفلسفة المندائية ، ذلك المفهوم الذي ذهَبَ الكثيرون ممن لم يدركوه ، أن يتهموا مندائيتنا بالأشراك وعبادة آلهةٍ وصفاتٍ وكواكبٍ من دون الحي العظيم . 

يبدو واضحا لكل مَنْ تبحّرَ أو تأملَ في نصوصنا المندائية ، بل وفي صميم عقيدتنا، أنَّ هناك فلسفةً مندائية ً رائعة ً في التوحيد ، ولنسمِّها ((فلسفة التجسيد)) ، أي تجسيد لصفات الخالق (وليس الخالق ذاتهِ) ، فالنورُ مثلاً صفة ٌ مقدسة ٌ للخالق، وكذلك المعرفة واليردنا وكثيرٌ من أسرار الخليقة . إن الخليقة َ بذاتها هي وليدة الخالق ، والحياة العظمى المخلوقة هي أحدى صفاته ، بل هي تتحدث بصفة الخالق أحياناً كثيرة في نصوص كنزا ربّا الفريدة . كيف يمكن لنا أن نُدركَ - نحنُ البشر – الخالق إلاّ من خلال ِ خليقتهِ ومن خلال مفردات العقل الأنساني المحدودة . 

وكما تعرفون فإنّ المندائية تصفُ الخالقَ بكلِّ الفضائل ، بل أنّ الخالق لا تحّدهُ صفة ٌ ولا يستوعب عظمته مكان أو حدود ( مَن يُسبّحُك تسبيحكَ ،فتسبيحكَ لا يُحَد) ( عُمقُك لا يسبّر وقدرتُكَ لا تُحصَر ) كنزا ربّا ..لذلك كان تسبيحنا لقدرته تسبيحاً له ، وباتت اليردنا والنور والمعرفة والعين والنخلة.... ، كلها مقدسة. 

ولكي أصلُ لمقصدي وبما أسميته ب ( فلسفة التجسيد) ، فلنأخذ مثلاً آخر : حين نستنجد ، ننادي ونقول (( يا منداد هيي )) - مباركٌ إسمُهُ – فأننا بذلك لا نشرك مع الحي ملاكاً أو أُثري ، بل نقصد مناداة الخالق بأعظم صفاته وأسمائه ، حيث أن (مندادهيي) حينما لايأتي مسبوقا بكلمة (ملكا) لا يعني الملاك المبارك المعروف ، ولكن يعني هنا (معرفة ُ الحي) أو (معرفة ُ أو عارف الحياة ) ، ومن يعرف الحياة غير الحي ؟ ،وعليه فالمقصود هنا في دعائنا ورجائنا هو الخالق العظيم ، ولكن بأعظم صفاته وأسمائه ، وكذلك الأمر حين نقول (( يا هيبل زيوا )) أي (يا واهب النور) ، ومن غيره يهب النور والضياء . ويمكنك أن تقيسَ هذا على كلِّ الاسماء المركبةِ والصفات. وهنا بيت القصيد .. أي أن كل المخلوقات من ملائكة وأثريين وجميع الأسماء السرية والمقدسات هي صفاتٌ للخالق وصفة ٌ لقدرتهِ. 

الآن إسمحوا لي أن أعرب ال( بشميهون إد هيي ربي) 

 

بشميهون: الباء حرف ُ جر ، شوم : وتعني( اسم ) وقد حذفت الواو مع إضافة الباء والضمير المتصل لسهولة اللفظ ، الياء : للجمع ، والضمير المتصل (هون) هو للجمع للغائب. أي إن الترجمة الحرفية هي باسمهم (وليس بأسمائه). 

وهنا هو ما يجب التوقف عنده ، وهو ما دفعني لمداخلتي هذه .. فماذا يقصد ب (بسمهم ) ومن هم ؟ ، وهذا ما سأوضحه لاحقاً 

إد: وتأتي أيضا بمعنى إنّ ( وليس بمعنى أل فقط ) / راجع القاموس العبري( قوجمن). 

هيّي : أسم الجلالة , مفرد جاءَ بصفة الجمع للتفخيم والتمجيد والتعظيم ، ويراد به الواحد الذي من نفسه إنبثق ، وأنها لا تعني ( حيوات ) أي جمعاً للحياة . 

ربّي : صفة ُ العظمة ، وجاءتْ بصيغة الجمع لأنها تتبع الموصوف في الإعراب (والذي هو في الأصل مفرداً، هيي ، ولكن جاءَ بصيغةِ الجمع ) لذلك هي صفة للمفرد وليستْ جمعاً ، أي إنها تعني (عظيم) ، ومفردها اللغوي هو ربّا. 

أي إن الترجمة الحرفية للجملة ستكون 

(((بسمِهُم إنَّ الحيَّ عظيمٌ ))) 

وبألاستفادة من المقدمةِ ومفهوم الوحدانية وفلسفة التجسيد يمكننا أن نتجرّأ ونزيدَ خطوة في ترجمة البسملة المندائية (البشميهنوثة) فنقول : 

المقصود هنا ب ( بسمهم ) هو كلّ ما خُلِقَ ، وكلّ الاسماءِ والأسرار التي عرفتها العوالمُ والتي عُلّمَت لآدم وبنيه ، بل وأسماء الملائكة والاثريين والتي هي تجسيد لقدرته ، أي أن العبارة ستكون بعد تأخير الخبر : 

(إنَّ الحيَّ عظيمٌ بصفاتهِ) أو (إنَّ الحيَّ عظيمٌ بقدرته ) 

وهنا نلاحظ إن البسملة المندائية ليست مجرد ذكرٌ للخالق أو التبارك بالابتداء به ، بل إنّها جملة ٌ كاملة ٌ من مبتدأ وخبر ، فيها أعتراف مطلق بالخالق وبكل تفاصيل وخطوات وآليات الخلق وبالنور والمعرفة والحياة العظمى . وأرى إنّهُ جاز لنا القول: (( بأسماءِ الحيّ العظيم )) أو ((بسمُ الحيّ العظيم )) ما دامت تدل على المعنى نفسه والأعتراف بوحدانية وقدرة الخالق ، ولكن يجب أن نعرفَ ونُعرِّف ، إن خلف هذه البسملة التي تكاد ُتتفرد بها المندائية معانٍ ومعالم ، بل عوالمٌ ورموزٌ وصفاتٌ وأسماءٌ وحقائقٌ وقصص. 

 

كما لاننسى أن ننوه بأنَّ هناك عبارة تسبقُ ال ( بشميهون إدهيي ربي ) وتكتبٌ 

((ماريّ مشبّا بلبا دخيا )) ،وتُقرأ: ((مشبّا ماريّ بلبا دخيا)) حرصاً على أن يكون أسم الخالق هو البداية دوماً ، وترجمتها (( مُسبحٌ ربي بقلبٍ نقي)). 

أو عبارة : 

((ماريّ مشبّا كَشطا أسنخون )) وتقرأ (( مشبّا ماريّ كشطا أسنّخون)) 

وتعني : ((مسبّحٌ ربي ، عهدٌ نقطعُهُ )) . 

وبالتأكيد هناك ترجمات أخرى لهاتين العبارتين ، ولكن المعنى واضح وواحد وهو الحرص على أن يبدأ النص بأسم سيدنا وخالقنا (هيي قدمايي ) ناصرُ محبيه . 

أسأل الحي لي ولكم الثبات في الكشطا والهيمنوثا ، وأنْ يهبَنا من نورهِ ويزيدَنا من معرفتهِ وأن يرسمنا بسلامةِ العقل والقلب والضمير. 

الصفحة 4 من 4