• Default
  • Title
  • Date
السبت, 16 شباط/فبراير 2013 02:34

الصابئة و مخطوطات البحر الميت

كثيرة هي الكتب التي كتب فيها أصحابها عن الصابئة المندائيين باعتبارهم أصحاب دين قديم ولغتهم تختلف عن لغة من جاورهم قبل أن تطغى اللغة العربية لتكون لغة الخطاب اليومي ولعدم وجود نصوص مترجمة من كتبنا الدينية أو الحياتية آنذاك لخوف رجال ديننا من اشكاليات لربما كانوا سيقعون فيها لو قام بعض الذين لا يفقهون في الديانة المندائية في عملية الترجمة و نحن في غنى عنها ؛ لذا آثروا السلامة ولم يحاولوا أن يكون لهم هذا الدور الذي يعتبره البعض دورا" سلبيا" جعل الآخرين يتقولون ويتكهنون ويصورون ما طاب لهم ذلك دون أن ينبري من يرد عليهم أو يحاول توضيح الصورة الحقيقة لهذا الدين ؛ فآثروا السلامة على أن ينزلقوا في مهاوي نحن في غنى عنه ،وقد يكون هنلك سبب آخر وهو أن بعض رجال الدين لم يكن لديهم الالمام الكافي باصول ترجمة النصوص الدينية والتي بواسطتها نستطيع أن ندافع عن أنفسنا وعن ديننا وبالتالي عن وجودنا وبذلك نستطيع أن نقطع الشك باليقين ؛ لقد تعددت الاسباب والخاسر الوحيد نحن المندائيين الذين نحاول الآن وبكل ما اوتينا من قوة لإثبات وجودنا وترسيخ مبادئ ديينا القديم ، لقد كانت هناك هوة بين رجال ديننا وبيننا وحاول البعض رأب الصدع هذا ، وحاول البعض الآخر زيادة الفجوة بما يضمن له أو لهم مكانة الرئاسة والتصرف بمصير الطائفة كل حسب أهوائة ونواياه ؛ حتى ظهر من طرق باب التحذير منبها" المندائيين جميعا" من خطر داهم بات يهدد وجود هذا الدين وهذه الطائفة والتي باتت تطفو على سحابة صيف سريعا" ما تتلاشى وتتبخر ليسقط من عليها في قرار لا يعرف قراره ؛ ألا وهو الهجرة التي كتبت علينا والتي اضحت هاجسا" يؤرق الكثيرين وبات الكثير من المندائيين يبحث عن السبل التي بواسطتها سينجو هو وأفراد عائلته ومحبيه من مصير لا يعرف أحد كيف سيكون بعد لحظة زمن .

لقد قادني الـى ما قلت كتاب جمع فيه مؤلفه {{ محمد عمر حمادة }} ما قاله الأقدمون والمحدثون عن الصابئة وعن دينهم وذهبوا مذاهب شتى تختلف من زمن لآخر ومن فكر الى فكر آخر لا يمت الى ما سبقة بأي فكرة واضحة المعالم ؛ فالكل يدلو بدلوه والكل يفسر ما يراه وما سمعه عن الآخرين دون أن يكلّـف نفسه عناء البحث والتقصي والاستقراء فالكل يعتقد أنه العارف ببواطن الامور واليه انتهى العلم وأن ما سيقوله سيكون هو الأصح وهو على يقين بأن ليس هناك من ينبري له للرد عليه لتعزيز رأيه أو لتوضيح ما التبس عليه وليعيد كتابة المفاهيم الخاطئة بما يتناسب والحقيقة التي نريد لها أن تظهر للعيان ودون أن نخشى في قول الحق لومة لائم ، وقد أكون مخطئا" متجنيا" فيما ذهبت اليه لذا استغفر الحي الازلي اذا ما شططت في قولي هذا فقد يكون هناك من كتب ومن أفتى ومن دافع وكافح لكن لم يكن هناك من وسائل النشر والايصال الى الآخرين ما صار متيسرا" في هذا الوقت ، أو قد يكون هناك من بيده السلطة وله ان يمنع أو يسمح في النشر . لكن ومن ناحية آخرى فأن الكتب التي طبعت أو نشرت خلال الخمسين سنة المنصرمة من القرن العشرين لهي دليل قوي على ما استطاع المندائييون من انجازه ليوفروا لنا المناخ المناسب الذي بواسطته استطعنا أن نصل الى ما نحن فيه الآن ، واستطاعوا من انارة الظلمة التي كانت تكـتنف الافكار المتوارثة والتي كان يطيب للبعض تكرارها واجترارها بمناسبة أو بدونها لغرض في نفوسهم المريضة .

يقول الكاتب والباحث ( محمد عمر ) : ( حين التحدث عن الصابئة يحلو للكثيرين محاولة الظهور بالعالم العارف ببواطن الامور وظواهرها ، وكأنهم واضعوا تلك العقيدة وموؤسسوها ، فيبدأون بالحديث عن عبادة النجوم والكواكب ،وما اليها من مكانة إلهية عند الصابئة . فهل لهذا الحديث من أصل في الحقيقة أو الموضوعية ؟

حين تجولت في بين الصابئين في اماكن تجمعهم في عدة مناطق كالناصرية والعمارة والبصرة وسوق الصاغة في بغداد وغيرها ، تبيّن لي أن الصابئة يؤمنون بإله واحد قادر ، لا أول له ولا آخر، ولا بداية له ولا نهاية ، وهو الخالق والصانع ،والحي والباقي الذي لا يموت وهو نور السماوات والارض ، ونوره يعم الكون ، وجميع المخلوقات في الدنيا والآخرة ، ولولا نوره الذي يبدد الظلام ، لما كان هناك وجود كوني ولا وجود انساني ، ولهذا يصبوا الصابئة ويتعبدون ليلا" ونهارا" ،و يتقربون الى الله بالعمل الصالح ، وبملائكته وبالأنبياء وبمبدعاته المدهشة في السماء ، حتى ينالوا الوصول الى الجنة ( عـالم الـّنور ) المنور بنور الله تعالى ، وليس هذا التقرب بعيدا" عن العقل والمنطق ؛ فكل أصحاب الديانات السماوية وغير السماوية يتقربون الى الله بالذي يعتقدون بأنه يقربهم من الله ، ولينظر كل منا في عقيدته ليتأكـد من ذلك ؛ فهناك من يتقرّب بالرسل والملائكة والكتـب المقدسة ،وهناك من يتقرّب بالتعاويذ ، وأصحاب الطرق الصوفية أو العارفين والواصلين ، أو المتحدين بالذات الإلهية ، ومنهم من يتقرب الى الله بالانصاب والأزلام و الاحجار والاخشاب ؛ فأصبحت من القدسية والإجلال ما يساوي القدسية الإلهية ، بل أصبح المساس بها كفرا" وخروجا" عن العقيدة ، لا يساويه المساس بالذات الإلهية ، إذا" هي إجتهادات في التقرب الى الله والكل على حق وصواب الا الصابئة فإذا تقربوا الى الله بشمسه ونجومه وملائكته ، أصبحوا عبدة النجوم والكواكب والملائكة . )1*-

هذه شهادة من رجل باحث آثر أن يرى بنفسه على ان يسمع من الآخرين ما يقولون دون تمحيص أو تدقيق .

في موضوع مخطوطات البحر الميت والتي وجدت في وادي قمران في الاردن نجد الباحث الكاتب يقول : ( ليس من المستغرب أن نجد أفكارا" تشابه أفكار الصابئة في مخطوطات البحر الميت ، التي اكتشفت في عا م 1947بالقرب من البحر الميت ؛ فاللـفائـف المخطوطة التي وجدت ، تتحدث عن عقيدة الطوائف التي عاشت في كهوف بعيدا" عن اليهود واضطهادهم لأصحاب العقائد ، فتعاليم يوحنا المعمدان نجدها واضحة في هذه اللفائف ؛ ففكرة المعمودية وطقس الماء والاستحمام والتنبيه الى أن التطهير والاستحمام لا يزيل الذنوب ما لم يسبقه تطهير روحي , وهناك تشابه بين انتظار يوحنا المعمدان للمسيح وتعميده ، وما جاء في مخطوطات البحرالميّت ، فقد تنبأ يوحنا بأن الذي سيأتي بعده سيحكم بعقوبة النار ، وهذه الفكرة واضحة بصراحة وقوة في أحد مزامير الشكر ؛ إذ تقول : ( أن اعاصيرالشيطان الرجيم سوف تلتهم بالنار حتى اسس الجبال )2* وجاء في المخطوطات ( أن حركة يوحنا بزغت بين الكهنة والرهبان ، لكنها تحررت منهم فيما بعد ، مثلما وقع لطائفة قمران على الأرجح ، وكان يوحنا يوجه كلامه الى الشعب بأجمعه بعكس القمرانين والاسنين ) *3 . بـعدهايمضي الباحث الى أمر يجعل ليس مجرد تشابه هو المعوّل عليه حسب لكنه أمر مفروغ منه بأن المخطوطات تعود

الى الصابئة حيث كتب : ( عقائد الجماعات التي عاشت في الكهوف ، هي أفكار وعقائد قريبة من عقائد الصابئة منها : ( لاتدع رجلا" يغتسل بالماء القذر ، أو بما لا يكفي لتغطيته ، كما لا يجوز أن تطهّر بالماء المستعمل أي وعاء ، كل نقرةٌ في الصخر يجب أن يغطى ماؤها ؛ فإذا لمسها رجل قذر زالت طهارته )4*وتنطبق هذه مع عقائد الصابئة حيث يؤمنون بأن المتطهر يجب ان يغطي الماء الانسان بكامله . ... (كل آلة كالمسمار أو الوتد في الحائط لامست الأموات تصبح نجسة ) *5 والانسان عند الصابئة حين يقترب من الموت يغسل قبل موته ؛ لانه بعد الموت يصبح جسدا" غير طاهر بمجرد خروج الروح منه .

ويستمر الكاتب محمد عمر بايراد النصوص القديمة التي ظهرت في مخطوطات قمران ومدى التشابه بينها وبين عقيدة الصابئة المندائيين فيقول : ( ومفهوم الروح في المخطوطات يتطابق تماما" مع مفهومه في العقيدة الصابئة : ( الروح عبارة عن شرارة من النور الإلهي اجتمعت في عالم المادة المظلم ) *6 فتؤكد المخطوطات على تسمية الصالحين بأبناء النور والاشرار بأبناء الظلام ، وهي نفس عقيدة الصابئة ؛ فأبناء النور هم الفائزون ؛ اصحاب العقيدة الصحيحة أما أبناء الظلام فهم الكفرة غير المؤمنين وهي تسمية مازالت مستعملة حتى الآن العقيدة الصابئة . ويطلق الصابئة على النبي يحيى لفظ معلم الحق ؛ ذلك أنهم لايعتقدون أن الله يرسل نبيا" من عنده ويعطيه اللفظ الذي سيتحدث به ؛ بل ان الله يلهمه قول الحق ومثل ذلك جاء في المخطوطات ( ان المستقيمين هم الذين استمعوا الى معلم الحق وأما الأشـرار فقد رفضوا الاستماع اليه والشئ الضروري للخلاص مجرد الأيمان برسالة معلم الحق والوفاء لتعاليمه ) 7*.

والروح عند الصابئة محبوسة في جسدها ، وحينما تنطلق من الجسم فأنها تتخلص من السجن ومثل هذا جاء في المخطوطات ( أن الأجسام تفنى وأن المادة التي عملت منها ليست خالدة لكن النفوس هي الخالدة والتي تعيش الى الأبد ، وعندما تتحرر من ربقتها ؛ كأنها مربوطة بأجسادها وكأنها في سجن بقوة سحرية ؛ عندئذ تذهب الأجساد الى الفناء وتذهب الأرواح الى الخلود ) 8*.

ويخلص الباحث ( محـمد عـمر ) الى استنتاج مفاده الى أن ألواح قمران ماهي الا ألواح مندائية فيكتب : ( مما مر بنا من الفقرات الواردة في مخطوطات البحر الميت يتبين لنا أن هذه الفقرات تحمل أفكارالصابئة أتباع العقيدة التي جاء بها النبي يحيى على الرغم من أن هذه المخطوطات لم تشر بوضوح الى انها تمثل عقيدة يحيى ، ألا انها تشير بوضوح كامل الى أنه آراء طائفة تعرضت للاضطهاد من قبل اليهود، وتؤكد أن هذه الجماعة هاجرت بإتجاه الشمال ، و هذا يتوافق مع الأحداث التي مرت بها طائفـة الصابئـة .،فالرأي الثابت لدينا أن الصابئة المندائية الموجودين في العراق وجنوب إيران أصحاب عقيدة كتابية توحيدية .)9*

بهذا القدر غير القليل أكتفي من اقتباس ما أورده الباحث ( محمد عمر حمادة ) والذي أشار فيه بما لا يقبل الجدل على مبدأ التوحيد الذي إعتنقه المندائيون منذ أن فتح الإنسان الأول عينيه ليرى نور الحق لاول مرة . يتوضّح لدينا ما ذهب اليه الباحث من بحث أجاد فيه وأنصف ولم يتجن أو ينحاز بل حكّـم العقل والمنطق ليخرج بتلك الاستنتاجات المنطقـية والتي تؤكد كلها أن المندائيين لم يكونوا يوما" ما عبدة للنجوم والكواكب بل هم عبّـأد الواحد الأحد والذي منه وبقوته وببركته انطلقت العوالم ، وبفضله سبحانه وتعالى خلقنا من طين وله أرواحنا تعود وتبقى أجسادنا لتعود الى الطين .

* عضو رابطة الكّتاب والصحفيين والمترجمين والفنانين الصابئة المندائيين

14 / 1 /2007

هذاالاقتباس عن كتاب :

تاريخ الصابئة المندائيين . / محـمد عـمر حـمادة / دار قتيبة –بيروت_دمشق/ ط /1 / 1992

الهوامش:1*2 -65

*3-66

نشرت في تاريخ
الخميس, 14 شباط/فبراير 2013 09:54

أبو إسحاق الصابي وكتابة الرسائل

اشتهر او اسحا ق ابراهيم بن هلال بن ابراهيم الحراني الصابي (313- 384هـ) بكتابة الرسائل بمدينة بغداد في القرن الرابع الهجري، الموافق للقرن العاشر للميلاد، حتي انه وصف بصاحب الرسائل، كما يقول المؤرخ ابن خلكان في كتابه (وفيات الاعيان) ويبدو ان صلاته الوثيقة بالخلفاء والامراء جعلته موضع ثقة الدولة، حتي ان الوزير ابا محمد المهلبي، كان يرشحه بالنيابة عنه في ديوان الانشاء وامور الوزارة، واليه اشار ياقوت الحموي في (معجم الادباء) بانه كان اوحد الدنيا في انشاء الرسائل، وقد تقلد ديوان الرسائل عام 349هـ، ولذا اصبحت رسائله ذات اهمية تاريخية لانها تعاصر احداث بغداد زمانيا ومكانيا، اضافة الي رصانة اسلوبها، ويقول الثعالبي في كتابه (يتيمة الدهر) : انه اوحد العراق في البلاغة، ومن به تثني الخناصرفي الكتابة، وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية من البراعة والصناعة . وتضاف الي علمية ابي اسحاق مكانة في كتابة التاريخ، وان تعرض الي محنة خطيرة كادت تؤدي بحياته حينما طلب منه السلطان عضد الدولة البويهي (ت372هـ) ان يؤلف في الاسرة البويهية كتابا يبرز فيها نسبها ومجدها، فكتب (تاج الملة) نسبة للقب عضد الدولة، وان ضغوط الحاكم علي هذا المؤرخ جعله يبتعد عن الموضوعية والامانة العلمية، وكان في قرارة نفسه غير مقتنع بذلك، كما في محاورته لاحد اصدقائه لما سأله عن محتوي كتابه، فقال :(اباطيل انمقها واكاذيب الفقها) وقد هدده عضد الدولة ازاء كلماته هذه بان يلقي تحت ارجل الفيلة، لولا شفاعة العلماء الحاضرين له، وبقي ابو اسحاق الصابي يعاني احداث زمانه حتي وفاته عام 384هـ، ومن ان كتابته لكتاب (التاجي) وخروجه عن الامانة العلمية، جعلته يراجع نفسه بين الحين والآخر حتي وفاته، وقد تألم الشريف الرضي ابو الحسن محمد بن الحسين الموسوي (ت 406 هـ) لوفاته فرثاه بقصيدة منها:

اعلمت من حملوا علي الاعواد
ارايت كيف خبا ضياء النادي
جبل هوي لوخر في البحر اغتدي
من وقعه متتابع الازباد
ما كنت اعلم قبل دفنك في الثري
ان الثري يعلو علي الاطواد
بعداً ليومك في الزمان فانه
اقذي العيون وفت في الاعضاد

وعاتب الناس الشريف الرضي علي قصيدة الرثاء للصابي لكونه شريفا يرثي صابئيا، فقال: (انما رثيت فضله) ويقول الدكتور زكي مبارك في كتابه (النثر الفني) : ان حرص الصابي علي دينه لم يحل بينه وبين التحلي باكرم الخصال في رعاية الاسلام، فقد كان يصوم رمضان مساعدة وموافقة للمسلمين وحسن عشرة منه، ويحفظ القرآن حفظا يدور علي طرف لسانه وسن قلمه، وفي هذا اصدق دلالة علي ان الرجل كان سليم الذوق، كريم الطبع، تجافت نفسه عن معاداة الاسلام وترفع قلبه عن اضمار البغض للمسلمين، وكانت اخلاق ابي اسحاق الصابي ومكانته العلمية جعلت علماء المسلمين من امثال الشريف الرضي والصاحب بن عباد وغيرهما يعمقون المودة به ويبادلونه الرسائل، ويقول ياقوت الحموي في (معجم الادباء) ان حفظه للقرآن الكريم كان يدور علي طرف لسانه وبرهان ذلك في رسائله، ويبدو ان هناك اجماعا علي اسلوب الرسائل البلاغية والي ذلك اشار المستشرق البريطاني (هاملتون جب) في كتابه (دراسات في حضارة الاسلام) الي ان الاسلوب البلاغي المعقد اخذ يحل مكان سرد الوقائع سرداً.

ومن الملاحظ ان كتاب (التاجي) لم يصلنا، واصبح في عداد الكتاب المفقودة، سوي قطعة صغيرة طبعت بعنوان (المنتزع من كتاب التاجي في اخبار الدولة الديلمــية) حقق ونشر في العراق في العقد السبعيــني وقـــد احتفـــظ الثعالبـــي فـي يتيــــمة الدهر، والعتـــبي فـــي التاريـــخ اليمني ببعــــض قطـــع مــن كــتاب الصابــي.

اما رسائله البليغة ونظمه البديع كما يقول ابن خلكان في (وفيات الاعيان) فلم نقف عليها.
ولعل طلبة العلم في المستقبل يقفون علي تركة ابـي اسحـــاق الصابي ونشرها وتحقيقها.

نشرت في تاريخ

اجرى الدكتور صباح خليل مال الله ـ لقاء خاصا مع البرفسور ادمندو لوبييري استاذ مادة (( التاريخ المسيحي في نشئتها الاولى)) في جامعة يوديني الايطالية. وللبرفسور لوبييري سبعة مؤلفات بالايطالية حول شخصيات دينية تاريخية مثل يوحنا المعمدان والسيد المسيح وتاريخ المسيحية منذ نشأتها، كما ان له العديد من المقالات المنشورة في الصحف. وللبروفيسور لوبييري اهتماما خاصا بالمندائية، وقد شارك في كل من مؤتمري هارفارد 1999 و اوكسفورد 2002 اللذين اقامتهما جامعتي هارفارد وأكسفورد حول المندائية بالتعاون مع جمعية آرام للدراسات الشرقية، كما ألف كتابا عن المندائيين بعنوان : (( المندائيين ، آخر الغنوصيين ))

 

The Mandaeans .. The Last Gnostics

وقد سألناه اولا عن سر اهتمامه بالمندائيين، مع العلم ان هذا الموضوع لا يمت بصورة مباشرة لمادة اختصاصه، فأجاب:
ـ لقد اكتشفت كل من المندائية والمسيحية الكاثولكية احداهما الاخرى في الازمنة الحديثة، اي منذ البدايات الأولى للقرن السادس عشر حين تصورت البعثات التبشيرية المسيحيية التي زارت العراق في تلك الحقبة بان المندائيين هم " مسيحيو يوحنا المعمدان " . وعلى هذا الاساس حاولت تلك البعثات التبشيرية تنصيرهم وتحويلهم للكثلكة ولكن بدون نجاح يذكر، وهذا يعود لتفرد المندائية بخصوصية جعلها تستمر بشكل يثير الدهشة ليومنا هذا . ان الجدل الذي مازال قائما حول هذه الطائفة وعقائدها دفعني للبحث وتقصي الحقائق حول علاقة المندائية بالبعثات التبشيرية وقد توصلت لنتائج مثيرة حقا . وقد كان حدثا فريدا ان يلتقي البابا يوحنا بولص الثاني في الفاتيكان في حزيران / يونيو 1990 بوفد من المندائيين برئاسة الشيخ عبد الله وقد تمت تغطية تلك الزيارة من قبل صحيفة (ازيرفاتوري رومانو) كما وثقت تلك الزيارة فيديويا وقد رحب البابا بالوفد المندائي بكلمة مناسبة.

رئيس التحرير : هل سبق لك وان التقيت بمندائيين قبل مؤتمري هارفارد وأكسفورد ؟
لوبييري : نعم ، لقد التقيت باحد المندائيين الذي اتخذ من روما مدينة لسكناه منذ زمن موسليني وهو (الخميسي) ـ يعني بذلك السيد شوكت غالب ـ ولديه محل صياغة انيق في قلب العاصمة. هو لا يعرف اللغة المندائية ولكنه يتذكر ـ عندما كان طفلا ـ بان اهله كانوا يحتفظون بالكتاب المقدس (السيدرا) ملفوفا بقماش ابيض نظيف في كوة في حائط دارهم المبني من اللبن والبردي في قرية بجنوب العراق. كما يتذكر دخول القوات البريطانية للعراق عام 1917 ووصول الجنود الانجليز لقريتهم على متن زوارق حربية صفراء اللون.. وعلى اية حال فقد بدا الرجل وكأنه ليس متفائلا بمستقبل المندائية! ... كما التقيت بالسيد موسى الخميسي الذي يعيش في ايطاليا منذ مدة، وقد ابدى لي العديد من الملاحظات الهامة حول المندائيين.


رئيس تحرير المندائية : نحن نعلم بان للبعثات التبشيرية البرتغالية الفضل في تقديم المندائيين للعالم الغربي، اي انهم اول من احتك بالمندائيين وكتب عنهم، فهل كانت هناك بعثات ايطالية ايضا؟
البرفسور لوبييري : عقب انحسار الحملات الصليبية في القرن الثالث عشر توجه بعض رجال الدين المسيحين للعالم الاسلامي من اجل التبشير والدراسة، ومنهم الراهب الدومنيكاني من توسكاني المدعو ريكولدو بينيني. وقد وصل هذا الراهب الى بغداد في بداية القرن الرابع عشر وكتب عن مشاهداته والاقوام التي تسكن بغداد ومنهم الصابئة الذين وصفهم بانهم يسكنون ضواحي بغداد وانهم ناس طيبون ولهم لغة خاصة ويبجلون يوحنا المعمدان ويكرهون الختان ويقومون بالاغتسال ـ التعميد ـ في الماء الجاري الذي يسمونه (يردنا)، ويرتدون اردية تتكون من سبعة اقسام يطلقون عليها اسم (الرستة) وغير ذلك من التفاصيل الغير معقدة ، كما اطلع على كتبهم الدينية التي كانوا يسمونها (الدواوين) . كل هذا بداية القرن الرابع عشر على اغلب تقدير. كما قام الرهبان الايطالين فيما بعد بترسيم عدد من الصابئة رهبانا وتم ايفاد اثنان منهم ـ في القرن السادس عشر ـ الى الفاتيكان ، ولهذه قصة طويلة وممتعة في الوقت ذاته.


رئيس تحرير المندائية : هذه المعلومات مثيرة بالفعل ، ولكن هل هي موثقة ؟ وأين يمكننا الحصول عليها ؟
البرفسور لوبييري : نعم ، كافة المعلومات المتعلقة بعلاقة الغرب بالمندائيين في تلك الفترة الزمنية موثقة ومحفوظة في أكثر من مكتبة ، وهناك بعض الوثائق يمكن الحصول عليها من مكتبة الفاتيكان ، وسأزودك بعناوين جهات أخرى يمكن الحصول منها على وثائق اخرى في نهاية اللقاء.

رئيس تحرير المندائية : شكرا برفسور لوبييري. ولكن لماذا اخترت الأب اغناشيوس موضوعا لمحاضرتك التي القيتها في أوكسفورد ؟
البرفسور لوبييري : الأب اغناشيوس، واسمه كارلو لونيللي ، ولد في (بيسارو) عام 1596 وكان لديه شهادة في الحقوق ثم التحق بسلك الكهنوت عام 1626 وعمره 30 سنة. وقد اوفد بمهمة كنسية الى فارس فالتحق ببعثة اصفهان التبشيرية عام 1629 ثم انتقل الى شيراز عام 1634وبعد ذلك عينته الكنيسة رئيسا لبعثتها في البصرة عام 1641 حيث خدم البعثة التبشيرية لمدة 14 عام. وقد كانت لأغناشيوس علاقة مباشرة بالمندائيين هناك، ولكنه وقع في نفس خطأ الرهبان الجزويت عندما اعتبرهم مسيحيين ومن اتباع يوحنا لمعمدان. وكتب عنهم اول كتاب نعتبره (علميا) عن الصابئة ـ وقد تحدثت عن ذلك في محاضرتي التي استمعتم اليهاـ وبعد انتهاء مهمته استدعي الى روما وتوفي سنة 1667 .


رئيس تحرير المندائية : ماهي آخر أعمالك حول المندائيين ؟
ـ كتاب (المندائيين ـ آخر الغنوصيين) هو آخر أعمالي وقد كان باللغة الايطالية ثم ترجمته الى الأنجليزية وفيه الكثير عن تاريخ المندائيين ، وقد لاقى رواجا كبيرا.

رئيس تحرير المندائية: شكرا لك برفسور لوبييري على هذا اللقاء ونتمنى ان نراك في مؤتمرات قادمة.

البرفسور لوبييري: بكل سرور ، شكرا لك ، وتحياتي لكل المندائيين.

نشرت في تاريخ
الأربعاء, 21 تشرين2/نوفمبر 2012 18:13

آخر طائفة غنوصية في التاريخ

جزء من مقدمة كتاب عزيز سباهي: أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية

إلى الشمال من القرنة، حيث يلتقي دجلة بأحد مصبي نهر الفرات (المصب الآخر هو كرمة علي، ويصب في شط العرب مباشرة إلى الشمال من البصرة)، يجري نهر صغير، والأصح مبزل صغير، يدعى "السطيح"، يأخذ مياهه من الأهوار التي توازي دجلة إلى الغرب، ليصبها في نهر دجلة إلى الجنوب من ناحية العزير. وفي رأس البرزخ الضيق الذي تحيط به الأهوار من كل جانب تقع قرية صغيرة تدعى السطيح أيضأ. وكما هو شأن قرى ميسان الصغيرة الأخرى، كانت الأكواخ المبنية من القصب والبردي تحتشد في السطيح دون انتظام في بقعة صغيرة من الأرض.

وعند الركن الشمالي من القرية (أو السلف كما يدعونها في ميسان) كان ينفرد كوخ صغير على ضفة نهر دجلة، منعزلأ عن أكواخ الفلاحين الأخرى. كان المارة الذين يسيرون بمحاذاة النهر صوب ناحية العزير أو القادمين منها، يلقون نظرة على رجل ربع القامة، ذي لحية كثة، وهو ينحني على هيكل من الخشب ليصنع منه قاربأ صغيرا لواحد من صيادي القرية. كان من عادة المارة أن يلقوا التحية على ئمئر، وكان هذا هو اسمه، فيرفع رأسه ليرد التحية مشفوعة بابتسامة. وربما أردفها بسؤال عن صحة المار أو أولاده، ثم ينصرف ليتابع عمله على هيكل القارب. وكان (السيباط) (أو الصوباط كما يدعونه هناك، وهو سقيفة من القصب) الذي اتخذه نمير مشغلأ له، ينفتح على كل الجهات، محاذيأ لكوخه. كان ينصرف إلى عمله هناك طوال النهار، حتى إذا جن الليل، انحدر إلى نهر دجلة وقرفص عند حافة النهر وراح يغسل جبهته وأنفه وأذنيه وفمه وما تحت إبطيه بالماء، وهو يرطن بلغة خاصة لا يفهمها السامعون. فإذا فرغ من ذلك، انتصب ويمم وجهه صوب الشمال وشرع يتلو بذات اللغة نصنأ حفظه عن ظهر قلب دون أن يفقه ما يعنيه هذا النص، ليأوي بعد ذلك إلى كوخه... وفي اليوم التالي، وقبل أن تشرق الشمس يكرر ما فعله عند المساء، !صلاته " عند النهر. وكان المارة قد ألفوا منه "صلاته" هذه، ولم يعودوا يشغلون بالهم بأمره.

لقد ورث نمير صناعة قوارب الخشب الصغيرة المطلية بالقار عن أبيه وجده وهذان قد توارثاها ممن سبقهم منذ أجيال بعيدة. ومثلما عاش نمير وزوجته وأطفاله ربما يكون قد عاش هنا أجداده الأقدمون. وفي قرية مجاورة لا تبعد كثير، كان يسكن أقارب له، اتخذوا من أحد أركانها عند النهر مكانأ لهم ليبنوا كوخهم ومشغلهم، وانصرفوا إلى صناعة "المساحي" و"الفول" والمحاريث والمناجل وما إليها من الأدوات ا لتي يحتاجها الفلاحون والصيادون في القرية.

وكان جيرته يدعونهم بـ "الصبة" والواحد منهم بـ "الصبي" وربما على عادة الفلاحين هناك يعمدون إلى تصغير اسمه فيدعونه بـ "الصبيبي"... وكانوا يلاحظون أنه في مناسبات معينة عندهم يتجه إلى القصبة المجاورة، قلعة صالح، حيث يوجد كثرة من أصحابه هناك ليبتاع الخشب والحديد وما يحتاج من مؤن، وليؤدي أيضأ طقوسآ دينية خاصة على أيدي كهنة في معبد خاص لهم يدعونه ب "المندي "، مع أمثاله القادمين من القرى المجاورة.

لم تكن مدن أو قصبات جنوب العراق لتخلو من "الصابئة" هؤلاء، وإن كانوا قلة... وكان أمثال لهم يقطنون المنطقة المجاورة في إيران. كان بعضهم يحترف الحرف التي يحتاجها الفلاحون والصيادون في ذات القرية من حدادة ونجارة وصياغة حلي، ثم اتجه آخرون صوب المدن الكبيرة للعمل كصاغة تاركين عوائلهم وراءهم في المدن والقرى السابقة ليعودوا إليها في مناسباتهم الدينية حيث يمضون معها أيامأ معدودات يقفلون بعدها راجعين إلى مقرات عملهم.

كانت تلك هي حياة الصابئة قبل عقود من السنين. وهي حياة، كررت نفسها، كما يبدو، لمئات السنين... لا أحد يذكر أنهم كانوا على غير هذه الحال. لكنهم منذ أن تزايد النشاط الاقتصادي والاجتماعي الحديث في العراق شرعوا يتجهون بعوائلهم صوب المدن الكبيرة، لاسيما بغداد والبصرة، بأعداد صغيرة أولأ، ثم بمجموعات أكبر حتى خلت القصبات والقرى السابقة منهم واستقرت غالبيتهم في هاتين المدينتين.

لم تكن هذه الانتقالة الجغرافية هى وحدها ما شاهدته المجموعة، بل شهد الصابئة في العقود الماضية حراك من نوع آخر، إذ اتجه أغلب شبابهم نحو التحصيل العلمي الحديث، واجتذبتهم المهن الحديثة وانصرفوا عن ممارسة حرفهم البدائية السابقة وطوروا صنعة الصياغة التي احتفظوا بها إلى صناعة عصرية. ومع هذا التحول الاجتماعي قل اهتمامهم بممارسة طقوسهم الدينية الخاصة، ولم يعودوا يتقيدون بكثير من المحرمات الدينية التي نشأوا عليها من قبل إلى الحد الذي أوجد أزمة حقيقية بالنسبة إلى بقائهم كمجموعة دينية ذات سمات ومعتقدات خاصة. وقد دفع هذا ببعضهم إلى التفكير بتكييف مفاهيمهم وطقوسهم الدينية لتساير الحياة العصرية الراهنة. وهكذا، فإن هذه المجموعة الصغيرة من الناس ما أن كسرت الطوق الذي ظل يعزلها عبر القرون، والذي صانها كطائفة خاصة لألفي عام، حتى وجدت نفسها توشك على الزوال.

لعب الصابئة، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة، دورأ ملحوظآ في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد ما بين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام، ولاسيما بعد ازدهار الحضارة العربية- الإسلامية أيام العباسيين، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية- الإسلامية. لكنهم بعد تدهور هذه الحضارة، والغزو المغولي، والفتح العثماني من بعد، وتعرضهم إلى الإضطهاد في العهود المختلفة، انكمشوا على أنفسهم في القرى المنتشرة عند البطائح الممتدة من جنوب نهر الفرات حتى نهر كارون في جنوب غربي إيران، وكانت هذه المنطقة، لظروفها الجغرافية الخاصة بمنأى- إلى حد ما- عن سطوة الحكام وبطشهم، ولكونهم جماعة مسالمة، لا شأن لها بزراعة الأرض ومشاكلها، ويحترف أفرادها حرفأ ضرورية للفلاحين والصيادين، ولا يطمعون بأكثر من إعطائهم الفرصة لممارسة طقوسهم الدينية الخاصة دون تدخل، ضمنوا البقاء والاستمرار طوال القرون الماضية.

ورغم غرابة هذه الطقوس ما كانوا ليثيروا الوسط الاجتماعي الذي يحيط بهم، الذي هو شيعي المذهب في الأساس، وان ظل ، هذا الوسط الاجتماعي يعاملهم باستعلاء وكأناس دونه في المرتبة الاجتماعية، وهو أمر يخالف ما كان يسير عليه أئمتهم من قبل. وبليغة الدلالة في هذا الشأن قصة الموذة التي كانت تجمع بين الشريف الرضي والشريف المرتضى وابراهيم بن اسحق بن هلال الصابي، وهي قصة معروفة تناولتها كتب التراث. ولكن رغم ذلك لم تسلم المجموعة من الإضطهاد وحملهم على التخلي عن معتقداتهم وعلى ارتكاب ما يخالف محرماتهم الدينية. ومنذ منتصف القرن السادس عشر أصبحوا هدقا لضغط المبشرين المسيحيين الغربيين من مذاهب مختلفة. ولم يتردد هؤلاء المبشرون حتى عن الاستعانة بالباب العالي لحملهم على الانصياع لدعوة المبشرين و"العودة" إلى صفوف المسيحية، إذ كان يصورهم هؤلاء بالمارقين على المسيحية. وقد نجم عن المحاولات المتصلة لحملهم على اعتناق الإسلام والمسيحية، وعن الأوبئة التي كانت تفتك بسكان المنطقة، أن هبط عددهم كثيرا، من 3400 عائلة كما ذهب الملكي صادق تيفنو في خارطته التي نشرها عام 1663 في باريس وحدد فيها مواقع سكناهم إلى 560 عائلة في عام 1854 كما أشار بيترمان أو أربعة آلاف نسمة كما ذكر سيوفي الذي زار مناطقهم وكتب عنهم في عام 1875. غير أن عددهم تضاعف إلى أكثر من أربعة أضعاف ذلك بعد قرن من ذلك إثر تحسن أوضاعهم الاجتماعية.

غير أن هذه الطائفة على قلة عددها، ورغم القهر الذي حاصرها طوال القرون عادت في العقود الأخيرة لتتكشف من جديد عن حيوية لا تخطئها العين، ودخلت الحياة الاجتماعية في العراق الحديث بفاعلية تفوق وزنها السكاني والاقتصادي، وبرهن أبناؤها عن جدارة، أنهم أهل لأن يكونوا حفداء جمهرة المثقفين المندائيين الذين برزوا في الميادين الثقافية والعلمية المختلفة أيام الحضارة العباسية.

من المؤسف أن المسألة المندائية لم تحظ باهتمام مراكز البحث العربية والإسلامية رغم أهميتها في فهم تطور الفكر في المنطقة العربية في حقبة معينة من الزمن، قبل وبعد ظهور الإسلام. وما صدر من دراسات عنها في العربية لا يعدو أن يكون معالجات عامة لا تقذم إجابات جدية للكثرة الكاثرة من الأسئلة المحئيى ة التي تثيرها هذه المسألة المعقدة، ونعني بها البحث في أصولهم وأصول معتقداتهم وأفكارهم عامة. لقد كان يمكن أن ينهض بهذه المهمة مثقفو الطائفة ذاتها، غير أن هؤلاء المثقفين، شأن غيرهم من أبناء الطائفة

لم يعودوا يفقهون جوهر معتقداتهم ويجهلون اللغة التي دون بها أدبهم الديني. إن البحث في المسألة المندائية لا يمكن أن تنهض به الطائفة دون دعم علمي عال ومنظم من مراكز البحث الجامعية، والأهم منه توفير الجو الأكاديمي الحر الذي يسمح بالمعالجة دون خوف الحساسيات الدينية وهي كثيرة.

 

نشرت في تاريخ
الإثنين, 08 تشرين1/أكتوير 2012 13:19

الجذور الحقيقية للديانة المندائية

في عام 1997 نشر د.خزعل الماجدي بحثه الموسوم اصول سومرية في الديانة المندائية، ومنذ ذلك الحين اخذ الكثير من المثقفين او ممن يدعون الثقافة البناء على هذه الفرضية ،كأساس لفكرة ان المندائية هي من بقايا الديانة السومرية ،من دون التدقيق في مصداقية ذلك البحث او مصادره . وكنا في تلك الفترة قد نبهنا مسؤولي الطائفة في بغداد من خطورة احتضان هكذا بحث، سيما وانه لايقيم علاقة عرقية بين السومريين والمندائيين وانما تطرق فقط الى ان المندائية ابتدأت من خلال ماتبقى من الديانة السومرية ! وقد تخلل البحث نقاط من الممكن ان تنسف الاركان الاساسية للدين المندائي ومنها التوحيد . وكان قد عزل الديانة المندائية عن ما يطلق عليه بالديانات التوحيدية، واصفا تلك الديانات( بالسماوية ) على الرغم من انه تمنطق بمسألة البحث الاركولوجي . فكيف لباحث يدعي علمانية النضرة ،واركولوجية البحث ،ان يوصف اديان بالسماوية واخرى لاسماوية!. وعلى الرغم من وصفه الديانة المندائية بأشكال العبارات التي لاتليق بالمندائية وتأريخها الموحد فقد تم تبني البحث من قبل المؤسسة المندائية آنذاك ، . وكنا قد نشرنا ردا على البحث المذكور اثبتنا من خلاله المغالطات الكثيرة التي حاول الباحث لسقها بالديانة المندائية ذلك انه اعتمد على بعض التشابهات المفترضة بين الديانتين المندائية والسومرية مفترضا ان المندائية ابتدأة من خلال ماتبقى من الديانة السومرية والتي هي اصلا ذات نضام ديني تعددي غير موحد وحاول التأكيد من دون اي سند تأريخي على ان الديانة الصابئية أخذت بمرور الزمن تحيط نفسها بما تقتبسه من الاديان الاخرى ... . كما وصور المرويات المندائية على اعتبارها مثيولوجيا مرتبكة تحاول الاختفاء وراء حوادث عرفانية ذهنية تشبه الفيض والحلول . اما الاساطير الموروثة فلم يبقي منها غير( اساطير الخليقة) فيما البقية الباقية مثلها وكأنها اساطير شعبية ... ؟ .
والآن وبعد مرور اكثر من عشر سنوات على اصدار الكراس الا اننا لانزال نسمع صدى الكراس يدوي في آذان الكثيرين عبر شبكات الانترنيت ، منهم عن حسن نية كمدافعين عن الطائفة من الزوال ونحن نثمن تعاطفهم والقسم الآخر يتاجر في التمنطق من دون اي اثبات ملموس. ولوقت ليس بالقصير نشر في جريدة العراقية في اوستراليا بحث للسيد سالم عيسى تولا يتناول نفس الموضوع وهو في حقيقته مقتبس مع بعض التعديلات من البحث الاصلي . 
ومن جديد يتحفنا خزعل الماجدي بموضوع (اساطير الخليقة المندائية) مقدما من خلال احدى المؤسسات المندائية ! وكان التأريخ يعيد نفسه! ومن اجل تنبيه اخوتنا في بلاد المهجر حول مخاطر تبني هكذا بحوث مسمومة اقدم بحثي ادناه والذي يثبت بما لايقبل الشك من ان المندائية ابتدأة بمعزل عن الديانة السومرية وان لها خصوصية في هذا الشأن.

مقدمة
هنالك مسألة خطيرة لم ينتبه لها المشغوفين بالحضارة السومرية ولم يعوا خطورتها وهي اننا كطائفة صغيرة العدد لم نحضى منذ الازل والى يومنا هذا بأي دعم مادي او سياسي وبالتالي فان وجودنا يكمن في تناسي الآخرين عن محاربتنا ،وهذه حقيقة لايمكن لاحد نكرانها، فليس من الحكمة التشبث باصول وثنية سيما وهي بعيدة كل البعد عن جوهر الديانة المندائية ولا اقول هذا اعتباطا او رغبتا في التشبث بالتوحيد والذي هو اساس الديانة المندائية ولا هو انتقاص من حضارة سومر العريقة والتي نفخر بها وانما لتبيان حقيقة الاصول المندائية . 
من الثابت ان لكل دين مجموعة من الركائز الاساسية التي تميزه عن الاديان الاخرى وهذه الركائز هي ( قصة خلق الكون ، قصة خلق الانسان ،العالم الآخر ، التشريعات القانونية الاساسية وما الى ذلك ) وبالتالي فالمقياس في تقارب اي دين مع آخر لابد وان يستند على مدى تقارب وجهات النضر في تلك الركائز . ومن خلال مراجعتي للنصوص السومرية ونصوص الديانات الابراهيمية الثلاث ( اليهودية والمسيحية والاسلامية ) وجدت انها تتطابق في كثير من الاحيان فيما بينها على العكس من المندائية والتي كما سنرى من خلال البحث من ان نشأتها قد تمت بمعزل عن الديانة السومرية ولها ما يميزها في نضرتها الى الكون ونشأته والانسان وخلقه والجنة والعالم الآخر والتشريعات القانونية ؟ وهنا اقدم مقارنة بين كل من المندائية من جهة والسومرية والديانات الابراهيمية من جهة اخرى:

قصة الخلق في الديانة المندائية
بوثة التكوين (كنزا ربا يمين ص65)
بسم الحي العظيم
حينما كانت الثمرة العظيمة بداخل الثمرة العظيمة
وحينما كان الاثير بداخل الاثير
وحينما كان مانا العظيم مكنون هناك
ومنه تكونت المانات العظيمة 
انتشر بريقها وعظم نورها وما كان قبلها في الثمرة العظيمة شيء
فانتشر نورها بلا حدود اسرع من انتشار الصوت
وجّل نورها من ان يوصف باللسان والذي كان وقت اذ في تلك الثمرة ثم تكون منها آلاف مؤلفة من الثمار بلا نهاية* وملايين الملايين من المواطن* بلا عدد
تقف هناك وتمجد مانا العظيم
المكنون في آير العظيم
وتكون الماء الجاري* العظيم الذي لاحدود له
وبقدرة الحي* العظيم انبثقت منه مياه جارية حية بلا نهاية
وبقوة الحي العظيم انبثقت منه مياه حية بلا نهاية
ومن تلك المياه الحية* كانت تلك الحيات ومن ثم تكون جميع الاثري


قصة الخلق في الديانة السومرية
1 - في البدء كانت الآلهة (نمو) ولا أحد معها, وهي مياه البحر الاولى التي انبثق عنها كل شيء.
2 - أنجبت الآلهة (نمو) ولدا وبنتا, الأول (آن) إله السماء المذكر والثانية (كي) آلهة الأرض المؤنثة, وكانا ملتصقين مع بعضهما, وغير منفصلين عن أمهما (نمو).
3 - ثم إن (آن) تزوج (كي), فأنجبا بكرهما (إنليل) إله الهواء الذي كان بينهما في مساحة ضيقة لا تسمح له بالحركة.
4 - (إنليل) الإله الشاب النشيط, لم يطق ذلك السجن, فقام بقوته الخارقة بإبعاد أبيه (آن) عن أمه (كي), رفع الأول فصار في السماء, وبسط الثاني فصارت أرضا, ومضى يرتع بينهما.
5 - ولكن إنليل كان يعيش في ظلام دامس, فأنجب (انليل) ابنه (نانا) إله القمر, ليبدد الظلام في السماء وينير الأرض.
6 - (نانا) إله القمر أنجب بعد ذلك (أوتو) إله الشمس الذي بزغ في الضياء.
7 - بعد أن ابتعدت السماء عن الأرض, وصدر ضوء القمر الخافت, وضوء الشمس الدافئ قام انليل مع بقية الآلهة بخلق مظاهر الحياة الأخرى.


ولتوضيح اوجه الاختلاف بين كل من السومرية والمندائية ساحاول تقسيم مراحل التكوين لكل منهما كما يلي:
من البوثة المندائية يتبين تسلسل الخلق، من حيث ان الكون كان متداخلا بعضه مع بعض ،ولاوجود لغير الحي العظيم والذي هو خارج نطاق الاكوان . ومن خلال أمر الحي العظيم انتشرت اشلاء الكون البدائي في لحضة واحدة ،وفي كل مكان، والذي كان عبارة عن ضوء واشعاع .ومن خلال الضوء والاشعاع تتكون آلاف مؤلفة من الثمار العظيمة (المجرات) ،مع ملايين الملايين من المواطن،( اي الكواكب ) .ثم تأتي مرحلة تكون المياه الجارية، لتنبثق منها مياه حية والتي من خلالها تكونت الحيات الاولى في الكون الاول، وهي مرحلة خلق العوالم الأولى . 
وفيما يخص كوننا الحالي، والذي نعيشه، فهو يأتي بعد مرحلة الخلق الرابعة، اي الكون الرابع بملايين الملايين من السنين ،ذلك ان الفترة الزمنية التي تفصل بين الخلق الاول والثاني، هي ستة آلاف مليون عام، ((اشتا ألفي روبان اشني)). وهكذا حتى الخلق الرابع . 
وكمقارنة مع قصة الخلق السومرية، والتي هي اساس قصة الخلق البابلية والتوراتية، وما بعدهما ، نرى مدى الاختلاف بينها وبين المندائية ،حيث الماء في السومرية كان موجودا قبل الخلق والذي نراه يأتي متأخرا من حيث التسلسل في المندائية ،فالالهة السومرية الاولى والمتربعة على المحيط المائي ( مياه البحار)، تخلق كل من السماء والارض ومن خلال اتحاد السماء بالارض يأتي الهواء، والذي يقوم بدوره بابعاد السماء عن الارض، ثم تأتي مرحلة تكون القمر(نانا) ، والذي من خلاله تتكون الشمس.
من قصة الخلق السومرية يتبين لنا ان الخلق السومري يقتصر على الارض وما حولهما، بمعنى ادق ان الارض هي مركز الكون،وهذا ما يتطابق والنضرة البابلية واليهودية وما تبعها من اديان ابراهيمية في الوقت الذي يخالف النضرة المندائية في وصفها الكون على اعتباره لامتناهي ((روبان روبان آلمي )) اي ملايين الملايين من العوالم الحية.


كما ان التشريعات والقوانين السومرية، والتي تؤكد على القصاص في العين بالعين والسن بالسن، لاترى لها اثرا في الكتب او الموروثات الاجتماعية المندائية، والقائمة على 
الوعي الجمعي ،على الرغم من وجودها راسخة في كل من الديانة البابلية واليهودية والاسلامية ؟ فقانون العين بالعين والسن بالسن ذي الاصول السومرية، تراه جليا في العهد القديم . انظر سفر اللاويين (21-17-24)
))وإذا أمات أحد إنسانا فانه يقتل, ومن أمات بهيمة يعوض عنها نفسا بنفس , وإذا أحدث إنسان بقريبه عيبا فكما فعل ذلك يفعل به كسر بكسر وعين بعين وسن بسن كما أحدث عيبا في الإنسان كذلك يحدث فيه من قتل بهيمة يعوض عنها ومن قتل إنسان يقتل . ))وهذا ما لاتجده مطلقا في اي نص او شاردة في الكتب المندائية . فالمتتبع للكتب والمرويات المندائية، يرى ان فلسفة الدين المندائي، قائمة على اساس تحريم القتال بكل انواعه، على اعتباره من اسرار عالم الظلام، حتى العقوبات، فانها لاتصل وفي اسوء الحالات الى حد القصاص بالمثل.فجوهر الفلسفة المندائية قائم على أساس التعايش السلمي المبني على المساوات في الحقوق والواجبات، وتكاد تكون المندائية الديانة الوحيدة من بين الديانات القديمة التي تحرم تحريما تاما تصنيف المجتمع الى طبقات ((سيد وعبد) ،وهذا ما يؤكد عنصرين الاول تنافرها مع السومرية والثاني تأصل جذورها المشاعية . ومما يؤكد الجذور المشاعية للديانة المندائية هو آثارها المغروسة في طريقة اعداد الطقوس الدينية واللوفاني، ولا يفوتنا ان نذكر ان الزي الديني الاجتماعي (في نفس الوقت ) هو هو لكل فرد لافرق بين شخص وآخر رجلا كان ام امرأة ترميذا كان ام كنزبرا (عدى فوطة الرأس للمرأة) كما وتؤكد النصوص الدينية على تحريم الاكتناز . اضف الى ذلك ان صناعة الأدوات الطقسية تذكرنا بالعصور البدئية الاولى حيث الطريانة و الكنكانة واللتان تصنعان من الطين فان صناعتهما تعود الى ما قبل الفخار وقد استمرت الى وقتنا هذا لتكون شفرة الماضي البعيد .اضف الى ذلك فان مراسيم الدفن لدى المندائيين تختلف جذريا عما هو لدى السومريين فاستخدام كل من القصب والبردي كوعاء لجسد المتوفي وطريقة صنع الحبال من سعف النخيل وهي طريقة موغلة في البدئية يؤكد على ان هذا الطقس والخاص بالمندائيين ضارب في القدم . كما وتخبرنا كل من الكتب والمرويات المندائية، الى ان المندائيين القدماء، اولائك الناصورائيين الأوائل لم يدونوا الكتب الدينية. ذلك انهم يحفضونها حفظا وقد شاعت ثقافة الحفظ هذه للآلاف السنين قبل السومريين، ولم تدون الا بعد انتشار الديانات الاخرى انذاك، واظطهادها للمندائية، مما اضطر المندائيين القدماء الى اختراع ابجدية خاصة بهم ليدونوا ما هو مهم في مخطوطات من الرصاص . وما يؤكد كلامي هذا ان الكثير من الطقوس المندائية وتفسيراتها بقيت متداولة بالتوارث دون ان تدون ذلك ان آثار ثقافة الحفض لم تنتهي بمجرد ان تم التدوين، بل استمرت ولوا بوطأ اخف، وكنتيجة للاضطهاد التي عانت منه المندائية، وفقدانها للمناخ العلمي الذي امتازت به في العصور المنصرمة، فقد ضاع ومع الاسف الكثير من تفاسير الطقوس والاعياد .
لم تستسلم ثقافة المشاع مع بروزثقافة العبودية في سومر بسهولة، ذلك ان الموروث المندائي يخبرنا عن تجارب عدة في هذا المجال ،ولكنها كانت تستمر لفترات قصيرة نسبيا حتى يدب فيها الضعف وتنتهي لتبتدء عند مجاميع اخرى، وفي اماكن اخرى، ويمكن القول ان آخر نموذج مشاعي منظم هو ما يطلق عليه بجماعة الاسينيين في فلسطين، تك الجماعة المندائية التي خرج منها ابونا يحيى (م. أ).

الاسراء والمعراج
ان قصة الاسراء والمعراج (لأدابا) الذي يعده بعض الآثاريين على انه آدم الاول لاتتفق وقصة خلق آدم في المندائية.بمعنى ان لاوجود لما يسمى بالاسراء أو الاعراج في قصة خلق آدم .اضف الى ذلك ان طقس تقديم القرابين الى الآلهه في الديانة السومرية ، تراه موجودا لدى أغلب الديانات التي أتت بعد السومريين، وخصوصا في الديانة اليهودية، والذي يطلق عليه بالهولوكست أي (حرق القربان بالكامل) ، والذي يعتبر من أكثر الطقوس قداستا .ومع ذلك فانك لاتجد لمثل هذا الطقس أي وجود في الكتب المندائية . وكنت قد اشرت في ردي السابق الى هذه المسألة واعيد هنا الى ان طقس اللوفاني يقصد منه استفادة المتوفين من طعام يقدم باسمائهم الى المحتاجين وليس لتبرأة ذنب مقترف .فليس في المندائية شيء اسمه تبرءة من ذنب وانما طلب غفران .
وعن مقارنة كل من النصوص السومرية ونصوص ما يطلق عليه بالديانات التوحيدية الثلاث، نرى مدى التشابه، في نضرة كل منهما الى قصة خلق حواء من ضلعة آدم ، في الوقت الذي نرى فيه انفراد المندائية بنظرة خاصة، تختلف اختلافا جوهريا عن قصة الخلق السومرية ، ففي سفر التكوين 352
((فأوقع الربُّ الإله سباتاً على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما وبنى الرب الإله الضلع التى أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم فقال آدم هذه الآن عظمة من عظامى ولحم من لحمى هذه امرأة لأنها من امرءٍ أخذت )) وتؤكد قصة الخلق السومرية على ان الانثى خلقت من ضلع الذكر اثناء مرضه نتيجة لعنة اصابته ،كونه اكل من الشجرة المحرمة في دلمون . وتعتبر دلمون جنة السومريين والتي تقع في منطقة البحرين الحالية . كما ان قصيدة دلمون السومرية تحاكي جنة عدن التوراتية كونهما تقعان داخل نطاق الارض.

الجنة السومرية : " أرض دلمون مكان طاهر , أرض دلمون مكان نظيف , لا تنعق فيها الغربان , حيث الأسد لا يفترس أحدا , حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة ولا تشتكي المرأة من العجز , انها ارض الخالدين حيث يعيش الأله انكي " 
التوراة : " وأخذ الرب الأله أدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها , وأوصى الرب الأله أدم قائلا : من شجر الجنة تأكل أكلا وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها " - سفر التكوين الأصحاح الخامس" .فيما تؤكد النصوص المندائية على ان حواء خلقت من طين كما خلق آدم من طين ولا وجود لسيدة الضلع أو قصة طرد ادم من الجنة في الادب المندائي على الاطلاق . اضف الى ذلك، عدم تشابه كل من مفهوم الجنة لدى السومريين ومن تبعهم من الاديان الاخرى، مع مفهوم الجنة لدى المندائيين، من حيث ان العالم المثالي المندائي ،يقع خارج نطاق العالم الارضي وما يحيطه .اضف الى ذلك عدم وجود اي ذكر لحيوانات ارضية هناك، على العكس من دلمون، ثم النضرة المزدرية للارض على اعتبارها خلق مادي متدني.
وهنالك اختلافات اخرى لاتقل اهمية عما تناولناه منها:
يعتبر اللون الازرق رمزا لعالم الضلام في المندائية، فيما تعتبره الديانة السومرية لونا مقدسا كما وتعتبر الارض مركز الكون في كل من الديانة السومرية والديانات الابراهيمية ، بينما في المندائية فان الارض هي خلق متأخر، أتى بعد مرحلة الخلق الرابعة ،اي بعد ملايين ملايين السنين من الخلق الاول . ( تؤكد المندائية على ان الخلق لايقتصر على الارض، بل ان الكون مليء بملايين الملايين من الكواكب الحية ) .
اضف الى ذلك ان الديانة السومرية تقدس كل من الكواكب والشمس ، فيما ترى الديانة المندائية في الكواكب والشمس والنجوم مخلوقات مادية زائلة وان تقديسها يأتي بالضرر .
وفي الوقت الذي تحرم فيه الديانة المندائية تحريما تاما بناء الهياكل والاصنام والمراقد بأي شكل من الاشكال، نرى ان بناء الهياكل وتمائيل الآله من مسلمات الديانة السومرية . فيما حافضت الديانات الابراهيمية على بناء الهياكل والمراقد.
اضف الى ذلك ان طقس الجنس المقدس تراه شائعا لدى السومريين والذي يتجلى في عيد رأس السنة السومرية (عيد الزكمك الاول)، والذي يتم فيه زواج ممثلة الآلهة نانا (الكاهنة العليا) وممثل الاله دموزي ( الملك) وهو عيد قاصف تسفح فيه الخمور ، فيما تشدد الديانة المندائية على نبذ الشهوات، على اعتبارها من الشرور، وتؤكد على كبح الشهوات وخصوصا الجنسية منها ، والاكثر من ذلك ،فانها توصي المتزوجين على ان لايحولوا الارتباط الروحي الى وسيلة غايتها اللذة الجنسية، بل التركيز على الغاية الاساسية وهي الانجاب.ونورد مثال من دراشا اد يهيى ( كتاب تعاليم يحيى) كيف ان النبي يهيى "م أ"يتردد من الزواج مخافة ان يأخذه من صلواته.... ((يايحيى انك كالجبل الذي سعفته النار ولم يعد يعطي عنبا في هذا العالم، انك كجدول جف ولم تعد تنبت على ضفتيه الاشجار . اصبحت بيتا بلا قيمة ...من سيخلف اسمك، ومن سيزودك بالمؤونة، ....وعندما سمع النبي يحيى"م أ" الصوت تجمعت دمعتا في عينه وقال : سيكون من السار ان اقترن بزوجة، وسيسعدني ان اخلف اطفالا ، ولكن لوا اني اقترنت بزوجة ثم جاء النوم، والرغبة فيها تملكتني ونسيت ذكر الرب ....؟. ما ان قال يحيى ذلك، حتى جائته رسالة من اباثر، تقول: يايحيى "م أ" تزوج وكون عائلة ،وانضر ان لاتسمح لهذا العالم أن يصل الى نهايته ....))ثم توصيه الرسالة، بكيفية التوفيق بين واجباته اتجاة زوجته وعبادة ربه.وهذه الرسالة ذات المغزى المجازي، تعطينا صورة عن مدى تباعد الخطوط بين السومرية والمندائية، والتي تؤكد تشريعاتها على ان كل ما يبعد عن ذكر الرب فهو باطل (( كل سهوة بيشي باطل )فيما نرى في طقوس الجنس المقدس لدى السومريين كيف تغني انانا للاله.....
(( أي حبيبي وأخي دموزي، لقد غسلت لك بالماء والصابون، وارتديت لك ثوب الملوكية ، ملوكية السماء ، وكحلت عيني وارخيت شعري على كتفي وزينت شفتي ولبست لك اساور الفضة وقلائد الخرز وسيحضر الناس فراشي ويكسونه بورد لونه مثل حجر الدورو وسأخذ حبيبي الى هناك حيث يضع يده بيدي وقلبه جنب قلبي . ايها العريس العزيز على قلبي ما الذ وصالك ، حلو كالشهد أيها الاسد العزيز على قلبي ليتك اخذتني الى غرفة النوم ....لقد اسرتني وها انا اقف مرتعشة امامك ....!ّ ويذّكرنا طقس الزواج المقدس هذا بسفر نشيد الاناشيد عند اليهود.
ثمة سؤال منطقي يطرح نفسه:
اذا كانت المندائية قد ابتدأت من خلال ماتبقى من الديانة السومرية كما يرى البعض ، فما الذي يدعوها الى التنازل عن قصة خلق الكون، وقصة خلق حواء من ضلعة ادم، والتشريعات القانونية، والعالم الآخر؟؟ في الوقت الذي نرى فيه، ان هذه الافكار كانت مقبولة ومستساغة من قبل الاقوام الاخرى، كالبابلية ...واليهودية ....والمسيحية ....ومن بعدها الاسلامية ؟ مادامت قد حولت الآلهة الى ملائكة ؟ وبالتالي هل من حاجة منطقية تحتم التخلي عن كل تلك الافكار الدينية !
مما لاشك فيه ان المجتمع السومري كأحد المجتمعات العراقية القديمة، اول من كتب الحضارة البشرية، لتكون البداية الحقيقية للتأريخ، ومع ذلك، فهذا لايعني ابدا بانهم هم اول من ابتدا الحضارة ،فليس من المنطق ،ولا من المعقول ،ان تبتدء الحضارة هكذا وبلمح البصر ،لينتقل الانسان من حياة الغاب الى المدينة. فحضارة الحفض ذات المجتمعات الصغيرة (اللاكتابية) قد سبقت السومرية بآلاف السنين ،وما السومرية الا انقلاب فكري على المشاعية، والتي كانت ركيزة الحضارات العراقية القديمة، لتبتدء بعدها مرحلة العبودية والصراع الطبقي .ان تأصل فكر المشاع في التشريعات المندائية من جهة ، والاختلاف الجوهري في النضرة الى نشوء الكون، وخلق الانسان الاول بينها وبين السومرية، وما تبعها من اديان( ابراهيمية )، تؤكد وبما لايقبل الشك ،على أن الدين المندائي كدين عراقي، موغل في القدم، له خصوصيته في هذا الشأن، وانه ابتدأ بمعزل عن الديانة السومرية. بل استطيع أن أذهب الى أبعد من ذلك في القول ان ضعف الديانة المندائية، ابتدأ مع بروز حضارة العبودية في سومر .

الهوامش
* (الطريانة والكنكانة) ادوات تدخل في الطقوس المندائية مصنوعة من الطين تفخر بدائيا من خلال تعريضها لاشعة الشمس.
* الثمار ويراد بها المواقع الجبارة في الكون كالمجرات والنجوم. 
*المواطن ويراد بها المساكن العظيمة اي الكواكب الكونية.

المصادر:
* ترسر الف شيالة( ألف واثنا عشر سؤال)
*درشا اد يهيا ( تعاليم النبي يحيى م.أ) 
*النشوء والخلق د.صبيح مدلول
*طقوس الجنس المقدس عند السومريين ، صموئيل كريمر، ترجمة نهاد خياطة مطبعة علاء الدين دمشق 1993 الطبعة الثانية.
*الواح سومر :صموئيل كريمر_ترجمة طه باقر 
عشتار ومأسات تموز :د.فاضل عبد الواحد على
* سومر اسطورة وملحمة :_د.فاضل عبد الواحد علي 
*العهد القديم
*سفر اللاويين
*سفر التكوين

نشرت في تاريخ
الصفحة 6 من 6