• Default
  • Title
  • Date

 لقد كانت مسيرة انبثاق التنظيمات الادارية للطائفة صعبة وشائكة ابتدأت في الخمسينات مرورا بالستينات والسبعينات والثمانينات وحتى منتصف التسعينات من القرن الماضي لقد كانت ولادة عسيرة بدأت من تحت الصفر حتى وصلت الى وضع نظام داخلي معترف به من قبل الدولة وتأسيس مجالس الطائفة الثلاث ومؤسسات متفرعة من هذه المجالس ومن هنا كان هذا الاساس الحقيقي لأنطلاقة مسيرة الطائفة الحديثة .

لقد كان خلف هذه المسيرة الصعبة والوعرة جمع من الرجال ضحوا بجهودهم واموالهم كي يؤسسوا اللبنات الاولى متحدين الظروف الاجتماعية والدينية والسياسية وكل ما مر بالعراق من كوارث ومآسي خلال نصف القرن الماضي ومن هؤلاء كان هناك رجال تميزوا عن زملائهم وكانت لهم لمسات لايمكن تجاهلها وكان لوجودهم داخل هذه التشكيلات ثقل مميز ومن هؤلاء الدكتور قيس مغشغش السعدي

لقد عمل الدكتور قيس مع الرواد الاوائل في مجلس التولية والمجلس الروحاني الاعلى وكان هو الاصغر عمرا بينهم لكنه كان العنصر النشط والمحرك لكل الانشطة واللجان التي سعت في سبيل ارساء مسيرة الطائفة لقد كان الدكتور قيس شعلة من النشاط والحركة والافكار المتجددة ويشهد له من عمل معه وكنت انا قد عملت معه في آخر اربع سنوات له في العراق قبل سفره الذي فرض عليه فرضا الى خارج العراق  لاسباب اقتصادية بعد ان تدنت رواتب الموظفين والتهمها التضخم الذي اجتاح الاقتصاد العراقي في تسعينات القرن الماضي نتيجة الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق .

 كنت قد انضممت الى المجلس الروحاني الاعلى بداية عام 1994بديلا عن الاخ المرحوم حامد نزال السعودي ممثلا للعائلة البريجية في المجلس الروحاني الاعلى لتردي حالته الصحية فصادف اننا تمكنا آنذك من الحصول على موعد لمقابلة  رئيس الجمهورية (صدام حسين) بعد ان انتظرت الطائفة ثلاث سنوات كي تحصل على هذا الموعد لطرح مطالب   الطائفة المختلفة والحصول على موافقته الشخصية عليها .

 بتاريخ 6/6/1994 حصلت المقابلة وكان عدد اعضاء الوفد المندائي 17 عضو وهو عدد العوائل المندائية بالمجلس الروحاني الاعلى  وبرئاسة المرحوم الشيخ عبد الله الشيخ نجم وقد قدم الوفد هدية الى رئيس الجمهورية عبارة عن كتاب كنزا ربا مفتوح من الفضة والذهب بأسم الطائفة وقد استجاب صدام حسين لاغلب مطالبنا وكان من ضمن هذه المطالب هو اصدار قرار رئاسي بتفرغ الدكتور قيس السعدي من عمله كأستاذ جامعي لحاجة الطائفة لخدماته لكونه امين سر المجلس الروحاني الاعلى ولكثرة مسؤولياته آنذك على امل ان يستمر بأستلام راتبه البسيط من الجامعة ويستمر باشغال الدار الحكومية المخصصة له من الجامعة في الزعفرانية وتسير الامور كي يرتاح الدكتور قيس ليتفرغ كليا للعمل في الطائفة .

لكن الامور لم تسير كما تمناها الدكتور قيس فقد احيل على التقاعد وله بالخدمة 23,5 سنة بقرار رئاسي وترتب على ذلك ان يحسب تقاعده وكأنما قد خدم 15 سنة والادهى من ذلك فانهم انذروه بترك الدار بعد اشهر قليلة بسبب احالته على التقاعد عندها امسى الدكتور قيس بدون وظيفة حكومية ولا راتب ولو بسيط والاهم انه اصبح بدون سكن فتلاشى امله بتحسن حالته المادية وحاول ايجاد مورد رزق يسد حاجاته العائلية ويوفر له السكن لكن وبسبب الوضع الاقتصادي السيء بسبب الحصار وبالرغم من ذلك كله استمر الدكتور قيس باداء عمله بالمجلس الروحاني العام ثم في مجلس شؤون الطائفة العام وانكبابه للنشاطات الثقافية المندائية وحاول مد جسور التعاون بين الطائفة وبين منظمة اليونسكو في العراق لكن تسبب له هذا النشاط بمشكلة مع الدوائر الامنية وكادت ان تدخله بمسائلة أمنية خطيرة !!؟ ثم بدأ بأصدار مجلة آفاق مندائية فصدر منها عددين ودفع مسودات العدد الثالث الى المطبعة وفي عام 1977 أأتمنني سره وافضى لي بما ينوي عمله في اليوم التالي وهو انه سيترك العراق الى ليبيا بسبب صعوبة الحياة وتوفير لقمة العيش التي استعصت عليه واصبح بدون سكن ووضع تحت الاعين الامنية بسبب وشاية من رأس كبير في الطائفة بحجة اتصاله بمنظمات عالمية بدون التسلسل الرسمي المعمول به امنيا فسافر في اليوم التالي ولم يخبر سوى المقربين جدا منه وبدأت هجرته ليقضي سنوات في ليبيا ثم هاجر الى النروج وبعدها الى المانيا واستقر فيها .

لقد حرم الدكتور قيس من راتبه التقاعدي لسنوات خدمته التي نقصت سنة ونصف وحرم من شموله بقانون الخدمة الجامعية ولم يحصل منه الا على دنانير بسيطة تساويه مع متقاعدي الحد الادنى لموظفي الدولة !!

بالرغم من وجود الدكتور قيس بالمنفى فانه وبعد ان استقر هناك يعتبر نموذجا رائعا وشعلة وهاجة لخدمة المندائية اذ تراه يعمل بمختلف الاتجاهات وخاصة الثقافية وتمكن من اصدار العديد منها وقد كان ولايزال يفاجئنا بانجازاته الكثيرة . أفيعقل ان قيادة الطائفة لاتنظر اليه وترشحه لاحدى مناصب الدولة العراقية المخصصة للطائفة داخل أو خارج العراق جزاءا لجهوده المتميزة ولكونه شعلة ثقافية ناشطة وهاجة تعكس الوجه الحضاري للطائفة اقول قولي هذا وكلي الم وحسرة على قيس وعلى مئات من الكوادر العلمية والثقافية المندائية المتواجدة خارج العراق والمؤهلين لاشغال مناصب رفيعة في الدولة العراقية .

شكرا لكم والحي يزكي عمل الخيرين

 

 لم ينس الشعب ابناءه مهما تراكم غبار النسيان ،ولم ينس الوطن ولا الحركة الثورية أولئك البناة الاوائل الذين سطروا اللبنات الاؤلى للبناء الشامخ الذي لم تتمكن معاول الشر من تهديمه ولا الايادي الخبيثة والمدعية من حجبه بستار أو تشويهه ...

لا نكشف سرا ً ؛ فهو ليس سر،بل نريد ان نرفع علما ً من أعلام حزبنا ،وما أكثرها،عَلماً ما لفه النسيان ،بل بقي شامخا بوجه الاعاصير ،ذلك هـو المرحوم جبار عبود لفته،ابو نضال ... 

فـي اواخر عام 1964 ،في سجن نقرة السلمان ،في القاعة رقم 7 ،عندما كنت في زيارة لصديقي وزميلي في اتحاد الطلبة في اواخر الخمسينات،المرحوم خلف جودة الذي توفي في الغربة ودفن في مقبرة شهداء الشعوب في برلين ،جلب انتباهي ذلك الرجل الاشقر البدين القصير القامة ذوالعينين الزرقاوين المدورتين والنظرات الحادة جدا، بضحكته المجلجلة في القاووش وصوته العالي في الحديث. لم أسأل عن تفاصيله إذ كلما اعرف عنه انه رجل مسن وشيوعي قديم. لم تتوطد بيننا علاقة آنذاك ،وافترقنا، وفي 2/ 4/ 1979، وفي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التقينا ثانية وكانت معه عائلته، وصارت لنا علاقة حميمة وأسماهـا العلاقة الرفاقية. وقد تزودتُ بالكثير من تجاربه وخبرته النضالية، ومن خبرة زوجته الكريمة (وعد) ام نضال التي استلمت بطاقة عضوية الحزب من الرفيق سلام عادل مباشرة عندما كانت في بيت حزبي .ومن الملفت للانتباه انه كان يعقد اجتماعا لعائلته في كل يوم جمعة ولمدة ساعتين وفق برنامج مرسوم يناقشون فيه: وضع العائلة والوضع السياسي ودراسة كراس ماركسي والنظام الداخلي للحزب، وما يصدر من ادبيات ... سيق ولده الاكبر نضال الى الخدمة العسكرية وهو معاون طبيب،ووقع في الاسر في ايران واطلق سراحه بعد عشر سنوات .اما ابنه الاصغرعائد فلبّى نداء الحزب والتحق بقوات انصار الحزب الشيوعي العراقي في كردستان .وفي احداث جمهورية اليمن اليمقراطية الشعبية المؤلمة والدامية غادر مع عائلته الى سوريا،وفيها توفي ودفن في مقبرة الغرباء مشيّعا من قبل العراقيين وحركات التحرر هناك ...ان ما دفعني لاعداد مذكراته هو انني قراتها عندما كنت في اليمن الديمقراطية ،وبعد ان دار علينا الزمن واخرجنا السلاح الكيمياوي من كردستان ،حيث كنت ضمن قوات انصار حزبنا الشيوعي، وعبر ايران وصلت سورية وعثرت على تلك المذكرات بمساعدة احد اقاربي . فاتصلت باخيه في السويد سامي ،ورد اسمه في المذكرات، وطلبت منه اعدادها ونشرها لاهميتها .وقد مضى على طلبي ثلاث سنوات ولم يتحرك ساكنٌ ؛ووفاء ً لذلك المناضل المقدام واسهاما مني في تغطية شيء من التاريخ السياسي لحزبنا والحركة الثورة في عراقنا الحبيب ،بذلت هذا الجهد المتواضع في اعداد هذه المذكرات ،عسى اكون قد وفيّتُ بعض الشيء.علما بانني لم اضف شيئا او اتلاعب بجوهر الاحداث صيانة للامانة واحتراما للكلمة التي دونها فقيدنا بقلمه،ولا زلت احتفظ بنسخة من المذكرات .... 

 

تقول هويته الشخصية : 

ـ الاسم الكامل جبار عبود لفته ـ ابو نضال ـ 

ـ تاريخ الولادة 1921 / العمارة 

ـ المنشأ مدينة الصويرة 

ـ الانحدار الطبقي حرفي ( والده صائغ ) 

ـ المهنة معلم، خريج دار المعلمين الريفية 

ـ تاريخ عضوية الحزب 1947 / بغداد 

ويكتب ابو نضال عن حياته السياسية والمهنية ويقـول : 

منــذ حركة رشيد عالي الكيلاني دخلنا معترك الحياة السياسية والعمل الوطني ،حيث المظاهرات العفوية في قضاء الصويرة ضد الانكليز .وجراء مشاركتي فيها اُلقي القبض عليّ وتم حجزي لمدة اربع ساعات ...دخلت دار المعلمين الريفية في الرستمية في بغداد في 1941 ،وانتقل اهلي الى بغداد ..وفي عام 1944 كانت تجتمع في بيتنا خلية من عسكريي القوة الجوية مكونة من اربعة عناصر بضمنهم اخي الاكبر خضير عبود وشخص اخر اسمه كاظم حمدان ، وقد شرح لي كاظم اهدافهم وعملهم وعن الاتحاد السوفييتي وعظمته وعن اهداف الحركة الشيوعية .فاقتنعت بما قاله لي ،وقدموا لي قصة الام لمكسيم غوركي .ومنذ ذلك التاريخ انغمرت معهم في العمل بنشاط وهمّــــــة،

بعدها قابلت داود الصائغ وصار اتصالي معه هو واكرم حسين وسلمانــــــي المطبعة 

فوضعتها في بيتي وهو كوخ في العواضية في بغداد، ومن تلك المطبعة خرج اول عدد من جريدة العمل... وفي مجرى العمل تعرفت على عبد الامير عباس، وكاظم حمدون، وخلف، وسليم الفخري، وحسين الدوري، وغضبان السعد، وحسين الوردي، وفاروق برتو وجليل صخيل، وعبد الحسين[عامل سكك] وصادق الفلاحي والكثير غيرهم... وخاصة عندما فتحت مكتبة الرابطة في شارع غازي [ شارع الكفاح حاليا ] 

ولم ينفك عملي عن جماعة المطبعة التي كانت باشراف اكرم حسين ، هذا بالاضافة الى نشاطي الحزبي في دار المعلمين الريفية. حيث كسبت العديد من الطلبة والمدرسين،كما كان بيتي ماوى لطلبة كلية بغداد في اضرابهم، ونشطت في جمع التبرعات لهم .وكنت ايضا من النشطين في مقارعة بيروقراطية ادارة دار المعلمين انذاك.وعندما توضح لي باننا نعمل في كتلة منشقة عن الحزب ،رحت ابحث عن الحقيقة اذ كان داوود الصائغ يتكلم دائما ًعن الرفيق فهد واصفا اياه بالبيروقراطي والمستبد ...كان استمراري في البحث عن الحقيقة لا يخلو من البساطة والسذاجة احيانا، واخيرا استدعيت الاخ عزيز سباهي وهو احد اقاربي واوضحت له ما يمليه عليّ داود الصائغ ،وكان النقاش بيننا يدور حول :هل يوجد حزب شيوعي في العراق ام لا ؟ ولم نتفق بادء الامر ولكن ،ومع استمراري بالعمل اكتشفت ان داود الصائغ كان يضم كل فرد يطرد من الحزب ،ومثال ذلك هو فاضل فعل الذي طرده الرفيق فهد بعد اتهامه بالتجسس لصالح الامن ،ففي احد الايام كنت جالسا امام مكتبة الرابطة واذا بجليل صخيل يستصحب معه فاضل فعل ويقدمه لداود الصائغ ،وما كان من داود الاّ قبول فاضل عضوا في الرابطة وادخاله لجنة العمال !؟ وبهذا اخذ فاضل يتحرك مع العناصر التي تعمل في مطبعة الرابطة ،وفي تلك الفترة انكشف البيت الذي يحوي المطبعة في الكرادة الشرقية واحترازا تقرر نقلها الى مكان آخر ولما لم يكن قد تهيأ بيت لها كلف داود الصائغ اكرم حسين لنقل حروف المطبعة الى بيت عبد الامير عباس لحين توفير بيت اخر ،وكان هذا التوجيه امام فاضل فعل ..نقل اكرم حسين حروف المطبعة الى بيت عبد الامير عباس . وبنفس الليلة ألقي القبض على اكرم حسين وعذب وكسر سنّه فلم يصمد فاعترف على انه نقل حروف المطبعة الى بيت عبد الامير عباس .وبعدها القي القبض على داود الصائغ وغضبان السعد وخضير عبود لفته( اخي) وآخرين .وبنفس الوقت وفي ليلة واحدة ألقي القبض على الرفيق فهد ورفاقه {{ حدثت تلك الاعترافات والاعتقالات في أيام اصدار مكتبة الرابطة كتاب الدولة والثورة للينين ترجمة سليم الفخري ،وبنفس الوقت أُصدر كتاب حياة ديمتروف من مكتبة دار الحكمة العائدة للحزب الشيوعي}}

كانت الحملة شديدة جدا ًسواءً بالاعتقالات او بمصادرة الكتب من المطابع.. وبعد صدور الاحكام على الرفيق فهد ورفاقه ،تم الاتفاق على حلّ الرابطة والانضمام الى صفوف الحزب .ذهبت الى الرفيق عزيز سباهي فاعطاني اشارة اتصال واتصلت باحد الرفاق وكان حلاقا في شارع الشيخ معروف ،واستمر الاتصال لغاية تخرجي من دار المعلمين وتعييني معلما في قرية الحفرية .

 

فــي قريــــة الحفريـــــة

 

استمر اتصالي بالرفيق الحلاق وبعدها بالرفيق صبري سباهي ،حتى سنة 1950 حيث كنت استلم الادبيات والمنشورات عن طريقه لان عملي كان ضيّق جدا لان المدرسة التي اسكنها بعيدة عن القرى الاخرى وقريبة جدا عن بيت الشيخ حامد السيد وخدمه ووكلائه ، وان سيطرته على الفلاحين كانت شديدة جدا ،تصل حد كتم الانفاس، ..... درست مع نفسي ظروف المنطقة وامكانية العمل بين صفوف الفلاحين ،منطلقا من الاحتكاك المباشر بهم وتلبية بعض احتياجاتهم اليومية ،فكنت احلق شعر تلاميذ المدرسة كما وفرت عدّة لتصليح الفؤوس والمناجل ،وكنت احصل على الادوية والضمادات من مستوصف الصويرة ،وظفتها لخدمة الفلاحين .ثم اشتريت راديو اسمع به مع الفلاحين الاخبار والتعليقات وبالاخص برامج اذاعة موسكو كما عملت حفلتين ومهرجانا رياضيا للفلاحين ثم مزرعة لتوفير الخضار ووظفت وارداتها لمساعدة التلاميذ الفقراء .وبهذا دخلت قلوب الفلاحين ،وأدى عملي الى كسب ثلاثة من الفلاحين وكونت منهم خلية حزبية ويرتبط بتلك عدد من الاصدقاء ... 

 

فـــي قريـــة الحريــــــــــة

 

في مطلع العام الدراسي الجديد نقلت اداريا الى قرية الحفرية وهي قرية تابعة الى قضاء الصويرة وتبعد عنها 21 كيلو متر ،صاحب تلك القرية عبد الله المجيد وهوشخص متعلم يدعي الديمقراطيةالبرجوازية ،ويشاع انه من جماعة النقطة الرابعة .وفي العهد الجمهوري شارك في المؤامرات ضد النظام الجمهوري ...في هذه القرية كنت مستمرا على نفس النهج ،نهج الاختلاط بالفلاحين وكان اغلبهم من الفلاحين المتوسطين الذين يملكون قطع ارض صغيرة على امتداد نهر الكَص .أنشات مزرعة قطن تصرف وارداتها للتلاميذ الفقراء ، وشراء عربة تجرها الخيول لجلب التلاميذ من الاماكن البعيدة ، ثم فتحت صفا لمحو الامية مجانا ً،ضم فلاحين فقراء وسراق .وعندما شعر الملاك عبد الله المجيد بالتفاف الفلاحين حولي ،راى في ذلك خطورة على مكانته بينهم فاتصل بمديرية المعارف بغية نقلي من المدرسة ،وبالفعل تم ذلك فنقلوني الى قرية بدعــة، بعد اربعة اشهر ... 

 

فـــي مدرســــــة قريـــــــــة بدعـــــــة

 

بدعة قرية تبعد عن الصويرة 10 كيلومتر،شيوخها ثانويون ،يسمون شيوخ الفحل وكلهم من عشيرة زبيــــد .تمكنت في تلك القرية من كسب بعض الشباب المتنورين وبشكل خاص من اولاد الشيوخ فصاروا اصدقاء للحزب ...كان مركز عملي في قضاء الصويرة التي ترعرعت فيها واكملت دراستي الابتدائية . عملت لجذب شباب المدينة من مختلف الفئات الكادحة ومن المثقفين والطلبة والمعلمين بحيث صارت لي قاعدة جماهيرية وبذلك كونت منظمة واسعة تضم لجنة المدينة وترتبط بها عدة خلايا من الكسبة والكادحين وحلقة للاصدقاء بالاضافة الى الاصدقاء الفرديين ،وكذلك كان لنا عمل مع النساء لرابطة الدفاع عن حقوق المرأة ... كانت لجنة المدينة تتكون مني ومن رسول واسماعيل حمه الخياط واخيه خليل حمه الخياط ،وكانت سمعة الحزب كبيرة جدا ولها وزنها في المدينة .لقد ساعد على ذلك التحرك الظروف السياسية المؤاتية انذاك ،حيث كان جو الانتخابات حماسيا وبالاخص المنافسة بين الشيخ حامد العجيل مرشح الحزب الوطني الديمقراطي وبين مزهر السمرمد المرشح عن حزب الدستور ( حزب نوري سعيد ) .وفي ذلك الجو المشحون بالحماس والتسابق ،قتل الشيخ حامد من قبل جماعة نوري السعيد .وقد لعبت منظمتنا دورا ً بارزا ًفي فضح مزهر وحكومة نوري السعيد وبالرغم من اعلان الاحكام العرفية ،والهجمة على الحزب وايقاع ضربة به في بغداد ،توسعت منظمتنا اكثر فاكثر ،وفي تلك الاثناء اصدر امر اداري بنقلي الى الزبيدية .... 

 

 فــي ناحيـــة الزبيديـــــــــــــــة 

الزبيدية ناحية صغيرة معزولة ومهملة تابعة الى قضاء الصويرة وفيها ملكيات صغيرة للفلاحين .بقيت في الزبيدية اريع سنوات وقد بدأت عملي في التركيز على كسب إمام الجامع "الحاج عكَار"وهو من اهالي الناحية فصار صديق للحزب ومن ثم انضم الى منظمة انصار السلام .ومن اهالي الناحية ايضا معلم اسمه جاسم بالك،كان سابقا صديقا

للحزب فصار خير معين لي في عملي ،رغم انه كثير التشكك. تمكنا من تشكيل هيئةاسميناها مجازا[لجنة المدينة]، اخذت على عاتقها العمل الحزبي، فوضعت برنامجا طموحا للعمل بين الفلاحين القريبين وبين ابناء المدينة كذلك.كانت الهيئة تجتمع مرة في الاسبوع، تنشر سياسة الحزب وتقوم بالتثقيف بشعاراته،وكانت الادبيات ترسل لنا من بغداد والمراسلة هي زوجتي ام نضال والى جانبها فاطمة زوجة عبيد محسن واخته زيدة [وقد ارغمنا زيدة على الزواج من عامل السكك عبد الله رغم عدم اقتناعها] ومن زيدة وفاطمة وام نضال شكلنا لجنة لرابطة الدفاع عن حقوق المراة. ومن الطرائف التي تذكر، كانت تاتي الينا بين الحين والاخر سينما بريطانية متحركة، تستخدم للدعاية الى بريطانية، فهاجمتها المنظمة النسائية وخربت شاشة السينما!! وتسهيلا لعملي اشتريت دراجة نارية استخدمتها في الذهاب الى الكوت والنعمانية والصويرة، وعندما توسع العمل تمّ ضم خليل حمه الى لجنة مدينة الصويرة، وعند غيابي كان يدير العمل رسول عبد الرضا[وهوبقال].

وبالرغم من اهمية اجتماعاتنا وانتظامها وبرامجها ومراجعة تلك البرامج ونقدها بشكل

مستمر لم نكن نكتب محاضرا لتلك الاجتماعات، علما ان الحزب كان يعرف عن نشاطنا بشكل جيد... وفي عام1951 صار اتصالنا بالكوت وكان مسؤول الكوت انذاك الرفيق جليل ابراهيم الاطرش [كان ناصر عبود عضو ل.م قد تزوج اخت الرفيق جليل واسمها عطية، تعمل مراسلة للحزب كوت ـ بغداد.] ولكن الرفيق ناصر طلقها بعد فترة مما اثرعلى جليل فارتد وانتقل الى بغداد واشتغل في معمل للمياه الغازية...في ذلك الوقت تكونت لي علاقات جيدة مع اشخاص معينين في مدينة الحي كان ابرزهم الرفيق هاشم جلاب مسؤول المدينة ... 

كان نشاطنا مميزا ًانذاك اعتبارا من توزيع البيانات والكتابة على الجدران والسماع الى اذاعة موسكو في المقاهي وتحدي وكلاء الملاكين،ومن ثم مقاطعة الانتخابات الصورية، وفتح صفوف لمحو الاميّة في القرى القريبة جدا من المدينة ،قيادة اضراب الفلاحين ضد اعمال السخرة ،وبهذا كتبت جريدة القاعدة مقالا ضافيا ًعنه.اقترح جاسم بالك ان نعمل باسم الحزب الوطني الديمقراطي وقد ارسلنا المقترح للحزب ،بناء ًعلى طلبه ،وقد رفض المقترح وشرحت اسباب الرفض فانزلنا الرسالة الى كل قواعدنا . 

فـــــي عام 1953 انكشف امرنا فتم استدعاء عبيد محسن وجاسم بالك الى مركز الشرطة للتحقيق معهما ،لكن مواقفهم كانت صلبة ومتماسكة ملم يُنل منهما شيء. طلبتُ من الحزب الموافقة على ذهابي الى بغداد لقضاء العطلة الصيفية،لكن الرفيق عدنان عضو لجنة لواء الكوت رفض ذلك وطلب مني الذهاب الى النعمانية حيث كانت قوى راية الشغيلة وعدد اعضائها اكثر من قوانا .كان منظم النعمانية انذاك رفيق خياط ـ لا اتذكر اسمه ـ وفي حينها كان يوزع كراس او نشرة انجاز رقم 13 الصادرة من الحزب. 

ذهبت الى النعمانية ،وبعد شهر قمنا بنشاطات تذكر من ضمنها توزيع نشرات فـــــــي اربعينية ستالين ( وهي بخط اليد )،وزعت تلك النشرات بشكل مكثف أمام بيتي مما اثار انتباه الشرطة،فقامت بتحري البيت وللمصادفة كان معي في البيت الرفيق عدنان فعثرت الشرطة على بعض الادبيات والكتب ومنها تاريخ الحزب الشيوعي السوفييتي ،وتعتبر تلك مستمسكات جرمية ،اما نحن فقد تمكنا من الهرب وافلتنا من الطوق الذي ضربوه حول المدينة .لقد ساعدني على الهرب بعض رفاقنا ومنهم الشهيد تركي الحاج صلاّل الموح وهو من اعلام ثورة العشرين الوطنية في الديوانية وبعد جهد كبير وصلت الى قرية( البو خايس ) وهي قريتهم فمكثت فيها خمسة ايام ثم ذهبت الى الديوانية بمساعدة المحامي زيد وهو الاخ الاكبر لتركي ،ومن الديوانية الى بغداد فاتصلت بالحزب واسكنني في بيت حزبي وكان معي في نفس البيت الرفيق مهدي عبد الكريم (نعمان) .كان البيت مركزا للاجتماعات الحزبية ،ويتردد علية الرفاق [ نزيهه الدليمي ، دليّ مريوش ،خضير عباس،.وغيرهم ] .وبعد مدة ارسلني الحزب مع زاير عبد(ابو كاظم)وهو رجل مسن عمره 60 سنة ويعمل حائكا ً ومن اهالي احدى قرى الناصرية ..

زاير عبـد مناضل قديم ،متدين أمي ،كان مع الرفيق فهد في حزب جعفر ابو التمن، يحب الشيوعية ويحترمها كثيرا ،كما كان مراسلا بين الرفيق فهد وثورة ريسان الكَاصد في سوق الشيوخ ...

فتحتُ دكانا ًصغيرا باديء الامر وعندما بدا هذا الدكان يعرقل حركتي ولايساعد على سرية عملي بشكل جيد ،طلبت من عامر ان يعلمني الحياكة وبالفعل علمني المهنة فاشتريت عدّة للحياكة وعملت (جومة)في البيت واخذت انتج العباءة الصوفية كأي حائك. بعد ذلك رحّل الينا الرفيق مهدي غويلي من اهالي الكوت ومعه الرفيق ورد عنبر من اهالي سوق الشيوخ فشكلنا لجنة اللواء وقسمنا العمل كما يلي : 

ـ ورد عنبر/ مسؤول عن سوق الشيوخ والقرى التابعة له . 

ـ مهدي غويلي/ مسؤول عن قضاء الشطرة وتوابعها والرفاعي وقلعة سكر . 

ـ جبار عبود / مسؤول عن مدينة الناصرية وناحية الزديناوية وناحية البوصالح والفهود 

وبعد فترة قصيرة من العمل اعترض الرفيقان ورد ومهدي على عملهما ،فطرحت فكرة ان آخذ ريف سوق الشيوخ بالاضافة الى عملي ،ومهدي على اعتباره متفرغ للعمل الحزبي يبقى في عمله ،لكنه رفض تلك الفكرة ايضا ،فاقترحت عليه ان يبقى مشرفا ًالى حين ايجاد منظم للعمل يحل محله فرفض ايضا ؛فزودته برسالة وذهب الى بغداد ،وقد جاء رد الحزب يصف فيه ذلك العمل بانه بيروقراطي فظ ،وجلب الرسالة الينا الرفيق سلام عادل ومعه والدي ومهدي ،وعقدنا جلسة فور وصوله (وصول سلام)الينا . 

لم اكن ابالي بمظهري حتى صرت وكأنني من الدراويش القدماء ؛ملابس رثة ولحية طويلة (مبهذل)،انتقدني سلام على هيئتي تلك ،ورغم اعترافي بخطأي،انتقدني بشّدة. كان سلام آنذاك مسؤولا ً عن المنطقة الجنوبية ... لقد اوضحت لسلام في الاجتماع دوافع عملي وهي احياء التنظيم سيما وان اللواء كبير وتنظيماتنا واسعة وركائزنا منتشرة في المدينة وفي الاقضية والنواحي والقرى والاهوار واذا لم نكن بمستوى المسؤولية فالافضل لنا ان نترك العمل ونجلس على التل ،اننا لانريد حزب أفندية كما قال فهـــد،بل علينا ان نعمل بنكران ذات وهمة شيوعيــة ... 

شرح سلام كيفية العمل هنا وبهذا الظرف بالذات حيث الحزب مضروب من قبل العدو وعلينا ان نعمل خطوة خطوة وبهدوء تام ويجب الاّ نفرط بقوانا . ثم قام سلام بالاشراف على تنظيمات اللواء(الناصرية)،ومن ثم استصحب مهدي غويلي معه وذهب ... وبعد ذهابهما رسمنا خطة عمل للواء تتلخص بايجاد مكتبة لكل تنظيم ،ولكل تنظيم ان يرسم خطة عمل تفصيلية له وفقا لظروفه ،كما ركزنا على جانبين هامين هما :التغلغل بين الجماهير ،وتحسين العمل الفكري .وبذلك قمنا بحملة واسعة للاشراف على التنظيمات المذكورة والاتصال بالعناصر التي تركت العمل ،كما نشطّنا عملنا بين صفوف الطلبة والمثقفين وكان اتصالهم معي مباشرة ً...

اما الرفيق ورد عنبر فاخذ مسؤولية سوق الشيوخ فقط . 

وفي الزيارة الثانية لسلام عادل الينا وكان معه عباس علوان من اهالي ابو الخصيب قام بالاشراف على مدينة سوق الشيوخ وعلى لجنة الفلاحين مؤكدا على كيفية العمل بين الجماهيرالفلاحية وتقوية التنظيمات والركائز،عندها طرح ورد عنبر وضعه الشخصي،وبعد رجوعنا الى الناصرية عقدنا اجتماعا قسمنا فيه العمل كما يلي :

ــ ورد عنبر/ مسؤول مدينة سوق الشيوخ فقط .

ــ جبار عبود /مسؤول لجنة لواء الناصرية ومشرف على لجنة الفلاحين في سوق الشيوخ ،واحياء الركائز في خط الاهوار ،اضافة الى ناحية الفهود وكَرمة بني حسن والنواحي القريبة من مدينة الناصرية مثل البوصالح والزيديناوية والشطرة .وبمسؤلية الشطرة الاشراف على الركائز الموجودة في السويجات .وبمسؤوليتي ايضا الاشراف على قلعة سكر مع فلاحيها والرفاعي .تلك كانت خطة العمل التنظيمي وتوزيعه الجديد وقد حضيت تلك الخطة بموافقة سلام عادل . وبعد ثلاثة ايام من مغادرة سلام الى البصرة ارسلنا ام نضال لجلب البريد الحزبي وكانت في ايامها الاخيرة في الحمل فجلبت البريد ووزعناه على مسؤولي الخطوط . ومن جانبي ذهبت الى ناحية الفهود ومررت بكَرمة حسن وآل شدود وآل جويبر .وهناك اتصلت باحد مناضلي 1946ـ 1947 وكان ذلك المناضل صاحب نكشة(قطعة ارض صغيرة لاتزيدعن ربع دونم)كما اتصلت باحد مختاري آل جويبر وفراش مدرسة كَرمة بني حسن وهم ركائز لنا ،ثم اشرفت بشكل مباشر على لجنة الفهود ومنظمها صبيح دابس وهو معلم ومناضل قديم ونشط واستغرقت السفرة عشرة ايام .ولدى رجوعي وقعت في كمين امام البيت ولم استطع التخلص منه ،بل تمكنت من اتلاف ما لدي من اسماء ؛كانت عندي بعض العباءات الصوفية فادعيت بانني حائك واسمي حسون منصور من اهالي النجف وابيع العباءات في قرى الناصرية ،مما اثار احتجاج كبار التجار والشخصيات في المدينة ضد التعذيب البشع الذي يلاقيه المناضلون كالسحل بالسيارة والنفخ من الشرج وغيــرها .

وقبل القبض عليّ كانوا قد القوا القبض على زوجتي ام نضال وعلى والدتي العجوز ومن جراء التعذيب ولدت زوجتي وهي في المعتقل ولدت طارق .في حينها دافعت عنها وعن المعتقلات السياسيات الاخريات ،رابطة الدفاع عن حقوق المراة ،حيث كانت معتقلة اخرى من مدينة حلبجة ايضا .فقدمت الرابطة عريضة احتجاج بـ 400 توقيع (وتلك مسجلة في مجلة الرابطة لسنة 1954 )حدثت تلك الاعتقالات نتيجة تلفون من حسين قاسم العزيز مدير ثانوية الناصرية انذاك .حيث اتصل بمديرية الامن واخبرهم بان الشيوعيين يوزعون مناشير معادية للحكومة .ونتيجة ًلتلك المكالمة القي القبض على الطالب حسين علوان ، وهو طالب في نفس الثانوية وصادف ذلك موعدا كان بين حسين علوان وبين عباس علوان عضو لجنة لواء الناصرية ،فحدثت اعترافات نالت بعض الطلبة وزاير عبد وورد عنبر.ولم يعترف الاخير على لجنة المدينة ،لانه لم يكن قد استلمها بعد ،وعندما راى عباس علوان التعذيب بعينه ،تأثر كثيرا وندم على ما فعل .

وفي المعتقل تكلمت معه وطلبت منه ان يتوقف عند هذا الحد، عندها توقف عن المزيد من الاعترافات ولم يذهب الى البصرة .

وبالنسبة لوالدتي فقد استغلوا بساطتها ففي اليوم التاسع من توقيفها عرفوا ان اهلها في مدينة الصويرة فجلبوا اخيها وعندما سمعت بهذا الخبر قررتُ الاضراب عن الطعام من اجل الافراج عن والدتي من التوقيف وايداعها لدى المختار خوفا من تأثير اخيها والتمادي في اعطاء معلومات اكثر،وبعد ايام من الاضراب تحقق المطلب الرئيسي فارسلوا والدتي الى المختار وهو احد اقاربها .بقينا في المعتقل 6 شهور أضربنا فيها عن الطعام مرتين .

قدمونا الى المحكمة فحكمت عليّ بالسجن سبعة شهور وحكمت على عباس علوان وحسين علوان بالسجن ثمانية شهور،وعلى والدتي احدى عشر شهرا مع ايقاف التنفيذ لان المحكمة اعتبرتها مراسلة للحزب ،واعتبرت ام نضال زوجة مرافقة لزوجها .ولا يجب ان يفوتني القول انني قدمت شكوى على المحقق الذي حقق معنا في المحكمة الكبرى في البصرة وتلك الشكوى احدثت ضجة كبرى بين النجفيين فقدموا مذكرة احتجاج وقعها خمسون من كبار التجار احتجاجا على التعذيب الذي لقيناه في المعتقل .

امضيت محكوميتي (سبعة شهور)في سجن بعقوبة .بعدهـا ارسلوني الى المحكمة وفقا للدعوى المقامة ضدي في النعمانية ،كان ذلك في الاول من آب /1954 فحكمت عليّ المحكمة بالسجن لمدة سنة ونصف السنة مع الابعاد عن المنطقة لمدة سنة ،وكان محامي الدفاع كاظم جعفر وكان يومها من انصار السلام (وبعد ثورة 14/تموز/1958 قيل عنه انه كان يعمل لصالح الامن ،ولم يكن له أي نشاط بعد الثورة ).ارسلوني الى سجن الكوت لقضاء محكوميتي فيه فوضعوني في زنزانة اعدام داخل السور وكان معي الرفيق عبد الله كَوران الشاعر الكردي المعروف وكذلك شهاب التميمي .فاضربنا عن الطعام وبعد خمسة ايام نقلوا عبد الله الى سجن بعقوبة وفي يوم 17 نقلوا شهاب الى بدرة اما نحن الباقين فقد استمررنا في الاضراب لمدة 30 يوما ،واضرب معنا ثمانية من السجناء العاديين ومن ثم اعلن السجناء العاديون العصيان وكان منظم العصيان عبد الرحمن زنكَنة وهو من اصدقاء الحزب ،وبذلك نفذت كل مطالبنا ونقلونا الى سجن الموقف في بغـداد. وفي ذلك السجن اضربنا لمدة 12 يوما وفشل الاضراب ولم يحقق لنا شيئا وبعد شهر واحد نقلونا ،وكنا ثمانية رفاق ،الى سجن بعقوبة فوضعوني في زنزانة انفرادية وبقيت مدة ثلاثة اشهر ومارسوا معي تعذيبا شديدا وكان مدير السجن (زين العابدين) سيء الصيت ومامور السجن فليّح ،وبعد تلك المدة نقلوني الى السجن الكبير الذي كان فيه الرفيق كريم احمد وبقيت حتى شهر كانون الثاني سنة 1956 ثم ارسلوني الى بغداد ،ولما لم ينالوا مني شيئا ( اعطاء البراءه )ارسلوني الى الكوت ومن هناك الى بدرة حيث امضيت مدة الابعاد ،وهناك جلبت عائلتي فبقيت معي لمدة ستة اشهر ثم طلبها الحزب فأسكنوها في بيت مطبعة الجبهة والذي فيه كل من محسن العاني ووسيلة ونورية شقيقة حسين الوردي .وفي اول شهرمن سنة 1957 حيث لااتذكر في ايّ شهر انتهى الابعاد ،فارسلوني الى الصويرة عن طريق الكوت ومن الصويرة اطلق سراحنا بكفالة قدرها مئة دينار . 

وبودي ان اضيف (( في اول سجني سنة 1954 عاشت زوجتي في البيوت الحزبية المتقدمة مثل بيت حميد عثمان وهادي هاشم وسلام عادل وصبيح سباهي وآخر بيت هو بيت محسن العاني ))... 

عودة الى العمل في مدينة الناصريـــــــة 

عندما وصلت الناصرية، وبعد فترة وجيزة ،اخذت ابحث عن تراث الرفيق فهـــد والحركات الثورية لجماهير المنتفك .بالاضافة الى ثورات سوق الشيوخ وعصيان آل جويبر في الهور على الحكومة ورفض اعطاء ابنائهم للتجنيد ،وعشائر اخرى عاصية على الحكومة ايضا ..حصلت على معلومات عن مدينة الناصرية فكان الرفيق زايرعبد يسرد لنا اعماله البطولية ومراسلة الرفيق فهـــد شخصيا ً، مع ريسان الكَاصد،في ايام ثورة سوق الشيوخ عام1935 وتكلم عن المظاهرة الفلاحية في نفس السنة في داخل مدينة الناصرية وكذلك عن اضراب طلابي سنة 1919 وكذلك في العشرينات حيث كانت تعقد الجلسات في دواوين بيوت الرجال الذين حاربوا الانكليز وابرز ديوان هو ديوان عبد الجبار حسون جار الله والذي زاره الانكليزي المعروف باسم ( لورنس العرب ) وكان زاير يحضر تلك الجلسات وهو متخفيا ً ويستمع لمناقشاته .وعند افتتاح الحزب الوطني العراقي حزب جعفرابو التمن في بغداد،ذهب عبد الجبار حسون الى جعفر ابو التمن وطلب منه فتح فرع في الناصرية فلُبي طلبه واول رعيل هم عبد الجبار حسون جار الله وفليـح الخياط وعبد الكريم حسّون جار الله وعبد الجبار غفوري وحميد كسار واخرين .. ثم تكلم عن اعتقال الرفيق فهــد سنة1931 على أثر اصدار المنشورالاول في الناصرية والذي وزع هناك وارسل منه نسخا الى النجف وكربلاء وهذا المنشور مذيل باسم ـ الحزب الشيوعي العراقي ـ واعترف الرفيق فهد بكونه شيوعي ودافع عن المنشور وعن الشيوعية ،وشرح لنا زاير عبد ،كذلك عن مجيء عائلة الرفيق فهد في عام1927 ، من قريتهم في شمال العراق ،وكيف تعلم الماركسية على يد احد الخياطين الارمن ،وكيف كوّن فهــد الحلقات الماركسية وكانت الواحدة لاتعرف الاخرى ،في داخل الحزب الوطني العراقي وابرزهم الاسماء المذكورة اعلاه ،ماعدا ًعبد الجبار حسون جار الله وتكلم عن الشهيدين اللذين سقطا في المظاهرة ـ ضد الضرائب ـ في سنة 1932 وكان اسم احد الشهيدين محمد السايس .وكذلك حصلتُ على كتابات بخط الرفيق فهـد .... 

العمــل فـي بغداد

بعد اطلاق سراحي ووصولي الى بغداد ،جاءني شريف الشيخ ومعه صبيح سباهي ؛ 

تكلم شريف عن محتوى رسائلي من بدرة الى الحزب والتي كانت تخص القسوة التي كان يستخدمها صبيح سباهي مع زوجتي ،عندما كانت معه وبالطبع نفى التهم ! وبعد فترة قصيرة ارسلنا الحزب الى بيت حزبي آخر فسكنا مع بيتر يوسف ويقع ذلك البيت 

قرب سدة ناظم باشا في العلوية .وهناك زارنا سلام عادل وصالح دكَلة ،تكلمت مع سلام عادل عن التحاقي بالتنظيم وثانيا حول الغبن الذي لحقني وكان يومها صالح دكَلة مسؤول بغداد وعضو لجنة مركزية ،على ما اعتقد، وبعد تلك الزيارة التحقت في لجنة عمالية كان منظمها حكمت كوتاني ومعنا كاظم علي ،ابو سلام،واجتمعنا اجتماعا واحداً فقط وكان في جدول الاعمال فقرة واحدة هي انتقاد نوري سعيد للحزب ،بخصوص المظاهرات التي خرجت في سنة 1956 كونها مظاهرات طلابية وليس عماليةوالحزب الشيوعي حزب عمالي ،وفي تلك السنة خرجت مئة مظاهرة بمناسبة العدوان الثلاثي على مصر .وقد حلت تلك اللجنة وبعدها صار اتصالي بصالح دكَله بشكل فردي وبعد فترة قصيرة خرجت من البيت الحزبي لاسباب عرفتها فيما بعد حيث القي القبض على بيت المطبعة الذي كان فيها صبيح سباهي وحزام عيّال ووسيلة وفي تلك الكبسة انهار حزام وزوجته وسيلة ،وفي الطريق ولدى انتقالنا الى الوشاش تحرت شرطة الامن السيارة التي نقلنا بها الاثاث ولما لم يعثروا على شيء تركونا فواصلنا المسيرة الى الغرفة التي استأجرناها في الوشاش القديم وكان من المفروض ان يخبروني في موضوع النقل واسبابه حتى آخذ الاحتياط الللازم .وبعد الاستقرار في الوشاش اخذت افتش عن عمل فذهبت الى رفيق لي وصديق لجاسم بالك الذي كان يشتغل وكيل لاحد المقاولين الكبار واسمه عمران ،اشتغلت عندهم بصباغة الجدران فعملت في معسكر المنصورية قرب المقدادية وكان يومها آمر المعسكر عبد الكريم قاسم ورأيت اجتماعات عبد الكريم قاسم مع بعض الضباط والنقاش الذي كان يدور بينهم كما سمعتهم عندما كنت اصبغ مقر عبد الكريم قاسم فاخبرت الحزب بذلك فردّ الحزب ان اترك ذلك الموضوع وفي يومها كان اسمي عوّاد ... 

وبعد انتهاء العمل من ذلك المعسكر ذهبت الى محل جاسم محمد بالك من اجل التفتيش عن عمل اخرفي شارع الشيخ عمر ،وعند وصولي الى هناك وبعد خمسة دقائق مرّت سيارة أمن فلاحظتنا (جاسم وانا ) لان جاسم كان مكشوفا لهم فأ لقوا القبض علينا وقادونا الى الامن العامة وبعد الاستجواب عرفوني وطلبوا منا اعطاء البراءة مـــــن

الحزب لكنهم لم يفلحوا .وبعد ثلاثة ايام ارسلوني الى الصويرة وبقيت هناك 25 يوما رهن الاعتقال ،بعدها خرجت بعد ان اعطيت رشوّة الى معاون الشرطة ...

العمــــــــــــل فــــي ثــورة 14 / تمـــوز / 1958

 بعد خروجي من التوقيف ذهبت الى بغداد في 11/تموز/1958 وبعد ثلاثة ايام كانت الثورة المذكورة ولدى سماعي نبأ الثورة خرجت من البيت على الفور متوجها الى شارع الرشيد ومعي اخوتي ندعوا الجماهير الخروج الى الشوارع وفي فترة قليلة جـــدا نزلت الجماهير الى شوارع بغداد فالتقيت برفاق عديدين امثال كاظم علي وادمون واخته وحسين الرشيد وجاسم بالك وخالص وغيرهم من الرفاق . وبعد الظهر اخذنا جانب الكرادة الشرقية خارج فكبسنا النادي الماسوني وكان فيه الكثير من اسماء ممن يدعون الوطنية مع صورهم وسلمنا السجل والتصاوير الى الحزب ،وبعد ثلاثة ايام اجتمع بنا الرفيق سلام عادل ومعه صالح دكَلة في بيت ادمون وكان عدد نا ثمانية رفاق اذكر منهم ادمون وجاسم بالك وخالص وعلي حسين الرشيد وكان الموضوع الرئيسي المطروح هو فتح ابواب الحزب الى الجماهير الكادحة ( لان اسم الحزب اكبر بكثير من حجمه ) ،كما طرحها الرفيق سلام عادل وفي هذا الموضوع كان النقاش حادّ جــدا ً . في بداية اللامر طرحت على الاجتماع تحفضي من اغراق الحزب بالعناصر البرجوازية الصغيرة وانجراره الى مواقف غير ثورية وغير صحيحة ولما اسهب الرفيق سلام عادل في الموضوع اجمع الكل على ارائه . والموضوع الاخر هو ضرورة المحافظة على الجمهورية الفتية وحثنا على العمل المتواصل .وبعد هذا الاجتماع توجهنا بكل نشاط نحو النقابات للعمل فيها وكان معي علي حسين الرشيد حيث ازحنا الهئات الادارية الصفراء وشكلنا هيئات تحضيرية وقد استلمت هذه الهيئات مقرات النقابات .وابرز النقابات التي عملت فيها هي نقابة عمال الاحذية والمياه الغازية والبناء وغيرها .. تواصل عملنا من ساعة مبكرة في الصباح حتى منع التجول ليلا .وعملت مع لجنة المفصولين من اجل افشال طلب التعهد سيء الصيت الذي تبناه عبد السلام عارف وزير الداخلية انذاك،فذهبنا الى شخصيات وطنية مثل كامل الجادرجي وصديق شنشل . 

( ولي موقف من هذا الوزير وهو من حزب الاستقلال فوقفت في وجهه بشدة حتى حاد عن تأييد ذلك التعهد ) وكذلك اشتغلت في الهيئة التحضيرية لنقابة المعلمين وكنت مندوباً عن نقابة المعلمين في المؤتمر الاول ،وفي اللجنة المشرفة على الانتخابات . 

 

 العمل التنظيمي في الكوت

بعد فترة ارسلني الحزب الى مدينة الكوت لقيادة التنظيم هناك ، وكانت لجنة اللواء مكونة من حسون الحركَاني وجليل ابراهيم عبادة وعبد الرزاق عبد الرضا من مدينة الحي .وصار تقسيم العمل كما يلي :

ــ جبار عبود / مسؤول تنظيم اللواء ،ومنظم لجنة المدينة المؤلفة من الرفاق رشيد طاهر ،معلم ، وعباس محمود وهوكاتب محاسبة في التربية وعباس طباطبائي ،متفرغ للعمل الحزبي وحمودي،عامل،ونافع ،طالب ثانوية .كما كنت اقوم بمهمة الاشراف على جميع تنظيمات الصويرة وتتكون من( لجان؛الزبيدية والصويرة والعزيزية والقرى المرتبطة باللجان التابعة لتنظيم المدن ). 

ــ عبد الرزاق عبد الرضا / مسؤول عن لجنة مدينة الحي وريفها والجمعيات الفلاحية هناك .

ــ جليل ابراهيم عبادة / مسؤول عن ناحية النعمانية وريفها والجمعيات الفلاحية هناك .

ــ حسون الحركَاني / مسؤول عن لجنة الفلاحين المحيطة بارياف الكوت والدجيلة وكذلك عن الجمعيات الفلاحية .

استلمت تنظيم الكوت المكون من عدد من الاعضاء والاصدقاء، والمرشحين الذين قُبلوا بصفة اعضاء بقرار من المكتب السياسي ،وعددهم 60 مرشحا ًوكان ماجد عبد الرضا الذي غادر الكوت قبل وصولي اليها ،مرشحا ًكما اخبرني عباس محمود الطباطبائي ... 

وبرغم عرقلة حسون الحركاني وجليل ابراهيم للعمل الا ان عملنا سار على ما يرام ،فقد وضعنا خطة للعمل تقضي بتقسيم لواء الكوت الى مناطق وقد ركزنا في عملنا بداية الامر على المعلمين والمثقفين واكثرهم من ابناء الكادحين وهم الوجه الظاهر والمتحرك للبلدة ،وخصصنا انضج الرفاق الى عمال ميكانيك السيارات والمكائن ..وحصيلة عملنا كانت جيدة جدا حيث تجاوز عدد الاعضاء والمرشحين 800 شخصا في داخل مركز مدينة الكوت وحدها ،وقد سُلم التنظيم الى الرفيق حسين سلطان عندما كلف باستلام التنظيم انذاك . ومن الاعمال الاخرى ايضا ،جمع آلاف التواقيع من اجل اجازة جريدة اتحاد الشعب ،وبذلك استلمنا تقييما جيدا من المكتب السياسي لعملنا باعتبار تنظيم الكوت من التنظيمات المتقدمة في عملها ....وللعلم لم تحدث حوادث مؤلمة في لواء الكوت في عام 1959 ما عدا ماحدث في النعمانية والحي من مماحكات ورد على اعمال شغب [ في اول ثورة تموز كان محسن الشيخ حمود ،اخو الشهيد علي الشيخ حمود الذي اعدم مع رفيقه عطا الدباس في عام 1956 في انتفاضة الحي المجيدة ،قد باع نفسه الى الاقطاعي الكبير مهدي البلاسم وتستر محسن بواجهة الحزب الوطني الديمقراطي وفعل فعله التخريبي وبذلك حصلت بعض الحوادث في مدينة الحيٍ] ...طلب مني الحزب ان احضر مع لجنة مدينة الحي اجتماعا في بغداد ،فاجتمع بنا الرفيق سلام عادل وبهاء الدين نوري وهادي هاشم في بيت هادي هاشم في الاعظمية، اكد سلام في الاجتماع على ضرورة القضاء على كل الخلافات الثانوية داخل التنظيم ، وينبغي لفّ اوسع الجماهير وبالاخص الفلاحية منها حول الحزب كما اكد على تحاشي التصادم مع القوى الوطنية. والعمل على ايجاد جو من التعاون والتضامن ضد الاقطاع والعناصر المخربة من امثال محسن الشيخ حمود ..وبعد فترة طلب الحزب حضور لجنة لواء الكوت ولجنة مدينــــــة مركز الكوت .أدار الاجتماع بهاء الدين نوري .وفيه تقرر تشكيل لجنة محلية تتكون من ابراهيم عبد الكريم وجليل ابراهيم عباده وحسون الحركَاني ورشيد طاهر وعباس الطباطبائي ،ويكون مسؤولها جبار عبود (ابو نضال) .وبقي عباس محمود ونافع نادر وحمودي في لجنة المدينة ،على ان يضاف اليهم رفاق نشطين من لجان الاحيــــــــاء.. 

وبعد اشتداد عرقلة حسون الحركاني وخليل ابراهيم عباده وابراهيم عبد الكريم ( الان هم بعثيون معادون للحزب بشدة )،بعد عرقلة هؤلاء وعدم انسجامهم في العمل الحزبي ،ويعارضون حتى الاشياء الصحيحة والتوجيهات التي تأتي من الحزب ،قرر الحزب ارسال الرفيق حسين سلطان عضو اللجنة المركزية لقيادة المحلية ،وان ياخذ ابراهيم عبد الكريم تنظيم لجنة المدينة في الكوت ،وهناك بدأ نضال ،الافندية؟ ،فلم يتطور التنظيم بل تراجع بشكل كبير ...اما الحركاني حسون فعمل وكأنه اقطاعي بين الفلاحين فكان يقدّر السراكيل ووكلاء الاقطاع المكروهين من قبل الفلاحين ويحترمهم ويزدري المسحوقين والفقراء مما فاقم المشاكل وضاعفها ،وبذلك اضطر الحزب ان يستدعي الحركاني ويضمه الى ريف بغداد ،ويعهد بالتنظيم الذي يقوده اليّ ( ريف الكوت) إضافة الى عملي في قيادة اللواء كله ...اما جليل عباده فكان هو الاخر يهمل تنظيم النعمانية ويكتب تقارير غير واقعية ،وصارت مشاكل وتصادم بين رفاقنا وبين الحزب الوطني الديمقراطي الذي عشعشت فيه الرجعية واخذت تحركه ...ولا يفوتني ان اذكر قبل استدعاء حسون الى بغداد وعزله من الريف في الكوت ،استدعاني الحزب وكلفني بالعمل مكانه ،هناك قابلت الرفيق حسين سلطان وذهبنا سوية الى الرفيق كريم احمد وبعد الحديث معه تقرر ان نذهب نحن الثلاثة الى الرفيق بهاءالدين نوري ، ولما تحدثت عن تصرفات الحركاني غضب بهاء كثيرا وتهجم عليّ من دون مبرر موضوعي وانتهى الاجتماع دون نتيجة تذكر ... وبعد حسين سلطان استلم التنظيم احمد الحلاق وعملت معه دون تردد ،انطلاقا من ان العمل الحزبي ليس بالمراكز بقدر ما هو مهمة نضالية يؤديها العضو الحزبي ... 

في 3/ تموز/ 1959 نظمت اجتماعا واسعا حضره اكثر من 200 فلاح وكان مهرجانا ناجحا . في تلك الاجواء الحماسية اتى المبشر بالثورة ،الرفيق حسين سلطان ، ومعه قرار الحزب باعلان الثورة من الكوت وتحديدا في يوم 5/ تموز/59 فكانت فرحتي كبيرة لا توصف فصحت :مرحبا بثورة العمال والفلاحين بقيادة حزب فهد ،مرحبا بالراية الحمراء وعلى الفور اجتمعنا ( حسين سلطان واحمد الحلاق وأنا ) وقررنا ان اذهب الى عموم ريف الكوت واضع الفلاحين على اهبة الاستعداد واعطائهم اشارة بدء التحرك الى مدينة الكوت واحتلالها سوية ً مع جماهير الحزب فيها .وفي المساء أخذت اربعة مسلحين اشداء معروفين لدى الفلاحين وركبنا سيارة جيب وسرنا الى التنظيمات الفلاحية واسغرقت الرحلة من المساء حتى صباح اليوم التالي نتجول فيها بين القرى والجمعيات الفلاحية نخبرهم باعلان الثورة ونعطيهم الاشارة ،مع تبليغ بعض الفلاحين باخذ سلاحهم والتوجه الى الفلاحين في الكوت .وفي اثناء رجوعنا تعرضنا الى كمين كاد ان يبيدنا إلا ان المصادفة خدمتنا وذلك ان افراد الكمين عرفوا احد الرفاق الذين معنا .ولدى وصولنا ،مع طلوع الشمس ذهبت الى المقر وابلغت حسين سلطان بما فعلنا ،وفي اليوم الثاني ،وفي نفس الموعد المقررلاعلان الثورة 5/7/1959 لم نسمع اي شيء من الاذاعة فاجتمعنا ،نحن الثلاثة ،على الفور لنتدارس الموضوع فكان رأي الرفيق حسين سلطان ان نعلن الثورة من مدينة الكوت واريافها ولكن احمد الحلاق عارض ذلك وقال : علينا اخبار الحزب ومن ثم العمل حسب ظروفنا فرد حسين سلطان بإن المسألة مدروسة وجميع اعضاء اللجنة المركزية ومكتبها السياسي موزعون فــــي جميع انحاء العراق استعدادا لهذا العمل .طلبت الاستراحة لانني مرهق جدا ً وفي المساء ذهبت لمعاودة الاجتماع فلم اجد حسين سلطان واخبروني بان الرفيق سلام عادل وبهاء الدين نوري جاؤا واخذوه معهم الى بغداد ..( مؤخرا علمت ان عبد الكريم قاسم اعطى الحزب وزيرين فصرف النظر عن القيام بالثورة وكأن الثورة تساوي وزيرين !؟ ). وأبدل شعار( كفاح ـ تضامن ـ كفاح ) بشعار ( تضامن ـ كفاح ـ تضامن ). ونسينا انه لايمكن تحقيق طموحات الطبقة العاملة الا باخذ السلطة السياسية ،وقد كان بامكان ذلك وباقل تضحيات مما اعطيناه من خلال سياسة التراجع المنظم .وفي سجن نقرة السلمان سمعت الكثير من هذا القبيل من رفاقنا العسكريين وسوف اكتبه في مذكراتي لاحقا .

العمـــل فـــي مدينــــة الحلـــــــــة 

وفــي ردة عبد الكريم قاسم السوداء نقلوني اداريا سنة 1960 الى الحلة ،التحقت بالتنطيم هناك وكان مسؤول المحلية آنذاك الرفيق ابو هشام ( محمد حسن مبارك ) وكنت في مكتب المحلية ومسؤول عن التنظيم النسوي وبعد القاء القبض على كاظم الجاسم عهد اليّ تنظيم الريف ..كانت اللجنة المحلية تتالف من ابو هشام سكرتيرا( وهو عضو منطقة الفرات الاوسط) 

ومن الرفاق مجيد وهادي صالح من بعقوبة ،كانت نشاطاتنا كثيرة ومنوعة منها القيام بتحشيد مظاهرة كبيرة من الحلة تتوجه الى بغداد تطالب بايقاف مساومات قاسم مع شركات النفط ( منها خضوع قاسم لمطلب شركات النفط بغلق جريدة اتحاد الشعب ) .كانت الهتافات تتعالى :هذي الارض للشعب مو للحرامية، نريد حصة من النفط 70% ،عاش السلام العالمي هوّ وحماماته يسقط الاستعمار هو وعصاباته . في المظاهرة شخصني بعض رجال أمن الكوت ومن عملاء النظام من معلمي الحلة ،وحال رجوعي الى الحلة القي القبض عليّ وارسلوني الى الكوت وبعد فترة احالوني الى المحكمة العرفية في 17/ 12/ 1961 وحكم عليّ وعلى بعض الرفاق من الكوت وعددهم ( 15) لمدة 4 سنوات كما حكم على ابراهيم عبد الكريم الذي احيل معنا الى المجلس العرفي العسكري كذلك ،(11 ) شهرا ًمع ايقاف التنفيذ وارسلونا الى سجن البصرة وهناك التقيت الرفاق حسين من عمال البصرة ومعه في المنظمة الرفيق وعد الله النجار وكان محكوما بالاعدام وخفض من قبل عبد الكريم قاسم وكان ممثل للسجن امام الدائرة ،ولدى التحاقنا بالسجن جاءت رسالة من البصرة تقضي بتسليمي قيادة منظمة السجن ،ولما كان وعد الله على خلاف دائم مع حسين وكانت ارائي تتفق بالاغلب مع اراء حسين عمل وعد الله على نقلي اداريا الى سجن نقرة السلمان وللتغطية نقلور معي ثلاثة رفاق من الذين جاؤا معي من الكوت وهم عباس ، طالب في دار المعلمين وعريبي دشنة وعاصم وهو طالب ثانوية .وللتاريخ اذكر بان الوشاية كانت بصورة غير مباشرة كما اعتقد .حدث ذلك بعد شهر من وصولنا السجن . 

فــي9/ 3/ 1962 وصلنا سجن نقرة السلمان بعد ان تأخرنا كثيرا في معتقل السماوة وهناك وجدنا ثمانية رفاق من الموصل قسم منهم مخفضة محكومياتهم من الاعدام وكان مسؤلهم الحزبي الرفيق محمد وهو فلاح من الجمعيات الفلاحية في العزيزية وادعى كونه عضو عضو في لجنة مدينة العزيزية وذلك غير صحيح كما اعرفه انا .بعد فترة ارسل الى السجن رفاق اخرون حتى صار العدد 70 سجينا من الشيوعيين وعدد قليل من البعثيين والقوميين ومنهم أياد سعيد ثابت وخالد صالح الذي قام بتعذيب الرفيق حمزة سلمان حتى الموت .كما كان معنا الرفيق مهدي حميد وجماعة من كركوك ومن دهوك ومن عين تمر ...وغيرهم ذلك بالاضافة الى 250 محجوزا كرديا ومنهم 60 برزانيا ً ولهؤلاء البرزانيين تنظيمهم الخاص .

انقلاب شـباط الاسـود في 8/ شباط / 1963

بعـــد انقلاب شباط الاسود ارسل الى سجن نقرة السلمان الكثير من السجناء سواء كانوا محكومين قبل الانقلاب ام بعده وكان اغلبهم من الذين لم يتمكنوا من الصمود في التعذيب والمسالخ البشرية التي مارسها البعثيون وحلفائهم ضد الشيوعيين في قصر النهاية والنادي الاولمبي وفي السجون والمعتقلات الاخرى ...وبعد انقلاب 18/ تشرين الثاني / 1963 كانت المحاكم ترسل من تصدر عليه الحكم باكثر من خمس سنوات الى سجن نقرة السلمان ،حتى وصل العدد اكثر من 2000 سجين ومحجوز سياسي .واكيدا ً

لم يكن هؤلاء السجناء على مستوى واحد ولا حتى متقارب من الوعي الاجتماعي والتحصيل الدراسي والانحدار الطبقي .فقد ضم السجن من حاملي الشهادات العليا والاختصاصات الاخرى الى الاميين ،عسكريين ومدنيين ،اضافة الى مستوى مواقفهم في التحقيق وتحملهم التعذيب فلا بد ان تحدث في هذه الحالة مماحكات ومواقف وانتقادات ومفارقات ..

كان على راس التنظيم الحزبي في السجن عبد الوهاب طاهر وسامي احمد ومظفر عباس وهم لجنة التنظيم الحزبي في السجن ،اضافة الى مكرم الطالباني واحمد غفور وعادل سليم وعزيز سباهي وانا ...وفي 17/1/1965 اطق سراح المحجوزين وكان عددهم 52 سياسي ومنهم عزيز سباهي ود. احمد ومحمد ملا كريم وغيرهم وكنت معهم فارسلوني الى الحلة وهناك اطلق سراحي .

العمل في الخط العسكري 

عنــــد وصولي الى بغداد اتصلت بالحزب عن طريق زوجتي ـ ام نضال ـ وانتظمت في الخط العسكري وكان اتصالي بالرفيق عبد الرحمن السامرائي بشكل فردي ، وقد عرفت لاحقا ان صلته كانت بعباس محمود من اهالي الكوت ، وقد كتبت رسالة عنه وعن تاريخه (عن عباس محمود) وكشفت تسيبه وقلّة التزامه، وعندما التقيت معه قال لي : لماذا تكتب عليّ ( اصعد فوق في التنظيم وشوف الجيفة ) .كان عباس محمود يتصل بصالح دكلة المنهار وخائن الشعب . 

بقيت عدة اشهر من دون اجتماعات او احاديث لتطوير العمل السياسي والتنظيمي العسكري من اجل الثورة سيما وان الظروف كانت مؤاتية فكنا فقط نركب سيارة مصلحة نقل الركاب ونتجول على طول خط الباص ونتحدث بالاخبار التي تبثها وكالات الانباء العامة او الحديث بقضايا خاصة ليس لهما اية علاقة بالسياسة ،او الحديث عن السجون واعمالها وعن العسكريين المنهارين وقصصهم المريعة اثناء ردة شباط الاسود وغير ذلك من الاحاديث غير المجدية .ولا يفوتني القول إنني خلال تلك الفترة استلمت الرئيس مصطفى عبد الله وهو من الرفاق الاكراد وقد ساهم مع جنوده في ضرب قصر الرحاب في ثورة 14/تموز /1958 وهو الذي قتل الملك فيصل الثاني والوصي ،كما استلمت جندي من معسكر الوشاش والاخر المقدم علي وهو كردي كذلك وامر القوة البحرية في البصرة وكان قد سلم الى البعث فسالته عن سبب تسليمه تلك القوة الضاربة او لماذا لم يقاوم الانقلاب ؟ قال :كان بامكاني المقاومة وحتى احتلال البصرة كلها ! ولكني لم افعل لانني كنت اضن ان احتلال البصرة غير مجدي لان الانقلابيين سياتون وتصبح مجزرة في البصرة !!؟وانني اتصور ان مثل تلك العقلية لايمكن ان تعمل ثورة ـ كان موقفه في التحقيق مخزي ـ ...كتبت للحزب عن اعمال عبد الرحمن السامرائي وقلت ان مثل هؤلاء لايمكن ان يخدموا الخط العسكري لكن صوتي لم يسمع ! فما كان امامي الاّ ان اطلب نقلي الى الخط المدني .في بداية الامر لم تتم الموافقة ،ثم التقى معي صالح دكلة كمشرف من الحزب ،ناقشته اولا عن اوضاع عباس محمود وعبد الرحمن السامرائي فاخذ يبرر اعمالهم كون الخط سري للغاية فشككت بجدوى مثل ذلك العمل سيما وانني عضو قيادي وبقائي في مثل هذا العمل غير مجدي ، لكنني دهشت في حينها لوجود صالح دكلة في الخط العسكري ،وهو من العناصر التي خانت الحزب واعترف بالكامل وعلى كل شيء في قصر النهاية واكملها في النادي الاولمبي ،وانني اعتقد ان هزيمته ما هي الا مسرحية اراد تمريرها على الحزب وقد برهن الزمن على ذلك .وقد زودت الحزب بمعلومات عنه بعد خروجي من السجن في عام 1965 ، وبعد مجيء صالح دكلة جاء الرفيق آراخاجادور وطرحت عليه ما كان عندي من معلومات وكذلك عن الغبن الذي اشعر فيه وموقف الحزب مني ،وعن عباس محمود وعبد الرحمن السامرائي وتاريخهما وعن صالح دكلة وانهياره في التحقيق ،ثم طرحت الطريقة التي ينبغي ان يقيّم بها الحزب كادره واضعا امامه تضحيات الرفيق وصموده امام العدو وتماسكه في الشدائد ومحنة الحزب وغيرها...فقال :الى الان لا توجد قاعدة في الحزب لتقييم الكادر .فاصررت على نقلي الى الخط المدني لانني لااتمكن من العمل في مثل هذه الاجواء ... 

وافق الحزب على نقلي فسلمتهم علي مصطفى وعبد الله وغازي وهم من المتقاعدين ،وبقيت دون اتصال لثلاثة اشهر وبالمصادفة التقيت كاظم علي ( ابو سلام ) وشرحت له موضوع انقطاعي عن الحزب فاكد لي موعدا مع احد الرفاق ،وبالفعل التقى معي بيتر يوسف فطرحت له كل ما اريد وبذلك تم نقلي الى محلية الرصافـــــــة .

العمـــل فــي الخـــط المدنـــــي 

بعـــــد اجتماعي في محلية الرصافة ثلاث مرات وفي هذه الاجتماعات كانت تدور حول الثورة وكيف يمكن ان ندخل معسكر الرشيد ونستولي عليه مع الرفاق المتقاعدين! وساهمت في وضع خطة لذلك وبعدها ارسلوني الى محلية الكرخ حيث مسكني في البياع وعملت عمل جيد وبحماس ونكران ذات وساهمت برسم خطة من اجل الثورة واستلمت متفرعة ومعها تابعتين، ولما كنت مفصول عن التدريس ولايوجد عندي مورد اخر اعيش فيه مع عائلتي فعملت مع عمال البناء احمل على ظهري الطابوق وادفع عرباته وغيرها من الاعمال الشاقة بالنسبة الى عمري وكان في حينها منظم المحلية لايتجاوز عمره 24 سنة وهو من رفاقنا الاكراد واخيه ضابط لااتذكر اسمه) ثم اتى من بعده مالك منصور وكان معنا في المحلية نورعلي من اهالي النجف او كربلاء وقد انهار وسلم كل شيء للسافاك عندما القي القبض عليه في ايران وكان يعترض عليه عباس مظفر لانه معنا في المحلية وايضا معنا عبدالعال ( ابو مؤيد ) من اهالي الشطرة ونوري العاني الذي قتله البعث في العزيزية وعبدالعال ونوري هما خط مائل في الحزب لصالح ابراهيم علاوي( نجم ) او ابو ليلى، وهم من جماعة مايسمى الكادر المتقدم المنشقة عن الحزب علما ان ابراهيم علاوي من الجواسيس الدوليين وهناك دلائل كثيرة تشيرالى انه عميل. ولقد لعب نوري وعبد العال دورا كبيرا جدا بدخول ابراهيم علاوي مع عزيز الحاج المنشق كما لعب مالك منصور دورا كبيرا في الانشقاق في محلية الكرخ... وفي احد الاجتماعات جاءنا كمشرف ابو جعفر ( خضير من اهالي زاخو) وكذلك الرفيق الخضري والرفيق باقر ابراهيم وكان موضوع الاشراف قضايا تنظيمية ومسألة نور علي واعتراض عباس مظفر عليه والجدير بالذكر ( ان نور علي هو الذي قال نحن وقعنا في فخ وتصورنا نحن متصلين في حزب تودا وعلى هذا اعترفنا على كل ماطلب منا.) واعتبر عباس مظفر هذا الموقف تحدي للمبادىء الاصيلة في حزبنا كما طلب ان يعاقب بالتخفيض الى لجنة اقل من مستوى المحلية،على اقل تقدير،. ثم نوقشت مسألة الثورة كثيرا واخذنا استعدادات واسعة حتى قسمنا منطقة الكرخ ووزعناها على رفاق المحلية واصبحنا في انذار دائم ثم تأجلت ولم نعرف السبب الابعد فوات الاوان. وعند انقطاع عباس محمود عني كصديق عرفنا فيما بعد اننا كنا مخترقين حيث كان في صفوفنا بعض العرفاء من النظام كخط مائل.

عملي مع الانشقاق سنة 1967 

ان الانشقاق مدان ولايبررمطلقا مهما كانت الظروف . فهو تخريب ويخدم العدو بالدرجة الاولى ولحزبنا تجارب في الكتل والانشقاقيه منذ اوائل الاربعينات حتى الان امثال عبدالله مسعود القريني وكتله الى الامام ذنون ايوب وكتلة داود الصائغ وشورش (الحزب الشيوعي الكردي) وازادى والنجمة وغيرها في عقد الاربعينيات .والانشقاق الكبير الذي اضعف الحزب هو راية الشغيلة في الخمسينات و حزب بهاء الدين نوري، كل تلك الانشقاقات مدانة وكنت احاربها محاربة شديدة حيث ضاع من عمري ليس بالقليل مع كتلة داود الصائغ ونتيجة للممارسات والغبن الذي لحقني من لدن قيادة الحزب حيث من ابنائي وطلابي اصبحوا ينظموني قبل الانشقاق وكذلك ابتعاد رفاقي عني واصدقائي في نفس الوقت ولم يأتوا من اجل توضيح الظروف التي يمر بها الحزب والاخطار المحدقة به وهم رفاق على رأس الحزب وايضا في هذه الظروف الغامضة علىّ ومايجرى داخل الحزب وكل هذا وغيره انجررت الى المنشقين من دون ان اعرف بالانشقاق وان الشعارات التي رفعت استهوتني وجذبتني اليهم واكثر من هذا وذاك هو ادعاء الانشقاقيين بأنهم هم الحزب علما ان الحزب بأهدافه ومبادئه وليس باشخاص. 

قبل الانشقاق 1967 بأسبوع تكلم معي عبد العال ( أبو مؤيد ) عن اوضاع الحزب واين يسير فقلت: ان هذه الشعارات التي تقولها صحيحة ولكن لايمكن ان نشق الحزب مهما كانت الظروف والشعارات صحيحة لان الانشقاق يخدم الاستعمار بالدرجة الاولى وليس الحزب والشيوعية فقال: نعم انا ايضا ضد الانشقاق وقال نحن الحزب. وبعدها حدث الانشقاق ولم يخرج من المحلية غير نورعلى علما باني لم اشترك بأي عمل اثناء الانشقاق ضد الحزب، لقد عملت وكأنني في الحزب. وبعدما تأكد لي وانا في كردستان اعمال الانشقاقيين سنة 1969 جلست على التل وارسلت رسالة الى الحزب اعترفت بكل ماعملته من تخريب داخل الانشقاق ( من حيث لاادري) وللتاريخ اقول كانت زوجتي ضدي ومع الحزب وكانت تطرد من يأتي الى البيت من الانشقاقيين وتتهجم عليه وتخاصمني وحتى تمزق الادبيات وتتلفها وسوف اكتب في مذكراتي اللاحقة ذلك مرورا بخيانة خضير ( ابو جعفر) الى حافظ رسن ،وكيف اشتراهم البعث ثم اعدموا على ايدي رفاقهم واكتب ايضا عن ابراهيم علاوي الذي لعب دورا كبيرا في قتلهم واتطرق لمعارضتي قتلهم والاسباب التي دفعتني لهذه المعارضة لاعتقادى بان الحزب يستفاد بما يملكون من اسرار اقصد ( حافظ وخضير).

ومن المعروف حدث وان القي القبض على بعض اعضاء منطقة بغداد واذكر منهم مسؤل الطلبة وهو في الكلية الطبية فاعترف عليّ وكنت معلما في مدرسة كشاف في ناحية كوير/ قضاء مخمور/ اربيل، بعدما تم ارجاعنا الى الوظيفة في ايلول 1968 . وعندما كنا في مديرية تربية اربيل بغية استلام الراتب الشهري اشعرني مدير المدرسة بصدور القاء القبض عليّ فهربت بمساعدة احد اعضاء الحزب وهو صاحب دكان واسمه طلعت وبدوره سلمني الى الانشقاقين ومن هناك خرجت الى الجبل بتاريخ 4/2/1969. اطلعت اطلاعا كاملا على الانشقاق فقطعت علاقتي بتاريخ 8/11/1969 وبعد التوسط لدى القيادات الكردية عينت معلما في دربندرايات وهناك التقيت بالكثير من قياديي الحزب امثال الرفيق كريم احمد وجاسم الحلوائي وبهاء الدين نوري ومهدي عبد الكريم وملازم خضر وعمر الياس واحمد الجبوري وابو حكمت وغيرهم فكتبت رساله الى الحزب واعطيتها الى الرفيق عمر الياس عندما ذهب الى بغداد ادنت فيها الانشقاق ولكن لم استلم الجواب. وقبل خروج رفاقنا من كردستان التقيت مع ابو حكمت مصادفة في مدينة جومان فاوقفت سيارته وسألته عن وضعي فقال نرسلك الى امن اربيل وتعترف بكل شيء داخل الانشقاق فرفضت رفضا باتا حفاظا على كرامتي السياسية وشيوعيتي. وقلت في نفسى هذا الراي لايمثل رأي الحزب ومبادئه انه رايه الشخصي مهما كان مركزه ومؤخرا علمت ان الرساله التي ارسلتها الى الرفيق كريم احمد بيد عمر الياس انزلت الى محلية الكرخ ومنها الى تنظيماتهم وكان ابني في احدى الهيئات الحزبية فصاح هذه رسالة والدي.

بقيت معلما في جومان اتحين الفرص للخروج من هناك حتى تمكنت من اقناع الحركة الكردية بمساعدتي بالسفر الى سوريا كون سوريا قريبة من بغداد ويمكنني ان اجلب زوجتي واولادي وهم خمسة، مع المسافرين من بغداد الى سوريا. فاقنعت عضو المكتب السياسي حبيب عبدالكريم بواسطة العقيد نوري معروف وبدأت رحلتي الشاقة المليئة بالمجازفات والخطورة ومعي زوجتي وثلاثة من صغاري، بعد ان تمكنوا من الالتحاق بي وبقي الاثنان الكبار في بغداد، واتخذت طريق بهدينان – تركيا – سوريا – لبنان بمساعدة الحركة الكردية وساعدني في سوريا جماعة محمد نيو وفي لبنان جماعة صلاح بدرالدين. 

وفي 25/11/1974 اتصلت بالسفارة اليمنية بمساعدة صلاح بدرالدين بعد ان بقيت في لبنان سنتين وقد ساعدني الحزب الشيوعي اللبناني في الذهاب الى اليمن بعد ان حصلت على تزكية من الرفيق اليمني حسن سلامي استنادا الى رسالة كامل شاهين عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني. وفي اليمن تم تعييني بصفة مدرس في دار المعلمين والمعلمات في عدن اعتبارا من 21/10/1976 وبعد ثلاثة اشهر ارسلت رسالة الى الرفيق عزيز محمد ادنت فيها الانشقاق ونفسي وكل الاعمال التخريبية ضد الحزب. ارسلتها بواسطة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد ان رفضها الرفيق توفيق رشيدي (قتل من قبل السفارة العراقية في عدن بتاريخ 2/6/1979 ) وبذلك اعاد لي المكتب السياسي لحزبنا عضويتي. وهناك مارست حقي الطبيعي في العمل في صفوف حزبي مجددا ...

 

 

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة أحب أن أقول أن أغلب محطات حياتي ارتبطت مع الحزب الشيوعي العراقي. فقد شدتني برامجه وشعارته واهدافه منذ سنوات حياتي المبكرة، وعلى مر السنين وجدت أن الذين حملوا أهداف الحزب النبيلة هم من وهبتهم الحياة القدرة على التضحية بالنفس من أجل سعادة الآخرين.

ولدت في 31 آذار سنة 1937 ، في يوم ميلاد الحزب الشيوعي العراقي وفي كل سنة عندما أحتفل بعيد ميلاد الحزب أجدني أحتفل بعيد ميلادي أيضا وكأن الأقدار قد جمعتني بالحزب منذ يوم مولدي. ومن غرائب الصدف أن ابنتي الصغرى لينا ولدت أيضا في نفس اليوم، أقصد 31 آذار.

1- ماهي الظروف التي كانت تحيط بمدينتك في فترة الطفولة؟.

كانت ولادتي في قضاء قلعة صالح التابع لمدينة العمارة، في عائلة متوسطة الحال انتقلت إلى بغداد في سنة 1940 بسبب ضنك العيش في فترة إشتعال الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي لم يدخل العراق فيها كدولة فاعلة، لكنالروائي توفيق جاني الناشي مآسيها طالت جميع البلدان تقريبا. 

في سنة 1944 دخلت المدرسة الإبتدائية فشد إنتباهي وأنا في ذلك العمر اليافع كثرة الحديث عن الألمان والروس والشيوعية وفهد الذي كان اسمه يتردد على كل لسان بين أفراد عائلتي بعد أن وضع الابن البكر للعائلة إولى خطواته في طريق النضال الوطني. 

ومع مرور الأيام كانت الأحاديث تتزايد بين افراد العائلة والعوائل القريبة منا عن فهد والشيوعية حتى حل يوم الحكم على أخي سميع بالسجن سنتين وسنتين مراقبة وذلك في سنة 1946، وقد كنت مع العشرات من الاطفال نعجب بكل من يدخل السجن كسياسي. 

في سنة 1948 نهض الشعب العراقي في وثبته ضد معاهدة بورتسموث التي أراد حكام العراق ربط الوطن من خلالها بقيد جديد مع الإستعمار الإنكليزي وقد ترافق ذلك مع إختفاء الخبز من حياة الناس اليومية إضافة إلى تردي حياة الشعب الاقتصادية ووصولها إلى اوطأ المستويات. ورغم صغر سني لكنني كنت أخرج في المظاهرات مع عدد من أطفال المحلة ليس للنضال بل للعبث الطفولي في حين إن أمي كانت تأخذنا كل يوم للمظاهرات، فقد كانت تأمل من ذلك إطلاق سراح إبنها.

2- كيف تعرفت على الحزب الشيوعي ومتى؟

إنتهيت من مرحلة الدراسة الإبتدائية سنة 1950 وكان الحزب قد تلقى ضربة قاسية جدا أدت إلى تصفية أغلب منظماته وكوادره لكن أفكاره استمرت تغزو عقول الشباب وخصوصا المراهقين منهم. منذ اليوم الأول لدخولي مرحلة الدراسة المتوسطة تلقفنا عدد من الطلبة الثوريين ومنهم صفاء العاني وأكرم المهداوي والشاعر صادق الصايغ وتمكنوا من ربطنا بإتحاد الطلبة ثم بمنظمة انصار السلام التي كانت قيد النشوء.

3- من هو أول من أطلعك على أهداف الحزب؟

منتصف سنة 1950 أطلق سراح أخي الذي وجد فينا، نحن عددا من المراهقين، تقبلا كبيرا للافكار التقدمية إضافة إلى انبهارنا بالسوفيت والشيوعية. وبعد عدة أشهر من إطلاق سراحه كون صفا مني ومن شابين أخرين وقام بتدريسنا المبادئ الأولاية للشيوعية، فدرسنا على يده كراس سيغال وبعض فصول من رأس المال والبيان الشيوعي وبرنامج الحزب الشيوعي العراقي الذي أقر في المؤتمر الأول لسنة 1945 .

4- كيف سارت الأمور بعد ذلك لتشق طريقك إلى صفوف الحزب؟

في سنة 1951 أصبحت عضوا بسيطا في اتحاد الطلبة وكانت تصلني جريدة وبيانات اتحاد الطلبة. وفي سنة 1952 انتفض الشعب العراقي على الحكام العملاء للاستعمار وكنت مع العديد من الشباب نساهم في الإنتفاضة بوعي وطني وثوري. ثم أخذت تصلنا بعض بيانات الحزب الشيوعي ولم نتشرف بحصولنا على جريدة الحزب، القاعدة، رغم سماعنا الكثير عنها.

بعد ذلك التاريخ زاد إرتباطنا مع اتحاد الطلبة وأنصار السلام وتم تنظيمي في الحلقات السرية لإتحاد الطلبة وفي حقيقة الأمر فقد كانت تلك المنظمة هي الواسطة لفتح الطريق أمام الطلاب نحو الحزب الشيوعي. بعد ذلك بفترة قليلة أصبحت عضوا فاعلا في اتحاد الطلبة وقد تمكنت من تشكيل عدة حلقات سرية من الطلاب وكنت أنا مسؤلا عنهم.

5- تحدث عن المصاعب والمشاكل وكيف كنتم تواجهونها؟

إندفع رعيل الطلاب الوطنيين لأسناد مرشحي الجبهة الوطنية في انتخابات مجلس النواب لسنة 1954 وهنا تعلمنا الحياة الصدامية مع القوى الرجعية فضربنا وضربنا وتعاركنا وطاردونا وطاردناهم حتى أسفرت الإنتخابات عن دخول 11 نائبا مجلس النواب من الجبهة الوطنية.

في تلك الفترة كان الحزب الشيوعي قد نهض بجبروت على الساحة السياسية، لكن انشقاق الحزب الذي قاده فريق راية الشغيلة أضعف مكانة الحزب بين أوساط الجماهير علما إن بداية الإنشقاق كانت في منتصف سنة 1953 وثم القبض على قيادة الحزب الفتية التي تمثلت ببهاء الدين نوري ورفاقه أعضاء اللجنة المركزية. تلك الأوضاع شدتني إلى الحزب الشيوعي فحملنا راية النضال ضد راية الشغيلة. في بداية سنة 1955 اشتدت الهجمة من قبل السلطة على القوى الوطنية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي وذلك من أجل ربط العراق بالحلف التركي الباكستاني الذي اصبح اسمه حلف بغداد فيما بعد، وحمل الحزب الشيوعي راية النضال ضد الأحلاف العسكرية الاستعمارية ونظم الحزب العديد من المظاهرات وأصدر البيانات وقام الرفاق بالكتابة على الجدران، كل ذلك من أجل تحفيز جماهير الشعب للنضال ضد تلك الأحلاف التي اعتبرها الحزب آنذاك أحلاف العبودية الاستعمارية. في شهر شباط من تلك السنة اعتقلت لأول مرة في حياتي على أثر فشل مظاهرة ضد الأحلاف العسكرية. 

يعد اعتقال دام 21 يوما ثم فصلي من الدراسة وقد كنت في مرحلة الصف الرابع العلمي تم ترشيحي لعضوية الحزب الشيوعي العراقي. وبعد ثلاثة أشهرمن ترشيحي نلت عضوية الحزب موقعة من الرفيق سلام عادل ما أثار فخري واعتزازي آنذاك. وقد أصبحت لي خليتان للمرشحين وعدد من حلقات الاصدقاء الحزبية التي ضمت الطلاب والعمال.

6- حدثنا عن الظروف النضالية بإختصار واهم المراحل التي تراها. 

طيلة عمري ومنذ حداثتي ارتبطت حياتي بالنضال المستمر والشاق من أجل الشعب والوطن في صفوف الحزب ولكن اهم المراحل والتي اعتبرها من المحطات المهمة هي انتفاضة 1956 والتي على أثرها نفيت إلى راوندوز كجندي مكلف ومن ثم أصبحت من المناضلين التي تطاردهم التحقيقات الجنائية، فعرفت حياة الإختفاء ومواصلة النضال دون توقف. في سنوات 52 53 و54 و55 و56 و57 التهمنا عشرات الكتب للتثقيف الذاتي إضافة للصحف والمجلات والمنشورات والكراريس التي يصدرها الحزب. ولم نتوقف عن المطالعة حتى يومنا هذا.

ومن ثم الهزة الكبرى للمجتمع العراقي ثورة 14 تموز

7- أهم الذكريات مع الرفاق القدامى والمناضلين والشهداء.

لا تتسع هذه السطور للحديث عن المناضلين والشهداء منهم والذين التقيت بهم في مسيرتي وعملي في الحزب فهم من الكثرة ربما تعجز ذاكرتي عن الاحتفاظ بهم. إنني لا أبالغ إن قلت المئات بدءا من أخي سميع وفالح عبد الجبار ورضا الشوك وهادي أحمد المرزه وعلاء العاني وعبد علوان وباسم طالب مشتاق وأنيس نعمان وصاحب الحميري وجبار حسين وعطشان الإزيرجاوي وعبد الأمير شلال وفوزي عباس والعشرات غيرهم في فترة ما قبل ثورة 14 تموز. أما بعد ثورة تموز فقد كان لكل من ستار خضير ومحمد حسين أبو العيس وعمر حسون وصاحب الحميري وسلام عادل والمربي عبد الجبار وهبي، الذي دربني على العمل الصحفي، وعبد القادر اسماعيل وكريم الحكيم والمئات من مناضلي الحزب الذين عملت وإياهم في مختلف المجالات الحزبية والجماهيرية والديمقراطية. إلا أن استشهاد أخي سميع واستشهاد سلام عادل ومحمد حسين أبو العيس وستار خضير ترك في قلبي جرحا لا زال ينزف حتى هذا اليوم ومما زاد في عمق هذا الجرح وفاة كريم الحكيم وعلاء العاني وهادي أحمد المرزة. 

8- السجون والمعتقلات. 

قبل ثورة 14 تموز لم يبق معتقل في بغداد لم أزره وكذلك معتقل أربيل. أما بعد الثورة فقد امضيت اغلب تلك الفترة متخفيا لإنجاز واجباتي الحزبية. بعد انقلاب 8 شباط سنة 63 هربت إلى إيران وهناك دخلت معتقل أمن المحمرة ومن ثم سجن الأهواز ثم سجن باغ مهران في طهران مع أكثر من مائة وخمسين مناضلا عراقيا، وفي ذلك السجن أمضيت خمسة شهور منها ثلاثة شهور في السجن الإنفرادي. تم تسليمنا للحكومة العراقية في 30 كانون الثاني من سنة 1964 ورحت متنقلا بين سجون ومعتقلات بغداد والبصرة والحلة حتى إطلاق سراحي منتصف سنة 1966 . أما فترة ما بعد خروجي من السجن وسنوات السبعينيات والثمانينيات فلها حديث خاص، ولم أكن فيها بعيدا عن الحزب خصوصا فترة السبعينيات التي كلفت فيها بأخطر الواجبات الحزبية.

9- أيام انتصارات الشعب في الوثبات وثورة 14 تموز وغيرها.

كما أعتقد لا توجد سعادة تضاهي سعادة المناضل الشيوعي في كفاحه ضد الظلم والطغيان ولا يمكنني أن أنسى وثبة كانون 1948 وإنتفاضة 1952 وإنتفاضة 1956 وثورة 14 تموز وآخرها سقوط نظام صدام الدكتاتوري الذي لم يسعفني الحظ لأرى وأشارك الشعب فرحة سقوط نظام البعث العفلقي الفاشي. كانت ثورة 14 تموز حدث غير مجرى حياة ليس الشيوعيين فقط، بل العديد من فئات الشعب العراقي. والشيء المهم الذي يجب أن نستفيده من تلك التجربة هو مدى تعلق جماهير الشعب العراقي بالحرية والممارسة الديقراطية التي غاص في غمارها مئات الالوف من الجماهير دفاعا عن حرياتهم. وقد تأكد لي أن الشعب العراقي لا يمكن أن يخضع للإرهاب والدكتاتورية. هذا جانب أما الشيء الآخر الذي يتصف به الشعب العراقي فهو حبه للحزب الشيوعي والشيوعيين، فالشعب دائما يرفد الحزب الشيوعي بخيرة ابنائه متعلقا بأمل واحد أن العدالة الاجتماعية والديموقراطية لابد أن تتحققا على أرض العراق.

10- العبرة والدروس التي يمكن أن تقدمها للجيل الجديد من الشباب في صفوف الحزب؟

من مجمل حياتي الطويلة والتي قضيت أغلبها في العمل ضمن صفوف الحزب الشيوعي العراقي وجدت أن ليست هناك لذة تضاهي لذة النضال الثوري ومعظم من ناضل في صفوف الحزب سواء من استمر أو من تخلف عن المسيرة لأي سبب من الأسباب يرى أن السنين التي ناضل فيها هي السنين الحقيقية في حياته. ونصحيتي للشباب الذين وضعوا أقدامهم على طريق النضال في صفوف الحزب أن يواصلوا الطريق فسعادة الشعب ودماء الشهداء أمانة في رقابهم.

11- ما هي آخر أنجازاتك وأنت ما زلت في صفوف الحزب الشيوعي؟

في المهجر فتحت أمامي إمكانية جديدة لممارسة هوايتي في الكتابة والتأليف. نشرت روايتين طويلتين (حارة في بغداد) و (طوارق الظلام) تناولت في الأولى فترة الخمسينات وفي الثانية تجربة 1963 السوداء. وأنا الآن بصدد إنجاز روايتين أخريين. 

12- ما هو دور المرأة في حياتك النضالية. 

قد تتراجع الذكريات أمام مشاعر الامتنان والشكر لأقرب امرأتين في حياتي، أمي وزوجتي. وربما ارادت الحياة أن تنصفني بعد معاناتي الكبيرة في طريق النضال الشاق فوضعت في طريقي الأم الحقيقية والزوجة المخلصة. إستمرت أمي ثم زوجتي بملاحقتي من معتقل إلى معتقل ومن سجن إلى سجن ولم يتخليا عني ولا يوما واحدا. وقد نالت زوجتي الكثير والكثير من ملاحقة واضطهاد الأنظمة الرجعية والفاشية ولم تتخل عن أفكارها، إضافة إلى العبء الذي وضعته على كاهلها عندما كنت أقوم بإنجاز واجباتي الحزبية في أكثر الظروف صعوبة وعندما أكون ملاحقا ومطاردا من الأنظمة السابقة. إن إخلاص زوجتي وتفانيها كان له الأثر الكبير في مواصلتي طريق النضال. وفي المهجر كان لزوجتي الفضل الكبير في دفعي وتشجيعي على الكتابة إضافة إلى وضع كل إمكانياتها كمتخصصة في مجال اللغة العربية، والجزء الكبير من وقتها في خدمة ما ألفته وأحاول إنجازه.

على الرغم من أنه في الخامسة والثمانين من العمر، لكنه ما زال يتحرّق شوقا الى الوقوف على خشبة المسرح، وتراه لا ينفك عن الحضور كل يوم اثنين الى دائرة السينما والمسرح، عسى ان يلفت نظر احد من المخرجين ويسند اليه عملا، يجلس في مكان قصي وهو يحتضن حقيبته العتيقة، وتسمعه يتحدث بثقة انه قادر على ان يقف على خشبة المسرح واداء دوره كما يتطلبه، يقول: فليجربني المخرجون، انا جاهز، ولكنه يستدرك: ان الفنان العراقي حينما يبلغ من العمر الشيخوخة يهمل، ويتصور الاخرون انه اصبح خارج نطاق الابداع.

  وحين جلست قربه، ومثل كل مرة، اتذكره في اعماله العديدة ومنها فيلم (الحارس) الذي ما زال يشكل احدى علامات السينما العراقية، وكان لا بد ان احادثه واستمع اليه، اسأله فيجيب، وبعد ان سطرت كلامه وجدت ان اجوبته تغني عن الاسئلة، لذلك رفعت الاسئلة وابقيت الاجوبة تتحدث عما في نفس هذا الفنان الكبير.

  -- منذ 13عاما لم يعطني احد عملا، منذ عام 1997 الى الان وانا بلا عمل، لا مسرح ولا تلفزيون، ويا ليتني اعرف لماذا؟ وهذا السؤال اتمنى ان يجيب عنه المعنيون؟

 -- يا سيدي.. النماذج البشرية في الاعمال يخلقها المؤلف، هو من يضع المشكلة على خشبة المسرح، تبدأ من الطفل وحتى الشيخ، لان هذه هي الحياة، كبر السن ما علاقته بالموضوع؟، وان كانوا يعتقدون ذلك دعهم يجربونني، ويرون هل لديّ قابلية في الوقوف على خشبة المسرح ام لا؟، فأن فشلت فيستطيعون تنحيتي ويأتون بأي ممثل اخر.

  -- يا سيدي.. الفنان عادة يموت اذا توقف عن العمل، حياته في العمل، لذلك هو لايتقاعد ولا يعتزل، انا لمدة 13 سنة لم (يقبلني) احد، لماذا؟ ولمن أوجه السؤال؟ ومن يجيب عنه بصدق؟، هذه الفضائيات التي انتجت ما انتجت واولئك المخرجون، لماذا لا أحد يتذكرني، أما كانوا في السابق يتمنون ان اعمل معهم.

 -- في زمن مضى كانوا يقولون انني (شيوعي) باعتبار اغلب الاقليات تميل الى اليسار، والان بعد ان ذهب ذلك الزمن، ما الذي استجد في الساحة بالنسبة لي، ماذا سيقولون عني، هل توجد علامة استفهام عليّ وما هي؟.

 --سابقا كان المخرج منهم يصر على اختياري لانني لائق للدور، على الرغم من ان المعنيين من المسؤولين يرفضون مشاركتي لكنهم يجدون انفسهم مجبرين على القبول بي لإصرار المخرج على وجودي.

 -- ليس لديّ وجه مكروه، وعليك ان تسأل الفنانين ما رأيهم بي كسلوكية وليس كفنان، وهل آذيت احدا منهم في يوم ما؟.

 -- اعيش من راتبي التقاعدي كوني كنت اعمل موظفا في وزارة التربية في النشاط المدرسي، راتبي في كل شهرين (802) دينار فقد، والمشتكى لله، انه لا يكفيني لنصف الشهر، علما انني مريض اعاني من السكري والضغط، وزوجتي رحلت عن الدنيا قبل اسبوعين، ولم اعتب على من لم يزرني ويعزيني، فالظروف صعبة، وزارني بعض الزملاء والزميلات، وانا الان اعيش مع ابني وابنتي في بيتي.

 -- نحن العراقيين طبيعتنا النفسية تختلف،احيانا اتفاجأ ببعض الامور ولا اعرف تفسيرها، اضرب لك مثلا: قبل ثلاث او اربع سنوات عرض عليّ احد المخرجين ان اشترك في عمل مسرحي، وكان هذا يتطلب الحضور يوميا، ولكن رواحي ومجيئي يكلفني مبالغ كبيرة، فأخبرت احد الزملاء وكان بيته قريبا من بيتي وهو يعمل في دائرة السينما والمسرح ويحتل منصبا فيها، وكانت الحكومة قد رصدت له سيارة لذهابه وعودته، ان يساعدني فأذهب واجيء معه، لكنه لم يعرض عليّ ذلك كي اتواصل في عملي، فوجدت صعوبة الاستمرار اذ علي ان اضع راتبي التقاعدي واكثر على التاكسيات، فأخبرتهم بعدم قدرتي ثم انسحبت، وبعد ايام وجدت جاري وزميلي اخذ الدور لنفسه !!.

 -- السر في عدم الاهتمام بالفنان يكمن في اصحاب الكراسي الذين لا يتحركون من كراسيهم، لا يسألون عن الفنانين ولا يرسلون احدا لمتابعة احوال الفنانين، فالكرسي له وضعية مهمة عند الانسان ينسى معه حتى إنسانيته.

 -- اجيء الى الدائرة حتى ارى اصدقائي القدامى، وعسى ان يتذكرني احد في عمل، وهذا كما يقول المثل (امل اشعب) الذي مر ذات يوم على شخص يضع الخرز في طبق من الخوص (طبكك)، فقال له: زد له (سافا) اي زد وسعه، فقال له الشخص: هل ستشتريه؟، قال له اشعب: لا، ولكن عسى الذي يشتريه يبعث لي فيه حاجة.

 -- هل تريد الصدق؟ الوضع الفني جزء من الوضع العام في العراق، لانه في بلدنا ليس كل الاشياء تمشي صحيحا، الكثيرون يمشون بالاعوج !!.

 -- ارجع واقول الحمد لله على المسيرة الطويلة في المسرح والفن بشكل عام لم اسء الى احد اطلاقا، لا صغيرا ولا كبيرا، ولا امرأة ولا رجلا، وهذا يشعرني براحة نفسية.

 -- الاهتمام بالكبار من الفنانين (فدوى لروحك) ضرب من الخيال، الكثير من الفنانين الكبار وليس انا فقط.

 - هذه الحقيبة التي احملها معي فيها اوراق بيضاء، عسى ان يحتاج احد الى ورقة منها، وفيها بعض الصحف، فأنا ما زلت اقرأ على الرغم من ضعف بصري، اقرأ بالنظارة واحيانا بالعدسة المكبرة، لا استطيع ان لا اقرأ، تعودت على هذا منذ زمان بعيد، حاليا عندي كتاب بدأت في قراءته عن حضارة وادي الرافدين لأحمد سوسة، استفيد منه للحصول على معلومات، واتباهى مع نفسي بما كان عليه العراق، المعرفة لا تنتهي عند سن معين، كالفنان، ليس له سن للتقاعد ولا اعتزال، الفنان يعمل حتى اخر نفس في حياته.

 --لم اشعر باليأس ابدا، ولو كنت اشعر به لم أأت الى هنا، ولكن احيانا اشعر به بصراحة عندما تضيق بي السبل وأقف موقفا حرجا من حوادث الزمن ومن ذلك وفاة زوجتي الذي كان حدثا كبيرا بالنسبة لي بعد (عشرة عمر) لمدة 54 عاما.

هم مندائيون و مندائيات من الاسلاف الاخيار عشت وتعايشت معهم‘ علموني وتعلمت منهم‘ تحدثت اليهم وحاورتهم‘سألتهم فأجابوني‘أوجدوني ثم رحلوا عني وتركوني‘ وقد قيل هذا منطق الحياة‘ قديم غاد وجديد آت‘ وها نحن على الدرب سائرون إلى أبد ألابدين . وليكن شعارنا دوما الجديد والمتجدد نحو حياة أفضل ..

 

 وإن خير ما يشرفني البدء فيه من هؤلاء الاكرمين الاجلاء هو الكتابة عن :

 الشيخ يحيى الشيخ زهرون ( إرواه نهويلخون ):

كألعاده رأيته هذا اليوم وكل يوم ذلك الشيخ الجليل ذو المحيا المشرق والقامه الفارعه بوجهه الحنطاوي المغطى بلحية ليست بكثه ولا هي ( بكوسة ) تزيد وقاره وقارا بابتسامته العريضه وبشاشته التي لا تفارق أحاديثه في ساعات الضيق والفرج على حد سواء ‘ رايته وكالعاده ايضا بلباسه المميز الابيض الناصع البياض كبياض قلبه‘ إنها ( الرسته ) وممنطق ب ( الهميانه ) . لا أبدا لم إشاهد شعر رأسه مطلقا والمغطى بالعمامه دوما .

 رأيته صبيحة ذلك اليوم وكل يوم بعده ومنذ خمس وستون سنة مضت‘ جالسا متربعا بجلسته فوق البساط الصوفي المسجى امام مبنى المندي في ( اللطلاطه ) وعلى ارضية صلبه نظيفة من جرف نهر دجلة في الجانب الايسر منه ‘ وقد نصبت أمامه منضدة خشبية صغيرة الحجم مغطاة بقطعة من قماش ابيض‘ وضع فوقها كتاب ذو صحائف كثيره لا افقه كنهه حينذاك ‘ وكان هو ايضا ملفوف بقطعة قماش بيضاء‘ وبجانب الكتاب اوراق صقيلة ناصعة البياض ايضا كانت معدة للكتابه‘ وعلى يمينهما محبرة مملوءه بحبر أسود داكن السواد وفيها قلم مصنوع من قصب السكر‘ وما يسمى( بالقصب الفارسي ) .

 وذات يوم وبدافع حب استطلاع صبي صغير لم يبلغ السابعة من عمره بعد ‘ وهو في عجلة من أمره يروم معرفة كل العالم وما يدور حواليه مرة واحده ‘ شأنه شان كل الصبية في هذا الوقت الحرج من العمر ‘ وكان شيخنا الأجل منهمكا في رسم حروف الكلمات المندائيه حرفا حرفا وكلمة كلمه بخط جميل جدا‘ وبتأن وحرص لا مثيل لهما مطلقا. وقفت بقربه بعد أن صبحته بالخير . فرفع رأسه ‘ ورد علي التحية بأحسن منها‘ ببساطته المعهوده دون تكلف أو ضجر وأنا الذي أقحمت عليه نفسي وقطعت سلسلة أفكاره وتركيزه لحظة عمله هذه . ولكن هذا هو شأن الاخيار الاجلاء والحكماء المتواضعين .أؤمأ الرجل لي بيده بالجلوس ‘ فجلست بجانبه . ولكني وبفضول الصبيان الصغار سألته :

 

 شيخ – ما هذا الذي تكتبه ؟؟ فرد علي قائلا – إنه يا ولدي كتاب سيدرا ربا أي كتاب الكنزا ربا( مشبا إسمه ) .

 شيخ لماذا أنت تكتب وعندك هذا الكتاب مكتوب ؟ أجابني ‘ يا ولدي هذا الكتاب كتب لنا وأنا أكتب لكم هذا ‘ لكم ولآولادكم من بعدكم . وأردف قائلا مثل ذلك الفلاح الذي يقول زرعوا فأكلنا ونزرعوا فيأكلون .

 ولكن با عمو الشيخ – أنا لا أعرف أقرأ المندائيه فكيف أقرأ الكتاب في المستقبل ؟ ضحك وقال لي ‘- هذا صحيح ولكن يأتي يوم تكون أنت بحاجه الى الرجوع إلىالكتاب وعندها تضطر الى تعلم قراءة وكتابة اللغه المندائيه . أما الكتاب يبقى حرزا لمن يحتفظ به في بيته حتى لحظة الحاجه اليه. وبعدها واكب يخط الكلمات دون كلل او ملل‘ وأنا أتأمله بكل دهشة وإعجاب . 

وخلال الايام والشهور التاليه كنت أجلس بقربه بكل أدب وإحترام ومما لفت نظري هو أن شيخنا الموقر لم يخطأ في الكتابه ولهذا لم يمارس الشطب أو الحذف أبدا .

 كانت المشاحيف المنحدره في طريقها الى مركز مدينة ( قلعة صالح ) تمر من أمامه وهي محملة منتوجات ريف العراق أنذاك مثل الرز والحنطه والشعير والقصب والبردي والبواري والخضروات والسمك وعلف الحيوانات ( العنكر ) والحطب وغيرها . كما كانت مشاحيف اخرى تسير هي بعكس اتجاه الاولى والتي يطلق عليها ( بالمغربه ) أي المتجهة بعكس مجرى الماء من مدينتي البصره والقرنه وهي تحمل ركابها من العمال وعائلاتهم وامتعتهم بعد الانتهاء من موسم حوي تمر النخيل والعمل في ( الجراديغ ) اي تنظيف التمور من النوى لغرض تعليبها . وكان معظم راكبي هذه السفن الصاعده منها والنازله يسلمون على الشيخ الكريم عند مرورهم من امامه وكان بعضهم يرسوعلى الجرف ويترجل للسلام على شيخنا وطلب بركته والادعاء لهم بالخيروالصحه كما كانت تصله بواسطتهم بعض( الصوغات) الهدايا المرسله له من اخوته ومعارفه في البصره.

 

وذات يوم وإذا بأحد المشاحيف يرسو في الشريعه امام المندي ويقوم احدهم بالترجل ويتقدم صوب الشيخ الجالس في مكانه المعتاد وهو يحمل بيده سمكتين كبيرتين وكانتا من نوع ( البني) وبعد أن سلم الرجل على شيخنا جرى بينهما الحديث التالي :

 

قال الرجل – هاتان البنيتان منا لك يا شيخ يحيى بس إدع لنا بالرزق . 

رد الشيخ عليه قائلا – الرزق على الله الكريم وبارك الله في رزقكم . اما هديتكم إعتبرها واصله وأعتذر عن قبولها .

 

قال الرجل – يا شيخنا لقد فشلنا منك كثيرا في المره السابقه لانك رفضت تقبل هديتنا لك ‘ ولانها كانت سمكه واحده وهي قليلة في حقك ‘ وهذه المره سمكتان لاننا رزقنا صيدا عظيما وكلها من بركتك ودعائك لنا .

 

فرد عليه الشيخ – لا يا سيد ‘ أنا لم ازعل ابدا منكم ‘ وإن رزقكم من عند الله وليس مني. أما لماذا لم أأخذها منكم في المره السابقه فهي لاسباب شخصيه تعود لي .

 

إلا أن الرجل واصل الحديث مع الشيخ وأخذ يلح كثيرا لتقبل الهديه – السمكتين - حتى قال الشيخ اخيرا – سأخذهما على شرط واحد‘ فرد عليه الرجل فورا و بلهفه شديده . قل يا شيخ ( شتريد إحنا ممنونين ) .

 قال الشيخ – أريد واحده ثالثه ‘ تبيعونها لي بمثل ما تبيعونها للناس وليس أقل منهم . ففرح الرجل كثيرا وقد وضع السمكتين على الارض فورا وركض الى المشحوف وجلب سمكة اخرى .

 فسأله الشيخ : كم سعرها ؟ فرد عليه الرجل : إنها على حسابنا ياشيخ . إلا أن الشيخ رفض ذلك بشده ‘ وأخرج من تحت البساط كيسا صغيرا فيه قليل من المال‘ وبعد الالحاح قال الرجل- إعطني ( عانه ) فقط { والعانه هي نقد معدني قيمته اربعة فلوس كانت متداوله أنذاك } .

 فاعطاه المبلغ المطلوب وقبل أن ينصرف وجه سؤاله الى الشيخ – هل عندك ( عزيمه يا شيخنا ؟ ) قال الشيخ لا ..إلا أن الرجل أصرعلى معرفة السبب الذي جعله يشتري السمكه الثالثه رغم ان الاثنتين السابقتين كانتا كبيرتين . فقال الشيخ – اتريد ان تعرف السبب يا سيد ؟ قال الرجل بلى. أجاب الشيخ – أنت تعرف يا سيد أن لي اخوين الشيخ ادم ‘ والشيخ نجم‘ وليس من العدل أن أأكل أنا وعائلتي السمك وحدنا كما لا يمكنني قسمتها الى ثلاثه بالحق ‘ وهما شركاء معي في الرزق .فضحك الرجل وإنصرف . وبعدها أمرني الشيخ أن أأخذ السمك وأعطي لك بيت سمكه وعلى الفور قمت بتنفيذ ما طلبه مني الشيخ الجليل دون تمييز .

 

كان دارنا مبنية من الطين واللبن ومسقفة ( بالبواري وهي حصران مصنوعه من القصب . واعواد الجندل وهي ( عباره عن اعمده طويله هي سيقان شجر الصندل تستورد من بلدان جنوبي شرقي آسيا ) كما كانت هي بقية دور المندائيين في هذه المحله – محلة اللطلاطه- وهي لا تبعد أكثر من خمسين مترا من ضفة نهر دجله اليسرى و كذلك عن مبنى المندي المطل على النهر. وذات يوم وانا ذاهب الى شربعة النهر شاهدت الشيخ يحيى أبو مهتم يروم كنس ورش الساحه الصغيره الفاصله بين المندي والنهربالماء. فقلت له دعني ان اقوم بما تريد ‘ ثم سالته لماذا ؟

 

فأجابني ‘ اليوم لدينا ضيوف يا ولدي. ومن هم الضيوف يا شيخ ؟ قال ان ضيوفنا لهذا اليوم هم القائمقام والحاكم وضابط التجنيد والطبيب ورئيس البلديه ‘ ثم اردف قائلا يعني الحكومه يا إبني أما قصة هذه زياره ( الحكومه ) كما سماها الشيخ الجليل فهي ذات علاقه بمحلة اللطلاطه وكما يلي موجز لهذه القضيه :

 

وجدت محلة اللطلاطه قبيل و خلال الحرب العالميه الاولى وان قصة تاسيسها كالاتي : كانت محلة الصابئه تشكل اكبر محلات مدينة قضاء قلعة صالح وتقع على امتداد شاطئ نهر دجله الايسر في الشمال الغربي من مركز المدينه تقطنها عوائل الصابئه المندائيين بشكل مكثف جدا رغم ان المحله كانت تتالف من صفين متوازين من الدور المبني معظمها من الطين واللبن بطول حوالي الكيلومتر تقريبا ‘ وتقع بساتينها والتي جلها من اشجار النخيل خلف بيوت اصحابها وتعود ملكيتها لهم عادة ‘ فهذا بستان بيت اكزار وهذا بستان بيت المجدي وبقربه بستان بيت شذر ومن اليمين يجاوره بستان بيت خساره ‘ والاخر بستان بيت جوال و بستان بيت جابر وبيت سيف المناحي وهكذا !!. وعلى العموم كانت المحله مكتظه جدا بالمندائيين . والهجره اليها لا تزال قائمه على اشدها خاصة بعد انحسار النفوذ العثماني وزواله‘ وكان هناك مندي واحد لكل هؤلاء الناس مبني على شاطئ نهر دجله امام دار بيت شيخ سام المندوي ‘ومن خلاله يقوم الشيوخ الاجلاء هم اولاد الشيخ سام كل من الكنزفرا عبد الله والترميذا فرج والترميذا رومي بتقديم الخدمات الدينيه واجراء الطقوس لكافة ابناء الطائفه المتواجدين في مدينة قلعة صالح اضافة الى اؤلئك المنتشرين في الريف وحول المدينه. وحيث ان اجراءات الطقوس والمراسيم من طبيعتها تأخذ وقتا طويلا لاكمالها بالوجه الصحيح كما تقضي الشريعه المندائيه عامة و مراسيم الزواج خاصة لذا اصبح هذا المندي وهؤلاء الشيوخ غير قادرين لتلبية كافة الطلبات الدينيه ‘ وكانت العائله الخميسيه تشكل الاكثريه من سكان محلة الصابئه المندائيين وكانت تظهر بعض عدم الرضا اتجاه الافاضل الشيوخ كونهم في بعض الحالات يفضلون تنفيذ الخدمات الى غيرهم بسبب اعتبارات معينه ضيقه . ولهذا فكر رجال الخميسيه الكبار في التفتيش عن حل لهذه المشكله وصار رايهم ارسال وفد الى الاهواز جنوب ايران ( ناصرية العجم ‘ الحويزه ‘ شوشتر ‘ البسيتين ‘ المحمره ‘ دزفول ‘ مسجد سليمان والخفاجيه ) حيث كان الصابئه المندائيين ينتشرون فيها هم ورجال دينهم . وفعلا ذهب وفد من الخميسيه الى ايران ونزل ضيفا على بيت الكنزفرا زهرون واولاده الخمسه وكان منهم ثلاث قد كرسوا كرجال دين – وهم كل من الترميذا آدم والكنزفرا يحيى والترميذا نجم ( كنزفرا فيما بعد ) وكانوا يقيمون في مدينة الخفاجيه . وقد تم الاتفاق على انتقال جميع افراد هذا البيت الى العراق وتخصيصا مدينة قلعة صالح . إلا أن موعد هجرة العائله كان قد تأخر بعض الشيئ بسبب وفاة الشيخ الوالد ( ارواها نهويلخون ) . ومن ثم قدمت العائله الى قلعة صالح –( لا اعرف التأريخ بالضبط – وقد يكون ذلك سنة 1905 ـ 1910 تقريبا) . ونزلت ضيفا مكرما عزيزا على عائلة الخميسيه الى حين ايجاد وتهيئة الدار السكنيه المناسبه تليق بمقام هذه العائله الدينيه المحترمه. وان هذا الامر كان يعد شرفا اجتماعيا ودينيا للقائمين به من المندائيين .

 

ولما كانت هذه الاسره كبيرة العدد كما قلنا اعلاه ( خمسة رجال وأبنتان ) فقد تعذر على الخميسيه ايجاد الدار في محلة الصابئه في مدينه قلعة صالح ذات المواصفات المميزه لرجال الدين كما تقتضي طبيعة ممارسة الطقوس الدينيه المندائيه في ماء النهر ولوجود شيخ عبد الله الشيخ سام واخوته يملكون وحدهم بناية المندي فعليه اصبح من الضروري التفتيش عن حل لهذه المعضله . وتوصل كبار رجال الخميسيه وهم كل من سيف المناحي‘ ومحيي كزار‘ وبادي المجدي‘ وحاجم سداوي‘ و جبر سداوي‘ وحبيب ساجت‘ومخيطر جالي‘ وسعيد صالح‘ وفرحان رحيم‘ وخماس جوال‘ وداخل احتاجه‘ وسباهي خلف‘ وغيرهم ‘ الى ضرورة مراجعة الحكومه لايجاد حلا لهذه المشكله.وكان ذلك في السنوات الاخيره من حكم الدوله العثمانيه .

 

وفعلا قام وفد منهم بمراجعة القائمقام والمسوؤلين الاخرين في القضاء ‘ وخرجوا بنتيجه طيبه ‘ مفادها ‘ ان يقوموا هم انفسهم بالتفتيش عن ارض مناسبه للسكن . وكان الاختيار قد وقع على قطعة ارض جبهتها بطول حوالي 500 متر ونزالها ما يزيد على الكيلومتر ‘ واقعه تماما على الضفة اليسرى لنهر دجلة وعلى امتداد محلة الصابئه ‘وتفصل بينهما بعض البساتين , وأن هذه الارض مرتفعه نسبيا عن مستوى الماء وهي في موقعها هذا تشكل مصدا لامواج المياه التي ترتطم بالجرف بشده وتولد بعض الاصوات جراء انسياب الماء وتلطلطه نحو النهر , ولذلك سميت المحله ( باللطلاطه ) فيما بعد .

 

قسمت هذه القطعه الى ( 22 ) دارا بالتمام والكمال و بمساحات تكاد تكون متساويه لكل دار, والمحله اخذت شكل مستطيل تقريبا‘ يقطعها في الوسط شارعين متقاطعين كألصليب بعرض عشرون مترا وبذلك تنقسم المحله الى اربعة مربعات , في الجبهه وفي الربع الاول والثاني على جرف النهر ( 7 ) دور وهي من اليمين الى اليسار 1- بيت شيخ يحيى 2- بيت شيخ آدم 3- يت شيخ نجم 4- بيت عماره –( فاصله بعرض عشرون متر كشارع ) ثم 5 - بيت عكيلي 6 – بيت سباهي 7 – بيت سلمان . اما البيوت الاخرى الواقعه خلف الاولى فهي‘ 8 – بيت ديوان ( وهو البيت المسلم الوحيد في هذه المحله ) 9 - بيت عبد الشيخ 10 – بيت فدعم 11 – بيت فرحان. 12 – بيت صالح 13 – بيت كرم 14 – بيت خماس 15 – بيت طرفي 16 – بيت ارزيج 17 – بيت جلاب 18 – بيت بادي 19 – بيت حمد 20 – بيت ناجض 21 – بيت عبود 22 – بيت باتول . كما ان الارض التي تقع خلفها اي في جنوبها كانت مقبرة لعموم مندائيي قلعة صالح . أما بناية المندي فقد تم إنشاءه على جرف نهر دجله في الجهه اليمنى من المحله كما تقتضي العقيده المندائيه ذلك . وكانت واجهته مشيده من الطابوق ويحتوي على حوض ماء في الداخل يستمد ماءه من النهر بواسطة ساقيه صغيره ويبزله باخرى الى جدول صغير واقع على جانب المندي .

 

ومما عمق اواصر الاخوه والمحبه بين هذه العائله المندائيه القادمه من إيران ومندائيي القلعه وبشكل خاص مع عائلة الخميسيه هو زواج كل من الشيخ يحيى واخيه ا لشيخ نجم من العائله كما تزوجت احدى خواتهم من احد رجال الخميسيه وهو سباهي خلف وعلى ممر الايام زاد هذا التقارب نتيجة تزاوج ابناء الطرفين مع بعضهم البعض .

 

نعود ثانية للحديث عن شيخنا المبجل وما سماها ( زيارة الحكومه ). حقيقة كان ينظر لزيارة المسوؤلين الى المحله نظرة تقدير واحترام ولهذا كانت هذه الزياره موضع اهتمام من جانب شيخنا الفاضل وسكنة محلة اللطلاطه الاخرين ‘ ومما زاد اهتمام المسوؤلين بها هو كثرة زيارة الباحثين و الدارسين من الاجانب الى هذه المحله وعلى رأسهم المستشرقه ( مسس إدراور ) وآخرين غيرها للقاء الشيوخ الافاضل وللاطلاع ودراسة المندائيه عن قرب وذلك منذ سنة 1932 والسنوات التي تلتها.ولن انسى ابدا تلك القطعه النقديه المعدنيه( القران ) التي تلقيتها من ( مسس داور )- بخشيش- لقاء المساعده التي بذلتها لها ذات يوم حينماارادت النزول من الطراده ( البلم )التي كانت تقله الىجرف النهرالعالي وقتذاك وللعلم( القران كان يعد ثروه في ذلك الزمان قمنا انا وصديق الطفوله ( غالب ) وهو احد ابناء شيخنا المحترم ‘ بتنظيف الساحه امام المندي ورشها بالماء ثم جلب الكراسي المصنوعه من جريد سعف النخل من صنع ( جاسم ابو الاسره) ‘ واعددنا كل شيئ قبل وصول ( الحكومه ) . وكان عدد من اهالي المحله قد حضروا ايضا بناء على طلب الشيخ . فحضر كل من شيخ آدم و شيخ نجم واستاذ مهتم بن يحيى وخماس جوال وصباح آل صبيح وعكيلي خلف وارزيج داخل ( وكان الاخير فصيح اللسان ومتكلم جيد ) كما كان حاضرا جمع من الصبية والصغار بدافع الفضول وحب الاستطلاع .

 

وصل المشحوف الذي كان يقل ( الحكومه ) قبيل المساء حيث الجو كان لطيفا نوعما , وقام الحضور باستقبالهم باحترام وحفاوه زائده تليق بالحكومه .وبعد ان جلس الجميع , القى الشيخ كلمه ترحيبه قصيره بالحضور ثم امرنا بجلب اللبن الطازج الذي كان قد اعدته ( إم مهتم ) من 

حليب البقره ( الجنوبيه ) كما احضرنا معه سلة رطب البريم وإخرى الخضراوي‘ وبعدها تكلم القائمقام وسأل الحضور ان كانت هناك أية مطاليب معينه . بدأ الشيخ الحديث اولا بعرض طلب 

اهالي المحله الرئيسي والضروري وكان الامر يتعلق بمد الاسلاك الكهربائيه وتزويد المحله بها اسوة بمحلات المدينه كافة . وكان عذر القائمقام هو كلفة هذا المشروع الكبيره نظرا لبعد المحله عن المدينه والذي يبلغ حوالي الكيلومتر والنصف تقريبا . وبعد النقاش الطويل والحجج التي قدمها الحضور وبررها بشكل منطقي المتكلم وأحد الحضور ( ارزيج داخل ) قبلت ( الحكومه ) هذا الطلب والقيام بتبنيه لدى الدوائر الرسميه العليا . ولم تمض ستة اشهر حتى مدت الاسلاك الى المحله من خلال البساتين وبمحاذاة ضفة النهر وأضاءة محلة اللطلاطه بالكهرباء وعمت الفرحه كل ساكنيها وكان ذلك بفضل وهمة وتدبير شيخ المحله الجليل الشيخ يحيئ الشيخ زهرون إلا أن حدث ما لم يكن بالحسبان سبب في تعكير جو الافراح التي عمت سكنة المحله وانقلب هذا الجو الى حزن وهم ما مثله هم للشيخ خاصة وللابناء المحله عامة .. ففي صباح أحد الايام شاع بين الناس خبر مفاده أن الحارس الليلي ( مولى ) قد نهب الفتاة المندائيه ( ب ) وهرب بها الى جهة غير معلومه . وفي لحظات تجمع رجال وشباب المحله امام مبنى المندي ‘ وبعد قليل خرج شيخ يحيى من داخل المندي وعلى وجهه علامات الحزن .

 فسأل احدهم – هل أن الخبر صحيح ؟ كان الجواب نعم صحيح . فقال الحضور ما العمل يا شيخنا ؟.. فرد احد الشباب فورا وبدون استئذان من احد – قال ( إعذاري جلاب ) هذا العمل من0(مولى ) الحارس هو عمل خيانه ودنيئ ‘ ويجب علينا أن نفتش عنه وناخذ الثار منه . ورد الاخرون – نعم علينا كلنا تأييد إعذاري والقيام فورا يالتفتيش ‘ ونسوي وفد ونروح الى شيخ العشيره وإذا لم يسلمنا بنتنا ‘ نعمل ما نعمل رد الرجل ( فدعم آل صبيح ) وكان اكبر الحاضرين سنا قائلا – لا .. لا بويه ... لازم قبل كل شيئ نخبر الحكومه ‘ وإذا ما تسوي جاره ذاك الوقت إحنا نأخذ حقنا بايدينا . شلون حارسنا مولى والذي هو يحرسنا ويقوم بخيانتا وينهب البنيه ؟؟؟ دار حديث طويل ورد وبدل ‘ فقال شيخ يحيى وكان آخر المتكلمين . يا اخوتي وانتم اولادي .. ..

 هذا الموضوع لم يكن هو الاول . والمندائيون دوما يتعرضون لمثل هذه الحاله . ولكن هذه الحاله حتى الان لا نعلم تفاصيلها . هل ان ( مولى ) نهبها بالاكراه وغصبا أم لا ..؟ والامر الثاني يجب اخذ رأي اهلها قبل كل شيئ .. واخيرا توصل الحضور الى الاتفاق مع رأي الشيخ . 

وفي المساء حضر معظم الاشخاص الى مجلس ( خماس ) لشرب القهوه وكان دوره ذلك اليوم كما هي العاده الجاريه في ذلك الوقت . فحضر الشيخ المبجل رغم انه لا يتناول ولا يشرب أي شيئ كما هي احكام الدين المندائي بالنسبه الى رجال الدين ..

 بادر الكنزبرا يحيى بالكلام وقبل اي فرد آخر من الذين حضروا هذا المجلس . واعتقد كان سبق غيره بالكلام يعود لامر إما وارد في ذهن شيخنا المحترم . هذا ما كشف عنه لاحقا . وهنا في هذا المجلس كانت إحدى النساء تجلس في طرفه وعلى مقربة من ( خماس جوال ) صاحب هذا المجلس لذلك اليوم كما ذكرت سابقا . وقد تبين انها حضرت بناء على طلب الشيخ . والسيده هي ( لطيفه صالح الكيلانيه ) زوجة المرحوم فرحان جوال الخميسي . وكانت إمرأه معروفه جيدا بقوة الشخصيه والمعرفه الواسعه بالعرف والتقاليد وتلقى الاحترام من جميع ابناء المحله والمندائيين عموما . وبعد ان انهى ( خماس )من سقي القهوه للحاضرين ‘ قال الشيخ ...

 يا جماعه .. كلكم يعلم ما حدث هذا اليوم ‘ وهو أمر مزعج لنا جميعنا ‘ ولا أريد منكم غير السماع ‘ وارجوكم عدم التعليق أو الحديث ‘ لآن الموضوع يمس الغير قبل ان يمسنا نحن . 

ثم وجه كلامه الى السيده ( لطيفه ) قائلا لها – ما هو رأيك يا لطيفه ؟؟

 اجابت لطيفه .. يا شيخ ( يحيى ) وانتم زلمنا المحترمين –( إذا الماي إنجب على الكاع هل يمكن لمه من جديد ) ؟ الامر راح وإنتهى . ثم استرسلت قائلة ( الحجي ماكله الثور. والحرتكفيه الاشاره ). وعندها سكت الجميع وانحنت روؤسهم نحو الارض وكأنهم كلهم قد اصابهم الخجل بعد ان فهموا الامر ووعوه.

 واكتفت هذه المرأه المحترمه بهذا الكلام الموجز ‘ وعلى الفور غادرت المجلس وكأنها تقول (إن خير الكلام ما قل ودل ) .

 وهكذا ساد الجميع الصمت ولم يتكلم أحد او يحاول الكلام أبدا . وعلى الاثر انفض مجلس الحضور وانصرف كل الى داره .. وقد تبين فيما بعد أن ( البنت ب ) التي وصفناها بالمخطوفه كانت على علاقه مع ( مولى ) منذ وقت ليس بقصير ‘ وان امها كانت تعلم بهذه العلاقه ‘ وقد بذلت جهدا كبيرا لتجنب ما قد يحث ‘ ولكن ما حدث كان خارج عن ارادتها .. ومع ذاك فان شيخنا الفاضل لم يترك الموضوع بل قام بالاتصال برئيس عشيرة ( مولى ) ( بني لام ) طالبا تقديم الفصل وفق العرف والعادات. إلا انه عدل عن ذلك لسببين أولهما رفض اهل البنيه . وثانيهما ان المطالبه بتأدية الفصل يعني ذلك الموافقه بشكل غير مباشر ‘ وهو ما قد يفتح الباب للغير ويشجعهم على القيام بنفس الممارسه ما دام الفصل هو نهاية الحل .. وهذا ما لا يرضيه المندائيون أبدا . ( له تابع )

ضمن سلسلة اعلام الطائفة المندائية، نقدم لقرائنا الكرام عالم الفيزياء النووية الاستاذ الدكتور ابراهيم ميزر الخميسي ، الذي تتجلى شخصيته الفذة في حيوية افكاره وكتاباته ورسوخها وتحديها لعامل الزمن. ويعود ذلك الى نهجه العملي في معالجة جميع القضايا التي يتناولها. لقد ادرك هذا الرجل الفذ، الترابط الديالكتيك بين تحرر بلده العراق في خضم عملية النضال التي خاضها لسنوات طويلة في البصرة وبغداد وعدن وموسكو، من اجل التحرر الوطني وتحقيق الديمقراطية، في عراقنا، وبين بحوثه ودراساته العلمية والانسانية والمواقع المرموقة التي احتلها في مسيرة حياته الحافلة بالانجازات التي تعكس الوجه المتقدم لابناء طائفتنا المندائية في جميع الميادين.
السيرة الذاتية

ولدت عام 1946 في سوق الشيوخ، وانتقلت الى البصرة وأنا مازلت ابن السنتين، وعشت فيها الى ان غادرت العراق لأكمال دراستي العليا في موسكو عام 1972. في البصرة أكملت المدرسة والجامعة وتخرجت عام 1969. عملت بعد ذلك ثلاث سنوات ( 1969- 1972) في قسم الفيزياء بجامعة البصرة. في تلك الأعوام أرسلت الحكومة مئات البعثات الى خارج العراق. قدمت أوراقي أكثر من مرة للحصول على احدى تلك البعثات ولكن دون جدوى، رغم أني كنت الأول على دفعتي وحصولي على أمتياز في السنة الأخيرة من دراستي حيث كنت الأول على الجامعة. كانت تزكية حزب البعث تلعب الدور الأساسي في الحصول على الزمالة الدراسية بغض النظر عن المستوى العلمي. ومنذ ذلك الوقت، وخاصة بعد بدء عملية تبعيث التعليم، أخذ المستوى العلمي و التربوي والتعليمي يفقد مستواه ومثله وجوهره شيئا فشيئا. ويحز في النفس طبعا عندما يرى المرء أن جميع زملائه الذين درس معهم، والذين تقل معدلاتهم الدراسية بكثير عنه، قد سافروا في بعثات دراسية وبقي هو لرفضه الأنضواء تحت خيمة الحزب الحاكم.

في تلك السنين كان العراق والأتحاد السوفياتي يتبادلان البعثات في مجالات عدة عن طريق جمعية الصداقة العراقيةالسوفيتية. لقد حصلت على احدى تلك المنح الدراسية مع اثنين آخرين في سنة 1972حيث نشرت النتائج وقتها في جريدة التآخي. وأستطعنا السفر الى موسكو رغم الصعوبات الجمة التي كانت في طريقنا ، في وزارة الداخلية والتعليم العالي وغيرها.

بعد دفاعي عن اطروحة الدكتوراه في الفيزياء النظرية بشهر يناير عام 1979 وحصولي على الشهادة في ذلك المجال ، مارست البحث العلمي في قسم الفيزياء النظرية في جامعة موسكو لمدة سنة ونصف تقريبا". سافرت بعد ذلك الى عدن عام 1980 حيث عملت مدرسا" في جامعتها ثم رئيسا" لقسم الفيزياء وللجنة تقييم البحوث العلمية في كلية التربية التي كنت أمثلها في المجلس الأكاديمي المركزي في الجامعة.

غادرت اليمن الديمقراطية بعد سبع سنوات من العمل فيها. وأخيرا" انتهى المطاف بي في السويد التي أعيش فيها حتى هذا الوقت. كان كل شيء جديدا" علينا في هذا البلد. عملت فترة قصيرة في معهد الفيزياء النظرية بجامعة لوند السويدية وأشرفت على مشروع للتعددية الثقافية في المدارس وأختص الآن بالشباب والمدارس في مجال عملي.

أبرز المحطات العلمية في العمل والبحث العلمي
كان عملي العلمي يتركز أساسا على البحث النظري في فيزياء النواة والجسيمات الأولية. فنضع نماذجا نظرية لتركيب النواة، كتوزيع الكهربائية والمغناطيسية داخلها، وأيضا لطريقة تفاعلها مع الجسيمات الأخرى كالألكترونات، النيوترونات أو غيرها ثم نقوم بالحسابات اللازمة ونقارن بعد ذلك نتائجنا بالمعطيات التجريبية لمعرفة مدى نجاح ما وضعناه من نماذج نظرية. وبحثنا كذلك في طبيعة بعض الجسيمات الأولية مثل ميزون ميو وجسيمة النيوترينو من خلال تحول الأولى الى جسيمات أخرى وتفاعل الثانية مع الألكترون. وقد حصلنا على نتائج جديدة جيدة في كلا الحالتين. وعلى سبيل المثال، فأن أحدى معادلاتنا التي حصلنا عليها كانت تصف تفاعل الألكترون مع النواة بشكل أفضل وأكثر عمومية من تلك التي حصل عليها الفيزيائي الأمريكي فيشباخ. وقد اعطى ذلك في وقته تصورا" أكثر تفصيلا" ودقة عن محتويات النواة وطبيعة تفاعلها مع الألكترون. كما أفضت بحوثنا عن بعض الجسيمات الأولية الى نتائج جديدة حول طبيعة تلك الجسيمات مثل استقطابها ودورانها الذاتي وسلوكها أثناء تفاعلها مع غيرها من الجسيمات أو عند تحولها الى جسيمات أخرى. أن جوهر أبحاثنا هو المساهمة في اغناء اللوحة الفيزيائية لتركيب المادة.

كانت نتيجة تلك الأعمال والدراسات قد نشرت في حوالي عشرين بحثا" وتقريرا" علميين في مجلة أكاديمية العلوم السوفيتية ومجلة الفيزياء النووية السوفيتية ومجلة الفيزياء بجامعة موسكو وكذلك في المجلة الأوربية للفيزياء. وقد ظهرت معظم تلك الأبحاث والمقالات باللغة الأنكليزية من خلال ترجمة الأمريكان الكاملة لتلك المجلات السوفيتية. كما نشرت أيضا العديد من المقالات العلمية العامة في بعض المجلات العربية.

أشتركت شخصيا في مؤتمرين دوليين للفيزياء النووية حيث قدمت بحوثي فيهما، وساهمت ببحوثي فقط في مؤتمر ثالث. كنت في تلك المؤتمرات أتوق للقاء مشارك ما من بلداننا العربية أو حتى من بلدان عالمنا الثالث لكن دون فائدة. وعندما كنت أرى فحوى البحوث والنظريات والأفكار المقدمة كنت أفكر كم من الجهود والعزم والتصميم، اضافة الى النية الصادقة طبعا، علينا أن نبذل لكي نواكب بقية الدول في الأشواط البعيدة التي قطعتها برحلاتها في رحاب العلم. ولأنني عراقي فقد أذيع أسم بلدي العراق من ضمن الدول المشاركة في تلك المؤتمرات.

في عام 1988 ترجمت كتابا" من الروسية الى العربية يحوي حوالي 400 صفحة وكان بعنوان (الكواركات...البروتونات...الكون) حوى بين دفتيه الجديد من النظريات والأفكار الفيزيائية بشأن تركيب المادة والكون وأيضا نشأتهما وتطورهما.

النشاط الديمقراطي والسياسي
كنت مع العديد من زملائي ننشط ضمن اتحاد الطلبة حيث انضممت له وانا تلميذا في متوسطة العشار بالبصرة. وفي أول يوم للدوام في المدرسة بعد الثامن من شباط 1963 قدنا اضرابا منددا بالأنقلاب الدموي. وقد أعتقل الحرس القومي سيء الصيت العديد من التلاميذ والمعلمين. وأستمر نشاطي ضمن الحلقات السرية لأتحاط الطلبة في الأعدادية المركزية الذي كان يتركز أساسا على فضح ممارسات العصابة التي سيطرت على الحكم و أباحت القتل والتعذيب والأغتصاب ورمت الآلاف في السجون دون أية محاكمات أوتقديم المئات لمحاكم صورية قامت بأصدار أحكام بالأعدام بشأنهم.

تطور نشاطنا الديمقراطي والسياسي في الجامعة. وشهدت تلك الفترة مظاهرات واضرابات خاصة في بغداد والبصرة. في العام الدراسي 66- 67 كنت رئيسا للجنة الأضراب في جامعة البصرة، وكانت مطاليبنا تتمحور حول دمقرطة التعليم وأيضا ضرورة توظيف الخريجين الذين عانوا من البطالة بعد تخرجهم من مختلف الجامعات والمعاهد. كنا ننسق مع زملائنا في جامعة بغداد حيث عمت الأضرابات معظم المعاهد فيها. وقد أعتقلت مرتين في تلك السنة الدراسية، أطلق سراحي في المرة الثانية بعد أضراب عن الطعام دام عشرة أيام. وأتذكر ألأنتخابات التي جرت لأول مرة في جامعاتنا وقد حققت قائمة اتحاد الطلبة نجاحا كبيرا فيها مما أدى الى الغاء نتائجها والأنتخابات كلها. اثناء دراستي في موسكو كنت أنشط في رابطة الطلبة العراقيين. قمنا بنشاطات كبيرة ومتنوعة في فضح الهجمة الشرسة الدموية على قوى المعارضة وفضح أساليب النظام القمعية.

في الثمانينات واثناء رئاستي لرابطة المعلمين العرب ولرابطة المعلمين الديمقراطيين العراقيين في اليمن الديمقراطية اقمنا علاقة جيدة مع اتحاد المعلمين العالمي "الفيزا". ولم يستطع أزلام النظام تخريب تلك العلاقة رغم كل ما بذلوه من أساليب خبيثة. وكنا نرسل الى الفيزا الوثائق المتوفرة لنا حول تبعيث التعليم وخرق حرمة المدارس و المعاهد وما كان يتعرض له الطلبة والمعلمون والأساتذة من فصل واعتقالات وتعذيب.

أستطعنا في جنوب السويد تأسيس الجمعية الثقافية العراقية عام 1991، كنت لاحقا رئيسها لمدة عامين. وقد لعبت الجمعية ومازالت دورا مهما في احياء الثقافة وابراز دورها وكذلك تكريم المبدعين العراقيين، وأيضا تعريف السويديين بالأبداع الشعري والقصصي والفني العراقي وبأصحابه سواء في السويد او في الأقطار الأخرى. كما ساهمت الجمعية بمئآت الفعاليات والنشاطات على مدى السنين الماضية للتضامن مع شعبنا في نضاله ضد النظام الدكتاتوري السابق وفضح جرائمه البشعة واللاانسانية.

تصورات وأمنيات حول مستقبل العراق
لايمكنني تصور مستقبل آمن ومزدهر للعراق دون نظام حكم ديمقراطي، برلماني، تعددي وعلماني، يتم تداول السلطة فيه بصورة سلمية وحسب نتائج الأنتخابات التي تجري في اجواء الحرية والشفافية.
وبعد كل هذا العذاب والخراب، وبعد كل تلك الحروب والمآسي والكوارث، أتمنى لبلدي الحبيب أن يلملم جراحه ويعيد بناء نفسه فينعم بالأمن والأستقرار والطمأنينة...وأن يعيش الناس فيه حياة مليئة بالعمل والفرح والأمل. أحلم بعراق جميل ومسالم تتألق فيه تلك الفسيفساء الأجتماعية الرائعة... وتعود الأخوة بين الناس وتتعآفى من جديد القيم العراقية الأصيلة ... وأن تتطور في بلدي العلوم وتزدهر الثقافة والفنون والأبداع بكل ألوانه الجميلة. أتمنى لأبن وطني أن ينعم بطعم الحرية وأن يشعر بروعة الحياة الديمقراطية حينما يستطيع المرء أن يفكر بأستقلالية ويعبر عن آرائه ومعتقداته دون ضغط أو اكراه. أريد للعراق أن يودع العنف مرة والى الأبد ويفتح جوانحه لثقافة الحوار والتعددية والتعايش بين مختلف فئات وأبناء الشعب على اختلاف اديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ومعتقداتهم الفكرية وأحزابهم، وأن يروا في كل ذلك الأختلاف حافزا" لتطور البلد وتقدمه الى آفاق انسانية وحضارية رحبة.

طموحي أن أرى عراق المستقبل يمارس فيه العلماء والباحثون والأساتذة نشاطهم العلمي بكل مافيه من بحث ودراسة وتأليف وتدريس والأخذ بيد الأجيال العلمية الناشئة. وأن أرى الجامعات والمعاهد ومؤسسات البحث العلمي وهي تحتضن الأختصاصيين بعد عودتهم من غربة قسرية طويلة ومضنية ليساهموا مع زملائهم داخل الوطن بأحياء نهضة علمية وثقافية في عراق حر ديمقراطي مزدهر.

مستقبل الطائفة المندائية وظاهرة الهجرة الى خارج البلاد
يعتبر المندائيون من سكنة العراق الأصليين. وقد ساهموا في تشييد حضارة وادي الرافدين سوية مع اخوتهم من الأديان والطوائف والقوميات الأخرى. كما يعرف ابناء هذه الطائفة بحبهم الجم لبلدهم، وناضلوا جنبا الى جنب مع أبناء وطنهم ضد الدكتاتوريات في العقود الأخيرة وقدموا في سبيل ذلك العديد من الشهداء. وأن المرء ليحزن أشد الحزن عندما يرى ما يتعرض له الصابئة اليوم من قتل متعمد ونهب للأموال واغتصاب واكراه على تغيير دينهم. ان مثل هذه الجرائم غريبة على مجتمعنا العراقي. ولا يرتكبها اللآ أولئك النفر من المتطرفين الأرهابيين القادمين من الخارج وعصابات النظام السابق التي احترفت وتعودت تعذيب وقتل البشر ولاتستطيع العيش دون المزيد من الدماء. وهم لايقتلون أبناء الأقليات الدينية فقط بل ينشرون الرعب والموت الى جميع فئات الشعب. وها نحن نشهد تفجير السيارات المفخخة في شوارع ومدن العراق لتحصد أرواح الأبرياء من أبناء هذا الوطن. وكأن الشعب العراقي لايكفيه ما عانى من ويلات وكوارث الحروب والمقابر الجماعية والتهجير القسري الظالم وأستخدام السلاح الكيميائي لأزهاق أرواح الأطفال والنساء والشيوخ في حلبجة وغيرها.

وقد أضطر الكثيرون من الصابئة الى ترك بلد الجذور الأولى، وطن الآباء والأجداد والهجرة الى مختلف البلدان. ويستطيع المرء تفهم موقفهم هذا؛ فقد سبقهم الى الهجرة القسرية ما يقارب أربعة ملايين من العراقيين.

لا أرى حلا" لما يعانيه المندائيون وأخوتهم من الأقليات الدينية والقومية خاصة والشعب العراقي عموما غير الديمقراطية كنظام للحكم والبرلمان مكان ا للحوار وصراع الأفكار والتصويت لحسم النقاش واتخاذ القرار مع احترام رأي الأقلية، واقامة دولة القانون حيث تحترم حقوق الأنسان التي يكفلها له الدستور الذي يقره الشعب العراقي بأكثريته المطلقة في أجواء صحية وحرية كافية تسمح للعراقيين في التعبير عن آرائهم. وأعتقد بوجوب دراسة تجارب الشعوب التي سبقتنا في مضمار الممارسات الديمقراطية، وخاصة في مايتعلق بفصل الدين عن الدولة.

وينبغي هنا الأشارة الى تلك المواقف التضامنية الرائعة للعديد من المثقفين والكتاب العراقيين وكذلك بعض الشخصيات ورجال الدين حيث أعربوا عن استنكارهم الشديد لأضطهاد وقتل وابتزاز المندائيين وأبرزوا دور أبناء هذه الطائفة المسالمة في الحياة العراقية وأهميتهم ، مع بقية الأقوام والأعراق والأديان، لوحدة العراق وتركيبته الأجتماعية الفريدة من نوعها بين بلدان العالم.

لاشك ان قضية العديد من المناضلين والمناضلات العراقيين الذين قدموا تضحياتهم الكبيرة من اجل خلاص الوطن من ظلام العبودية والفاشية المقيتة، قد شغلت اهتمام الاوساط المعنية بها، منذ سقوط النظام البعثفاشي البائد. وبديهي ان هذا الاهتمام تموج، صعودا وهبوطا، اتساعا وضيقا، وفق تبدلات الظروف وتطوراتها القاهرة في حياة شعبنا التي يعيشها خلال هذه المرحلة التاريخية العصيبة . يمكن الجزم بان احد ابرز اهتماماتنا التي نصب كامل جهدنا عليها في اعلام اتحاد الجمعيات المندائية بالمهجر يتمثل في الارتقاء بهذه الكوكبة الخالدة من مناضلينا ومناضلاتنا، بهدف ازاحة التراب التاريخي الذي علق على ذكراهم كل تلك السنوات، كجزء من الوفاء امام استعصاء التاريخ والظروف القاسية التي حاولت دفن ذكرى تلك التضحيات العظيمة التي قدمها هؤلاء ، ولا زالت حية ومضيئة ليس لنا وحدنا كطائفة مندائية بل ولعموم ابناء وبنات الشعب العراقي. الافق في تغيير البلاد كان مفتوحا امام جميع المناضلات والمناضلين العراقيين، ففي كل يوم، كان الشيوعييون المندائيون مع رفاقهم الاخرين، يقدمون دروسا جديدة، نماذج غنية من البطولة والشجاعة الجماعية للشعب، صور مبتكرة وفذّة في اشكال واساليب الكفاح، في التكتيك السياسي، والعملياتي الميداني، ليكونوا في صدارة التضحية والعطاء. كل مناضل حقيقي له معنى ضمن حركة التاريخ ، والمناضلة العراقية جنبا الى جنب مع رفيقها المناضل ، خاضت حربا لم تنته الى الان، لتدافع عن ارضها وحقوقها، عن حرية ابناء شعبها ، لترسم باسمها وما قدمته طريقا للملح فوق نظر الارض العراقية في قلوبنا. احدى أبرز مناضلاتنا الخالدات التي لا تزال تعيش في قلب كل من أحبها،هي الراحلة غريبة عبود لفتة شبيب( ام عايد) . انها واحدة من فرادة تاريخنا العراقي المعاصر ببطولتها التي رفضت من خلالها عبودية المجتمع، وتمردت على القهر في واقع اجتماعي وسياسي اتسم بالقسوة والمعاناة والتمايز ولايزال يحط من دور المرأة، ويحول دون تحررها. اٍذ أن امرأة مثل ( ام عايد) القت على كاهلها ازدواجية حياة النضال والامومة، واجتمع في حياتها الحرمان والقيود الاجتماعية المفروضة على البطولة الخلاقة والمبدعة، وحرم عليها تجريب التفوق في ظروف عراق عقدي الخمسينات والستينات. فان مثل هذه المرأة التي ظلت طيلة حياتها مثبتة على صليب التضحية بالذات ، تليق بذكراها كلمات وفاء نستذكرها بكل محبة كدرس وشهادة لمسيرة ابنائنا وبناتنا في المستقبل، فهي زرعت بذرة الخير لانها الفطرة العراقية، انها الطبيعة، انها الارض الخصبة التي زرعت واثمرت فكان ثمارها خيرا للوطن، خيرا للعراق، خيرا لمستقبل ابنائنا وبناتنا. انها الرفيقة والام الطيبة الحنون والمناضلة الصابرة العنود، المرأة النجيبة والمربية النزيهة، وكلها صفات تجتمع في امرأة واحدة، انها نحن الان وهي الاخرون من رعيل المناضلين الكبار ، تحتل مكانة ما برحت في تعاظم بين جميع المندائيين ،من ممارساتها النضالية في ساحات النضال الجماهيري واقبية السجون، وصبرها ودأبها، وحيويتها، كونها امراة ذات قيمة وأهمية بالتحديد، عاشت بلا مواربة، ممارسة العمل الثوري بكل اساليبه، من مشاركاتها في الانتفاضات التي خاضها شعبنا،في الخمسينات والستينات، حتى النضال من اجل حقوق النساء العراقيات الذي تبلور باقامة اول تنظيم نسائي عراقي باسم رابطة المرأة العراقية، مرورا بخاصة، بنضال مرير تحت واجهات الفقر وتحمل عبء عشرة ابناء، ركبوا تيار حسها الوطني ليبحثوا جميعا عن هوية العراق في مكان تحت شمس العطاء والمساواة والحرية وداخل فسحة من الزمن الذي بدت فيه كلمات مثل الديمقراطية والحرية والاحتكام الى هوى الجماهير عاملا تتباهى به الناس ايام كانت حلوقهم تتحرق من وجع اضطهاد قوى الظلام والفاشية التي يقابلها الصبر الشيوعي الضاج بالحياة والقادر على انتزاع اي الم. عرفت " ام عائد" التوقيف والسجن والتحقيق مرارا عديدة وهي لم تكف عن السخرية في زنزانتها، ومن اين للجلاد ان يعرف مسرة الطيبيين من امثال" ام عائد" التي ظلت كما اتذكرها بجدليتيها المظفورتين وعبائتها مغادرة بيتها الى بيوت الاخرين تكتم لوعتها وهي تراجع هنا وهناك عن الزوج المناضل لتقول لاولادها ان ما سيبقى لكم من الابوة هو الاستمرار والتواصل على الطريق، لانها كانت تنظر الى المدن العراقية وهي تنهض في عيونهم هذه المرأة البطلة التي اقترن اسمها بمواقف بطولية لشعبها وحزبها كانت سنديانة حب خضراء، سفر ونفي دائم، ومساحات من الفرح والعطاء المتنوع، ظلت مورقة ومتألقة

بطاقتها الشخصية والصادرة من منطقة الكرخ تقرأ بها ..
الأسم : غريبة عبود لفت
أسم أمها: حدهن مطلك ..
المهنة : ربة بيت ..
الديانة: مندائية ..
تاريخ الولادة:11/7/1928 ..
مكان الولادة : قضاء الصويرة / لواء الكوت ..
لون العينين : عسليتين ..
الحالة الأجتماعية : متزوجة ..
أسم الزوج : عبدالله علك خلف ........

أنحدرت الراحلة من عائلة فقيرة حيث كان المستوى المعيشي دون المتوسط بكثير , كان والدها يعمل كصائغ متجول بين عشائر المدن الجنوبية وفي محيط المحافظة التي يسكن بها بعد أن عاش ردحاً طويلاً من الزمن في لواء العمارة .. وبعد أن بلغت الثامنة من عمرها دخلت المدرسة وأنهت الأبتدائية ولم تستطيع المواصلة لضيق الحالة المعيشية التي انسحبت على العديد من ابناء الطائفة المندائية وحالت دون تكميل دراستهم والانخراط في العمل بشكل مبكر ..

حين بلغت سن الثامنة عشر أنتقلت الى العاصمة بغداد وتزوجت من المناضل والشخصيةالسياسية الراحل عبدالله علك في الشهر السادس من عام 1946 بلواء العمارة ( قلعة صالح) .. وأنجبت له عشرة أبناء والثاني منهم قد توفى وهو في الشهر السادس من عمره بأحد الأمراض السارية في ذلك الزمن والباقي خمسة أولاد وأربعة بنات ...

عام 1951 تم منحها عضوية الحزب الشيوعي العراقي .. اذ كانت من الناشطات في تأسيس رابطة المرأة العراقية الذي يعتبر اول تنظيم نسوي عراقي يطالب بحقوق المرأة .. وقد كان عملها دائباً وذلك للحياة الصعبة التي عاشتها , وقدجمعت ووفقت بين عملها الحزبي والديمقراطي وحياتها العائلية والأجتماعية ..

أول مواجهة مع شرطة ومخابرات العهد الملكي المباد كان عام 1952 حين هروب المرحوم مدلول الصكر مع أحد رفاقه إثر مداهمة من قبل الشرطة وأختفائهما في بيت الراحلة في محلة أبو سيفين الشعبية في جانب الرصافة قرب سوق دودو ( مع وضع الشدة على حروف الواو ) وعند متابعتهما من قبل الشرطة وأرادت الشرطة الدخول الى داخل البيت عنوة وقفت المرحومة بوجههم ورفضت دخولهم وذلك لعدم وجود زوجها وضربت الضابط المسؤول بقبقابها الخشبي مما أحدثت بعض الجروح برأسه ..!

عام 1955 تم إلقاء القبض على لجنة بغداد للحزب الشيوعي العراقي من قبل شرطة ومخابرات العهد الملكي المباد , حيث كانت اللجنة مجتمعة في دار زوجها المناضل الراحل عبد الله علك الواقعة في منطقة ( الطاطران ) بالرصافة من بغداد .. وعلى إثر ذلك تم إعتقال المرحومة وتوقيفها وقد حكم عليها بستة أشهر من قبل محكمة صورية وأدخلت الى سجن النساء العام في بغداد .. وكان لديها ستة أبناء ومن هؤلاء الستة كانت لها توأمتان رضيعتان في الشهر التاسع من عمريهما وقد أدخلتهما معها الى السجن مع أبنها الذي يكبر التوئمتين بسنتين وقد كانت المناضلة المرحومة حامل في شهرها السابع وقد أنجبت بنت بيوم عيد العمال وسميت من قبل رفيقاتها بأسم ( ذكرى ) أي ذكرى السجون للعهد المباد الجبان وذكرى لعيد العمال .. أما بقية الأبناء فقد تم توزيعهم بين الأقرباء وبيوت الرفاق .. لحين خروجها من السجن..
ومن الأحداث التي رافقت هذه المداهمة هي التضامن الكبير من قبل أهالي المنطقة مع رفاق الحزب المقبوض عليهم وأهل الدار المقبوض عليهم أيضاً فعند المواجهة والمعركة بالأيدي التي حدثت مع الشرطة وفرار الرفيق ( نعيمون ) وهو المرحوم الرفيق مهدي عبدالكريم , فقد ساعده أهالي المنطقة من الفرار من دار الى أخرى , من على السطوح، حتى نهاية الحي، لكن شرطة ومخابرات السلطة كانت له بالمرصاد في آخر الحي وقبضت عليه .. الرفيق ( عبد علوان أبو بشرى ) كان مريضاً ولم يحضر بيوم الأجتماع وجاء في اليوم الثاني لغرض التعرف عن أحداث الأجتماع .. وكانت باب الدار مفتوحة وتخطى الباب وحينما أراد تجاوز الستارة التي توضع بعد الباب في الدور البغدادية وحين أزاحها شاهد الشرطة في وضع كمين له فأراد الهروب فأطلقت الشرطة عليه النار من بنادقهم وأصابوه في قدمه وسقط على الأرض وألقوا القبض عليه .. الرفيق المرحوم ( عامر عبدالله ) تأخر عن الأجتماع لغرض شراء السكائر من الدكان الموجود في أول الحارة ورأى حدوث حركة وجلبة في الحارة فطلب من صاحب الدكان ببسي كولا لغرض التمويه والتأخر لأجلاء الموقف وكات حدسه بمكانه وتخلص من الوقوع في براثن شرطة الرجعية ..الرفيقة رسمية وزوجها لم يستطيعا الهرب بعد التحذير من قبل المرحومة أم عايد وأمها( ام خضير) التي كانت متواجدة أثناء الحادث ولم يستطيعا عبور سياج السطح .. المرحومة ( غالية مطلك ) خالة المناضلة غريبة عبود وكانت بنفس عمر المناضلة ام عائد تقريباً , جاءت على وجه السرعة لأن بيتها كان قريب جداً من مكان الحدث وأخذت تتصارع مع الشرطة لأنتزاع أم عايد من أيدي الشرطة لتهربها , لكن هيهات فقد كانت مخالب حرس السلطة الرجعية الملكية متشبثة بالحديد والنار.. ولم يبقى بيد هذه المرأة الطيبة سوى أولاد أثنان ومسكت بهم بقوة كل بيد وهي تنظر الى السيارة التي أخذت أبنة أختها وهي تسير مسرعة للخروج من الحارة بصيدها الثمين .. بعد ذلك تم إلقاء القبض على زوج المرحومة غالية مطلك المرحوم
( شبيب عكيلي خلف ) وهو أبن عم المناضلة غريبة عبود، كذلك ألقي القبض على زوج أختها الكبيرة (حازم مشعل الخميسي ) وهم من الجناعات التي ظلت بعيدة عن ممارسة العمل السياسي، الا ان الشرطة قبضت عليهم بسبب القرابة وسكنهم القريب من مكان الحدث وتم إطلاق سراحهم بعد التحقيقات التي عرف الناس مجرياتها آنذاك ..

عام 1956 تم إلتحاقها بزوجها مع جميع أبنائها السبعة في منطقة النفي والأبعاد التي استقبلت العديد من عام 1956 تم إلتحاقها بزوجها مع جميع أبنائها السبعة في منطقة النفي والأبعاد التي استقبلت العديد من الناشطين الشيوعيين وهي مدينة ( بدرة ) التي تقع في محافظة واسط شمال شرقي مدينة الكوت بينها وبين الحدود الايرانية العراقية ، وقد عانت العائلة كثير من المتاعب بسبب هذا الأبعاد لحين إنفجار ثورة الرابع عشر من تموز ورحيلهم عنها الى بغداد , كان على المنفيين والمبعدين اضافة الى معاناتهم في هذه المدينة الصحراوية المنقطعة عن العالم، الحضور الى مركز الشرطة مرتين في اليوم لغرض التوقيع وإثبات وجودهم .. كانت المناضلة أم عايد من النساء الأوائل التي ساهمت في تكوين منظمة رابطة المرأة العراقية , كانت مساهماتها ملحوظة من لدن زميلاتها ورفيقاتها , بنشاطاتها الجماهيرية والديمقراطية .. فقد أشتركت في المظاهرات العديدة التي كانت تنادي بالمطالب اليومية للجماهير الشعبية , بالخبز .. بالحرية .. بالعمل .. بالعيش الكريم لهذه الجماهير .. في أحدى المظاهرات التي خرجت الى الشوارع البغدادية إثر العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس , قد حوصرت المظاهرة من قبل الشرطة فقد أنتشرت الجموع الجماهيرية في الأزقة والبنايات وكانت المرحومة من ضمن المجموعة التي أتخذت من أحدى المستشفيات حصناً لمواجهة الشرطة الجبانة فقد حدثت مناوشات بين الشرطة والمعتصمين المحاصرين في المستشفى فقد كان سلاح المتظاهرين الطابوق وكان سلاح الجبناء من شرطة العهد المباد الحديد والنار .. وكان من ضمن زميلاتها ورفيقاتها التي عملت معهن سلوى الحكيم , الدكتورة نزيهة الدليمي ,عميده عذبي, أنعام العبايجي , زكية خليفة , وهبية أم نادية , أم جبار .. وغيرهن الكثيرات من المناضلات العراقيات اللواتي شخصن ما تعانيه المرأة في بلادنا من ظروف قاسية بحكم مستوى الواقع الاقتصادي المتخلف، كما هي تتعرض اضافة الى عدم منحها الحق في العمل، الى عادات وتقاليد بالية تقيد حريتها وتفرض عليها قيودا تضعها في موقع متخلف في الحياة وتضع عليها اعباء مستمرة..

حين أعلان ثورة تموز 1958 وخلال ايام قليلة جداً تم رحيل العائلة الى بغداد وكان ينتظر المرحومة الكثير من النشاطات الحزبية والديمقراطية والجماهيرية وقد كان دارها الواقعة في دور السكك في منطقة ( الشالجية ) مركزاً لرابطة المرأة في المنطقة , كما كان في السابق قبل الثورة مكاناُ للأجتماعات الحزبية وواجتماعات رابطة المرأة العراقية ..
أحدى المظاهرات التي ساهمت بها بعد الثورة وكانت إحدى الممثلات من قبل المتظاهرات في مقابلة ( صالح العبدي ) الذي تهجم وتلفظ بكلمات بذيئة ضد المظاهرة والمتظاهرات مما أضطر المرحومة الى مجادلته بحدة واباء وكبرياء لمن يعهدها رجال الجيش انذاك ..!

عام 1961 وعلى أثر الهجمة على الحزب الشيوعي العراقي من قبل دكتاتورية عبدالكريم قاسم فقد تم مافأة العائلة المناضلة بفصل زوجها( ابو عايد) من العمل .. وفي صيف ذلك العام تم أعتقال ابا عايد وزجه في سجن ( خلف السدة ) وبدأت رحلة جديدة في حياة هذه العائلة لتعود معاناة هذه المناضلة الى سابق عهدها الأول في العهد الملكي المباد , عهد الفاقة والجوع والعوز والأختفاء والتشرد والمرض والخوف من المجهول والمستقبل .. كانت الأم الرؤم والحنون لأبنائها , لقد كانت متواضعة , محبوبة من قبل زميلاتها ورفيقاتها , دمثة الخلق, قوية الشخصية , وكانت كتلة من الحيوية والنشاط ,كانت شجاعة لا تهاب عدوها , كانت تحب المزحة وصاحبة نكتة جميلة ساخرة من الاوضاع التي تعيشها الام والمناضلة , لقد كانت قاصة بارعة فقد حفظت عن أبيها عبود لفته شبيب الذي كان مرجعاً في فكره وحكمته وكان متميزاً بحدة ذكائه وحفظه للشعر والقصص، الكثير من الذي كان يرويه في المضايف , وكان بأستطاعتها أن تسرد القصة الواحدة لأيام للكبار والصغار والكل يصغي بشوق كبير لسردها الجميل .. !! أنجبت أبنها التاسع بعد ثورة تموز بقليل وأبنها الأخير في عام 1961 ولقد كانت هذه الأفواه الجائعة تحتاج الى من يطعمها بعد أن زج زوجها بالسجن ,فعملت وأستخدمت المهنة التي تعلمتها في ( بدره ) منطقة الأبعاد والنفي للعراقيين الوطنيون الأحرار, وهي مهنة زرق الأبر للمرضى كمورد مع المساعدات التي كان يرسلها الحزب لتسد جوع وأحتياجات أبنائها , ولم تتهاون وتهمل واجباتها الحزبية والديمقراطية الجماهيرية مع ممارستها لعملها لمواجهة الفقر المدقع .. بعد أطلاق سراح زوجها من السجن عام 1962 والذي لم تمر فترة زمنية قصيرة ويزج به الى السجن من جديد، حيث ظل طيلة حياته زائرا لجميع سجون العراق تقريباً على مدى تاريخ حياته السياسية فقد زج في سجون العهد الملكي المباد والعهد الجمهوري والعهد العارفي الأول والعارفي الثاني وبدايات العهد الصدامي العفلقي، من سجن نقرة السلمان الرهيب الى سجن الحلة والكوت وبغداد.. الخ .. !! وعند خروجه من السجن أخذت الشرطة السرية والمخابرات في مراقبته ومضيايقته وفي أحدى المرات حاول أحد المأجورين وهو حارس المنطقة التي يسكن بها من أغتياله ..!!ولذا كلف من قبل حزبه الحزب الشيوعي العراقي بمهمة في جنوب العراق وكانت مهمته ( المسؤول العسكري للمنطقة الجنوبية ) فلبى نداء حزبه وأختفى في تلك المنطقة .. وقد زار عائلته التي سكنت في ضاحية الوشاش لمرة واحدة قبل سقوط حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم وكان هذا البيت لأختفاء المرحومة أيضاً ومعها أبنائها جميعاً وعندما نقول جميعاً وذلك لأن في المرات السابقة أثناء توقيف وسجن المناضلة ام عايد، كان يتم توزيع أطفالها بين بيوت رفاق حزبها وعلى سبيل المثال لبيت ( سلوى الحكيم ) و ( زهرة ) و ( فكتوريا ) و ( جدتهم لأمهم ) وأخوالهم لأنهم ليس لهم أعمام فقد كان والدهم وحيداً لأبيه مع ستة أخوات .. عانت الراحلة الابية الكثير من هذا الأختفاء وقد طلب منها زوجها لزيارته ومن الصدف وأثناء زيارتها حدث مصاب جلل في شباط عام 1963 وهو سقوط حكومة قاسم وصدور بيان رقم 13 الذي أباح قتل الشيوعيين أينما كانوا العراق مدعوماً هذا البيان بفتوى سابقة من قبل رجل الدين محسن الحكيم آنذاك ..!! ومن الصدف الجيدة كانوا أبنائها في زيارة لعائلة خالتهم وخالهم الذين يسكنون في بيت واحد في الوشاش أيضاً وكان يوم خميس والأنقلاب الفاشي حدث صباح يوم الجمعة وقد حدثت مداهمة لبيتهم من قبل الحرس الفاشي اللاقومي والذي كان فارغاً من جميع أهله وقد سلمت العائلة من هذه المداهمة .. وبعد هذه الأحداث عادت المرحومة بعد أن شاركت في المظاهرات والأعتصامات الكبيرة التي حدثت في محافظة البصرة فقد كانت الجماهير الشعبية مسيطرة على الشارع ومنتظرة التوجيه للزحف الى بغداد لأسقاط الأنقلابيين الفاشيين ونزلت الدبات الى الشوارع أيضاً وكانت مساندة للجماهير ومن ثم محايدة لها ومن ثم أنسحبت وتركتها وحدها مما ساد الأحباط لذا أنسحبت هذه الجماهير لتدبير أمورها ..! وقد روت المرحومة الكثير من المشاهدات التي حدثت في البصرة وحين رجوعها عرفت أن أبنائها عند بيت أخوتها فرجعت مباشرة اليهم وبعد يومين أو ثلاثة ذهبت سراً الى بيتها وجلبت بعض الحاجيات من ملابس وغيره لأبنائها وبقيت العائلة مختفية في بيت أختها وأخيها ومما عزز هذا الأختفاء هو صدور البيان الذي يخص زوجها بمصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة ....!!! مع العلم انه كان لا يملك في دنياه نقير شروى ...!!! وبعد إلقاء القبض على زوجها وسجنه غيرت سكنها الى سكن آخر وأنقطت المساعدات الشحيحة التي كانت تستلمها من الحزب قبل الأنقلاب والمساعدات من الأهل الذين زجوا في السجون مما دعاهالبيع أثاث بيتها الهزيل وبعض الحاجيات الأخرى لسد أجور السكن ونزول أبنائها القادرين الى الشارع للعمل من أجل أنقاذ العائلة وعملوا في بيع المناديل وقارضات الأضافر والسكاير وغيرها من المواد في ذلك الوقت العصيب .. لقد كانت المهمة كبيرة جداً عليها والعبء ثقيل لا يتحمله الرجال لكنها وجهة هذه الصعوبات برباط جأش كبير .. بعد إلقاء القبض على زوجها وتم أستقدامه الى بغداد وتم الحكم بمحاكم صورية التي كانت تعوزها الشرعية فحكمت عليه بالسجن المؤبد وبلغت مجموع محكومياته أكثر من سبعة وستين سنة ووضع مع رفاقه في قطار الموت لأرسالهم الى سجن نقرة السلمان وتم توديعه من قبل زوجته سراً وأبوه وأخته وبعض أبنائه في منطقة علاوي الحلة .. وقد صادف إن صاحب البيت الجديد الذي أستأجرت غرفة واحدة مع أبنائها التسعة , أبن إخته أحد المشاركين في أنتفاضة تموز التي قادها المناضل ( حسن سريع ) وأحد الذين قبض عليهم مما دعا المرحومة الى الأختفاء بسكن جديد وذلك بغرض الأبتعاد عن عيون ومخالب الحرس الفاشي العفلقي خلال هذه الأعوام الصعبة من عام 1963 الى عام 1967كان الحمل ثقيلاً والمهمة شاقة وكبيرة فبهذه الأعوام كانت لوحدها تواجه صعوبات الحياة لحين أصبح أولادها يافعين وتعاونهم معها من أجل الوصول الى بر الأمان فقد عمل أولادها كعمال صاغة في النهار ويدرسون ليلاً في المدارس خلال تلك السنين. ولم تبتعد ام عايد عن حزبها فقد عقد أجتماع كبير لرابطة المرأة في بيتها الواقعة في مدينة الوشاش ومن المؤسف له جئن بعض زميلاتها ورفيقاتها بسيارات خاصة مما أثار فضول نساء المنطقة وكانت لها جارة أسمها أم شكرية كثيرة الفضول فقد سألتها عن النساء الكثيرات التي دخلن البيت وبلباقة صاحبة الخبرة الطويلة لهكذا مواقف أجابتها وأقنعتها بأنهن قريبات وجئن لغرض أقامة حفل وعمل شاي وخبز العباس بغرض الدعاء لخروج زوجها من السجن .. عام 1968 تم أطلاق سراح زوجها من السجن ورويداً رويداً تحسنت أوضاع عائلتها لمدة وجيزة من الزمن بعد أرجاع زوجها لعمله ثم أحالته على التقاعد ومن ثم الأنقلاب الأسود من قبل العفلقيين الجدد بقيادة صدام حسين على العهود والمواثيق التي قطعوها الى الشعب العراقي ...!! وبعد الهجمة الشرسة على الشيوعيين وعلى كافة القوى الوطنية والديمقراطية عام 1978 أجبر أحد أبنائها المنتمي الى الحزب الشيوعي العراقي الى النفي الى خارج العراق وذلك لعدم الوقوع بأيدي الفاشست العفالقة كذلك خروج أثنتين من بناتها مع أزواحهن الى خارج العراق ووفاة أحد أبنائها وموته في بحيرة الحبانية أثناء فترة هروبه من الجيش ( هناك رويات تقول أنه قتل لأنه كان أحد أبناء أتحاد الطلبة الديمقراطي الذي هو أحد أجنحة الحزب الشيوعي العراقي ..!) كذلك لانه في فترة سابقة تم القبض عليه وتم تعذيبه بشك وحشي .. مما زاد في همها لفراق أبنائها على هذه الشاكلة من جهة وذهاب أولادها الباقين الى سوح القتال في حروب الدكتاتور الفاشي صدام حسين .. عام 1979 قامت بزيارة أبنها المنفي الى الخارج والذي كان لاجئاً في جمهورية اليمن الديمقراطية .. عام 1981 حينما وصل لها خبر أن إبنها متواجد في كردستان يعمل كمقاتل مع رفاقه الأنصار ضمن حركة الكفاح المسلح ضد النظام العفلقي الفاشي توجهت المرحومة الى سوريا لغرض زيارته عن طريقها لكنها لم تفلح ..! في نهاية عام 1982 وصل لها خبر بوجود ولدها في سورية توجهت اليه مسرعة ونجحت بمقابلته .. منذ العام 1982 لغاية عام 1990 لم تلتقي بأبنها المنفي وفي هذا العام إلتقت به في أسبانيا بعد أن حصل على اللجوء السياسي في السويد وكانت أخر جملة تفوهت بها لأبنها في أرض مطار أسبانيا في ساعة الوداع ( عشت حياتي شيوعية وسأموت وأنا شيوعية .. ) . عاشت أغلب حياتها بالأختفاء وواجهت مضايقات وأستدعاءات العفالقة بشجاعة متناهية لم تخن حزبها يوماً لم تنبذ من حزبها يوماً لم تعترف يوماً , صانت أسرار حزبها , لم تسيء الى رفيقاتها ورفاقها , وّدعت أحبتها وفارقت الحياة بتارخ 23/05/1993 أثر مرض عضال لم يمهلها كثيراً ومن قبلها كان قد فارق الحياة زوجها المناضل عبد الله علك بنفس المرض الخبيث , وكانت وفاته بتاريخ 19/12/1992 .. لقد كانت حروب النظام الفاشي وبالا على الشعب العراقي، فقد اصبحت تلك الحروب كارثة وطنية بعد استمراها لسنوات طويلة، وقد عانت المرأة العراقية من آثارها المدمرة على مختلف الاصعدة، اذ فقدت عشرات الالوف من النساء العراقيات معيلهن، واضطررن، وهن غير المؤهلات عادة، الى طرق ابواب العمل في ظل ظروف الاستغلال المكثف وتعطيل قانون العمل بحجة زيادة الانتاجية ودعم المجهود الحربي وفي ظل عسكرة العمل وفرض الاساليب القسرية والسخرة المجانية. وتعرضت ام عايد كغيرها من المناضلات الى مآسي فاجعة الحرب بفقدان ابنها( ثائر) وفقدان مورد الرزق،والاجراءات التعسفية وفقدان المكتسبات التي حصلت عليها المراة العراقية عبر نضالها المجيد، الا انها وحتى النهاية كانت تحلم بمجتمع حر لاتوجد فيه طبقات مستغلة ومستغلة تصبح فيه وسائل الانتاج ملكا للجميع، وكانت تحلم بمجتمع تتحرر به المرأة العراقية تحررا كاملا بتحرير المجتمع باكمله، فكانت تحث الاخرين على اكمال الشوط النضالي رغم الاضطهاد السياسي والاجتماعي المزدوج الذي سببته سيطرة القوى الفاشية وسيادة الافكار والتقاليد البالية. • نشكر الاخ الفاضل ناظم عبد الله علك لتعاونه معنا في سرد العديد من التفاصيل في حياة هذه المناضلة القديرة التي ستعيش في قلب كل من احبها وستظل زمزا خالدا في النضال من اجل بناء عراق ديمقراطي تنال فيه المرأة كامل حقوقها السياسية والاجتماعية.

 

تشكلت خصائص وحرفيات الشاعرة المبدعة لمعية عباس عمارة، باسلوب تفكيرها وتعبيرها، ووجدت الشعر في نفسها صدفة، فهو موجود في كيانها كوجود الدم في اي كائن حي دون ان يعبأ به او يراه، فخلقت حوارها الاثير الى اعماقها بقصائد الشعر، لتكون واحدة من الرواد، وهو ما نفخر به جميعا، ولتقف امام تحولات هذه الظاهرة الادبية وجها لوجه باستعداد متميز، مهد له تربيتها في بيئة فنية ، مستمدة نشأتها الشعرية وتطورها من منابع الدراسة الاكاديمية ومقاربة لرواد الحركة وعلى رأسهم الراحل بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، لتتوجه الى عالم الشعر الحقيقي، وتحقق قدرا كبيرا منه بملامح شخصية ابداعية .
لقد كانت الشاعرة لمعية عباس عمارة تدرك بان كل ثورة بالابداع ، تشكل اسلوبا خاصا في التعبير ينبع من طبيعة الظروف الموضوعية والتاريخية المحيطة بالمبدع، لتبدأ رحلتها بقصائد الحب التي توجهت من خلالها منذورة الى كل من يملك القلب، ويروي ظمأها، فاقامت مناخا لغوياجديدا، مزجت به التاريخ الشخصي بالتاريخ العام، فحملت اشعارها احساس عميق بالحب، كما حملت في الوقت ذاته احساسا عميقا بالموت، مع انها ظلت متشبثة بالحياة بمثل الفتوة والقوة التي تشبث بها زملائها من رواد حركة الشعر الحديث.
في قصائدها الاولى، توجهت لمعية عباس عمارة نحو عوالم الشعر الحقيقي، لتحدد ملامح شخصيتها الابداعية، ذلك ان التقاليد الشعرية اضحت آنذاك محض خرافة، تماما مثلما كانت التقاليد الاجتماعية هي الاخرى ذات هيكل خرافي بامس الحاجة الى التغيير، وعاقبة كل هذا، كانت على الشاعر والفنان، ان يطالب بالتجديد تحت وطأة احساس مثقل بضرورة الخروج من ضيق الحياة وسماتها وافراحها ووسائل التعبير عنها.
نريد بهذا الملف الذي شارك به العديد من الزملاء، ان نقدم لشاعرتنا، اغنية حب صغيرة كوفاء لمقامها الكبير عند جميع المندائيين، وان نبوح لها عن مكنونات تقديرنا لتجربتها الشعرية الجميلة المتميزة بكل التماعاتها المشرقة المتناثرة في قلوبنا، فهي ستظل واحدة من ابرز اعلامنا المندائية، نضيء بكلماتها أفئدتنا التي احزنتها ظروف الحياة العصيبة التي يعيشها ابناء المندائية هذا اليوم.
ام زكي ستظل ضفاف خضراء، نزورها ونرتمي باحضان كلماتها
فهي الموجة وهي الابواب المفتوحة على النور حتى وان طال صمتها، فهي الحضور الذي يبدد حلم الصمت.

الشاعرة لميعة عباس

لميعة عباس عمارة : ولدت في بغداد ، نشأت في العمارة وتقيم حاليا في مدينة سان دييغو في ولاية كالفورنيا / الولايات المتحدة. عضوة الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء العراقيين في بغداد[ 1958 – 1963] . عضوة الهيئة الإدارية للمجمع السرياني في بغداد. نائب الممثل الدائم للعراق في منظمة اليونسكو في باريس[ 1973-1975] . مدير الثقافة والفنون / الجامعة التكنولوجية / بغداد. في عام[ 1974] منحت درجة فارس من دولة لبنان. لها سبعة دواوين شعرية مع ديوان ( بالعامية ) والعديد من المؤلفات المنشورة والغير المنشورة وترأس حاليا تحرير مجلة ( مندائي ) التي تصدر في امريكا. ذكرت ضمن النساء المشهورات في العالم في موسوعة WHO IS WHO

لميعة عباس عمارة
السيرة الذاتية :
¨ لميعة عباس عمارة ( العراق ) .
¨ ولدت عام 1929 في بغداد .
¨ تخرجت في دار المعلمين العالية 1950 .
¨ عملت مدرسة في دار المعلمات الأولية ، وفي ثانويات بغداد إلى أن تقاعدت في
السبعينيات للتفرغ لحياتها الأدبية والشعرية .
¨ اشتغلت في أواسط السبعينيات في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة .
¨ نشرت الكثير من إنتاجها ـ منذ كانت طالبة في دار المعلمين العالية ـ في أكثر
من صحيفة ومجلة عربية .
¨ دواوينها الشعرية : الزاوية الخالية 1960 ـ عودة الربيع ـ 1963 ـ أغاني
عشتار 1969 ـ عراقية 1971 ـ يسمونه الحب 1972 ـ لو أنبأني العـراق
1980 ـ البعد الأخير 1988 .
¨ كتبت عنها العديد من الدراسات ، وتناولتها العديد من الكتب التي درست الشـعر
العراقي الحديث مثل : أدب المرأة العراقية لبدوي طبانة ، والأدب المعاصر فـي
العراق لداود سـلوم ، وشـاعرات العراق المعاصرات لسـلمان هادي الطعمة ،
ونسمات وأعاصير من الشعر العربي المعاصر لروز غريب .

منتدى نازك الملائكة الادبي يحتفي بالشاعرة لميعة عباس عمارة

سعدون هليل

في قاعة الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق – وفي غمرة إحتفالات طبقتنا العاملة العراقية بعيدها المجيد.. أقام منتدى نازك الملائكة الادبي احتفالية في اصبوحة جميلة.. أحتفاءًً بالشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة.. حيث غصت القاعة بالحاضرين من محبي شعر لميعة عباس وقصائدها الشعبية الرائعة وتمنوا ان تكون حاضرة بينهم وتشاركهم فرحتهم بهذا اليوم البهيج وقدمت عريفة الحفل القاصة ايناس البدران عرضا موجزا عن حياة الشاعرة وبعض من المقاطع الشعرية للشاعرة الرائدة..
كما القى الاستاذ فاضل ثامر رئيس الاتحاد كلمة افتتاح الحفل.. شاكراً الحضور الطيب والكثيف – واثنى على جهود رئيسة المنتدى (القاصة نعيمة مجيد) التي زرعت البذرة الاولى لهذا المنتدى الادبي المهتم بالمرأة الأدبية ومنجزاتها.. وتحدث عن الشاعرة لميعة عباس عمارة – الحاضرة – الغائبة في هذه الاحتفالية البهية متطرقاً لرفع الحيف والغبن عنها قائلاً.. حقاً إنها رائدة من رواد الحركة الشعرية في العراق فقد جايلت السياب ونازك الملائكة.. وكانت متدفقة شعراً.. وشاركت في الكثير من المحافل الادبية في الخمسينيات من القرن الماضي.. كما ألقت القاصة نعيمة مجيد كلمة المنتدى مستعرضة فعالياته وأهميته للمرأة الاديبة كونه يسلط الضوء على الاعمال الادبية النسوية الريادية ويهتم بالطاقات الشابة.. كما ويطالب بحقوق الرائدات منهن حيث رفع المنتدى مؤخراً – مذكرة من خلال بوابة الاتحاد يناشد بها الحكومة العراقية مساندة الشاعرة الرائدة نازك الملائكة مادياً ومعنوياً كونها تعاني من المرض والعزلة في غيبوبتها وهي فاقدة الوعي في احدى اماكن القاهرة ترعاها الحكومة المصرية.. لذا طالب المنتدى الحكومة العراقية بالتكفل بعلاجها وعلى نفقتها لان العراق اولى برعاية ابنائه ومبدعيه مهما بعدوا.
وتألق الناقد علوان السلمان من خلال صيده الماهر للشبقات الشعرية حيث كان مهيمناً وهو يقرأ الشعر بطراوته الجنوبية المهذبة مضيئاً اياه بقراءة الشعر المكتوب باللهجة العامية حيث قال.. نظمت الشاعرة الشعر بالعامية وهي في سن مبكرة، تماشياً مع المحيط واول نظمها كان البوذية.
تشوف الناس ظاهري وسمني
اوما تدري الدهر طكني وسمني
على الخدين محبوبي وسمني
وأستذكر السلمان الشاعرة لميعة عباس عمارة العراقية الانيقة الوفية لبغداد التي حملت حقيبة الترحال وحلقت في فضاءات الارض البعيدة بعد ان سطع نجمها في أواخر الاربعينيات وبداية الخمسينيات وما زال متألقاً في سماء الادب.. عبر دواوينها فهي صاحبة (الزاوية الخالية- 59).. ( عودة الربيع -62).. ( عراقية..71) ( ويسمونه الحب 72).. ( لو أنبأني العراف 80) وأخيراً في ديار غربتها كانت مجموعتها الشعرية ( البعد الاخير) ولها ديوان شعبي بالعامية.. اما آخر نتاجها بالعامية.. ( أهازيج مندائية) وأمضى السلمان ارتحاله في محطات الشاعرة.. حيث قال لميعة عباس عمارة كتبت عن الوطن المتعب وشاركت في المظاهرات الصاخبة فيه.. إلا إنها تبقى شاعرة الرقة والجمال والانوثة والغزل.. ولا تخلو قصائدها من لذعة ..فحين منحتها الحكومة اللبنانية وسام الارز تقديراً لمكانتها الادبية لم تتسلم الوسام.. (لان الحرب الاهلية قائمة) فكتبت تقول:
على أي صدر أحط الوسام
ولبنان جرح بقلبي ينام
وختم علوان السلمان مقالته.. يقول:
(سلاماً للأبداع الذي لا ينضب وربطة العنق الحمراء التي لا تمل لانها الاناقة والشباب.. سلاماً (لأم زكي) في ديار الغربة عبر جسور تحدها حروفاً لشاطئك بعد ان دخلت بيوتنا عبر المنهج الدراسي المقرر. عسى ان تعبرين عليها وتعلنين القدوم ويتحقق ما جاء في ديوانك (البعد الاخير).
كما تحدث الباحث والمترجم حسين الجاف عن لقاء الشاعرة مع احد الشعراء اللبنانيين الكبار.. مستلاً بعضا منه.. (حين سألها الشاعر.. أتدخنين؟.. أجابت انا عراقية.. أتسهرين معي .. قالت له .. كلا أنا أحمل الشرق في ارداني) وبهذا الحوار أكدت الشاعرة والانسانة إنها العراقية إبنة الموروث الشعبي التي لا تصهرها قشور الحضارات وإنما هي من صلب حضارة سومر العراق.
كما تحدث عنها الامين العام للاتحاد الشاعر الفريد سمعان ذاكراً سجاياها النبيلة.. وأختفاءها عام 1963م بعد إنقلاب 8 شباط الاسود.. التي نجت منه هاربة وعندما توالت الاعوام وحتى عام 1968 سألت الذين طاردوها ماذا كنتم تريدون من المربية الشاعرة والانسانة لميعة عباس عمارة وتلك صفعة وجهتها للوجوه الخشنة.
وتحدثت ايضاً في هذه الاحتفالية.. الاستاذة هيفاء الهيمص عن منجز الشاعرة لميعة عباس عمارة وحياتها بأسلوب رشيق.
وبعد هذه السياحة الجميلة والجليلة في مراحل حياة الشاعرة لميعة عباس عمارة.. استمرت الاحتفالية بقراءات شعرية استمعنا إليها من نخبة من كواكبنا الشاعرات المتألقات في الساحة الادبية الحالية.. وقد أجدن اختيار ابياتهن الشعرية.. وهن الشاعرة فائدة آل ياسين والشاعرة منى السبع والشاعرة بلقيس العزاوي.. الشاعرة مسرة حميد... الشاعرة علياء المالكي.. الشاعرة سمارة غازي وتطرقت الشاعرة فائدة آل ياسين.. الي التهميش والاقصاء الذي حدث في مهرجان المربد الاخير.. وعدم دعوة ومشاركة الشاعرات فيه مسجلة امتعاضهاً ورفضها له..
وبعدها وزع الامين العام ورئيس الاتحاد الهدايا على المبدعات المشاركات في هذه الاحتفالية.. وتوجه الحاضرون بعد ذلك لأفتتاح معرض تخطيطات للفنان التشكيلي اياد صادق وبجو يسوده المرح والبهجة الطافحة على الوجوه الحاضرة جمعاء.

لميعة عباس عماره على أوتار العامية والفصحى

علوان السلمان

يقول جان كوكتور (الكتابة هي فن التورط)
ولميعة عباس عمارة تقول في مقدمة لها اخترقت مجموعتها (لو أنبأني العراف)
كل شعري قبل لقياك سدى
وهباء كل ما كنت كتبت
اطو أشعاري ودعها جانبا
وادن مني فانا اليوم بدأت
انه صوت النورس الذي عانق فقاعات دجلة في زغبه اذ الولادة في بغداد الكرخ 1929 فالارتحال صوب رائحة الهور وعطر السنابل والحصاد عام 1932.. وهناك نشأت وأكملت دراستها الابتدائية والثانوية.. ثم العودة ثانية الى بغداد أو لإكمال دراستها في دار المعلمين العالية حتى تخرجها فيها عام 1950
بعد ان كانت لقاءات الإبداع والتجديد وظهور مجموعة من الأديبات كان لهن الفضل الأول في أظهار شخصية المرآة بما قدمنه من نتاج فكري وادبي اسهمن فيه فهن نازك الملائكة وعاتكه الخزرجي ولميعة عباس عمارة وفطينة النائب وصبرية الحو وغيرهن من الرائدات الأوائل.. ولميعة عباس عمارة صورة المرآة الرافضة لواقع يقتل الذات النسوية المبدعة بدأت تحس بحريتها وتحركها نتيجة لما أفرزته الحياة فولدت عندها نفس حساسة وروح تواقة الى الأجمل والأسمى.. فالعصر حقق لها وجودها فمنحها حق التعليم والعمل لكنه لم يحررها عاطفياً للتعبير عن مكونات نفسها بل كانت تغلفه بالمعنى القريب. فقد عبرت الشاعرة في بعض قصائدها عن عواطفها مع كثير من التحفظ المطوق بالكبرياء وحب الذات فظلت عواطفها مرتبطة بالبيئة خاضعة لعرفها الاجتماعي..
اهكذا تمضي حياتي سدى
اهكذا تدفن أمالي
اهكذا يقطع ما بيننا
هذا الستار القاتم البالي
فالشاعرة لميعة كانت واعية للازمة التي تحيط بها لذا كانت ثورتها اجتماعية وسياسية تتحرك في اطارها العام فهي انسانة متفاعلة مع واقعها تطمح الى دفع عجلة التطور الى امام لذا فهي عضوة الهيئة الإدارية الاتحاد الأدباء العراقيين في بغداد 1958- 1963 وهي عضوة الهيئة الإدارية للمجمع السرياني في بغداد وعاملة في سلك التعليم كمدرسة لمادة اللغة العربية في الاعدادية المركزية للبنات ومن ثم نائبة الزاوية الخالية ص33
الممثل الدائم للعراق اليونسكو باريس 973- 1975 بعد ان كانت مديرة الثقافة والفنون- الجامعة التكنولوجية- بغداد 974.. بعدها هجرت العراق نتيجة الأوضاع السياسية المريبة واستقرت في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية وترأست تحرير مجلة (مندائي)... لأنها تعي ان الفن لا يقف عند حدود التعبير العاطفي والتسلية بل يساهم بشكل فاعل في خلق القيم والذات والواقع بشكل لا يعرف السكون ولا الحدود..
حملت لميعة عباس عمارة حقيبة الارتحال وارتحلت محلقة في فضاءات الأرض البعيدة بعد ان سطع نجمها في أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات ومازال معلقاً في سماء الأدب عبر دواوينها ونتاجها الذي لا ينضب.. فهي صاحبة (الزاوية الخالية) 1959 مجموعتها الشعرية الأولى التي جسدت شهرتها كشاعرة عراقية متميزة الأسلوب متفردة الاصالة ثم تلتها عودة الربيع 962 وأغاني عشتا ر 969 فعرقية 971 ويسمونه الحب 972 ولو أنبأني العرف 980 واخيراً في ديار الغربة كانت مجموعتها (البعد الأخير).. ولها ديوان شعبي (بالعامية) وقصته كما ترويها الشاعرة (في بارسي ان الغريب عندما أتحدث عن بغداد يأتي الشعر عامياً.. ولماذا لا اكتب بالفرنسية دون العامية فيتبين لي أني قريبة من الشعب بالعامية لذا كنت أهتم بالشعر العامي..) وقد استمرت لميعة حتى في حياتها الجامعية ومازالت تنظم بالعامية وقد تسربت الكثير من قصائدها الى الإذاعة وغناها عدد من المطربين. ولميعة عباس عماره تمثل نرجسية الأنثى التي تتلذذ برؤية عشاقها فهي شخصية قاطعة.. مرهفة في قطعها مثل حد الموس اذ إحساسها بتفوقها وانجذاب الآخرين أليها جعل ذلك التمرد اعتداداً مفعماً بالانوثه والكبرياء كما يقول (ابن عمتها) الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد...
فالحب عندها لا ينحصر ضمن دائرة ذاتية وإنما يمتدا الى أفق عام لا يعرف الحدود..
يول اشلون الك رگبه ولك طول
ولك هيبة التيسرني ولك طول
اگل الليل المسامر ولك طول
مثل ليل القطب چلچل علي
ولها:-
القصيده أصعب امن امعسر ولادة
أو عند الشاعر أبعزة أولاده
بلعبه أتحصلت رينو ولاده
وأنا المر سيدس انعزت عليه
ولها في الزهيري:-
يسألني وين الصبر.. گتله يصاحب ذهب
او ظل الحزن صاحبي.. عن كل صاحب ذهب
من ألف صاحب دغش.. تحظى بصاحب ذهب
خليه بگلبك تر اهو كل عوض مايله
أو لو مال حملك يعدل بالوفا مايله
الفكر مثل الزرع حلوا الحجي مايله
وقلال أهل الثقافة المثل (صاحب ذهب)
اما آخر نتاجها بالعامية فهو (أهازيج مندائية) منها:-
أمبارك دهفة ديمانه / مبارك دهفة ديمانه
وماري أيبارك المندي / ويحفظ هذي الديانة
مبارك دهفة ديمانه
ولها (الجسر المعلق) الذي كانت مولعة به فكتبت بالعامية والفصحى ففي العامية قولها:- ضلعي أحسه المنكسر موش الجسر
التعميد
دهقة ديمانه= عيد عند الصابئة المندائية (عيد ميلاد النبي يحيى41)
ماري= الله
المندي= بيت العبادة

يا جسر المعلق أويا أحله جسر
يحزام دجلة ايلالي حدره الماي ويوج العصر
يمصافحة صوبين مامل الرصافة الكرخ من وكت الزغر
يا جسر المعلق أويا أحله جسر
اما في الفصحى فلها:-
يا ثقل كرخي نجاذبه
سحر الهدى ووصاله نزر
خلقت جسور الكون موصلة
الا المعلق أمره أمر
ومن قصائدها ان احدهم قرأ كلمة في محفل مملؤة بالا غلاط.. وبعد ان انتهى من كلمته قال:- ربما أخطأت بكلمة واحدة لارتباكي.. فكتبت لميعة هذه القصيدة..
يا حلو يموصه بالفاعل تكسره..
او ترفع المجزوم والمجرور ما تقبل غلط
أغلط بكيفك أتدلك..
عدلت أذني على (لحنك) فقط
يرو حلك فدوه القواعد والنحو..
أو ما گالت الأعراب بسنين القحط
گبل ما عرفك عميت عيوني بالتصحيح
شده او همزه لو متز حلكه شويه النقط
اگصب الطلاب.. غلطه ابصفر لو ممتاز ماعندي وسط
او لو عرفتك من گبل چا محمد بدرسي- ولودجه- صقط
اما فصيح الشاعرة لميعة فيشهد له الشاعر المهحري (ايليا ابو ماضي) اذا كانت الشاعره ترسل قصائد هأله عن طريق والدها المغترب الرسام وصديق (ايليا) هناك.. فهي بدأت كتابته منذ الثانية عشر من عمرها ونشرت لها مجلة السمير اول قصيدة وهي في الرابعة عشر من عمرها وقد عززها ايليا ابو ماضي بنقد وتعليق مع احتلالها الصفحة الاولى من المجلة اذ قال (ان في العراق مثل هؤلاء الاطفال فعلى اية نهضة شعرية مقبل العراق..)
وها هي تخترق الافاق منذ البداية الاولى حتى منبر دار المعلمين العاليه وانتهاءً بالمرابد الشعرية وديار الغربة.. فعنصر التحدي يكمن في داخلها لذا رفضت العباءة وخلعتها بعد ان عايشتها لسنين حتى المرحلة الجامعية.. انها ثورة ضد المألوف تمثلت في اختراق باب الغزل وكتابه (شهرزاد) ونشرها في مجلة (البيان) النجفية لصاحبها (علي الخافاني) الذي عانى ما عانى بسببها..
لميعة عباس عماره تكتب عن الوطن المتعب وتشارك في المظاهرات الصاغبة فهي جزء من الهم العراقي والفرح العراقي متأبطة الخير دوماً.. فتراها تقول عندما تسأل عن موقعها:
انا لم ابدع شيئاً
ما انا الا صعلوكاً لايتأبط شراً..
من يخشى صعلوكاً لايتأبط شراً..
لكن البروفسور (جاك بيرك) عرفها بنفسها في كتابه الذي صدر في فرنسا عن الشاعرات العربيات فذكرها ونازك الملائكة وفدوى طوقان.. لميعة عباس عماره شاعرة الرقة والجمال والانوثة التي لاتنتهي لاتخلو قصائدها من لذعة.. فحين منحتها الحكومة اللبنانية وسام الارز تقديراً لمكانتها الادبية- لم تتسلم الوسام (لان الحرب الاهلية قائمة)
فكتبت تقول:-
على أي صدر احط الوسام
ولبنان جرح بقلبي ينام
وهي ترفض الريادة والكلام عن ذاتها- فحين اتصلت بها احدى المنظمات لتكريمها لكونها من رائدات الادب.. كتبت قصيدتها التي تعلن فيها عن بيع ريادتها بالمزاد..
من يشتري مني الريادة..؟
من يشتري مني الريادة..؟
من يشتري الخمسين بالعشرين..
لا أبغي الزيادة..
لميعة عباس عمارة قصتها مع شعر الغزل طويلة لا تعرف النهاية.. وقصائدها مازالت تعبر عن شبابها..
لو انبأني العراف..
انك يوماً ستكون حبيبي..
لم اكتب غزلاً في رجل..
فسلاماً للابداع الذي لاينضب.. وربطة العنق الحمراء التي لاتمل لانها الاناقة والشباب.. سلاماً لام زكي في ديار الغربة عبر جسور تمدها حروفاً لشاطئك بعد ان دخلني بيوتنا غير المنهج الدراسي المقرر عسى ان تعبرين عليها وتعلنين القدوم ويتحقق ما جاء في ديوانك (البعد الاخير)

لميعة عباس عمارة ـ المرأة العراقية المبدعة وجحوش التخلف

مثنى حميد مجيد

لميعة عباس عمارة ، رمز يقتدى به للعقل العراقي الأنثوي المبدع ، حين تتاح له
الفرصة ليخرج من دائرة التخلف ليعلن للعالم انه وريث تلك الحضارة المجيدة لوادي
الرافدين وليس ذللك العقل المجمد والتابع الذليل لقوى الكبت التاريخي والنقاء
الزائف المريض للعبودية والتحجر والظلم.لميعة عباس عمارة نجمه متألقة جميلة في
تاريخ الشعر العراقي المعاصر ومن جيل رائد ومبدع وزاخر بالعطاء أطاح بعمود
القرون الوسطى الشعري وأعلن للعالم ان العراق هو بلد الولادة الدائمة للنور
وانه قادر دائمآ على إعادة إختراع الكتابة ثانية وثالة ورابعة.ما أشبه السياب
ونازك والبياتي ولميعة وبلند وكل تلك الأسماء المضيئة في سماء الشعر العراقي
المعاصر ، ما أشبهها بأسماء أبطال الملاحم القديمة كتموز وعشتار وأورورا
وجلجامش ، حقآ انهم جيل حين نقرأ عنهم ، عن زمنهم ، عن حياتهم وشعرهم وحواراتهم
نشعر بإنتمائنا العراقي وأصالتنا القديمة.هم أسطورة معاصرة ، واحدة من الملاحم
السومرية أو البابلية عبرت العصور لتعيد إنتاج نفسها من جديد في عصرنا فما
أجملها من ملحمة لنا وللأجيال القادمة. وما أظلم جحوش التخلف و قوى الكبت
المريضة بالعصاب والظلام وما أقبحها وهي تعرب عن تذمرها من الشعر والفن والحب
والمرأة وتخطط وتعمل لإشاعة القبح والجهل والكفر لكي تحرمنا من رؤية الجمال ،
جمال الحياة والإبداع ، الذي هو منحة من الخالق لا تشعر به النفس المغرورة
المحتقرة لنفسها وتاريخها وجنسها ناهيك عن الجنس الاخر ، جنس النساء الرائعات
المبدعات المتألقات .
لميعة عباس عمارة هى أميرة العراقيين المغتربين أيضآ ، أميرة الغربة والحنين
الى الوطن.في طفولتها ، قاست من
تغرب والدها عن العراق وحين إلتقت به توفي بعد شهرين فترك ذلك ألمآ في قلبها
وطبع الكثير من أشعارها بألم الفراق ورحيل الأحبة والشوق الأبدي إليهم.وهي
اليوم مغتربة في أمريكا تكتب وتحلم بالوطن بروح عراقية شابة متجددة كمشعل سومري
رغم تقدمها في السبعين من العمر .
تحية لك ياإمراة مبدعة
يانجمة لميعة
من سومر القديمة
أميرة أنت بدنيا الشعر والإبداع والتحرر
ستنتهي الغربة يومآ،
ياسيدة التغرب الطويل والحنين
لا بد للطائر أن يعود للفرات
لابد للفرات من طائر
لابد للأعشاش من طيور
لابد للطيور من منائر .

الجمعة, 19 نيسان/أبريل 2013 01:43

رسالة الى عزيز سباهي

كنت دائما اؤجل هذه اللحظة للكتابة اليك، الى زمن اشعر انك تعافيت من المرض الذي الم بك مؤخرا، وها انت قد تعافيت بسلام فانت زمن لاينتهي.
انت العراق، مفعم بالحكايات والاساطير والبحث الدؤب عن الابدية، وموئل ندى الحروف والكتابة ومهبط الوعود، ومستوطن الروافد والينابيع والخصوبة، بكل جماليات الحلم الذي تأبطته في قلبك ، وبكل الفواجع والانكسارت التي حملتها روحك الابية .
نجحت من جديد وان كنت انت النجاح بماضيك وحاضرك ومستقبلك، ولانك صاحب الكلام لاتملك سلاحا غير الكلمة لتواجه بها المرض والحزن والانكسار، فانت تظل انسانا يحب الحياة، ويفتنه شغف العيش ككل شخص يعرف للكلمة معنى غير اللغو الذي يطالعنا به كل الباردين على هذه الارض.
حينما اصابك المرض في الاونة الاخيرة، وخرجت منه معافى،انتبهنا جميعا الى ان من علائم تضامننا وشهامتنا، ان لاتنتكب وتستوحد وانت الرجل المناضل القدير ، في تاريخنا جميعا، الذي اصبح رمزنا ، بدون ان يلغي هذا مسؤولية على عاتق مجتمع ودولة لم تبحث عنك.
انت موطن الحلم والخيال وشاهد صرخاتنا الاولى ومحتضن طفولتنا وتلك البراءات الاولية التي لم نزل نحاكيها ونستنطقها باشعارنا وفنوننا وكتاباتنا ونلجأ اليها كلما هالنا داء الحنين واغلق الحنان نوافذه وابوابه وفجواته بوجوهنا عندما نكابد مرارات الغربة .
من هنا اجدني محملا بحلم مندائي قديم وبرهبة المتخيل اود اكتشافه مرات ومرات كلما اتذكرك وكانك دجلة بضفتيه ، وكانك ذاكرة شعب نتداول اخبارها ونعيش عاداتها وطقوسها.
انت ابن سباهي الشاعر، صاحب الحكمة، والرأي السديد الذي كنا في بيتنا المطل على نهر دجلة نحلف باسمه ونحن اطفال صغار.
نروح طيلة النهار وسحابة اليوم نفهرس النيات ونتأمل النخل في تنويعاته الوافرة ونملي تشكيلات الماء والغرين وتدرجات الظلام والنور.
انت الوديع الهاديء ، الطافح بنفسه من اجل الاخرين، وتلك خصال لاتنشأ من اهواء النفس وحدها بل تنشأ من رحم ثقافة وتاريخ، وقد مثلت بحق ثقافة الرفض والاحتجاج ولا زلت سائرا بها الى يومنا هذا ، ورفعت صوتك عاليا، محتجا، لكل ما يمت للتخلف والجهل.
انك حفيد التقدمية وابن عصر يسير بين الوعود والصواعق والاحلام الطيبة لكل الناس، واذ كان كثيرون تزعزعوا في نصف الطريق فانك زدت شيئا بمواصلتك الامينة بقدر ما كانت كل الحروب التي عايشتها تخسف باحلامنا جميعا.
انت الحالم الذي لم يتخطى بعد ثوريته، كنت ماكنة فكر وماكنة انتاج متواصلة، وكنت ورشة وطاحونة تأكل وتتآكل، الا انها تعطي ما تحتاجه الارواح من امل.
صحفي وباحث ومؤرخ وفنان، وقبل كل هذا وذاك شجرة عامرة نتفيأ بظل نقاء فكرها واصالتها .
لاتزال الى يومنا هذا تشكل وعدا حقيقيا لكل احلامنا الاولى.
افترست حياتك، منذ ايام الوعي الاول، الافلاس والمطاردة، وظلت مسيرتك لاتتعب ولا يتعب من حولك من اشاراتك الهادئة لمواطن الخلل ، فكنت واحد من مربينا الكبار.
هل لنا ان ننصفك وانت الميمون النقيبة، مبارك النفس، شريف السجايا ، ممدوح الخصال .
نحن من جيل لم يترك لهم العالم بقية من عدل او انتباه.الا اننا نود ان نهمس لك ، بان في قلوبنا محبة كبيرة لمواقفك الشجاعة الناصعة ، ما يخلد اسمك عاليا وابدا.
تظل مرتبطا في ابداعك بالمخيلة التي لاتحدها حدود، ما دمت تناهض كليا المواقف والافكار التي تؤطر وتحدد الحرية.
بقيت ولا تزال منشغل بالتطهر، تغسل نفسك بالتاريخ، مثلما يغسلها بالحاضر، وهذا التطهر بك هو شرفك الذي هو شرفنا جميعا ،وقفت به امام الجميع قادة وعمالا وكادحين وخونة وطغاة، في الحياة اليومية وداخل اقبية السجون، ولم توظف نفسك لدى الحياة ولم تقبل معطياتها الزائفة. فبقيت ابيا.
يا ابا سعد.. انت شاهد امين على التاريخ من خلال تجارب كثيرة خضتها وعجنتها عيانا ومعايشة، انت اكثر الناس حساسية وتوجسا للمصائب التي حلت على الرؤوس العراقية منذ العهد الملكي مرورا بالجمهوري الى الديكتاتوري، وحتى زمن الاحتلال ، حيث ينهمر شلال الدم العراقي غزيرا ليشق الوطن الاعزل، والشعب الاعزل، والذي تزدحم به مواكب الجنازات .
انت الرجل الامتن جسورا مع اماني شعبه، والاوثق صلة بالمستقبل الذي نحلم به جميعا وندافع عن حريته من اجل الحياة، لا من اجل الموت والعتمة، فقد علمتنا بان الحرية هي الحياة، ولايمكن لاحد ان يخنق قاماتنا في الصمت والموت والقمع والقتل. علمتنا بان الدفاع عن الحرية هو دفاع عن وجودنا، عن التراب والهواء والبشر والحجر، وعن الجلد والفضاء، عن العيون الممتلئة بالدموع والاحلام والدم، عن الحرية التي يسكنها امان الحرية وقلقها.
فاحببناك، واعتبرناك رمزا لنا جميعا.

الخميس, 18 نيسان/أبريل 2013 21:32

الفنان مكي البدري

عرفته في معهد الفنون الجميلة بداية الستينات. إشترى أرضا ليبني عليها دارا. رسم هو مخطط الدار، وباشر بشراء مواد البناء وكلف البنائين لبنائها. وعندما أتمنها إفتتحناها عائلته وأنا. زرع فيها نخلتين.
مكي البدري أصررت أنا كمؤسس للمشروع أن يقوم بدور البطولة في فيلم الحارس وقد أبدع فيه. وعندما أخرجت أول فيلم روائي طويل لي أعطيته بطولة الفيلم لأنه يستحقها.
مكي فنان موهوب .. ممثل من طراز خاص .. تلقائي في الأداء وحنون في العلاقة. لكن تعب الأيام أنعكس عليه وأراه الآن عصبيا وعاتبا في مقابلاته .. يعتب على المخرجين لأنهم لا يعطونه الفرصة التي يستحق.
شاهدته في مقابلة تلفزيونية وكان غاضبا على الجميع. شعرت أيضا أنه غاضب مني بضرورة الرفض المطلق.
الوضع صعب يا مكي والحالة توحي بالإكتئاب فعندما يقع الوطن مرة تحت وطأة الدكتاتور وثانية تحت وطأة الإحتلال ويجبر المبدع على ترك وطنه تقل فرص العطاء وفرص العمل والساسة يشعرون بأن الوطن صار مصرفا مفتوح الخزائن والأبواب ويبقى الفنان يرى البلاد عرضة للنهب والإغتصاب وهو غير قادر أن يقول كلمة في ما يجري أمام عينيه عندها تصعب المعاناة مضاعفة.
ادرك همومك أيها الصديق وجميل أن الناس الذين يحبونك سواء من طائفتك المائية الصافية أو من أبناء شعبك وأعرف أنهم يحتفون بك ويفتخرون بإبداعك وفي هذا جانب من راحة النفس. بودي لو يستعيد العراق عافيته ونحن لما نزل في قدرة الإبداع والعطاء حتى ننتج شيئا جديدا مختلفا.
أحباءك يقدرونك يا مكي وأنت مبدع متميز فلا تحزن .. هناك مثل قاله الأغريق:
لا تندم على الأخطاء التي يمكن إصلاحها .. وأيضا التي لا يمكن إصلاحها.
هل تتذكر أنني عدت ذات ليلة من دعوة لصديق في داره قريبا من بيتكم وعندما عدت لم أعثر على دارك في الشارع مع أن فيه علامة مميزة .. نخلتين زرعناهما سوية وكبرتا ومع ذلك ضيعت الطريق إلى داركم وكان ذلك آخر لقاء لي في منزلكم العامر .. سلم على أم أنور وبوركت يداها اللتان أطعمتنا أشهى الأكلات العراقية .. والمندائية.
قال السيد المسيح .. المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المحبة.

يوما كتبت قصة وأنا على جبل في منطقة (عبي) في لبنان وكنت أحد شخوصها وعنوانها زائرو الليلة الأخيرة .. أهديك هذه القصة .. قاسم حول

زائرو الليلة الأخيرة

تلتمع من بعيد خضرة الشارع المضاء على قمة الجبل حيث الضيعة التي أسكنها. أتطلع نحوها إذ لا أحد. قبل ساعات، ربما في الساعة الرابعة، كانت الشمس المؤنسة الحزينة الوحيدة التي تتألق بين الأرض والسماء. عرفت حينها أنني كنت رحلت منذ زمن. السنوات الأربع ليست حلما ولا حكاية، إذا ما عددتها بالأيام أو بالساعات وبالدقائق، تبدو فعلا واجهة كثيفة من الإنتباهات المتلاحقة.

البيوت المتناثرة في الضيعة التي تبدو مثل القبور، إذ يندر أن تشاهد فيها مخلوقا .. ولكن عندما يحرك الهواء طرف الستارة الرمادية الطويلة تحس أن ثمة حياة في هذه الضيعة.

هذه هي وجوه أصدقاء الأمس تقف أمامي بكل ملامحها. أعرفها وجها وجها، وأقرأ فيها كل تعب الأيام الماضية.

وجه ممسوح بالصفاء والتعب، وآخر بلون الكهرمان خائف من الشيخوخة، وثالث يعرفل أنه غير راض عن كل ممارساته. كان يريد أن يصبح أديبا وفنانا، فأرتمى في كابوس الحسابات.

عندما أبحرنا سوية في عالم الطموح وفي وجدان الغد، قلنا لبعضنا أكداسا من الكلمات الواضحة.

وها نحن نلتقي ثانية، في هذه الضيعة – المقبرة، ونبدو منهكي القوى. الأصدقاء الثلاثة الذين هم في زيارة لي فوق الجيل لا يعرفون إنني مسافر غدا من هذه الضيعة، وجميل أنهم زاروني في الليلة الأخيرة، وإلا كيف سيكون بإمكانهم تحقيق هذه الرغبة في مثل شوارع بيروت، حيث لا فرصة للسكون ولتبادل الأحاديث الودية.

حمل منير خصلة من شعره الأسود، وأحس بملوحة الدمعة التي طفرت من عينه وقال لي:

- كان من الممكن أن يكون وضعنا أفضل من هذا بكثير.

وعندما قلت له (لا مجال للإختيار) ضحك مثل الطفل، وكنت أعرف أنه كان يبكي، ثم أضاف محاولا أن ينسى همومه ( إن هذا البيت واسع لدرجة أنه يتسع لشعب الصين). ناولت منير سيكارة، فيما كان الزائر الثاني (الفارسي) يبتسم، متذكرا كل تلك الجلسات القديمة، وأعدت إلى ذاكرته يوم سرقنا سجل الغيابات من الصف ورميناه في قناة الجيش لننقذ أنفسنا من الفصل من المدرسة تلك السنة.

سألني الفارسي:

- كيف هي حياتك هنا؟ هل تعيش قناعات كاملة وحقيقية؟

- الحديث عن القناعات شيء نسبي. ولكن ألم يكن أفضل لو أننا تحركنا وفق قناعاتنا الأولى. من الذي أنتصر في معركة الطموح؟ ليس سهلا يا فارسي أن تعيش وسط مجموعة من القوادين واللصوص . أنهم يحيطون بك مثل البرغش.

قفز البدري الزائر الثالث، من مكانه بحيوية محاولا أن يمنح سنوات عمره الطويلة روحا شابة، وأدار شيئا من العرق في كؤوسنا، وألقى حوارا من أحدى المسرحيات التي يحبها.

كان البدري ممثلا جيدا، ولكنه كاد ينتهي في غمرة العمل الفني العادي. ولم يبق له إلا التمثل ببطل مسرحية (أغنية التم) لتشيخوف.

الضيعة الساكتة والبيت الواسع، وإلتماعة الضوء الأخضر في الشارع البعيد فوق الجبل، والهواء البارد .. ونحن جميعا نكاد نسقط في هوة الذكريات.

سكرنا حتى الثمالة، وغفونا قرنا من الزمن، وعشنا قرنامن الزمن تلك الليلة، التي هي هذه الليلة .. الأمس ليس قريبا، حتى نستطيع أن نتذكر كل تلك التفاضيل، لأن التفاصيل تبقى أطول من التأريخ.

على ظهر الباخرة وهي تنساب فوق مياه البحر الأسود صيفا. وفي الكوة المحفورة في الفضاء وأنا داخل الطائرة .. وعلى سواحل بحر مرمرة .. وفي أقبية براغ وبرنو، أنا أشم رائحة الشموع .. وقريب من الكنائس الذهبية في الكرملين .. ومع الصيادين في غابات سوقطرة .. وفي كل لمحة قبل هذه الزيارة المفاجئة للأصدقاء كنت أتساءل:

ما هي حدود الطموح!؟

أننا نكاد نفقد حتى طعم التأمل وطعم العطاء.

ويعود الأصدقاء في زيارتهم المفاجئة للضيعة ليسألوا معي ذات السؤال ويرددوا ذات الجواب.

(إننا نكاد نفقد حتى طعم التأمل وطعم العطاء)

إنها مهمة عسيرة .. الحياة، وأنت تريد أن تمسك بزمام الأمور كي لا تفلت منك، فيما يحيط بك اللصوص والقوادون مثل البرغش، ولا خيار لك. فأين نقطة البداية؟ هل يستطيع أحدكم أن يتذكرها بالتحديد؟ لقد تلاشت. هي لحظة صفاء كاملة. تذكروها .. حاولوا أن تتذكروا. لا أحد يتتذكر.

- كنت أريد أن أكون في غير هذا الطريق (صرخ الفارسي) أنتم تعرفون ذلك جيدا (وأشار بإصبعه نحونا) .. أنت وأنت وأنت. كلكم تعرفون (وأكد بإشارته نحوي) .. ولعلها حياة صعبة هذه التي ندور فيها مثل المروحة داخل الأسلاك. الحسابات والأرقام عالم سافل يتحدث دائما عن الربح والخسارة .. ونحن فقط الخسارة الحقيقية الوحيدة.

سكتنا جميعا. وأدهشنا فعلا سكون الضيعة. (أين سكان هذه الضيعة؟) قال منير. وهل أن جميع البيوت بمثل سعة هذا البيت التي يتسع لشعب الصين!؟

أراد البدري أن يبرر مواصلته للعمل في المسرح في غير الخط الذي رسمه لنفسه .. ثم كيف يعيش الممثل دونما مسرح .. شيء أفضل من لا شيء.

من منكم خاف ذات ليلة؟ كنت وإياه في سيارة عمومية، وكنت ثملا يوم صرخت أمام الجميع (كلما شاهدت رجل مخابرات إقتله. لأنك إذا قتلته تنجو من الموت، وإذا قتلك تنجو من الحياة)

- كل هذا الكلام ثرثرة في ثرثرة. (قال منير)

فأجاب الفارسي:

- لا يزال هناك متسع من الوقت . لنبدأ من جديد (وبكي)

فقال البدري:

- وكيف نبدأ من جديد .. أنها مجرد زيارة لليلة واحدة (وبكى)

فإنتبه منير إلى مصباح الزيت القابع فوق المنضدة وقال ( ولم هذا الفانوس في عهد الكهرباء اللعين)

- إنه ينتظر من يولعه عندما تنقطع الكهرباء عن الضيعة. مثل رواياتك يا منير.

- وهل يستطيع هذا المصباح أن ينير كل هذا البيت الكبير الذي يتسع لشعب الصين. صحيح، الصينيون كيف يعرفون بعضهم. أنهم متشابهون. مرة، قدم لي طالب صيني بدرس اللغة العربية في جامعة بغداد قنينة بيبسي كولا ودعوته للغداء في اليوم التالي, وعندما إلى المطعم، وخلال الحديث إكتشفت أنه غير الطالب الذي دعوته .. إنه شخص آخر.

ما بوسعي أن أفعل .. أنهم متشابهون.

إتركوا الحديث عن الطموح. ماذا بوسعنا أن نفعل. لو ذهب الفارسي إلى الصين لحقق شهرة. أتعرفون لماذا؟ لأنه سيكون الوحيد المختلف بين مليار صيني متشابه.

إنقطعت ضحكاتنا نحن الأربعة عندما فوجئنا بالناس وهم يسيرون في كل شوارع القرية التي نطل عليها. أربع نساء ورجل يتحركون أمامنا من بعيد .. يختفون خلف أغضان التين على حافة الشارع ويظهرون . رجل كهل يسير ببطء مستندا على عصاه، وتسمع ضربة عكازته على الإسفلت البارد. ومن أحد البيوت ظهرت إمرأتان وطفلان، وهناك في الشارع المرتفع ثلاثة شباب يسيرون مسرعين. حركة دائبة في هذه الساعة المتأخرة من الليل. الضيعة بكاملها تسير مرة واحدة مثل النمل.

لماذا دبت الحياة فجأة في هذه الضيعة الميتة لأول مرة منذ سكنتها قبل شهرين. سمعنا همهمات الناس، وكأنها تتحدى السكون.

كان ناقوس الكنيسة يدق معلنا موت أحد أبناء الضيعة.

هنا، وفي مثل كل الضيعات الصغيرة، بإمكانك أن تعرف كل ميلاد وكل موت. الميلاد لايمنح الحركة لأبناء الضيعة، وإنما الموت يعطيها حيوية ونشاطا غير مألوفين.

الزائرون الثلاثة ليسوا هنا في هذا البيت الكبير الذي يتسع لشعب الصين.

إنهم في العراق

ولست ملزما أن أخرج مع أبناء الضيعة، لأنني الزائر الوحيد بينهم. والليلة هي الساعات الأخيرة من أجازتي.

ها هي حقيبتي الحمراء وسط الغرفة. وعلى المنضدة الخشبية يقف بائسا مصباح الزيت. البنطلون والقميص مرميان على السرير الآخر .. وكذلك هويتي.

في صالة البيت يلتف غصن أخضر طويل. طوال مكوثي في البيت لم يكن يعني شيئا عندي.

الغرفة الثانية الكبيرة .. لا أحد.

الغرفة الثالثة الكبيرة .. لا أحد.

مجرد أسرة ووسائد وشراشف بيضاء مثل الأكفان.

وصرت أتنقل في البيت الكبير من زاوية لأخرى، ومن غرفة لأخرى، والمصابيح تدفع بظلي على الجدارن، وتارة على الأرض، وأخرى يصبح ظلي ظلين.

وفي مكان ما من هذه الضيعة شخص لا يعرفه سوى أبناء هذه الضيعة يسحب الحبل، وينوء تحت ضخامة ناقوس الكنيسة. والجميع يتحركون في الشوارع، وآخر مثل قالب الثلج ممدد في الصندوق الخشبي وقد منح الحياة لهذه الضيعة لأول مرة منذ زيارتي لها قبل شهرين.

الزيارة .. الطموح .. الغربة .. الوطن، وتعب الأيام الماضية والقادمة، كلها يمكن أن تكون محض إفتراء، وحالة من الخوف لا يعرفها الصغار الذين يرافقون أهلهم الآن وهم في طريقهم إلى حيث يرن الناقوس.

إنسحبت همهمات الناس ووقع أقدامهم ونباح الكلاب ورنين الناقوس وحفيف أوراق الأشجار والنسمات الباردة، وكانت وجوه الأصدقاء الثلاثة حزينة مثلي .. وساكتة، ومرمية فوق الحقيبة الحمراء التي تتوسط الغرفة.