• Default
  • Title
  • Date

أنه لأمر محير ومحرج ، حين يكتب المرء عن شهيد معين . وبذلك يجحف حق الشهداء الأخرين في الذكر . فكل شهداء الحركة الوطنية ، سطروا بدمائهم مسيرة بطولية ومشرقة لشعبنا ، سواء أستشهدوا في غياهب السجون أو في المعارك أو في الغربة . وكل شهيد وشهيدة مفخرة لأهله ورفاقه وذويه . أن لدي مشاعر كبيرة تدفعني للكتابة عن أحد شهداء الوطن وهو أخي المناضل نافع عبد الرزاق صكر الحيدر حيث تمر في أواسط شهر مايس / آيار من هذا العام / 2005 الذكرى الخامسة والعشرون لأعتقاله وضياع أخباره
ولد الشهيد نافع عام / 1949 في مدينة الفلوجة / محافظة الأنبار من عائلة مندائية مناضلة قدمت للوطن العديد من الشهداء ، ذكي لدرجة كبيرة ، هادئ الطباع ، محبوب لكل من عرفه وعاشره ، صبورا" ، شديد الدفأ والود لرفاقه ولأصدقاءه ولعائلته . يتميز بالنشاط والحيوية والسمعة الطيبة ، والعلاقات الواسعة وخاصة مع المندائيين في أي مكان ألتقى بهم . رجلا" نبيلا" كريم النفس مخلصا" وفيا" واضعا" مصلحة الحزب والشعب في المقدمة .

أكمل دراسته الأبتدائية والثانوية والجامعية في بغداد ، حيث تخرج من جامعة بغداد / كلية التربية / قسم الجغرافية عام / 1970 وبتفوق كبير . حيث كان من الأوائل على فرعه .
وفي ظروف سياسية غاية في التعقيد مر بها الوطن أكمل الخدمة العسكرية وعين مدرسا" للجغرافية في محافظة ذي قار / قضاء سوق الشيوخ ولسنوات عديدة وخلال عمله هناك كسب حب وتقدير زملاءه وتلامذته في هذه المدينة الفقيرة ،وتوطت علاقاته الحميمة مع أخوته من أبناء الطائفة المندائية في المدينة ، ونظرا" لتفوق تلامذته في الأمتحانات العامة نقلت خدماته الى بغداد ليواصل التدريس في متوسطة الثورة للبنين في مدينة الثورة في بغداد حيث واصل من جديد العمل بتفاني على رفع مستوى الطلبة الدراسي وخلق نوع من الصداقة والمحبة بينه وبين تلاميذه ، حيث كان بالنسبة لهم بمثابة الصديق والأخ والمربي الكبير .

أنخرط الشهيد نافع في العمل بصفوف أتحاد الطلبة العام وهو في المرحلة الثانوية في ثانوية النضال في بغداد ، وكانت هي البداية لمواصلة العمل والنضال في الحركة الوطنية العراقية وصفوف الحزب الشيوعي العراقي خاصة وتبوء عدة مراكز حزبية وممثل للحزب في لجنة الجبهة الوطنية في محافظة ذي قار ومهام عدة كان آخرها عضو المكتب الصحفي للحزب ، أضافة الى مهام عديدة أخرى ، وبالرغم من الظروف الصعبة التي كان يمر بها أثناء الهجمة الفاشية لتصفية الحزب الشيوعي العراقي كان المرح يطغي على سلوكه كتوما" لدرجة كبيرة لأسراره وحياته الحزبية ، رفض بشكل قاطع مغادرة الوطن ولو بشكل مؤقت أسوة بالأخرين لأنه كان يعتبر أن الوطن هو موقع النضال الحقيقي وليس الخارج .
كان الوحيد الذي يهتم بأمورالعائلة خاصة بعد مغادرتنا الوطن وتحمل رعاية الوالد المريض وهموم العائلة إلا إنه لم ينسى مراسلتنا وهو يمر في ظروف قاسية . وقبل شهرين من أعتقاله وفي 8 / آذار / 1980 بعث لي برسالة وأنا في جمهورية اليمن الديمقراطية / عدن يذكر لنا ما يعانيه بشكل غير مباشر ... ( نأسف لتأخير رسائلنا عليكم وذلك لتعبي الشديد وأنت تعرف نوبات الربو التي تلازمني لا تترك لي مجال حتى في الكتابة وأخذت أموري بالتحسن ولكن تحذيرات الأطباء تلزمني بأخذ الراحة والأستقرار ومع ذلك سأبقى كما تعرفني أمينا" للمثل العليا التي تربينا عليها ) .

في بداية آيار / 1980 وعند أشتداد حملة القمع والأرهاب ضد الحزب الشيوعي العراقي كان لديه أحساس انه سيقع في قبضة القتلة ، لذلك زار معظم الأقارب في بيوتهم ، يسمعهم ، يدردش معهم وكأنه على علم بأنه يودعم الوداع الأخير ، وهذا ما حدث .
ففي ذلك الصباح المشؤوم ودع والدته المسنة وزوجته ... خلع ساعته وخاتم زواجه مؤكدا" للجميع بأنه أذا لم يعد في نهاية الدوام الرسمي فهذا يعني أنه وقع في قبضة القتلة ولكن يجب أن تعرفوا أني سأبقى أمينا" للمثل العليا التي آمنت بها لا تحزنوا ولا تبكوا فلست من يتقبل البكاء وأوصيكم بمواصلة المسيرة فالمستقبل لنا .

غادر البيت وسط أحتجاج ودموع الأهل جميعا" ، وكان فعلا" الوداع الأخير ... فقد جاءت الى المدرسة سيارة فولكس واكن بيضاء وهذا ما أوضحه مدير المدرسة وأصطحبه روادها من المخابرات العراقية الى جهة مجهولة حيث ضاعت أخباره منذ ذلك الحين . وفي هذه الأيام العصيبة التي تمر بها العائلة زارهم الشهيد المناضل حميد شلتاغ وزوجته الشهيدة بدرية داخل لأبداء تضامنهم مع العائلة وأوصاهم بضرورة أخذ الأحتياطات اللازمة لتجنب أعتقال آخرين من العائلة . مرت الشهور والعائلة تحاول تتبع أخباره من مصادر عديدة دون جدوى وكالعادة ينكرالجميع علمهم بأعتقاله .
ولم يكتف القتلة بذلك بل أستمروا يترددون على العائلة بين فترة وأخرى يستفسرون عنه وينكرون أعتقاله ولكن الوالدة المسكينة وقد أنطفأ نور عينيها حزنا" وتجاوزت الثمانين من عمرها كانت تقف لهم بالمرصاد في كل مرة وتحملهم مسوؤلية أعتقاله وضياع أخباره وأنهم سيدفعون الثمن يومأ وأن هناك آلاف مثل أبنها نافع ، وهي تضع الحقائق أمامهم وتطالبهم بشهادة الوفاة أن تم أعدامه .

عندها أبتسم القتلة وأطمئنوا للأمر وأدركوا فعلا" أنه في قبضة أحدى أجهزتهم وبعد عدة أشهر عاد المجرمون كعادتهم ولكن معهم هذه المرة شهادة الوفاة الصادرة من مستشفى الرشيد العسكري والرقمة 91241 والمؤرخة في 26 / 5 / 1984 وطلبوا من الأهل مراجعة دائرة أمن المنطقة لأستلامها والتي تنص على أنه أعدم شنقا" حتى الموت . هذه الشهادة التي ستكون شاهدا" ومستمسكا" رسميا" على جريمتهم أمام القضاء في المحاكمات المقبلة . ولا زال البحث جار عن رفاته في المقابر الجماعية دون جدوى .

بعد سقوط نظامهم المقبور ومن بين الوثائق التي حصل الحزب الشيوعي العراقي وثيقة صادرة من مديرية أمن مدينة صدام ، سري للغاية وشخصي ، م / عوائل الشيوعيين المعدومين ، لاحقا" لكتابنا 63 في 10 / 10 / 1988 ولكتابنا 286 في 15 / 2 / 1988 ومرفق قوائم المعدومين والتأكيد في 605 في 23 / 3 / 1988 والتي تؤكد أعدام 91 شيوعييا" كان أسم الشهيد نافع عبد الرزاق صكر الحيدرمن بينهم .

رثـاء

سلام عليك أيها الأخ الحبيب وصديق الطفولة العزيز
لا أريد أن أرثيك فانت باق في القلوب الطيبة حسرة ، ولا أريد أن أبكيك فالرجال لا تبكي فرسانها ، وعيوني لا تعرف الدموع ، ولا أريد أن أكتب سيرة حياتك فأنك الأولى بكتابتها بكفاحك ونضالك .
أتذكر طفولتنا وكيف كنت تضع الزوارق الورقية في برك مياه الأمطار في شوارعنا الترابية وأنت تصرخ نحو الشمس سيري يا سفينتي وعندما نسألك لماذا الى الشمس فتجيبنا أنها المستقبل الزاهر ، الحياة السعيدة ، سيكون لقائنا هناك ، وعندها عرفك الجميع بأنك القبطان الذي يهوى السفر والبحر بأتجاه الشمس ... وبأنظمامك للحركة الوطنية حققت رغبتك في أكتشاف الطريق التي تبحر فيه نحو غدك المشرق ، شروق الشمس .

لقد كنا معا" با أخي الحبيب نشكو همومنا ومعاناتنا وطموحاتنا ... نجاحاتنا وأخفاقاتنا .... ونسينا الطفولة والشباب والطموحات الجميلة ، ولكونك مرهف الحس فقد كنت تعاني الكثير ورسمت الحياة على وجهك الباسم معاناة شعبنا الطيب وهموم مستقبلنا المجهول .
وفي وقت عصيب مر به الوطن ، ترجل فرسان عن صهواتهم ، وغاب آخرون في الزحمة ونقل آخرون ساحة المعركة وبقيت أنت تصول وترفض مغادرة الوطن . وقد ظننت إن أعدائك نسوك لكنهم كانوا ينصبون لك ولرفاقك في الدرب فخا" حيث نسيت أن شيمة الجبناء الغدر ، رغم أنك كنت تتوقع غدرهم بحس الفارس المقاتل وزيارتك لمحبيك وتوديع أهلك قبل موعدك المشؤوم كان دليلا" على ذلك وكأنك تريد أن تودع الجميع الوداع الأخير ... آخ لو كنا نعلم بما يخفي القدر لمنعك الجميع من الذهاب لموعدك هذا ....

وعلى مدى أكثر من عشرين عاما" وأنا أرنوا الى الأفق البعيد لعلني أرى سفينتك قادمة ، وأسأل موج البحر عن أخبارك ، لقد حال بيني وبينك تلاطم الموج وفرقتنا عواصف الوطن
كنت أبحث عنك في وجوه الأحبة من الأهل والأصدقاء ، كنت أبحث عنك في آلامنا وأحلامنا لقد ملكت كل الذكريات ، منذ رحيلك عنا ونحن بحزن عميق وآلامنا وجراحنا كبيرة ، أنتظرناك في محطات غربتنا وضياعنا كثيرا" ، أنتظرنا سفينتك المحملة بقصص أبطالنا في السجون والمعتقلات وبدون جدوى ، رحلنا عن الوطن وفي أذهاننا محفورة كل الأسماء من أبناء وطننا المغيبين في السجون مع أحلى ذكريات الطفولة والشباب .
كنا نعرف أنك في خطر كبير ، وأنك ستغيب ، وستغيب الى الأبد ، وقد يكون لقاءنا مستحيلا" لكننا كنا نحلم بألم وحسرة ، بحزن ودموع في ظل كابوس رهيب ، أنه لابد للشمس أن تشرق في سماء وطننا ولابد للغيوم السوداء أن تنقشع ، ودار الزمن على القتلة الجبناء ، لقد حدث أن غيمة ذهبت وحلت أخرى ، لم تشرق شمسنا بعد . وجاءت أخباركم الفاجعة ، لقد سمت أرواحكم الى السماء ، وكنتم من ضحايا طغمة البعث الجبانة وأن دمائكم الزكية قد سقت تربة الوطن ، لقد نال منكم الجبناء ، وترجلتم عن أحباء لكم ، لكنهم لم يبلغوا المنى ، لقد سقطوا الى مزبلة التأريخ وستبقى أرواحكم الطاهرة التي تسبح في السماء نجوما" لتضئ دروب الحرية والنظال في ليالي خريف وطننا العزيز وستكون الشبح الذي يقضي مضاجع القتلة .
لقد رحلت فارسا" عنيدا" ، قاتلت حتى الشهادة ولم تبايع أو تساوم على المبادئ ، قاتلت وسلاحك المبادئ التي آمنت بها ، ولم تكن المنازلة شريف لان أعدائك بعيدين تماما" عن الفكر ولأنهم جبناء فشيمتهم الغدر.

أخي وصديق طفولتي

Nafia-Al-Hayderلقد غيبوك لكنك في قلوبنا حاضر ، وحي باق في قلوب الطيبين ، لقد بكيناك بحسرة ولوعة وبصمت رهيب . وبكتك أمك حتى أنطفأ نور عينيها ، وأحبك الجميع من الأهل والمعارف والناس الطيبين ومنهم تلاميذك حيث كنت لهم القدوة والأستاذ والمربي الفاضل ترسم بيدك النظيفة الغد المشرق نحو وطن حر وشعب سعيد.
هل أحلم أذا قلت ، أريد أن أحضن جسدك الطاهر ، أريد أن أتعطر بقطرة من دمك الندي ، أريد أن أشم قطعة من ثيابك ، أريد دمك حناء لكل عروسة مندائية عراقية ، وهل كثير على بطل مثلك أن يلف جسده الطاهر بالعلم العراقي ، وأواريك الثرا ، أريد أن أشعل شمعة ، وأضع زهرة حمراء على تراب قبرك المعطر ، على شبابك الذي ذوا ، ولأجل روحك الطاهرة الطيبة ، هل كثير عليّ أن أذرف عليك الدموع يا عطر الطفولة ، يا عزيزي لا تكفينا الدموع ولا الألام والحسرة ، أن الذي يرضيك هو أن نواصل المسيرة مع روحك الطاهرة .


لقد أعدموك أيها القبطان لكن سفينتك ما زالت مسرعة بأتجاه الشمس الى حيث السلام والأمان أنت ربانها خالدا" فيها وستكون روحك الطاهرة الضياء الذي نهتدي به نحو حياة أفضل وأجمل . لقد أرتفعت نجمة خالدة تضئ درب الطيبين ونزلت وساما" على صدر أحبائك ومريديك .

نم قرير العين يا أبا قتيبة جنب أخيك سلام وجوار أولاد عمك ستار خضير وهيثم ناصر وسمير جبار وجميع رفاقك الأبطال فالسفينة تسير حيث أنت تريد ونحن على ثقة بأن دمك ودم رفاقك جميعا" لن يذهب هدرا".
والغد لنا والخلود لك يا عطر الطفولة

 

نشرت في شهدائنا

تاريخنا المندائي يحمل نقاط استدلال مضيئة وكثيرة، لا نتردد بالعودة اليها كلما حملتنا الامواج في هذا التيه الكبير الذي نسير فيه ، ولا زال يحمل الكثير من المرافىء التي نركن اليها بين الحين والاخر، والتي كان لها اثر كبير في تواصلنا الفكري والثقافي وتعميد نزعتنا العقلانية والانسانية. واحد هذه المرافىء المندائية هو الشهيد الراحل حميد شلتاغ الذي تصادف هذه الايام الذكرى الخامسة والعشرين لاغتياله.

انه احد الرجال الكبار في طائفتنا المندائية، الذين نذروا انفسهم من اجل بناء اوطانهم وتحقيق آمال شعوبهم، هذا الرجل الذي اسهم بجدية في احياء فكر ومنهج واضحين يتمثلان في الرؤية الحقيقية باتجاه تنمية القدرة ، على الفعل الثوري والابتكار النضالي لدى الانسان العراقي، اضافة الى انه يجسد حتى الان وبعد رحيله من 25 عاما المثل والنموذج الاصيل للانسان المندائي الوطني المثقف الملتزم بقضايا شعبه.

لقد ترك هذا الرجل بصمته النضالية في صميم واقعنا الثقافي والاجتماعي، فقد كان مناضلا حقيقيا مواكبا لكل المتغيرات التي عاشها المجتمع العراقي بشكل عام والمندائي بشكل خاص، من خلال امتلاكه رؤية استشرافية، بدأت بطرح الاسئلة الحياتية والاجتماعية والفكرية، ومنذ كان شابا في بداية الخمسينات من القرن الماضي ومنذ ومضات الوعي الاول، ايام كان مايزال طالبا في الثانوية في العمارة، احد المعاقل الثورية للطبقة العاملة، اعلن وبكل جرأة انحيازه الكامل لقضايا الناس العاديين، ودفاعه عنهم وخوضه من اجلهم وبكل جرأة ومعرفة، ووضع فكره وجسده ، منذ تلك اللحظة، في قلب المعركة، من اجل بناء وطن سعيد للجميع، وقد اضمر له اعداء الشعب، حقدا مميزا، لكونه من ابناء الجنوب ولكونه صابئي مندائي، فاعتقلوه عام 1962 حين كبست قوات الامن اجتماع اللجنة الحزبية التي كان يقودها والتي كانت تنظم عمال البرق والربريد في بغداد ، وظل معتقلا ورفاقه حتى عام 1967 حيث حكم عليه خمس سنوات، واخضعوا جسده النحيل لكل ما هو جديد في فنون تعذيبهم الوحشي، وتنقل من سجن الى اخر، يحمل جراح جسده ، ولم ينج وهو في السجن من حقد الفاشيين .

منذ عام 1949 حين تعرفه على الحزب الشيوعي ، تعرض الى الكثير من المواجهات مع اعداء الوطن، متسلحا بقلق الناس الذين احبهم وظل متعلقا بهم وآمالهم ومستقبلهم حتى النهاية.

Hameed-Shiltagتلك هي شيم المبرزين الذين ينكرون انفسهم من اجل الاخرين، وهم يركزون على استكمال اطار الرؤية الوطنية والشخصية العقلانية المفكرة والمستوعبة لواقعها ومستقبل ابناء وطنها، هكذا كان ( ابو مجيد) ، وهو يحتضن هموم وطنه ، وينهل من ينابيع المعرفة، منكبا على مواصلة العطاء، في نشاط لا يني يتجدد ويجدد ، كرس نفسه ووجود ه لهذا الوطن بلاحدود ودون مقابل، منسجما مع فكره التنويري وذاته متقبلا لكل التضحيات مهما كانت، وقد نجح رغم كل الصعوبات والمشكلات التي واجهته في غرس قيم انسانية، انعكست في ارض الواقع العراقي، وفي مجالات عمله السياسي كواحد من كوادر الحزب الشيوعي العراقي، وعلى الصعيد الاجتماعي كشخصية مندائية مرموقة بعلاقاتها والتزاماتها الاجتماعية والدينية، اكتسبت محبة الجميع.

لقد ترك الشهيد الراحل اتباعا ورفاقا لازالوا يحملون ذكرى نزيهة عنه من خلال امتلاكه شخصية وطنية واعية كانت على الدوام قادرة على رصد قضايا مجتمعه ، والتنبه الى المخاطر المحدقة، وشم رائحة العواصف قبل هبوبها، وهذا شأن القياديين المتميزين الذين يتركون بعد رحيلهم اثرا كبيرا على العلاقات والعمل والتطلعات.

ان اهتمام الراحل حميد شلتاغ بهموم الوطن الذي كان يركع تحت هيمنة ليل الفاشية الاسود، كان همه الشاغل، فاصر على استمرارية المسيرة النضالية من منطلق الحرض على مواصلة البناء لقواعد النضال الدائم، وهو السبب الذي رفض من خلاله مغادرة العراق بعد اشتداد الحملة الفاشية قائلا" لم يتبق من العمر الا سنوات قليلة، فدعونا نموت داخل الوطن وفي احضان الحزب" رغم تعرضه للاعتقال عدة مرات، معتبرا العمل النضالي على الساحة العراقية هي الخيار الوحيد امام الشعب، وهو يسعى للتخلص من الحكم الديكتاتوري الفاشي، من اجل بناء مشروعه الحضاري الانساني، وتنمية مقدراته وامكانياته لتحقيق ما تصبو اليه كل فئات وطوائف واحزاب المجتع العراقي لبناء الديمقراطية الحقيقة.

لقد عانى حميد شلتاغ كثيرا بسبب ما رآه من التغيرات الكبيرة التي احدثتها الفاشية في تركيبة البنية السكانية والاجتماعية من خلل كبير على الهوية الحقيقية لفكر وتربية الانسان العراقي، وكان في علاقاته وعمله اليومي يركز على الدور التربوي بين الناس، ولم يفقده الارهاب الذي ساد في عموم البلاد ، بعد عام 1978 قابلية ان يكون اكثر الناس حراكا وتميزا ونشاطا وقدرة على متابعة جميع من يحيطوه، وكان بتلك العفوية ، وطيب النفس، وسمة التسامح، يجذب الناس اليه، ويوأخي بينهم على المحبة.

حميد شلتاغ ،هذا الاسم المعروف على نطاق واسع عند المندائيين العراقيين في كل مكان. كانت حياته في النضال الثوري رديف للاخلاص لقضية تحرير شعبه العراقي من الفاشية. من باب الوفاء لهذا الانسان الرائع ، اسمح لنفسي ان اتحدث عن بعض الجوانب الانسانية في عطاءات هذا الرجل صاحب البعد والعمق الحقيقي، تعامله مع الحياة، واهتمامه بالشباب المندائي، وحثهم على المتابعة والاطلاع و زيادة الطموح، وتحقيق الامنيات الكبيرة والصغيرة.

التقط بعض ما يستحق التوثيق لحياة عامرة بالعطاء والنبل الانساني المتميز ، وفاء وامانة ، كواجب بحاجة الى متخصصين وقادة واقارب واصدقاء يدخرون العديد من الذكريات، فهذا حق، يجب ان نحرص عليه جميعا، حق الوفاء لتلك الحياة التي لا زالت مستمرة فينا، لتقييم العديد من الجوانب لما قدمه هذا الرجل الراحل الذي اتسمت ايامه بعطاء دافق لكل من التقاه، لاتشوبه منّة ولا ينقصه سخاء ووفاء صادق ،لا تزلف فيه وليس فيه رياء، عطاء المقتدر، ووفاء المتعلم القادر.

لم التقيه الافي خلال فترات قصيرة ما بين عامي 1975 و 1976، وطيلة تلك اللقاءات التي جمعتني به في اكثر الاحيان في بيته الذي كان يجاور بيتنا في منطقة كرادة مريم، ذلك البيت المتواضع الرحب، على ضيقه، كان الواحة والملتقى، هو الفيء وهو الملاذ، فيه تقترب الاعين، وبين جنباته تهدأ الخواطر.

وكان اخر لقاء بيننا ،حمل نفسه ليجيء الى بيتنا ليودعني بعد ان عرف اني انوي مغادرة العراق بشكل نهائي لاني كنت اشم رائحة عواصفهم الظلامية القادمة . جلس في حديقة البيت الصغيرة ، ممتلىء كعادته ثقافة ووعيا ، يسمع جلساءه طرافة الثقافة المتأصلة وهو ينتقل ، من مثل عراقي الى اخر، ويلقي على الاسماع اعذب الكلام واكثره جمالا، ونحن انا والام الطيبة ، والاخت الحبيبة كنا حوله بين مستمع ومترقب، كنت اراه ، لوحة ناطقة ممتلئة بحروف المستقبل، فلا احد يشعر وهو يحادثه ، ان الزمن قد تمكن من هذا الرجل، فهو من القوة ما كان يخفي من توقعات الالم القادم، ظللت احبه من بعيد كأني شريك له ،في ما كان يحمله من امل، كأني به احدى نخلات بلادي الباسقة، في تلك المشية المهيبة، وبتلك الابتسامة الواثقة وفي تلك الاناقة المتميزة ، وكانه فنان. في اول مرة ازوره في بيته ادركت بانه لم يكن مزيفا، فظللت احبه على البعد، وظللت اراه في الشارع، او باحدى محلات اقاربنا الصاغة، فكان اللقاء به محطة تعنيني وتهمني كثيرا، مثلما تهمني وتعنينني كل نخلات بلادي الباسقة، كان مدهش في حديثة المتواضع يلامس الاعماق على نحو قريب ومفرح وهو يتحدث عن المستقبل وكأنه يتأمله قريبا لا محال، ويأمل ان يكون لنا جميعا.

في كل مرة التقيته كان يبادر بخطوات انيقة وهادئة كما هي عادته الى الشاي الذي لايخلو من صحن مليء بالكعك البغدادي ، وكانت حواراتنا تأخذ ابعادا اكثر دقة فانا اتحدث عن الفن وهو يصغي ويتمنى ان يقتني احدى لوحاتي ليضعها في صالة الدار المتواضعة، وهو يتحدث عن غد الانسان، عن ايادي الجلادين، وعن الضحايا التي تخاف السلطة المستبدة وقمعها، وعن روائح الدم التي تستثير شهية الذئاب التي كانت تحيطنا نحن الشباب والتي كانت متحفزة للانقضاض علينا جميعا.

بينه وبين الناس حين يكونون حوله ، تنعدم المسافات، فقد ظلت لغته البسيطة التي تتسم بالسلاسة، جنبا الى جنب ابتسامته الدائمية، ومفرداته المنتقاة التي كانت تتحاور مع انامله التي كان يحركها كثيرا، والافكار كانت عنده متقتصدة ودالة، فهو من اولئك الرجال الذين يعتمدون الاستشهاد بالواقع والامثلة العراقية القديمة ومواقف الناس الطيبين الذين عرفوا بتصديهم لاصحاب الارض في الجنوب، وشجاعة "آل ازيرج " في محاربتهم الاقطاع ايام الحكم الملكي والتي كان ماخوذا بها.

لقد قدمت الاحداث السياسية براهين وامثلة واقعية اثبتت ان القوى المناضلة ليست قادرة على استعادة فعاليتها ونشاطها بعد كل ضربة تأتيها من القوى الفاشية، فكانت بكل عناصرها ومؤيديها تمتلك الممارسة في اختراق كل الحواجز الهادفة الى التحريم المطلق لوجودها بين صفوف الجماهير. وكان الراحل حميد شلتاغ ذو حضور واضح في ما كان يجري في التحرك الجماهيري. وعلى ارضية الاحداث المتسارعة بسخونتها، برهن حميد شلتاغ على قدرة فائقة في خلق علاقات مستفيدا من بعض الانفراجات التي خلقتها اللعبة السياسية التي شهدها العراق ما بين 1974 و وبداية التحولات السياسية في مواقع القوى المتصارعة والتي كنت اطلق عليها تسمية "المؤامرة القادمة" وكان ابو مجيد يبتسم طويلا حين يسمعها لانني كنت اكررها كثيرا،، فقد كان على المخاض والمعاناة والاستقطاب، وتبلور صورة الماضي واتضاح صورة المستقبل.

كانت مساهماته اضاة الى دوره القيادي الحزبي، ينصب في توعية الجماهير بأهمية العمل المنظم في سبيل تحقيق الاستقلال والديمقراطية وكان يخوض معارك كلامية هادئة، الواحدة تلو الاخرى ضد المجموعات الانتهازية مفندا طروحاتهم وكاشفا عن جوهرهم الطبقي.

ما اروع ما منحنا ابو مجيد، خلقا ورقة وافكارا، عمقت محبتنا بفكره الذي دفع حياته من اجله جميعا صغارا وكبارا نساءا ورجالا نتذكر هذا الانسان الفذ، ويمتلكنا الاسى والحزن. هذا هو حميد شلتاغ الذي ولد في مدينة العمارة عام 1924 الذي انتقل الى مدينة بغداد ليلتحق بالقوة الجوية، وليكمل دراسته الجامعية في كلية التجارة المسائية سنديانة حب مندائية ظلت خضراء حتى انطفائها مساحة قرة من العطاء الابوي والفكري والمندائي بيادر نبل واخلاق ظل مؤرقا حتى ان اغتاله الفاشيست ليرمو جثته الطاهرة في احدى المقابر الشعب الجماعية ايها الرجل تودعك المحبة، وكنت من رعاتها ويودعك الوفاء، وكنت من اهل بيته
ويودعك النقاء، وانت الرجل الكبير الذي عرف كيف يحيا الصدق وقوة الضمير نودعك جميعا كمندائيين، وانت من الذين ناضلوا من اجل حضورنا الدائم ستظل تسكن والى الابد في ذاكرتنا وعقولنا وقلوبنا فلست وحيد ولن تكون

نشرت في شهدائنا
الأربعاء, 20 شباط/فبراير 2013 21:02

ذكرياتي عن البطل صبيح سباهي

باقة من الزهور الجميلة ، لفت بعناية بورق فضي لماع ، كانت السبب وراء كتابة هذه السطور . فقد أثارت تلك الزهور التي قدمت لي تكريما لذكرى أخي صبيح أحزانا ، عبثا كنت أجاهد في دفنها عميقا في الوجدان والذاكرة .

دعيت في الرابع عشر من شباط عام 2004 إلى الحفل السنوي ومعرض الصور الذي أقامته منظمة الحزب الشيوعي العراقي في كوبنهاكن عاصمة مملكة الدانمارك إحياء للذكرى السنوية لرفاق دربهم الذين سقطوا في رحلة النضال من أجل العراق وشعبه ، ومن أجل مبدأ اقتنعوا به واعتنقوه . لم يعرف منظميً الحفل تاريخ العديد من تلك الزهور التي اجتثها الطغاة قبل أوانها . كان ابني وسمي عمه جالسا بجنبي في ذلك الحفل ، لم يكن يعرف عمه إلا من خلال الصور ومن خلال أحاديث العائلة عنه .لقد أزاح ابني بعضا من همي ، جزاه الله خيرا حينما راح يواسيني قائلا : لا تحزن يا أبي فإن أخاك قد تحول إلى باقة من ورد كما ترى ، وهناك الملايين من البشر تأتي وتذهب من هذه الدنيا دون أثر تتركه .

سرحت بعيدا في ذاكرتي مع صبيح سباهي وهذا هو اسم أخي الذي يكبرني بأربع سنين والذي اغتاله طغاة البعث عام 1963 على الرغم من أنه كان سجينا ، قابعا في سجن الرمادي يقضي عقوبة التظاهر من أجل نصرة الجزائر !

كان صبيح جميل الوجه جميل الصوت ، فارع الطول لازمته ابتسامة رقيقة طيلة رحلته القصيرة التي قضاها على هذه الأرض والتي لم تدم إلا 30 عاما.

طفولته الأولى وقبل أن نرحل إلى بغداد في أواسط الأربعينات من القرن الماضي ، قضاها في قرية صغيرة ، وحتى إنها ليست بقرية بالمعنى المعروف . فهي عدة بيوت بناها أبي وأعمامي وأخوالي . بنوها من الطين المداف جيدا بأعواد التبن الذهبية بالقرب من مدينة قلعة صالح جنوب العمارة. كان اسم تلك البقعة من الأرض المنسية اللطلاطة ، و التسمية الغريبة تلك التي أطلقت على القرية الجديدة ، قد تكون مشتقة من لط لاط الماء فأمواج دجلة الرقيقة كانت تجتهد عبور الجرف هناك دون جدوى فلا هي مغرقة المكان ولا هي تاركة المحاولة . كانت اللطلاطة جنتنا على الأرض ، تخفيها عن أعين الغرباء بساتين النخيل الباسقة وتغسلها دجلة بمائها العذب وتظللها أشجار السدر المسكونة أبدا بالأشباح وزعيمها "الطنطل" الذي كان الرقيب الصارم على سلوكنا نحن الصغار. في اللطلاطة شارع رئيسي يمتد بمحاذاة دجلة ، وعلى هذا الشارع في الثلاثينيات بنى سباهي الخلف "أبي" داره المطلة على النهر ، غرفتان جدرانها من الطين وسقفها من جذوع النخل ، وكوخ للبقرة . ثم زرع خلفها بستان من أشجار النخيل نادرة الأصناف . فحب العراقي للنخلة يرتقي لمرتبة العشق وكلاهما يتشابهان في العطاء والشموخ . لم يذق الأب ثمار أشجاره ، فقد رحل عن هذه الدنيا وصبيح لم يتجاوز عمره السادسة بعد . لم يترك الأب وراءه غير تلك الدار وتلك النخلات وبقرة سوداء اسمها (الدبسة) والتي كان لها الفضل الأكبر في بقاء الأسرة على قيد الحياة، وامرأة قوية عاركت الدنيا من أجل تربية أولادها وتعليمهم، وديوان من شعره الشعبي والذي لا زلت أبحث عنه إلى الآن .

"كان صبيح شديد الحياء وذو طيبة لا حدود لها . حاد الذكاء ،متوقد الذهن منذ الصغر"
كانت النسوة في اللطلاطة يرشرشن ويكنسن شارع " الكورنيش " مساء كل يوم من أيام الصيف اللآهب ثم يفرشنه بالحصران التي يصنعنها من خوص النخيل .وفي تلك الأمسيات وبعد وجبة العشاء المتكونة أبدا من الرز الأحمر المطبوخ واللبن الرائب الذي تجود به أبقار الطلاطة ، تجتمع العائلات لسماع قصص وحكايات لا أعرف مؤلفا لها ، كان الشيوخ يتناوبون على سردها وخاصة خالي الشيخ نجم. فبعد إشعال فتائل الفوانيس النفط ، تروح مشاعلها في رقص لا ينتهي على أمواج دجلة محتضنة أغصان الصفصاف السابحة في النهر . وفوانيس النفط تلك اختراع خاص بريف الجنوب أملته الضرورة ، وهو عبارة عن قنينة من الزجاج مليئة بالنفط الأبيض تغمس به فتلية مقصوصة من أقمشة قطنية قديمة كشرائط ،يترك جزء صغير منها بارزا فوق فتحة القنينة وتثبت بقطعة من التمر المعجون جيدا ، والذي يقوم على الإمساك بالفتيلة ومنع تسرب النار أو الحرارة إلى داخل القنينة . كانت أمنا تحتفظ بذلك الفانوس وكأنه كنز لا يعوض ولم أستطع معرفة مصدر تلك القناني الجميلة، ربما كانت قناني لشربت مستورد أفرغت في عرس من الأعراس . وتلك الفوانيس هي سيدة الموقف في تلك الأمسيات على الرغم من وجود بعض المصابيح الكهربائية التي تضئ الشوارع كل مساء لكنها لا تجرؤ على دخول المنازل لأسباب مجهولة ، كانت تلك المصابيح صغيرة وعلى ارتفاع كبير بالنسبة لنا نحن الأطفال فتختلط بالنجوم التي تزين السماء بأروع المصابيح ، وإن كان القمر بدرا فهو وحده الذي يستأثر بكل القصص والأحاديث والتي ألهمت خيالنا وصبيح بشكل خاص .

 

أيام الطفولة في اللطلاطة

لقد كان شغوفا في حبه للقمر كان صبيح شديد الحياء وذو طيبة لا حدود لها . حاد الذكاء ،متوقد الذهن منذ الصغر ، فكان متفوقا في دراسته وكتابة واجباته اليومية حتى إنه كان يكتب واجبات بعض أقرانه. وكان يصنع قطعا فنية رائعة لدروس الأعمال من الطين الأحمر الذي تجود به شواطئ دجلة.في أمسيات اللطلاطة كانت القصص تشد انتباهنا وتنتقل بنا إلى عالم سحري ولكن وللأسف وقبل أن تنتهي نكون نحن الصغار قد غفونا ،فننقل إلى أسرتنا المصنوعة من جريد النخل ولم نكمل سماع تلك القصص والتي لم أحتفظ في ذاكرتي إلا الانطباعات الرائعة عنها . ويخيم السكون هناك ويظل نقيق الضفادع وصوت إيقاع مضخة الماء في الجانب الثاني من النهر ساهرا مع أمواج دجلة. يقلق ذلك السكون أحيانا صوت باخرة قد تكون صاعدة عكس التيار في رحلة إلى العمارة والتي كانت تمثل لنا نهاية العالم. أو تكون نازلة مع التيار إلى البصرة وكم كنا نفرح بمشاهدة تلك البواخر وخاصة أضواءها الخضر والحمر وكنا نحرص على رؤية المصباح الخضر أولا فهو لون الجنة. وعندما كانت تلك البواخر تمخر دجلة في النهار ، كنا نركض لمسافات طويلة بمحاذاتها طمعا بعلب البسكويت التي يرميها لنا طاقمها وهم من الهنود في الغالب.

كان الكبار منا دائما يستأثرون بتلك العلب ، ولم أذق طعم ذلك البسكويت إلا مرة واحدة بعد أن انتزع صبيح قطعة منه من يد أحدهم ليدسها في فمي ليظل طعمها فيه إلى اليوم. كنا مجموعة كبيرة من الصبيان والبنات نذهب كل يوم إلى المدرسة الابتدائية في مدينة قلعة صالح والتي يفصلها عن اللطلاطة بستان بيت فرعون وبستان بيت رسن بطريق ترابية ضيقة تنتهي بالكازخانة حيث يباع النفط الأسود. وكانت تلك البساتين محروسة بكلاب شرسة وغالبا ما تحرم علينا المرور عبرها إلا برفقة الكبار . كم كنا نحب السير عبر البساتين حيث يتساقط الرطب الشهي بكثرة ولكننا كنا مجبرين على سلوك طريق النهر الموازية لتلك البساتين وكان صبيح مضطر لمرافقتي في سلوك تلك الطريق ، فتعاليم أمنا كانت صارمة وخاصة إذا كان الأمر يهم سلامة آخر العنقود الذي هو أنا .

SbahiFamilyكان الأخ الأكبر قد غادرنا إلى بغداد لإكمال تعليمه العالي والذي أضطر إلى تركه لاحقا والعودة إلى اللطلاطة ليقوم بدور رب الأسرة بعد أن ترك الأب ذلك المنصب في رحلته لملاقاة ربه . أو ربما جاء بمهمة نشر الأفكار الجديدة التي تعد الناس بالعيش في سعادة على هذه الأرض ، ولهذا الأخ قصص أخرى لا تسعها هذه السطور السريعة. بعد عدة تنقلات من مدرسة إلى أخرى في قرى العمارة ، استقر بنا الأمر في بغداد ، في منطقة الكرادة الشرقية وفي بغداد بدأت حياتنا الجديدة . لقد نزلنا على كوكب آخر ، فالناس في بغداد غير الذين في العمارة ، لم ينطقوا اللغة العربية كما ننطقها نحن في العمارة فهم لا يلفظون كلمة (جا) في حديثهم أبدا ويتباهون علينا بإبدالها بكلمة (لعد) وقد اختلط الأمر علينا فرحنا نمزج( الجا باللعد) وهكذا صار السؤال ( جالعد شلون ؟ ) . بغداد كبيرة ولم تستوعبها مخيلتنا الصغيرة بعد ، رغم إننا لم نخرج أبعد من "حسين الحمد وإلى البوليس خانه " وهي محطتان يقطعها باص المصلحة بدقائق معدودة . لقد اكتشفت أن في بغداد ملك مفدى ! ولم أستوعب إلى الآن دور الملك ، ولماذا يطلب من الجميع أن يفتدوه بالأرواح ؟ .التحقت أنا بمدرسة ابتدائية والتحق صبيح بالمدرسة المتوسطة. لقد كنا نسكن بالقرب من نهر دجلة ، لم أكن مقتنعا أن دجلة بغداد هي ذات الدجلة التي تركتها في اللطلاطة ، كانت دجلتنا هناك وديعة وصغيرة ، كنا نشرب الماء مباشرة منها وكأنها ضرع بقرتنا الدبسة ونسبح بها ونصيد فيها السمك ونقضي أمسيات الصيف بجوارها تسامرنا وننام على هدهدة أمواجها. أما هذه التي في بغداد فهي هادرة الموج كبيرة لها رهبة في النفس " جالعد شلون ؟".

"مبارك من صرت بالتموين . تنطينا شكر وطحين . أهلك إحنا مو غربه . مبارك مهدي بن كبه. "
كان الأخ الأكبر أو قل أبانا الجديد قد عين معلما في المدرسة الابتدائية التي التحقت بها ، وقد اكترى لنا دارا في محلة السبع قصور وسارت الحياة أعواما قليلة بيسر وهدوء ولم يكن يعكرها سوى عراكي المستمر مع صبيح كل صباح حيث كان على واحد منا أن يصحو فجرا ليأخذ دوره في الزحام الشديد عند مخبز حسين الحمد ليجلب حصة العائلة من الخبز الأسود المدعوم من وزارة التموين . ولا زلت أذكر إلى الآن أبياتا من الشعر كانت تردد حينه : مبارك من صرت بالتموين . تنطينا شكر وطحين . أهلك إحنا مو غربه . مبارك مهدي بن كبه. أخذتنا إدارة المدرسة يوما بسيارات لا أذكر غير لونها الأصفر إلى وسط بغداد ،وكانت هناك جموع حاشدة قد سبقتنا فاض بها شارع الرشيد والكل يهتف بشعارات غريبة لا أحتفظ بالذاكرة منها سوى " لا تنقهر فيصل فلسطين النه " ولم أفقه حينه لماذا ينقهر فيصل ؟ ولماذا نحرص على أن لا ينقهر ؟ وكيف تكون فلسطين إلنه ؟ كان هذا الحشد الأول في حياتي الذي اشتركت فيه هاتفا وكم تبعته حشود ومظاهرات ! .

انتهت فترة النعيم التي عشناها في سنين بغداد الأولى ، ونحن لم نكمل بعد مراحلنا الدراسية فكان صبيح في الصف الثالث المتوسط وكنت في الصف الخامس الابتدائي عندما ألقت الشرطة القبض على الأخ الأكبر ، وهكذا "تيتمت " العائلة من جديد .هربنا من دارنا ومن المدارس التي نحن فيها خوفا من تقبض علينا الشرطة أيضا . سجن الأخ الأكبر عشرة سنين في محكمة مميزة استحقت اسم رئيسها فسميت بمحكمة " النعساني " حيث كانت الأحكام تصدر فيها جزافا، وبالجملة ، كان رئيس المحكمة وخلفه الميزان شعار العدالة وصورة الملك المفدى ينطق بالأحكام على الصف الطويل الذي يقف أمامه هكذا: من الطويل وإلى اليسار خمسة سنين سجن مع الأشغال ، ومن الطويل وإلى اليمين عشرة سنين سجن مع الأشغال ، وحار الطويل مع أية فئة هو ؟ فسأل الحاكم عن أمره فأمر له بخمسة عشر عاما مع الأشغال!

هكذا كانت ديمقراطية المفدى والتي يدعو لعودتها البعض الآن ، ربما من منطلق المثل القائل: "من رأى الموت رضي بالسخونة " وربما ومن هذا المنطق يفتش لنا البعض عن مفدى جديد؟ لا أكتب هذه السطور لغرض الدعاية السياسية فلست سياسيا وهم كثر الآن وكلهم يعرف من أين تؤكل الكتف ولكن الشيء بالشيء يذكر . وبعد تنقلات في السكن من غرفة إلى غرفة بدور مختلفة انتقلنا إلى جانب الكرخ في محلة اسمها الدوريين. وهكذا وبسن مبكرة جدا أصبح صبيح رب العائلة . بدأ يخطط لحياتنا وكأنه كان قد استعد لذلك، لا أعرف من أين حصل على عربة صغيرة من الخشب ، وكأنها من تلك الصناديق الخشبية التي كان يباع فيها الشاي المستورد من بريطانيا .ثبت في أسفل الصندوق عجلات حديدية صغيرة الحجم ولكن اسمها كان له وقع خاص " بول برنات صجم" وكانت تسحرني عندما كان يبرمها صبيح بخفة وتظل تدور حول محورها وكأنها عجلة أبدية . كنا نسابق الشمس كل يوم وغالبا ما كان يدركنا فجرها قرب بساتين الدورة التي كانت تغطي الأرض جنوب بغداد .كنا نسلك طريق سكة حديد البصرة ، وذات مرة كاد قطارها الغاضب أبدا أن يقتلنا وذلك بطريق عودتنا والعربة محملة بتفاح بغداد الأبيض ، وكنا ندفعها سوية بكل قوة وسرعة لنصل قبل أن يبرد شاي الصباح وأرغفته الساخنة . ولولا ردة فعل صبيح السريعة لما أتعبتكم بقراءة هذه السطور . فقد رمى بي وبالعربة خارج السكة ومر القطار من جانبنا هادرا . وبعد أن التقطنا أنفاسنا رحنا نلملم تفاحنا الذي افترش الأرض .وعدنا بعربتنا وبما جمعنا من التفاح وقد نكون قد فقدنا منه الكثير وقد تعيش الآن في ذلك المكان شجرة تفاح . حمدنا الله على السلامة أولا ثم على عودتنا ببضاعتنا ، فلو كانت بضاعتنا توتا أو مشمشا لضاع رأس مالنا ، والذي لا أعرف من أين دبره صبيح فلم تكن لدينا محصلات نقود ، والنقود فئة العشرة فلوس المقرفصة الجوانب كانت تثير فضولي في تلك الفترة . ولعدنا فقراء من جديد. فقد كنت أرى أننا أصبحنا تجار فاكهة !

ssabhi4كان يأخذني يوميا معه لنشتري الفاكهة من تلك البساتين التي كانت تحيط بغداد كغطاء الرأس وتبدأ من القصر الجمهوري اليوم والذي لم يكن إلا بستانا للنخيل .نشتري ما توفر منها على قدر عربتنا فتارة تفاح وأخرى مشمش أو كوجة أو عرمود وأحيانا تين ونادرا ما نتاجر بالتوت. ونرجع بها إلى البيت حيث يصنفها صبيح حسب جودتها ويحدد أسعارا لها وبطريقة عصية على فهمي ثم ننفصل ليذهب هو بالأنواع الجيدة ويترك علي مهمة بيع الأنواع الرديئة من تلك الفاكهة ، وكم كنت أكره ذلك فتلك الأصناف لا تباع بسهولة . نجوب شوارع الدوريين وعلاوي الحلة وإلى مستشفى العزل "مستشفى الكرامة " ثم نعود إلى مرقه الطماطة والبصل (المحروق إصبعه) هكذا كان اسم وجبة غدائنا الدائم والتي لا تتغير إلا ما ندر. ونعيد الكرة بعد الظهر حتى تباع البضاعة وكنت فراحا بتلك المهنة فقد كنا نأكل فاكهة كل يوم والتي حرمنا منها بعد مدة.وهكذا أصبحنا هو وأنا نعيل الأسرة بعد أن انقطعنا عن المدرسة فشبح التحقيقات الجنائية قد سكن مخيلتنا . ربما بسبب ذلك الشبح تجدني وإلى اليوم معجب بكتابات كافكا وخاصة قصته المحكمة .

أخذ صبيح يكون عالمه الخاص ويبتعد بفكره عنا ولم يعد يشاركني اللعب وكأنه رجل ناضج على الرغم من أنه لم يتجاوز السادسة عشر من العمر .وقد أخذت مطالعة الكتب جل وقته

"كرهت تلك الساحة التي شهدت شنق ابن العراق البار الذي قارع الاستعمار الإنكليزي وشركات النفط يوسف سلمان يوسف فهد"
وأغلبها من الكتب ذات العناوين الصعبة ولم أهتدي إلى مصدرها ولكنه كان يدخلها البيت وكأنها بضاعة محرمة ويحرص كل الحرص على أن لا أطلع عليها .ثم راح يتغيب عن البيت كثيرا وأحيانا يزوره رجال بقت صورهم في ذاكرتي رغم كرهي لهم لأنهم انتزعوا صبيح مني وخاصة ذلك الذي كان يدخن السجائر بنهم رغم حرصه على أن يكون خفيف الدم . افترقنا في تجارتنا وباع العربة بعد أن صنع لي بسطة من الخشب أعلقها على رقبتي وترتكز على بطني لأعرض بها ديكه وحيوانات ملونة مصنوعة من السكر ومثبتة بعيدان من جريد النخل . أما هو فراح يشتغل بالأجرة ولا أعرف أين ؟ في صباح يوم ابتعدت ببضاعتي عن الشوارع التي كنت أذرعها يوميا والتي مللت من برك الماء الآسن التي تغطيها والتي كرهت هي أيضا صوتي المتشنج رغم نعومته في المناداة على تلك الديكه اللعينة ، سلكت دربا يقودني إلى محلة الصالحية ودور السكك والتي كانت تحجبها عن المستطرق أشجار الدفلة المزهرة ، وما أن عبرت شارع علاوي الحلة حيث المتحف الوطني الآن ، حتى شاهدت منظرا أقشعر له بدني اقتربت أكثر بدافع الفضول من ذلك الموقع فتسمرت قدماي وعصفت بي رعدة راحت تهز ركبي ! لقد شاهدت عشرات من رجال الشرطة استطالت سراويلهم القصيرة لتنزل بضعة أصابع إلى اسفل الركبة تحاول الالتحام بلفافات من القماش السميك والذي لفت على الساق وكأنها ملوية سامرا نازلة إلى أسفل القدم لتلتصق بأحذية سوداء ضخمة لا أظنهم يستطيعون رفعها من الأرض إلا بمشقة ، وقد اعتمرت رؤوسهم سدائر من الخاكي انحرفت كلها بزاوية حادة ، وفي أيديهم بنادق طويلة ،شكلوا سياج بشري تفصل كل واحد منهم عن صاحبه بضعة خطوات ، وكانت هناك سيارات من الجيب تحمل رشاشة شكلت أبراجا لذلك السياج الرهيب ،كان كل هؤلاء يحرسون رجلا واحدا علق بحبل فوق خشبه أقيمت في وسط الساحة " تحت بوابة المتحف اليوم بين الثورين المجنحين " . كان يرتدي بدله بنية غامقة على ما أظن وحذاء لابد إنه اعتنى كثيرا بتلميعه في ليلته الأخيرة ، وقد زادت الشمس في لمعانه ، غطى وجهه كيسا ينزل إلى تحت الرقبة لا أذكر لونه . لم أدرك مغزى تلك الممارسة حينه ، كنت قد رأيت في السابق (التشابيه) التي كانت تقام في ذكرى استشهاد الحسين والذي أحبه ولا أعرف سببا لذلك ، هل يكون هذا الرجل يمثل معسكر الحسين ؟ ولكن أين تلك العمائم الخضر ؟ قد يكون الشرطة يمثلون معسكر الشمر فكلاهما يمثلان العنف والكراهية . ولكن لماذا كل هذا الحشد من الشرطة والسيارات المسلحة، أتكون كلها لحراسة رجل واحد معلق بحبل لا يمكنه الفرار حتى وإن كان حيا ؟ رحت أبكي من شدة الخوف وزاد من خوفي أن الشرطي القريب مني نهرني طاردا ، فعدت أدراجي إلى الدوريين التفت خلفي كل عشرة أمتار خوفا من أن يتعقبني أحد. لقد كرهت تلك الساحة التي شهدت شنق ابن العراق البار الذي قارع الاستعمار الإنكليزي وشركات النفط يوسف سلمان يوسف (فهد) . ترى ماذا سيفعل لو عادت له الحياة الآن ليرى أن من يحكم العراق اليوم هو صاحب الجلالة "بريمر" ! ظل الخوف محفورا بقلبي منذ صبيحة ذلك اليوم وإلى يومنا هذا .

وعندما وصلت إلى البيت كنت في حالة الهلوسة والهذيان وازداد رعبي حين علمت أن فهد يمت بصلة ما بالأخ الأكبر وبصبيح. افترشت الأرض واستسلمت لرجفة الحمى وكأن شبح الموت يطاردنا نحن بالذات . لم أقترب من ثريده المحروق إصبعه ذلك اليوم وقد اعتكفت بالبيت لم أخرج منه لعملي لعدة أيام على الرغم من إلحاح أمي وصبيح حرصا منهم على مساعدتي في تجاوز تلك المحنة أو ربما خوفا على بوار بضاعتي التي وظفت بها العائلة ما يقارب المائة فلسا . انتقلنا بعد تلك الحادثة إلى دار في حي الأكراد بجانب الرصافة ومنها إلى دار ثانية في بني سعيد وأخرى في حي فقراء اليهود في أبي سيفين .ودائما كان هناك من يشاركنا السكن مرة رجل غارق بين أوراقه لا أراه على الرغم من ترصدي له ،ثم جاء آخر غيره وكان شارد الذهن تبدو عليه أثار النعمة . ثم رحلوا ورحل صبيح معهم . وكان ذلك آخر عهد له بالسكن معنا . رأيته مرة يشتغل في مخزن لبيع المواد الغذائية في شارع الوصي (شارع النهضة ) علمت بعد سنين أن هذا المخزن هو لسلام عادل ، وهو الرجل الرائع الذي حل محل فهد بعد أن تعاقب على ذلك المركز رجال عدة كان منهم من شاطرنا فقرنا في تلك الدور . بعد أن تركنا صبيح رحت أعتمد على نفسي في إعالة أمي ورحت أشتغل في إحدى المطابع بأجور يومية مغرية تقارب المائة فلس يذهب ثلثها للنقل ولوجبة الغداء التي لم تتغير طيلة عملي بتلك المطبعة (الرابطة) وهي صمونتان وكاسة من اللبن الرائب مع قطعة من تمر الحلان . أخذت أتنقل في مطابع بغداد غير البعيدة من أبو سيفين والمنتشرة في شارع المتنبي وبأجر أخذ يرتفع شيئا فشيئا . والتحقت بالمدارس المسائية . لم نعد نرى صبيح إلا ما ندر ، وفي ذات يوم زارني في المطبعة التي أعمل فيها وقبل دقائق من انتهاء عملي ، ولا أعرف كيف علم بمكان عملي ومواعيده . كم كنت فرحا بذلك اللقاء . هدأ من روعي وخرج معي ليريني "البايسكل" الذي معه وهو ذو ثلاث عجلات حيث يتصدره صندوق خشبي ذكرني بعربة الفاكهة. أركبني فوقه وراح يدفعني ويسير بجانبي . سألني عن حياتنا وعن صحة أمه وكان مشتاقا لمعرفة أبسط أمورنا . ثم شرح لي بأن الحزب بحاجة إلى حروف طباعة " كانت من الرصاص تستورد من إنكلترا " وطلب مني أن أخرج من العمل نهار اليوم التالي بإجازة لمد ساعتان لأذهب معه إلى إحدى المطابع التي تبيع تلك الحروف والتي تقع في شارع المستنصر ، وكان صاحبها من وكلاء التحقيقات الجنائية . جئت إلى موعدي معه في الوقت المحدد ، فطلبات صبيح كانت بمثابة الأوامر بالنسبة لي . وبعد جرعة من المنشطات الحماسية مذكرًني برجولتي " والتي لم أكن قد اكتشفتها بعد " محذرًني من الارتباك وعلمني كيف أشتري تلك الحروف للمطبعة التي أعمل بها وكانت كمياتها وأنواعها مكتوبة بقائمة دسها في يدي . اشتريت تلك الحروف بعد أن أعطيت بعض التفصيلات عن المطبعة التي أشتغل فيها ودفعت أثمانها ورحت أنقلها إلى صندوق "البايسكل" وأصفها بهدوء . وفي الزقاق المجاور وجدت صبيح يحتسي استكان من الشاي يداري به قلقه . غمرته فرحة عظيمة عند ما شاهدني أدفع البايسكل ثم لحق بي وأخذ الدراجة مني وودعني واختفى . ولم أراه إلا بعد عدة أشهر وبمهمة جديدة .كان ينجز المهمات المناطة به بكل جرأة وإبداع.

"كان يبتكر طرقا مثيرة في تنفيذ مهماته وكان ذلك يثير إعجابي وحماسي "
لم يتغير صبيح رغم تكامل رجولته وظل الهدوء والحياء أول ما تراه على وجهه الذي راحت تزينه شوارب شذبت بعناية . كان يبتكر طرقا مثيرة في تنفيذ مهماته وكان ذلك يثير إعجابي وحماسي في مشاركته في تلك المهمات على الرغم من تباين دوافعنا لها . وبما أن الأخ الأكبر نزيل السجون وكان يطاف به من سجن إلى آخر وبعد أن نقل من سجن "نقرة السلمان" المرعب إلى سجن بعقوبة الذي بني بإشراف النقطة الرابعة الأمريكية ، وكنت وأمي شديدي الحرص على زيارته في كل تلك السجون ورسائل صبيح كانت ترافقني دائما، وبتخطيط ودعم من صبيح ورفاقه فقد استعار حذائي مرة وأعاده لي في اليوم الذي يسبق زيارتنا لسجن بعقوبة بعد أن خبأ فيه رسالة سرية ، وطلب مني إعطاءه لرفاقه في السجن وخص لي أسم أحدهم ، وأثناء الزيارة جاء ذلك الشاب وأعطيته الحذاء فلبسه وعاد لي بحذاء غيره وانتهت الزيارة وهب الناس إلى أحذيتهم التي اختلطت ببعضها لعدم وجود ( كشوانجي ) وبعد أن ذهب كل في دربه احترت أنا بالحذاء الصغير الذي جلبوه لي ولا أعرف كيف استطعت أن أحشر قدمي في ذلك الحذاء اللعين ، والأهم كيف استطعت السير به عشرات الأمتار دون أن أجلب انتباه الشرطة ، وأخذت المسألة على محمل الهزل . لكن صبيح عندما علم بذلك أقام الدنيا وأقعدها وعلى الأقل أمامي . لقد ظل صبيح بعيدا عنا ناذر نفسه وشبابه لأحلام لو تحققت لنزلت جنه الله على أرضنا هذه ولعاش الناس فيها سعداء . كنت أراه في الأحلام أكثر مما أراه في اليقظة . هل كانت جرأته تهور وطيش شباب أم كانت نتيجة إيمان راسخ بقضية عادلة ؟

تصورا في إحدى المرات أخذني معه إلى تاجر من تجار الشورجة وراح يساومه على استئجار خان تعود لذلك التاجر تقع في سوق الصدرية لاستخدامه كمطبعة. ثم اتفق مع ذلك التاجر ووقع معه عقدا ولا أعرف بأي اسم ودفع له النقود . واستأجر شاحنة صغيرة وبعض الحمالين مع بكرة رافعة ونقلنا مطبعة الحزب الشيوعي السرية إلى ذلك الخان في وضح النهار ، دفع أجور الحمالين والسيارة وبقينا أنا وهو في إعدادها للعمل وكأننا في شارع المطابع .

إن المهمات التي كان يشركني فيها لا أظنها تمثل إلا جزء ضئيلا من العمل الذي كان يقوم به. لحسن حظي جمعتني به سفرة العمر الأولى إلى الاتحاد السوفيتي إلى مدينة موسكو والتي سمعنا عنها الكثير والتي كانت أبعد من الحلم .كان ذلك في تموز من عام 1957 في مهرجان الشباب العالمي الذي أقيم هناك .كان الوفد العراقي والذي غالبيته من الشيوعيين يضم أكثر من 120 مشارك ، حرص صبيح أن أذهب معه في تلك السفرة . حصلنا على جوازات سفر مزورة وسافرنا بها إلى سوريا . وفي دمشق أقام الوفد مقرا له في وسط المدينة . كان الوفد بقيادة محمد صالح العبلي وعبد الجبار وهبي والدكتور صفاء الحافظ والعديد من الشخصيات العراقية وكان صبيح من ضمن قيادة الوفد ، غالبية هؤلاء الرجال الأفذاذ قضت عليهم طغمة البعث المجرمة عام 1963 . رحلت تلك النخبة من الرجال الاقحاح مخلفة غصة وحسرة في نفس كل من عرفهم . وكما يقول المثل الموصلي ( راحت رجال الحامض السماقي وظلت رجال أل بالعصي تنساقي ) . نقلنا من دمشق إلى اللاذقية ومنها بالباخرة إلى أوديسة ثم إلى موسكو بالقطار .إن ذلك المهرجان كان حدثا بارزا ومهما في تاريخ شبابنا ولا أعرف لماذا لم يكتب عنه شيئا إلى الآن على الرغم من الأحداث التي رافقته والمعاني التي تمثلها تلك الأحداث . عدنا بعد تلك السفرة لنجد أن هناك من وشى بنا وأعطى أسماءنا بالتفصيل إلى الاستخبارات الأمريكية التي أوصلتها بدورها إلى عصابة التحقيقات الجنائية فراحت تعتقل العائدين واحدا بعد الآخر . عادت قيادة الوفد إلى العراق سرا عن طريق مدينة دير الزور وكان صبيح معهم وقد حرص على اصطحابي معه إلا أنني عدت إلى الشام بأمل الحصول على فرصة عمل في الخليج . وبعد أن يأست من تحقيق تلك الفرصة عدت إلى العراق ليلقى القبض عليً عند الحدود العراقية السورية لأقضي أسابيع في التحقيقات الجنائية خاضعا لطقوسها التي لا تستثني أحدا. خرجت بعدها بعد دفع رشوة لأحد ضباط ذلك الجهاز .

ssabhi2التقيت بعدها في بغداد بصبيح وبمهمات جديدة والتي كان ينجزها بعقلية المحترف أساعده في بعضها لقربه من قلبي إلى أن القي القبض عليه في عام 1957 في وكر لمطبعة الحزب في البتاويين . دخل السجن على أثرها ، ولم يمكث به كثيرا ، فقد حررته ورفاقه ، ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 لم ألتقي بصبيح بأي مهمة بعد الثورة إلا أنه عاد ليشاركنا والأخ الأكبر السكن وكانت تلك أيام سعادة للعائلة لم ترها منذ أمد طويل ولم نراها بعد ذلك. كان صبيح يقوم بأعمال حزبية بعد الثورة ضمن أعمال القيادة ولم أعرف ماهيتها ولم أحاول ذلك فقد أصبحنا رجال ولكل منا همومه وكان إنجاز تعليمنا الثانوي من همومنا الكبرى وقد فلحنا في ذلك أخيرا. لم يذق طعم الحرية إلا سنين قليلة بعد ثورة الرابع عشر من تموز حتى قامت الشرطة باعتقال صبيح والأخ الأكبر من جديد وبحجة اشتراكهم في مظاهرة لنصرة الشعب الجزائري سجنوا على أثرها خمسة سنين ورحل الأخ الأكبر إلى سجن الموصل ورحل صبيح إلى سجن الرمادي ولم ألتقي به بعدها فقد سافرت أنا للدراسة في موسكو وظل هو قابع في سجن الرمادي إلى أن جاءت ثورة البعث المجرمة عام 1963 لتأخذ صبيح من سجنه وتعذبه إلى حد الموت في أقبية قصر النهاية .

في سجن الرمادي. جميع من في الصورة اسشهد بعد انقلاب 1963 الأسود ويظهر الشهيد صبيح سباهي جالس الى اليسار
وهكذا قتل صبيح بدون ذنب وبكل وحشية وهو في عز شبابه فلم يكن قد تجاوز الثلاثين من العمر بعد! رحمة الله تنزل على روحك الطاهرة يا أخي وفقيدي ، يا من أحب شعبه وأراد له الخير . كنت صادقا ، نزيها ، محبا ولم تقرب الخطيئة . هل ستظل مأساتك تتكرر؟ ويأتي جلادون جدد ليبحثوا عن ضحايا جديدة ؟.

نشرت في شهدائنا
الصفحة 5 من 5