• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 16 أيار 2019 02:54

حـذاء جـديد

قصة واقعية

في بداية النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي زرت الصين ضمن وفد هندسي ، وكان يرافقنا مترجم صيني يجيد اللغة الإنكليزية اسمه صن يانغ صن ، شاب بسيط طيب متواضع ، لاحظنا ان حذاءه الأسود متهرئ ويعالجه بمزيد من الدهان ليخفي شيئاً من عيوب حذاءه القديم ، لهذا قررت ان اشتري له حذاء جديد من أسواق الصداقة الحرة  ، فسألته عن قياس حذاءه ، فقال لماذا؟
قلت لي صديق اريد ان اشتري له حذاء وأظن ان قياسك قريب من قياسه ، فاجاب الرجل قياسي ٤٣ ، وهكذا اشتريت الحذاء وأثناء جلوسنا في الكافتيريا للاستراحة ، قلت له أيها الصديق صن احب ان اقدم لك هدية وأرجو قبولها ، فقال وما نوع الهدية ؟ فقلت هذا الحذاء وأرجو ان لاتخجلني ، قال انا اقبل هذه الهدية ولكن انا حر بالتصرف بها ، فقلت له انا موافق يا صن .
وهكذا حمل صن الحذاء الجديد ونحن نتجول في سوق شعبي فلاحظ صن ان هناك شاب صيني جالس على الرصيف في السوق ولديه رقية يحاول بيعها للمارة على شكل اشياف ، وقد لف رجلية بخرق من القماش لكونه لايملك حذاء ليلبسه ، فتقدم اليه صن واعطاه الحذاء الجديد وربت على كتفه وابتسم في وجه ، اثار تصرف صن هذا استغرابنا ودهشتنا .
لماذا فعلت ذلك يا صن !؟ .
قال ان هذا احق مني بهذا الحذاء الجديد .
فعرفنا ان شعباً بهذه الأخلاق النبيلة وهذه التربية الوطنية الجميلة سيكون له شأناً كبيراً بين شعوب العالم حتماً ، وهذا الذي صار بعد حفنة من السنين .

نشرت في قصة
الخميس, 31 آب/أغسطس 2017 20:08

موسم الذباب

ذات فجر، لم تختفِ خُيوطه الحمراء بَعد، وعن طريق الصحراء كانت البداية. بلد محطَّم، وعيون دامية، وجُوه مرفوعة نحو السماء تدعو بحرقة، أن ينتهي هذا الحال بعد أن سادت ضبابية المشهد. فَوْضى، واِقتتال، تَحاربَ فيه الأخ والصديق والغريب، وتُرِكت الضحية فيه تبحث عن مأوى يحميها .
على مسافة أميال من المدينة والمدنية، حطّت جماعة مجبرة في مكان تبحث فيه عن الأمان. أرضه تلتمع بالرمال، لا عوسج فيها، ولا عشّ غراب. نزَعت وِشاح السَتر عنها وأصبحت مكشوفة للسماء. عارية، كعري أُولئك الأطفال الّذين سكنوها. بَدَوْا كحملان صغيرة، مجتمعين حول صحن الرز المصبوغ بالماء الأحمر، يغمِسون أصابعهم المالحة فيه ويقذفون حبات الرز في أجوافهم الخاوية لعلّها تسد جَوْعا بات مستديما عندهم؛ بعد أن شحّ عليهم الأكل والماء؛ مذ هروبهم مع أهلهم من مدينتهم، تاركين بيوتهم العامرة جرّاء الحروب المباغتة والمصطنعة التي عصفت بهم وبالعديد من ذويهم وأصبحوا لاجئين يسكنون الخيام .
أمّا أمّهات الأطفال فكنَّ يستقبلنّ الحزن على أبواب الخيام، وهنّ في بؤس وشقاء. فقدنّ أزواجهنَّ وإخوانهنّ وديارهنّ، وأصبحنَّ يتقلبن وجَعا من نقص الغذاء وسوء الحال، داعيات بالرحمة من ربّ العباد لهنَّ ولأبنائهنَّ، أن يقيهم حرَّ القيظَ، وبرد الشتاء القادم، وأن ينتهي هذا الحال المُهين؛ مادامت العيون غافلة عنهم، والآذان فقدت السمع، ولا إصغاء لمعاناتهم.
الذباب منتشر في كل مكان، يموج حول صحون الرز وحول الخيام، يشارك الأطفال غلتهم، ويزيد عليهم بؤسهم. يسرق الأكل وبقاياه من شِفاهِهم. لقد اعتاد الأطفال والناس عليه هذه الأيام واعتاد الذباب إليهم؛ فهم مصدر رزقه، ولم يعد له موسم محدد لتكاثره بل كل فصول السنة أصبحت مواسم له، وجميع مدن البلاد وشوارعها وأرصفتها أصبحت أدراناً تعشعش فيها أسرابه المنتشرة في كل مكان، وما عاد من سبيل للقضاء عليه إلا بتنظيف البلاد منه.
كانت ذبابة تدّعي نفْسهَا المتمرسة و الأفضل بين رفيقاتها من الذباب، سابحة في خيالها، متحمسة في تحسين أحوالها، محلقة في الهواء تتأمل بين لحظة وأخرى اقتناص رزقٍ سمينٍ يليق بموسم الذباب، أو سماع خبر ينجد الذباب ويطيل موسمه بعد أن شاعت أخبار حلول موسم النظافة في البلاد وتحسين حال العباد.
وبينما ذهبت تستجلي الأخبار إذ هبّت ريح قوية سحبَتها بعيداً، لصقَتها على جدارٍ أملسٍ عريض، كان نافذة زجاجية واسعة، نظرَتْ إلى ما وراء الزجاج، كانوا مجتمعين في صالة فاخرة، لم تستطع سماع أصواتهم، بان عليهم حسنُ الحال، زادَ فضولها في سماع أحاديثهم، اقتربَت عند زاوية الباب تنتظر. خرج منها أحد الأشخاص وسيجارته بيده، يبدو أنه من حراس المكان. اقتنصت الذبابة فرصة فتحه للباب ودخلت مسرعة دون تردد متسترة كالسارق بين الحيطان حتى وصلت إلى الصالة، واختبأت بين طيات إحدى ستائرها. أخذت تسترق السمع والنظر إلى المجتمعين، ساد حديث الخبث بينهم وترسّمت ملامح اللؤم في وجوههم. اقتربت إليها صورة قديمة في وجه أحدهم، صورة عرّاف كان يقيم السحر والشعوذة، يعد من فارقها زوجها بعودته إليها، ومن تريد الهروب من زوجها بالردة عليه، ومن اختارت حبيبا لها وتريد أن لا يُخطف منها، يعطيها سر الأسرار، ومن فقدت ولدا أو اختفى منها عزيزٌ، يعيده إليها بكلمات تتبخر في ليلة شتاء مطرية. سبحان مغير الأحوال!. أخذت تدقق بوجه آخر، بدا لها كالوطواط، وضع نظارة شمسية على عينيه متباهياً بها وهو داخل الغرفة، وآخر ارتفع كرشه أمامه جانحاً على الأريكة كي لا يختنق، وآخر كثير الكلام لم يدع أحداً يقاطعه وكأنه رئيس جلستهم، وآخر كان حماسه كلهب الحدّاد، في كل مرة يتحدث فيها يضرب الطاولة بكفه وكأنه يحمل كيساً يريد ملأه. كانوا يتحدثون حول تقسيم حصصهم وزيادة معاناة شعبهم. فرِحت بما تسمعه، ستزداد مساحات عيش الذباب حيث يكون فقر الناس والخراب. سوف يتركون الحال هكذا بين النازحين كي يستفيدوا من المال الذي خصص لحماية الأبرياء.
ما أجمل ما تسمع من أخبار، لابد لها من إيصالها إلى جماعتها لتثْبت أنها القادرة على جمع الأخبار وإرشادهم لما سيقومون به، وسيتحركون وحسب خططها التي ستضعها لهم، فهي صاحبة الخطط المستقبلية بشهادة أصحابها.
بينما كانت الذبابة مشدودة لحديث الإخوة الشركاء، التفتت يميناً على حركة مباغتة، وكانت ذبابة متطفلة سبَقَتها، استترت عن الأنظار بين طيات الستائر، تسترق السمع أيضاً. غضبت عليها، لكنها لم تستغرب وجودها، فهذا موسم الذباب. أومأت إليها بالسكوت.
فجأة! احتد النقاش مرة أخرى بين المجتمعين، شيء ما تغير،علا صوت واحد منهم، لحظة مشاعر ثورية انطلقت منه، وكأنه صحا من سبات، استدرك حال البؤساء، بانت في حديثه الوطنية والحماس، انتزع سلطان الخوف من صدره، ينتقد جماعته على قرارهم، يدعوهم الى إعادة النظر في خططهم. وبعد محاولاته المريرة نجح في جعل الأمر محسوماً إليه. ساد الصمت في المكان، طلب منهم توثيق كلامهم بالتوقيع على عهد مكتوب على الورق. والذبابتان تسمعان وصارتا تحدّان ارجلهما من شدة الغضب، والاستنكار من هذا القرار الذي سيُحسن حال النازحين والناس، ويحد من موسم الذباب. وبينما حاول النطق ببنود الاتفاق، طارت الذبابتان نحوه، قرصته إحداهما في شفته كي لا ينطق، ولما حاول الكتابة بقلمه، قرصته الأخرى في كفه؛ فتدحرج القلم من أصابعه وسقط، واستبشر الجالسون سراً بهذا الذباب، انفرجت أساريرهم، واعتبروا إرادة الغيب أعلى من ارادتهم.
أما الثوري المسكين فقد حاول اللحاق بالذبابتين، رمى المتطفلة منهما بحذائه وارداها ميتّة، واشتد غضبه على الذبابة المتمرسة، ضربها بحزامه، فلتت منه ولم يصبها، هربت مختبئة خلف الستائر.
اجتمع الجالسون حول صاحبهم، أحدثوا بلبلة أرادوا بها عدوله عما قال، وأن الوقت غير مناسب الآن، امتصوا غضبه إذ عدل عن قراره، وعدُوه بتأييده في اجتماعهم القادم .
عاد حديثهم مثلما كان، هذا لي، وهذا لك، دون رقيب ولا ضمان، وللفقراء رب رحيم لا يعرف النسيان.
حاولت الذبابة الهرب، جانبت الحيطان . خرجت مسرعة نحو جماعتها لتزف لهم نبأ بقاء موسم الذباب .

نشرت في قصة
الخميس, 03 آب/أغسطس 2017 19:05

المملحة والكافور

 

قصة قصيرة من خزين الذاكرة

 

اِضطرابٌ وفوضى لكتلٍ بشريّة، يعجُ فيها المكان، صَخَب الباعة المتجولين وتدافع الجنود ومكبرات الصوت تزداد حدة، بينما الشمسُ بدأتْ تجرُ أذيالها متجهة نحو الغرب، كانت أضواء أعمدة الكهرباء العالية تحاول أن تأخذ مكان الشمس الآفلة!.
ضجيج ٌوأصواتٌ تتعالى وتتداخل وتتقاطع،الحشود تكبر في المنطقة.
اكتظت الساحة والأرصفة والشوارع بهم، ألف، ألفان ... الأصوات تتعالى أكثر، على بعد خطوات صوت جندي بملابس (مرقطة) يصرخ بهستريا:
ـ لا توجد سيارات، من الصباح لحد الآن لم تأتِ أيّ سيارة متجهةٍ للبصرة !
العديد من مجاميع صغيرة من الجنود، بوجوهٍ حائرةٍ غاضبةٍ، تتسارعُ باندفاعها تتقافزُ راكضةً باتجاهاتٍ مختلفةٍ، وهي تحملُ على ظهـرها أو بيدها حقيبةً أو كيسَ ملابس أو أكثر، وقع أصوات (بساطيلهم) ـ أحذيتهم العسكريةـ يشدُّ إليه الانتباه فهي توحي بالقوةِ والصلابةِ والصرامةِ.
أزدادَ تجهم وجه (مُظَفَّر) وهو يسمع أخبار الحرب ويشاهد الفوضى العارمة التي أمامه، بنظرات حزينة وخطوات متكاسلة راح يرصد ما حوله.
المكان يغصُ بمئاتِ العربات التي تبيع أنواع متعددة من المأكولاتِ، فيما عشرات من النسوةِ يفترشنَّ أرض المكان، و يشاركنَّ الرجال إعداد وبيع المأكولات والشاي؛ دخان وألسنة نار اللهب تتصاعد من(مواقدَ) عدةٍ أُعدتْ لعملِ أباريق الشاي.
في هذا المكان تباع أغلب انواع المأكولات والمشروبات الساخنة والباردة، بعربات منتشرة بدون نظام على جانبي الطريق وتغص بها الساحة الرئيسة لمَرْآبِ ( ساحة النهضة) وكلما ازداد حلكة الظلام يزدادُ توهج الاضاءة حول العربات من الفوانيس (اللوكسات)التي علقت بمواضع عالية نسبياً؛ فتبدد عتمة الليل وما حول العربة وما تحتويه من أنواع الأكلِ، في هذه المطاعم المتنقلة كل ما يخطر ببالك من أنواع المأكولات؛ فكل عربة متخصصة بنوع أو أكثر من الطعام ( التكة والكباب ومعلاك، والمخلمة والجلفراي، والبيض المقلي والمسلوق والشوربة والهريسة، والباقلاء بالدهن، والقيمر والعسل أو الدبس، والجبن وللبن والفلافل والعمبة والطرشي والصمون والشربت إضافة لبائعي الباجة)؛ فيما أصوات بائعي( السكائر والعلكة والحب) تصدحُ في كلِّ مكانٍ لتجلِب الانتباه إلى بضاعتها!
(أم جاسم) إمرأة قاربتْ الخمسين من العمرِ تفترشُ الأرض، وحولها ألتفت حلقة من الجنودِ، بين جالسِ القُرفصاءِ وواقفٍ، يرتشفون الشاي، في هذهِ الأثناءِ وقفَ(مظفر) بالقربِ منها وحياها بودٍ :
كيفَ صحتك خالة أم جاسم (هكذا يناديها معظم الجنود)
ألف هلا بيك ، ربي يسلمك من كل شر، ردتْ عليه (أم جاسم).
أختار(مُظَفَّر) أحد المقاعد الأربعة بقرب (أم جاسم) والذي فرغ للتو، و بسرعةٍ عدلَ (الصفيحة المعدنية) وجلسَ عليها واضعاً حقيبته على ركبتيه ضاماً لها لصدره، بدت المرأة الخمسينية التي يلفها السواد فيما يعلو وجهها ابتسامة مغلفة بحزنٍ عميق، وكأنها لا تتوقف عن الحديث والترحيبِ بمن يجلس ويقف حولها وهي تقدم لهم أقداح الشاي.
ـ تفضل وليدي، أشربْ بالعافية.
برشفاتٍ متأنية من (استكان الشاي) راحت عينا (مُظَفَّر) تسرحُ وتتجول في المكان، وتحلّق بعيداً... ؛ فلقد أنقضى أسبوع الأجازة سريعاً، بينما الهجوم على قاطع البصرة الفيلق السابع (الفاوـ المملحة)* لم يزلْ على أشدِ ما يكون ضراوةً. صوتُ المذياع من أحدى عرباتِ بيعِ المأكولات التي بجانبهِ يصدحُ عالياً بأغنية**:
( يا كاع ترابج كافوري،علساتر هلهل شاجوري).
(مُظَفَّر) يقشعرُ بدنه عند سماع هذه الأغنية، يتخيل نفسه جثة هامدة عارية ملقاة في (المغيسل)، إذ كان والده قد قصَ عليه كيفية تغسيل جثث الموتى بـ (الكافورِ)*** قبل تكفينهم.
كلما زادَ إيقاع صوت الأغنية صادحاً كانَ يسري رعب مخيف في بدنه ويتسلل لقلبه، نهضَ من مكانه فزعاً مرعوباً وراحَ يحثُ الخطى بين الجموعِ، وهو يحدثُ نفسه:
(ست سنوات مضتْ يا(مُظَفَّر) وأنتَ جندي مشاة أحتياط، ست سنوات وأنتَ تجوب جبهات الحروب متنقلاً ما بين موضعٍ موحلٍ رطبٍ وملجـأٍ مظلمٍ نتنٍ، تطوفُ السهول والوديان والجبال وأنت مسلوب الإرادة والرأي، تُسيّركَ وتقودكَ الى حتفِك الأوامر والتوجيهات والقوانين الصارمة،ها أنتَ تلفُ البلادَ طولاً وعرضاً أينما أشتد سعير القتال، تقذفُ بكَ إليها الاقدار والأوامر! ... إلى متى تبقى هكذا بلا زوجة بلا بيت بلا أولاد بلا رأي بلا هدف لحياتك، قلْ ليَّ بأيّ شيء نفعك بكالوريوس الفلسفة، وتعلقك بهذيانها.)
يقهقهُ (مُظَفَّر) مع نفسه: ويرددُ فَلْسَفة تعني(حب الحكمة)و(طلب المعرفة) أو(البحث عن الحقيقة)،ها قد مضتْ(عشر) سنوات على تخرجك؛ فهل جمعت خيوط البحث عن الحقيقةِ لفلسفةِ البطشِ والحروبِ والدمارِ وآخرها القتال في (المملحةِ)، يظهر يا (مُظَفَّر) إن حقيقةَ نهايتك وكافورك ستكون المملحة وملحها!
الساعاتُ تمضي مسرعة الواحدة تلو الاخرى، وهو يَركْضُ مع الحشودِ الهائجة ذات اليمين وذات اليسار، كانت كلُّ حافلة كبيرة لنقلِ الركابِ حين تقتربُ من (ساحةِ النهضةِ) ومع وصولها، تبدأ حشود غاضبة من العسكرِ، سباق الوصول اليها، والجري بِجانِبها وخَلفها،وهي تصرخُ وتضربُ بأيدها على بدنِ السيارةِ، تحاولُ جاهدةً أنْ تحاصرها وتوقفها؛ ولقد حوصرتْ أكثر من سيارةٍ، رغم الشجار والصراخ وسيول الشتائم التي يطلقها العسكر الغاضب، لكن معظم السائقين لم يفتحوا ابواب سياراتهم.
عادَ(مُظَفَّر) ليجلس على ذات (الصفيحة المعدنيّة ) المحاذية لـ (أم جاسم) ، سلمَ عليها بمودةٍ ، فهو يعرفها من كثرةِ تردده على كراجِ النهضةِ لسنواتٍ عديدةٍ ، فـ (أم جاسم) منذ بداية الحرب وهي تبيع الشاي بذات المكان ، وبمثل هذا الوقت من المساءِ حتى صباحِ اليومِ التالي!
ناولته (استكان شاي) وهي تسأله:
ـ تزوجت بعدك، ما شفتلك بت حلال؟
أجابها على الفور :
ـ يظهر القسمة بعدها ما تريد تصير!
ـ ألله كريم ولدي لا تّكُول هِيج، كل ساعة وإلها فرج.
يصمت لحظة وهو يدور بالملعقة في (استكان) الشاي:
ـ الله كريم والله يستر.
عيّنا (مُظَفَّر) تراقب منظر الجنود المتزاحمة في حركتها وهرجها ، لكنه يسرح بعيداً بتفكيرهِ، وهو يرتشفُ الشاي؛ فيعيد الموقف الصادم الذي واجهه قبل اسبوع ساعة وصوله البيت في هذه الاجازة من جبهة الحرب، والذي كاد أن يلقي فيها حتفه قبل أن يتسلم اجازته هذه بثلاثة أيام، فقد بوغتت وحدته العسكرية بهجوم صاعقٍ ساحق، راح فيها معظم منتسبيها بين أسيرٍ وشهيدٍ وجريحٍ و مفقود، لم ينجُ من هذه المأساة إلا بضعة جنود ، ومجموعة صغيرة اُخرى فقط (عشرة جنود) و(مُظَفَّر) معهم إذ كانوا في مهمة خارج المنطقة في نفس الساعة التي حدث فيها ذلك الهجوم المشؤوم.
يحدث نفسه رباه... ماذا حدث لي آنذاك ؛فما أن وصلت عتبة الباب، أحسست أو هكذا كان شعوراً بداخلي، أن شيء ما قد حدث في البيت أو حوله، الشارع فارغ، والوقت ليلاً الساعة قاربت السابعة مساءً ، والشتاء والبرد والظلام والسكون يُخيّـم على المكان، وحين فتحت باب الحديقة، واندفعت متجهاً للبيت أخذتُ اقطع على عجل ٍبخطوات متسرعة الممر حتى باب المطبخ؛ فطرقتها طرقاً خفيفاً، كانت (أمي) متشحة بالسوادِ، وماهي إلا لحظات حتى تفتح الباب بسرعةٍ وتهجم عليَّ وتحتضنني وهي تقبلني عدة قبلات في رأسي و وجهي، ولم تنقطع من الكلامِ وهي تقبلني :
ـ الحمدُ الله على وصولِكَ سالماً، محروساً بالله ، الرحمن يحرسك ويرعاك.
قبلتُ رأسها ويديها ونظرتُ الى وجهها كانتْ الدموع تسيلُ على خديها، وهي تنشج بالبكاء، وقفتُ كالمذهولِ أحدق بها،قلبي يخفقُ بقوةٍ ووجلٍ، فيما دارت عيناي في البيت تبحث عما يوجد فيه من الأهل، لا صوت ولا حركة في البيت زاد خوفي أكثر.
ـ ماما خير أَشو ولا واحد بالبيت، أين أبي أختي سعاد، أخي راضي؟
عاجلتني بالجواب: أسمعْ أبني( خطوبتك ما راح تصير بهذه الاجازة)
كدتُ أسقط من هولِ ما سمعت، لكني تمالكت نفسي لأستمع حتى نهايةِ الخبرِ.
وأردفت قائلة:
ـ صديقكَ(حسان) أخو خطيبتك (هناء) قبل ساعتين(شيعوه) إلى جوارِ ربه؛ وأبوك وأخوك (راحوا وياهم للنجف)، وأختك (سعاد) عندهم الان في البيت.وتصمت لحظة وتردف بتأفف وهي تهز برأسها بحسرة وألم :
ـ يظهر مَملحمة الفاو راح تصيرعلينا مقبرة الفاو!
أصوات من جموع الجنود تتصاعد بالقرب منه وحوله.
سلمَ (استكان) الشاي بيد (أم جاسم) وهو يردد معه نفسه:
ـ (مَملحة وكافُور) يبين قربت نهايتك (مُظَفَّر).
أنتصفَ الليل، رغم الملابس العسكرية الشتوية الثقيلة التي يلبسها (مُظَفَّر) لكن برد شهر(شباط) قد بدأ يدب في أطرافه؛ وخصوصاً قدميه، الكتل البشرية لحشودِ الجنودِ أزداد عددها بشكل كبير باتتْ عدة آلاف ضاقتْ بهم الساحة والأرصفة ، وبدأت تنزل إلى الشارع الرئيسي ذي الاتجاهين؛ فانقطعتْ تماماً حركة السيارات في الشارع، لكن لم تنقطعْ الأناشيد والأغاني الحماسية وهي تنطلق من عربات الباعة.
نهض (مُظَفَّر) من مقعده، عدل ملابسه ، وأحكم شدَّ (النطاق) ـ الحزام العسكري ـ على خصره ، وحمل حقيبته على ذراعة ، وغاص بين جموع الجنود الباحثة عن حافلةٍ تقلهم؛ فعليه أن يصل بالوقتِ المحددِ الى مقرِ(الفيلق السابع) في (البصرة) ومن هناك سوف يعرف اين سوف يصبح مقر ما تبقى من وحدته العسكرية، هكذا كانت التعليمات عندما سلمت له الاجازة الدورية.
على بعدِ مئات ٍمن الامتارِ من مَرْأب (ساحة النهضة) وفي شارعٍ جانبي تقف عدة حافلات كبيرة لنقل الركاب، موصدة الأبواب يدور حول كل واحدة منها مئات من الجنودِ الحانقةِ.
توقف برهة أمام لافتة كتب عليها (دورة مياه عامة) شعر بحاجة شديدة للتبول، رائحة (اليوريا) المنبعثة من المكان تُزكم الانوف لكن عليه ان يدخل المكان، إذ لا يوجد في المنطقة غير هذا المكان، ربع ساعة بقي يراوح في مكانه حتى جاء دوره للدخول، و دلف داخل التواليت، وأحكم اغلاق الباب خلفه، المكان قذر والرائحة فيه مقرفة ، وعلى عجلٍ فتحَ (سحاب) سرواله، و أفرغ مثانته وخرج مسرعاً ،وليجد الازدحام على أشده على (مغسلة التنظيف) الوحيدة في دورة المياه، فتح صنبور الماء جاء الماء المتدفق بارداً وهو يدعك (بالصابونة)بين كفيه، شعر أن يديه كادت أن تتجمدا؛ غادر دورة المياه، بعد ان نقد الرجل الذي يجلس في الباب على كرسي متهالك، عملة معدنية صغيرة ، ثمن دخوله، غادر المكان بخطوات سريعة وراح يتنفس بقوة هواءً منعشاً جديداً باردً؛ فشعر براحة تسري ببدنه.
نشراتُ الأخبار لم تزلْ تؤكد استمرار القتال الضاري لصدِ الهجوم في قاطع ِ(الفاوـ المملحة)؛ فيما نداءآت تحث المواطنين (للتبرع بالدم) لم تنقطعْ منذ عدة أيام؛ صوت مسجل معلق بأحدى عربات بيع الأكل يبثُ أغنية (أحنا مشينا للحربْ) يصدح ُبأعلى قوته، يطغى على نداءآتِ التبرع بالدم!
صوتٌ مُحْتد يُلقي خطاباً على رهطٍ من الجنود التي تلتف حوله، والتي بدأت دائرتها سريعا ًتتوسع ،بينما(مظفر) يحاول الدخول وسط هذا الرهط لسماع ما يدور؛ فيما صوت هائج حانق يتوعد في دائرةٍ اخرى تكونتْ سريعاً بالقربِ منه.
مع اقتراب ضوء فجر الصباح، بدأت زخاتٌ كثيفة من الرصاصِ تهز المنطقة، وتفزع الحشود، لكن لم يُعرف مصدرها، ولم يأبه أحدٌ بها.
بلبلةٌ وهيجانٌ كبير ينتاب المجامع المنفعلة من الجنودِ التي بدأتْ تركل بأرجلها وقبضات ايديها الساخطة أحدى الشاحنات الكبيرة الواقفة؛ فيما مجموعة كبيرة أخرى من الجنودِ وهي تطلق العنان لهستيريا صراخها تحاول أن تقلب الشاحنة الأخرى التي تقف بجانبها.الأصوات الغاضبة تتعالى أكثر، تزداد الحشود التي تلتف حول الشاحنات وهي تحاول قلبها،العسكر الهائج يقلب الشاحنة (السائق ومساعده) داخل الشاحنة المقلوبة يستغيثان ويحاولان الخروج من شبابيك الشاحنة.
جَمْهَرة أخرى من الجنود تقلب السيارة الثانية وآلاف من الجنود تتجه مزمجرة هادرة نحو السيارات الأخرى ، أصوات وقع كعوب اقدامها وهي تضرب في اسفلت الشوارع تزيد الموقف اكثر هيجاناً واندفعاً، الشارع الرئيسي(هائج مائج) بالجنود المنفعلة والتي بدأ يعلو أكثر صُخب صراخها وهتافها. فوضى عارمة تطغي على هدير اصوات أغاني المعارك، الحشود الساخطة تقلب سيارات أخرى وتهشم زجاجها، وعلى غفلة إحدى الشاحنات تشب فيها النار، وتبدأ النار تلتهمها بسرعة أصوات هائجة تحذر من الاقتراب من السيارات خوفاً من انفجارها نتيجة الحريق.
زخات متقطعة من الرصاص تنطلق من جديد، حشود الجنود تتشتت تركض بمختلف الاتجاهات، كما الأمواج المتلاطمة ، تتداخل اصوات أزيز الرصاص والصراخ والعويل والصياح وصخب الأغاني والموسيقى والنداءآت والهتافات ،حالة من الفوضى المجنونه تضرب المكان.
أصوات تنادي : {المكان مطوق أينما تذهبون،هنالك قوات من الحرس الخاص، ولواء من الحرس الجمهوري المدرع والانضباط العسكري والاستخبارات العسكرية تطوق المكان}.
يعود (مُظَفَّر) مسرعاً الى موقد (أم جاسم) ويقف بالقرب منها يراقب المشهد، أحد المقاعد فارغ يحوله بالقرب منها ويقف ممسكاً بالمقعد بين رجليه واضعاً الحقيبة فوقه.
تلتف (أم جاسم )إلى (مُظَفَّر) وتسأله بصوت مرتجف:
ـ شكو يمه، شنو إلي صار؟
(مُظَفَّر) يدنو برأسه بالقرب منها وبصوتٍ خافتٍ حذرٍ، يهمسُ بإذنها :
ـ الحكومة تطوق المكانْ.
حركة الجنود تزداد سرعة وعنفاً، ركضٌ وتدافعٌ وصراخٌ هستيري في عدةِ أماكن ، عشرات من الجنودِ تتحدثُ في وقتِ واحد وهي تصرخُ بشكلٍ منفعلٍ تحاولُ أنْ تهدَأ الجنود الغاضبة.
صوتُ أزيز الرصاص يهدرُ من جديدٍ وبكثافةٍ ودويٍ أشد، أصوات مدافع رشاشة تطلق زخاتٍ متتاليةً من الرصاصِ الكثيفِ من عدة ِأماكن، تُطغي على كلِّ الأصواتِ، أنها كأصوات مدافع الرشاشات المدرعة في جبهات القتال، مجاميع عديدة من الجنودِ تتراكض من جهةٍ إلى أخرى، اضطراب وفوضى عارمة تعم المكان، يقتحمُ لفيف من الجنودِ المتدافعين مواقد الشاي، أصوات تكسر الاواني والأقداح المرتطمة بالجنودِ والأرضِ، تسمع مع صوتِ الرصاصِ الذي ينطلقُ مدوياً من كلِّ الجهاتِ، يسقطُ أحد الجنود على موقدِ وأواني الشاي التي أمام (أم جاسم) ووجهه مضرج بالدماء، تطلقُ (أم جاسم) صرخة مدوية وهي تحاول جاهدة أن تنهض من مكانها لمساعدتهِ؛ لكنها تسقط بـ (صلية) من الرصاص الذي يخترق ظهرها، لينبثق الدم كالنافورة من خلفِ عباءتها، فتسقط على وجهها جثة هامدة.
انحنى(مُظَفَّر) صارخاً بهستريا كمن فقد عقله خالة (أم جاسم) محاولاً مساعدتها؛ فيما قبضة ككماشة من الفولاذِ تمسك برقبته وأخرى بذراعيه وتطرحه أرضاً، وصوت يصرخ بأذنه أي حركة سوف أضرب رأسك بالرصاص.
مُكبِرات الصوت للقوات المهاجمة تطغي على كلِّ الأصوات ِ وهي تحذر الجميع من الحركةِ، و تكرر:
ـ تَحْذير، على الجميع أنْ يبقى ثابتاً في مكانهِ.

 

 

نشرت في قصة
السبت, 01 نيسان/أبريل 2017 10:44

حلم ومرآة...

عندما سمعني اتحدث عن العودة قال لي :
ذكّرْتني بصديقي "عزرا" اليهودي يوم قال لي: هجرتُ الوطن مع اهلي وانا طفل صغير، ظلّت امي تبكي بيتنا وجيراننا ودربونة طفولتي وهي على امل العودة ..أما أبي ظل يحكي عن جلسات الأصدقاء على نهر دجلة والسمك المسكوف .بحسرة وابتسامة اجتمعتا بوجهه ويتوعد بموعد آخر.
ماتت أمي ولم تحقق حلم العودة الى بيتنا ، تبعها ابي وهو في حلم جلساته...أبي لم يكن يدري ان المكان الذي كان يحدثني عنه وضعت فيه غرفة متهالكة خربة كتب عليها"قف ..سيطرة للتفتيش " .جنودها استغلوا سياجا صغيرا مطل على دجلة نشروا عليه غسيلهم ولحفهم ليطردوا رائحة السكائر منها ..وبقيت انا وحدي انظر في مرآتي ولم اعد أرى فيها سوى نقطة صغيرة للوطن .

نشرت في قصة
السبت, 25 آذار/مارس 2017 20:40

أرض السنابل

مثل حمامة حانية انحنت على الجسد المُسجى الملفوف بالقماش العتيق، محاطة ببكاء النسوة وصراخهن الذي ملأ فناء البيت، وبأيادٍ نحيلة مرتجفة كشفت عن وجهه... أنه هو، أجل أنه هو، أخيراً تراه بعد كل تلك السنين.. لم يتغير منه شيء سوى لونه الأبيض الباهت الذي يوحي ببراءة الموتى وخلو أياديهم من نفايات الدنيا.. ها هو أخيراً يعود اليها منذ أن فارقها يوماً ليمتطي ريح الجنوب.. (أنا راحل يا أماه... سألتحق بسرب النسور الحالمة بالحرية)... هكذا قالها بهدوء ثم رحل... لازالت تذكر بريق عينيه الممتلئتين بالتحدي وحب سومر.. لم يترك خلفه سوى نظراتٍ وحسراتٍ لأمٍ حزينة أودعت روحها لكف الأقدار مع رشقة ماءٍ نثرتها وراء دربه الطويل، ودقات قلب سريعة لحبيبة خائفة منحت حبيبها لمخالب المجهول..... أمسكت براحتيها ذلك الوجه الذي لم يفقد بريق شبابه رغم قسوة الموت، راحت تتأمله بعينيها المُبيضتين.. (أحقاً أنه نفس الطفل البريء الذي كان يلهو يوماً مثل فراشات الحقول وعصافير الربيع؟).. برفق أخذت تهزه كمن تحاول ايقاظه من نوم عميق كما اعتادت دوماً أن تفعل، لتتفتح عيناه على نور الصباح ووجه أمه الذي اختطت عليه الأيام تجاعيداً عميقة أصبحت سواقياً لجريان الدموع على مدى طول الصبر والفراق... (أنهض يا حبيب النجوم... أنهض يا شدة الياسمين وضياء القمر..... ضفة الفرات تناديك.. موسيقى سومر تحّن لصوتك العذب.. حبيبتك الجميلة تنطرك لتزف اليك).. لم يرد عليها سوى السكون.. ثم تحول هز جسده الى حركة هستيرية بعيدة عن الشعور.. دون جدوى.. الصمت هو الصمت، الموت هو الموت، صلب، قاسٍ، قاضٍ غير عادل.. كلمته واحدة وحكمه واحد، لا يعرف محبة أو حنين...... (من يموت من أجل سومر يصبح حبة قمح، تغدو سنبلة تزهو بها الأرض القاحلة). هكذا أجابت سؤاله بعد قدوم أبيه محمولاً على أجنحة النوارس.. حينها لم تذرف دمعة واحدة رغم قلبها الدامي بهول الفاجعة... رددت ذات الكلام مع عودة أخيها عائماً على أشعة الشمس... ليبادرها ببراءة قلوب الأطفال (ستمتلئ الأرض بحبات القمح... فمتى نرى السنابل؟).... (أجل متى نرى تلك السنابل؟).. ها هي اليوم بعد أن أكتمل لديها ذلك الثالوث الأليم تعيد نفس السؤال الصعب الذي لم يعد أحداً في سومر يمتلك الاجابة عليه.
سار موكب الموت بطيئا رتيباً بين طرقات المدينة المتهاوية حاملاً حزمة قصبٍ احتضنت جسداً كان يوماً ينبض حياةً وأملاً بسعادة شعب سومر، يدور حوله العويل بتناغم موسيقي غريب ينم عن تعود واحترافية، مصحوباً بلطم الصدور ونثر التراب على الرؤوس، باتجاه أرض كئيبة غدت متخومة من كثرة ابتلاع أجساد البشر مع مرور الأيام وسيول الجنائز.... تلاصقت شواهد القبور مع بعضها لضيق المكان لتغدو غابة من غابات الجحيم، وتشابهت حتى لم يعد يُستدل على قاطنيها.. انتشرت النسوة المكللات بالسواد بين تلك الحفر اللعينة التي سلب ظلام قعرها الأحبة ورفاق الدرب، باكيات صارخات يندبن راحليهن، يرافق بعضهن كهَنة متزلفون، بلحايا طويلة يقتادون من الافتاء بمواعظ الموت والحياة..... ورويداً رويداً أنزل أبن سومر الى تلك الهوة السحيقة التي ليس لها قرار، ثم بهدوء أهالت عليه الأكف قبضات التراب، لتغلق أمامه نافذة الحياة الى الأبد..... تبعثر المُشيعون، واحداً تلو الآخر دون مبالاة بعد أن سلموا من جمعهم الى شياطين الموت ليكملوا دورة حياتهم وانتظار مصائرهم، غير مكترثين بأمٍ ثكلى أرتمت على تلك البقعة التي سرقت منها وحيدها وكل ما جنته من متاع هذه الدنيا، محتضنة اياها لا تريد مفارقة من كان يوماً قطعة من أحشائها.
لم تدري كم مضى عليها من الوقت، لعلها كانت ميتة هي الأخرى.. ربما سافرت في رحلة لعالم الموت، لتطمئن على من فارقها في سفرته الأبدية، أو في محاولة يائسة أخيرة منها لأطلاق أموات سومر من محشرهم الخانق، كما سعت قبلها عشتار.... مع غروب الشمس، وبعد أن يأست من استرجاع روحها الثانية، تركت القبر بأيادٍ وثياب مُعفرة، سارت متثاقلة مبتعدة عنه شيئاً فشيئاً ملتفته اليه مع كل خطوة تبعدها عنه، غدت وحيدة بعد أن خلى موطن الموتى من رواده، ألا من مُغني مَنسي ضيعه فراق الراحلين وغدر الزمان ظل جالساً عند أحد الشواهد.. غير عابئ بقدوم عتمة الليل التي أخذت تزحف بهدوء نحو القبور لتبتلعها الواحد تلو الآخر.. محتضناً بحنو قيثاراً قديماً، تداعب أنامله برفق أوتاره المهترئة، راح يردد بصوتٍ خافت مبحوح مخافة أن يزعج أولئك المُتلحفين بالثرى أغنية قديمة لم يتبقى بين ثنايا ذاكرته سواها....
كًلكًامش لم يزل هائماً .. حائراً
يسعى وراء حلم بعيد يدعى الخلود
متى يعود الشريد .. متى يعود
شعبه مقهور اثخنته الجراح
يبحث عن شعاعٍ في ظلمة هذا الوجود
متى يعود له الأمل .. متى يعود
سومر زنبقة غضة بيضاء
اغتصبتها حراب الجنود
متى يعود ربيعها .. متى يعود
نخيل أوروك بكّاء
يرنو لجثمان أنكيدو
يسأل الطير .. يسأل الريح
متى تعود له الروح .. متى تعود
سمعت تلك الكلمات مع هروب آخر شعيراتٍ للضوء، ثم نظرت بذهول بعد أن استعادت شيئاً من وعيها الى الأرض المزروعة بحبات القمح والممتدة نحو الأفق كأنها تراها لأول مرة، ابتلعت شهقة عميقة، ثم أطلقت صرخة مدوية مزقت السكون (أما ارتويت دماً يا أرض سومر؟).

نشرت في قصة
الخميس, 16 آذار/مارس 2017 21:17

على ارض الوطـن

بدأت احداث حكايتنا هذه صباح أحد أيام عام 2008، حين شعر ابو فوزي وهو الرجل السبعيني، انّ حياته بسبب الأمراض باتت مهددة، فجسده قد طاله الوهن، وساعة الرحيل من هذا العالم، في اية لحظة قد تأتي. انه في الولايات المتحدة يقيم، منذ عقود ثلاثة، وحيدا قضى اعوامه القليلة الماضية، بعد وفاة زوجته بمرض عضال.
من الغربة ومرارتها عانى الرجل كثيرا، والى الوطن أضناه الشوق والحنين، وطنه الذي هجره مكرها بسبب مضايقات وملاحقات السلطة الدكتاتورية الحاكمة. ثلاثين عاما انقضت منذ حزم ابو فوزي امره وقرر الرحيل، الرحيل عن الوطن على أمل العودة في أقرب فرصة. لكن حتى الرحيل عن الوطن لم يكن امرا يسيرا، فعيون النظام، جواسيسه وعملاؤه، في كل مكان، في الخفاء تراقب وترصد، ترصد تحركات الثوار الذين ينشدون الحرية، المنتفضين ضد الظلم والدكتاتورية. وفي ليلة حالكة رحل الرجل، تاركا عائلته وقلبه وكل اِرثه الروحي والنضالي والمادي، الى حيث لايعلم رحل، رجل مهاجر بلا وطن، بلا روح، نحو ارض لم يعرفها بعد يحث خطاه، ارض لم تطأها قدماه من قبل، انه راحل نحو اوجاع وآلام جديدة، اكبرها وجع الغربة والحنين الى الوطن، من الإصرار على البقاء يستمد عزمه، ومن الأمل يستمد قوته، الأمل بيوم جديد أفضل من سابقه... الى اين سينتهي به المطاف في رحلته؟ على أي ارض سيحل؟ مع أي غرباء سيعيش؟.. لا يعلم.

تلك كانت صورة الأحداث قبل عقود، والتي من جديد طرقت ذاكرة أبا فوزي فجر ذلك اليوم الربيعي الذي فيه شعرَ بوهن جسده، فعلى الفور اتخذ قراره بالسفر الى بلده الحبيب العراق ومدينته الأثيرة بغداد التي فيها قضى شطرا كبيرا من حياته، اذ لا مجال للإنتظار بعد، فمنذ سنوات كانت تتملكه لزيارة الوطن رغبة كبيرة، حيث الأرض التي ولد فيها ونشأ وترعرع، وحيث الأصحاب والأماكن الأثيرة والذكريات الأولى والمشاهدات الأولى في حياته، لقد حاول قبل سنوات ثلاث تحقيق امنيته، غير انّ مرضا عُضالا مفاجئا ألمّ بزوجته حال دون ذلك.

اتّصل الرجل بابنه فوزي المقيم معه في المدينة ذاتها، مبلّغا ايّاه رغبته وقراره، طالبا منه مرافقته، فلم يمانع الابن، غير انه طلب امهاله أياما معدودة لترتيب امور العمل والعائلة، كذلك بعث ابو فوزي رسالة الى صديقه الحميم القديم ابو جميل، رفيق الطفولة وزميل العمل، يبلغه فيها عزمه على زيارة الوطن ويرجو مساعدته. بسعادة غامرة رحب ابو جميل بفكرة ابو فوزي، اتفقا على موعد الوصول لكي في اِستقباله يكون. بعد ايام قلائل، وصل الرجل وابنه، وعلى دار ابي جميل ضيفين مكرمين حلّا. حارا، مؤثرا كان اللقاء بين الصديقين، فهما في زقاق واحد نشآ، وكانا لسنواتٍ زميلي عمل، دارت احاديث طويلة، خلالها استمع ابو فوزي الى تفاصيل احداث قاسية آلمته بشدة، بحزن عميق كان الرجل يصغي الى محدثّه رغم علمه بهول الأحداث، فطيلة السنوات الأخيرة، كان يحزنه ويقضّ مضجعه، أنباء الأحداث المأساوية المتلاحقة التي ببلده تعصف، كتب ذات يوم والألم يعتصره، كلمات مناجاة لوطنه تقول:
ياوطني
مَنْ مسخ وجهك؟
مَنْ دنّس ارضك؟
منْ انزل فيك الأوجاع؟
منْ حجب عنك الشمس؟
منْ اجاع الجياع؟
يافردوسَ كلكامش
صَيّروكِ مسلة للنائحين
وارضا للضياع

ياوطني
مَنْ علّم الأيتام البكاء؟
مَن مزّق ثوب الحضارة؟
مَنْ علّم الأرامل ان الحزن دواء؟

وكتب ايضا:
ياوطني
لايعرف سر الطريق الا مَن سلكه
ولايعرف سر الارض الا مَن وطأها
ولايعرف سر الكلمات الا القلم
فكأس ماء للعطشان خير من نهر لؤلؤ
ورغيف خبز للجائع خير من كنز موعود

في صباح اليوم التالي لوصولهم، وفي جولة الى احياء بغداد، اصطحب ابو جميل ضيفيه، وبطلب من ابي فوزي، على الزقاق القديم عرجوا، وعلى سوقه واروقته الضيقة حيث عاش الرجل طفولته واولى سنوات حياته، وبينما هم سائرون الى مقصدهم راح ابو فوزي الى ابنه يتحدث، واصفا له صورة الزقاق القديمة، قائلا:
كنا وسط هذا الزقاق الشعبي نسكن، بين مجموعة من العوائل البسيطة الكادحة، في المدخل الرئيس لزقاقنا وعلى الجانبين كانت تصطف مجموعة دكاكين، معظمها للعطارة، مع محال اخرى لمهن مختلفة، بينها صالون بسيط للحلاقة ومحل للنجارة، مع قصاب وحداد واسكافي ونداف. ويضم الزقاق ايضا مقهى صغيرا في رأس الجادة، بالقرب منه تجلس بائعات القشطة واللبن وهنّ يفترشن الأرض مع بضاعتهن كل صباح، ولم يكن هنالك سوى مطعم بسيط واحد ومخبز واحد. هكذا كانت صورة زقاقنا حين فارقته.
واصل ابو فوزي حديثه، يصف لإبنه، بغداد ومعالمها وحياة الأمس البعيد، قائلا:
مارأيت أروع ولا أحلى من التجوال في شوارعنا واسواقنا الجميلة، بين المحال المتنوعة والمقاهي والخانات، فأسواقنا القديمة كانت بالناسِ تعجُّ، وكل مايبهج النفس ويسر النظر تحوي، بروائح البخور والصابون والتوابل والبُن والعطور العربية تفيض مداخلُها وأرجاؤها. كان التنزه على ضفاف دجلة وشواطئها الجميلة له طعم خاص، ولا تبرح خيالي مقاهي ابي نؤاس ومطاعمها المطلة على دجلة، ففيها كنا بأجواء لاتوصف نستمتع، وفي بحر من البهجة والمتعة نتيه ونغرق، وكأننا في عوالم ألف ليلة وليلة، حيث الموسيقا والأضواء ورائحة الشواء واصوات كؤوس الشراب والساهرين وصخبهم ولهوهم الذي لاينقطع.
هنا التفت ابو فوزي الى ابو جميل متسائلا:
اين نحن من ذلك الزمن واجوائه؟ لماذا فقدنا كل ذلك؟ لماذا تبدو الأحداث الماضية وكأنها أكثر روعة وجمالا حين بعد زمن نتذكرها؟ ياترى هل لكوننا فقدناها، ام لبؤسِ حاضرنا؟
هز ابو جميل رأسه حسرة وكأنه يقول – لا أعلم.
واصل ابو فوزي حديثه:
مازلت اتذكر تماما بيوت بغداد الجميلة وحدائقها التي بعطر الزهور وشذى الرياحين ورائحة الأرض تفيض، يالروعة الجلوس في تلك الحدائق ليالي الصيف والسهر مع اغاني ذلك الزمن التي لاتنسى، ولا يغيبنّ عن ذهني ابدا، الجميل من مشاهد بغداد ومزارعها الغناء وغابات النخيل واشجار الحمضيات والكروم، ومايٌبهج الأبصار مما امتد من الحقول الواسعة الساحرة وبما يطرزها من الوان الخضرة وزهورها، اشعر الان وكأني استنشق ذلك النسيم العليل ورائحة الخضرة والزروع نفسها، يالبهجة تلك الأيام وروعتها، فالأرض زاهرة كانت وزاخرة بالخير، والطبيعة جميلة نقية، والناس بسطاء طيبون ومسالمون.
عن الحديث توقف الرجل حين بلغوا محلتهم القديمة التي منذ عقود غادرها، هنا وهناك اخذ يجيل نظره، تطلع الى ماحوله بلهفة ممزوجة بألم، وصلوا السوق القديم وهم يطرقونه على الأقدام مشيا، في مدخل السوق توقف الرجل ومن معه، الى ماحوله راح يتطلع بشعور مَن وَجَد للتو شيئا ثمينا فقده منذ أمد بعيد، شعر وكأنه الى العالم الذي تتوق اليه روحه ونفسه قد عاد، وتمنى لو طال الى الأبد وقوفه هناك، غصّ ابو فوزي بالكلمات وخنقته العبرات فما عاد من الكلام متمكنا، طويلا وقف هناك وتَذكّرَ المحال والدكاكين التي في صباه كان عليها يتردد، تذكرها رغم تغيّر معالمها وتغير أصحابها مثلما البضاعة المعروضة فيها تغيرت، هناك راح الرجل الكهل يستعيد ذكرى الأيام الخوالي، ايام الطفولة والصبا وسنوات العمر الأولى، حيث الانطلاق كان مع ذلك العالم النقي البسيط، فلا هموم ولا أوجاع كتلك التي فيما بعد عرفها الناس، لقد ادرك وهو في أحضان بلده، ان الحنين الى الوطن لايشبهه حنين، فهذه ديار الأهل والأجداد، فيها السكن الأول والنَفَس الأول والصور الأولى في الحياة، فالى عبق تلك السنين تشده ذاكرته الآن بقوة، الى براءة الطفولة ونقاء الأرض، فهنا حيث يقف، ترك مع الأهل والأصحاب ذكريات لاتزول، سوى وان الزمن الذي عاشه صغيرا كان جميلا بكل مافيه، فالناس كانوا يستمتعون حقا بصباحات ايامهم ومساءاتها، كان للأيام قيمتها وللعطل روعتها وللأعياد نكهتها، لقد كانت الأعياد أعيادا بالفعل .. كل الأشياء كان لها طعم مختلف.

حين حركّت تلك المشاهد والصور مكامن الذكرى في خاطر ابو فوزي، وحين في ذهنه استعاد حلاوة ذلك الزمن البعيد من حياته وروعة تلك السنين التي انقضت ومضت، وحيث تفرق الأهل والأصحاب اليوم وتشتتوا في هذا العالم الواسع القاسي الذي فيه يشعر الانسان بالوحدة والضياع. حين تلك الذكريات والأوجاع امام خاطره مثلتْ، تصاعدت في نفسه العبرات وفاضت عيناه بدموع حارة وبكى، بكى حسرة وحنينا الى زمن انقضى، وأسفا ولوعة على سنوات جميلة انتهت دون رجعة، وحزنا على وطن تمزق وشعب تفرق.
بكى هناك ابو فوزي وطال بكاؤه حتى عيناه احمرت، ولحيته البيضاء بالدموع تخضبت.
بعد ان هدأ، على مُحيّاه وعلى جسده النحيل علامات الوهن والتعب بدتْ، ببطء وبصوت متعب عاود التحدث، قال:
يا ابا جميل، ذكريات ذلك الزمن البعيد قد غمرتني، فهي في الذهن مازالت راسخة وكأنها ذكريات الأمس، فهي الى زمننا النقي الجميل قد عادت بي، الزمن الذي صغارا عشناه، حيث بعالم الطفولة البريء كنا نلهو، في هذه اللحظات تمر في خاطري صور رفاق الصبا واحدا واحدا، وجوههم البريئة ومشاكساتهم، تسليتنا ولهونا اليومي، بكل ممتع من ألعابنا الشعبية، صور بيوتنا البسيطة الجميلة لازلت أتذكر، تلك البيوت اراها الآن بألوان اخرى غير الوانها قد دهنت، فضاع سحرها القديم.
صمت ابو فوزي برهة وبرأسه اطرق، ثم واصل حديثه وعيناه بالدموع تفيضان، قال: كيف يمكن لإنسان ان يقطع من وطنه جذوره؟ فهناك روحه وقلبه ووجدانه واعماله وكل ذكرياته وتأريخه مزروع. كيف يمكن للأنسان عن كل ذلك ان يتخلى؟ بلا روح عشتُ في المنفى، وحين العراق وصلت وبغداد وناسها رأيت بعد سنوات الفراق الطويلة، رغبة عارمة كانت تغدوني لأن اتجول في كل حي وزقاق وفي كل شارع ورواق، وددتُ لو كل جدار أُقبّل، والأطفال جميعا احضن، وللكادحين الصابرين احتراما انحني، وللجياع ارغفة اُقدم، كان الشوق للعراق يدفعني لأن ألمس كل نخلة فيه، وان أُقف على ضفاف دجلة طويلا، اردت من شمس بلادي ان امتلأ، ومن مائه العذب ارتوي.
ضعف هنا صوته والى حشرجة في الصدر تحول، فعن الحديث توقف، ثم عينيه بتوجع أغمض وبالبكاء من جديد أجهش، طويلا تواصل بكاؤه رغم محاولات ابنه وصديقه لتهدئته، ولم يكف عن البكاء حتى انتابته نوبة سعال قوية تبعها ألم في الصدر حاد، ثم تلاشت قواه وسقط.
من غيبوبته بعد ساعات افاق ابو فوزي، ففي احدى مستشفيات بغداد كان يرقد، يحيطه ابنه وصديقه وأحد الأطباء ممن كانوا على وضعه الصحي يشرفون، حرك الرجل جفنيه ببطء، بعينين زائغتين ووجه شاحب متعب الى من حوله نظر، نهض فوزي وعلى ابيه انحنى، سأل بلهفة:
ابي، هل انت بخير؟
ابتسامة متكلفة ابتسم الأب، اراد ان يقول شيئا لكن ضعفه منعه، تراخى جفناه وأغمض عينيه من جديد وراح في سبات.
منهما طلب الطبيب مغادرة الغرفة والبقاء في الردهة الخارجية، انقضت ساعة كاملة، كان الأطباء خلالها على غرفة الرجل الكهل يترددون، ومالبث ان خرج أحدهم، بعبارات التأسف والأسى أخبرهم، أن الرجل، بسبب ازمة قلبية حادة، قد فارق الحياة، ثم سلّم ابا جميل ورقة صغيرة، عليها كُتب بقلم خفيف مرتعش، العبارة التالية:
احبتي..
شكرا لكما.. فبفضلكما حققت امنيتي ورأيت بلدي..
شكرا لكما، فالموت على ارض الوطن هو أهوَن موت.
______________________________

 

نشرت في قصة
الإثنين, 27 شباط/فبراير 2017 21:07

خَـــيـْـــــــــــطـ

اليوم هـو الجمعـة ، عــطـلة ( نـضال ) عـن الـعمل ، الشَّمـسُ تـتأَلـقُ في سماءٍ صـافية وتسطعُ بنورٍ دافئٍ كان الناس في مـدينتهِ ينتظرونهُ منذُ أَيام بشوقٍ ولـهفـة ، إِنها شمسُ الضحى لـذيذةٌ ، لـذيذةٌ جـداً بـعد أَيامٍ من البرد والـضَّبابِ والـمطر .. إِنَّ جسدَهُ المرطوب حتى العظام والمتعب بـعـد اسبوع العمل ، بحاجةٍ إِلى مثل حرارةِ هـذهِ الشمس بـالتأكيد ، تـمـددَ فوق الحصير المفروش على أَرضيةِ سطح المنزل المُـبتَلة ، أَسنـدَ ظهرَهُ إِلى سياج السطح المُـتآكل واسترخى تماماً تاركاً أَشعة الشمس تلامس الأَجـزاء المكشوفة من
جـسدهِ ، فتتوغلُ حرارتها شيئاً فشيئاً داخـلَ خـلايا جـلده وعـروقـه .. بـعـد دقائق صـار يـشـعـرُ بـانتعاشٍ لـذيــذٍ يـدب في جـسده . ـ
ـــ آه .. أَيـتهـا الشمس الحبيبة مـا أَروعــــكِ ! ! ــ
قـالهاجَـذلاً ، وهـو ينظـرُ إٍلى السماء بـامتنان .. ثم راح ينبشُ ذاكـرته باحثاً فيها عـن أَي شيء .. أَيَّ شيء يُـشغل بـه نـفسه ، فـيُـبَدد بـعضاً من ثـقل الوحشَـةِ التي داهمتهُ منـذُ استيقاظهِ صباحَ هــذا الـيـوم ، فهو الآن يحسُّ بشعورٍ لم يَـمر به من قَـبل ، استـمرَّ في نبشِ ذاكرته المشَوَّشة فاستطاع أَن يسترجعَ بعضاً من شريطِ حياته الماضيةِ ، طفولته المعذَّبة ، وبيتهم الطيني آنذاك ، ومدرسته الإِبتدائية والمتوسطة ثم إِعـدادية الـصناعة التي تخرَّج منها وانخرطَ في صفوف العمال ليساعـد والـديهِ .. وتذكر أَيام الصبا والشباب وزملاء الدراسة ، لكن كل تلك الذكريات لم تفلح بـإِزاحة حالة الحزن الذي تسلل كاللص إِلى داخل نفسه وترسبَّ في قاعها .. ثلاثة أَيامٍ فقط مـضت على سفرهما ، وها هـو يشعـرُ بثقل الوحـدةِ يطوقه ويحاصره في
كل ناحية من البيت .. ثلاثةُ أَيـامٍ وهو في البيت وحيداً ، فكيف يكون حاله
إِذا طال غـيابهما شهر ، شهران إِلى الأَبـد من يـدري ؟ إِنها الدنيا . منذ أَن غـادرا البيت وسافرا إِلى بغـداد لزيارةِ أَخيهِ ( ماجـد) وعائلته صار يشعر إِنَّ البيت لم يـعـدْ كما كـان أَمامَ عـينيه يحسُّهُ قـد تبدَّل ، صار خاوياً بلا حياة أَشبه بزنزانةٍ إِنفراديةِ .. صحيح أَنهما في خريف العمر
، زهرتان ذابلتان ، غصنانِ يابسان لكنهما أَبواه ، لقد أَعطيا لدنياه طعماً حلواً وحياةً جميلةً ، فحينما يثرثران عن أَيامهما الماضية ، أَو يمزحان ويضحكان أَو حتى عـنـدما يتشاجرانِ أَحياناً كانا يمدانه بنبض الحياة ، وكان هو يملأُ حياتهما بحركته وصوته في البيت ، وأَحاديثه عن العمل ورفاقه العمال ، وعن الحياة والأَيام الجميلة الآتيةِ التي كان يصورها لهما .. تـنهَّـدَ ثم تناول الكتاب الذي بجانبه وهـو يـرمُـقُ دجاجتهُ الوحيدة وهي منهمكةٌ بنقرِ أَزرار بجامته ، ضاحكاً من سذاجتها وراح يقرأُ مستمتعاً بِـإِسلوب وأَفكار الكاتب الذي يكن لـه حباً واحتراماً كبيرين .. بـعـد أَن قرأَ عـدة صفحات أَعاد الكتاب
إِلى جانبه ، سرحَ بـأَفكارهِ من جديد وصور الأَشياء تهربُ من ذاكرته ، إِنـه يحس بكيانه وكأَنه غير موجود ، شعـرَ بحرارة الشمس تلسعُ وجهه وصدرهُ
نهضَ وقـد كـفَّ عـن التفكير ، وراح يتمشى على أَرضية السطح محدِّقـاً في
البلاطات الحجرية المتآكلة وكـأَنهُ يراها لِلأَول مـرَّة ، ويرمي بصرهُ في كل ناحية تاركاً
أُذنيهِ تنصتان إِلى ما يجري في الزقاق الذي كان يضجُّ بالحياة ، فالأَطفال يملأون المكان بـلِعبهم الصّاخب ، وثرثرةِ النساء الجالسات أَمام الأَبواب كعادتهن كل يوم ، وزقزقةِ العصافير التي كانت تتشاكس على شجرة النبق
التي تتدلى أَغـصانها الى سطح الدار .. ظـلَّ يتمشى مصغياً بكلِّ حواسـهِ إِلى
سمفونية الزقاق فشعـرَ ببعض الإِرتياح يسري في داخلهِ ، وفـجأَةً تركَ دجاجته تتجول على السطح ، ونزل مسرعاً إِلى داخل الدار ، غسَلَ وجههُ على عـجلٍ وارتدى ملابسه الشتائية الثقيلة ، وخرج إٍلى الزقاقِ مسرعاً فصفعت وجهه نسماتٌ باردةٌ ، حـيّا النسوَةَ الجالسات قبالة دارهم وحثَّ الخطى صوبَ الشارع المحاذي للنهر المجاور لمحلتهم والذي يفضله على أَي طريق آخر ، بـعـد دقائـق وصل إِلى السوق ولم يلبث حتى وجـدَ جسدهُ
يتحرَّك وسط الـزحام الـصاخب المتحرك .. في لحظات شعـرَ وكأَن شيئاً ثقيلاً
.أَزيح مـن صدرهِ ، وأَحـسَّ أَنَّـه مـوجــود

مجلة ( الـصَّـــدى ) الـغـــراء العدد 49 / 2011

نشرت في قصة
الأحد, 05 شباط/فبراير 2017 00:02

الأخوات السبع

ربما فقط نحن العراقيون ننام على سطوح المنازل لسببين أثنين، أننا نعيش ببيوت ذات سطوح مستوية وأن قيظنا شديد يدفعنا لتجنبه قدر الإمكان.
لنتذكر كيف كانت (نومة) السطح تعني لنا متعة ما بعدها، نفرش السرير عند العصر ونقوم برش الأرض، هكذا وبسهولة كنا ننجح (بمكافحة) القيظ مستمتعين ببرودة المخدة وعذوبة النسيم. حينما كنّا نستلقي على ظهورنا، كنا نتأمل السماء السوداء ونغوص بأعماقها ونعد ونرصد حركة نجومها المتلألأة، كان يَلفت نظري (سبع) نجمات تترتب على شكل رقم 6، ولما سألنا عنها قالوا أنها... الأخوات السبعة. ورغم أنها نجوم جبارة في السماء، إلا أن ثمة أخوات على الأرض أقوى منهن وأصلب وأدهى، سنسمح لأنفسنا اليوم أن نكون بضيافتهن، بضيافة شركات النفط العملاقة المُسماة (الأخوات السبع)*.
× × ×
في بداية القرن العشرين، التقى ثلاث رجال برحلة صيد في (أسكتلندا) شمال المملكة المتحدة، ما كانت غايتهم الظفر بطيرٍ هائم في السماء ولا أرنب ضال بين الجحور، كان تصويبهم أبعد من ذلك بكثير تخَطـّوا به الجزر البريطانية والبحار حولهم، عيونهم ترنوا إلى سائل لزج أسود لا تُطاق رائحته ولا ملمسه ولا شكله، كلّ ما يميزهُ أنه... قابل للإشتعال. رجل هولندي وآخر بريطاني وثالث فرنسي خططوا لتأسيس ما يستحوذ اليوم على ربع تجارة البترول في العالم... (شِل الهولندية وبريتش بتروليوم البريطانية وتوتال الفرنسية).
برغم أننا نعلم جيداً كيف يتوزع النفط جغرافياً على الخارطة، لكن الأهم من ذلك هو كيفية توزيعه (سياسياً)، ويكون ذلك على النحو التالي... الأول يقع في أيدي العالم المتقدم، معظمه في روسيا (سيبيريا وبحر قزوين) والولايات المتحدة (خليج المكسيك وولايتي تكساس وألاسكا) وفي إنكلترا والنرويج (بحر الشمال)*. وجزءه الثاني لدى أنظمة مستقرة ومدعومة، دول الخليج والمكسيك وكازاخستان ويسمى بالنفط البارد. وثالث ساخن، إما أن يقع في بلدان ثورية كإيران وفنزويلا أو غير مستقرة كالعراق وليبيا والسودان واليمن أو بلدان أنظمتها (متأرجحة) مثل الجزائر ونيجيريا.
بإمكان (الأخوات السبع) أن تُسخن بلداناً بنيران نفوطها أو تبردها كيفما ومتما تشاء، فلو رضخت هذه البلدان كان نفطها برداً وسلاماً، وإن شقـّت يد الطاعة وعصت وتمرّدت أوقدته سعيراً تحت أقدام شعوبها، مثال ذلك اسقاط حكومة مصدق في إيران بداية الخمسينات. بهذه الطريقة وحدها هيمنت (الأخوات) على إنتاج وتسويق الذهب الأسود بالعالم!
× × ×
لما قام العراق بطرد ثلاث من الأخوات في قرار التأميم عام 1972، كانت حساباته قصيرة مدى تقتصر بالإعتماد على البنى التحتية المتاحة وإمكانية أستمرار الإنتاج والتسويق بقدراته الذاتية، وقد نجح الكادر العراقي بذلك، وقد ساعده تنامي الطلب على النفط عالمياً وعلاقته بالأتحاد السوفيتي عدو الغرب، فكسر الحصار الذي فرضته الشركات في وقته، لكن ما غفل عنه العراق، ظنه أن (كارتل) الشركات قد أستسلم ونسي الإهانة، وهذا لم يحصل، فبرغم أن فائض واردات العراق أواسط السبعينات جعله خامس أغنى بلد في العالم، أختلقت له مشاكل أضطرته أن يوظـّـفها لشراء أسلحة، إما لاستعراض قواه أمام إسرائيل أو لردع الأكراد، ثم أدى تكدّسها لتحدي إيران الأكبر منه بأربعة الأضعاف حجماً وسكاناً، فتجرء بدخول حرب معها، ولتعود أثمان النفط وبطريق أقصر لجيوب الغرب. لو كانت لا تزال هناك مصلحة للأخوات في العراق لدى قيام حرب إيران، لدفعت هذه الشركات حكوماتها لإخماد الحرب ووئد نيرانها منذ أيامها الأولى. ولكي لا نخوض في مآسي العراق وشؤم نفطه عليه، لنذهب بعيداً إلى أفريقيا، ولنا فيها مثال مأساوي يشرح بشاعة سلوك (الأخوات) هناك ويدينها بشدة.
الفرنسيون هم أول من تيقـّـنوا بوجود النفط في الشمال الأفريقي ـ في ليبيا ـ فساندوا حليفهم نظام (السنوسي) الملكي، لكن في الجزائر لم يجدوا من بُـدّاً سوى أستعمارها مباشرةً (بمباركة) الدول الأوربية الأخرى شرط ضمان أستمرار تدفق النفط لأسواقها. وحتى لما منحت فرنسا الإستقلال بعد أن قدّم الجزائريون مليون شهيد، كان شرطها أن تبقى آبار النفط المتواجدة على طول حدودهم الشرقية المتاخمة لليبيا وأنابيب نقل النفط وميناء تصديرها على المتوسط بإدارة وحماية فرنسية.
والآن لو توجهنا جنوباً وعبرنا الصحراء الأفريقية الكبرى، سنصل إلى بلدٍ لا علاقة له بصراع العرب مع إسرائيل ولا نظامه ثوري ولا يهدد موقعه بلد غربي يبرر موقف عداء له. نيجيريا، بلد غرب أفريقي فقير يقع على خليج غانا، أكثر بلدان القارة من حيث السكان (130 مليون نسمة)، تحدّه الصحراء من الشمال وخليج غانا من الجنوب ودول فقيرة من شرقه وغربه، ينبع من مرتفعاته أحد أعظم أنهار أفريقيا ـ نهر النيجر ـ مشكلاً عند مصبه دلتا غنية بالأراضي الزراعية، سكانه خليطاً من المسلمين والمسيحيين، وهي تعتبر ـ وهذا ما يهمنا ـ أكبر بلد منتج للنفط بأفريقيا.
أكتُشف نفطهم في الخمسينات في وقت أعطى نفط الأميركيان مؤشرات بإمكانية نضوبه، وصار عليهم إما شفطه بواسطة المضخات أو ضخ مياه تحته وهي عمليات مكلفة، ثم جاءت أزمة الصواريخ مع كوبا بداية الستينات لتجعلهم يبحثون عن مصدر غير فنزويلا القريبة من كوبا، يكون بعيد وأمين. كانت العيون (الزرق) ترنو لهذا البلد الأسمر الفقير ـ نيجيريا ـ وجاء دور (بعض الأخوات) في التلاعب بمصيره، غذّت أنقسامات عرقية وطائفية، موّلت حرب أهلية بين الشمال والجنوب، بين كنائس ومساجد، أغتصاب وأختطاف تنفذها أطراف تم تَسليحها بمعدات أشترتها لهم (الأخوات) بأموال نفوطهم، تـَلويث وتَدمير دلتا النهر الجميل من أجل خفض كلف الإنتاج. لقد باع هذا البلد من نفطه على مدى خمسون عاماً ما قيمته 350 مليار دولار ـ تعادل اليوم أضعاف هذا المبلغ ـ كان نصفها يذهب صافي لحساب (الأخوات) والنصف الآخر ثلثه تنفقه هذه الشركات لشراء أسلحة لجميع الأطراف المتناحرة يوزّع عليهم (بالتساوي)، وثلث ثانٍ يذهب كـُلف وبناء بنى إنتاج تحتية، والثالث أي 15% فقط من العائدات يُسلـّم بيد طغمة حاكمة فاسدة لا تخجل أن تعلن وبدون حياء إنما نيجيريا عبارة عن مركبة تسير بوقود نيجيري لكن بفضل قائدها الأوربي!
قامت (الأخوات) بمد طرق وجسور لخدمة عمليات إنتاجها، مُحرم على المواطن البسيط أستخدامها، خربت من أجلها الطبيعة وجُرفت الغابات ولوِّثت الأنهار وأضرّت بالثروة الحيوانية والسمكية وبالتوازن البيئي بشكل ملحوظ وتحت تعتيم شديد.
× × ×
هذا مثال لما تقوم به سياسة الأخوات السبعة المدعومة من الغرب والتي جعلتها سنوياً تتحرك برأس مال يبلغ 1500 مليار دولار، أكبر من مجموع خزينة بلدان يفترض أن تكون غنية كالعراق وإيران والخليج، وأضعاف دَخل أكبر منتج ومصدر للنفط (السعودية)* وما يعادل ضعف مجموع تجارة الأوبك.
هذا الكارتل الرهيب لا يتردد اليوم بقلب كرسي حاكم أو إخلائه وإشغاله بأشخاص (مفصّلة) على القياس الذي يريدوه، وهو الوجه الآخر للسياسة الرأسمالية ومثال للاتجار بمصائر الدول الفقيرة، مثلما تتحكم أمريكا اليوم بأقتصاديات بلدان بأمريكا اللاتينية (نيكاراغوا وهندوراس) المسماة مزرعة الموز الأمريكية.
وبينما يظهر اليوم ظل لهذه الأخوات، سوف يحتدم صراع وتنافس سرّي (غير شريف) لسحق من يقترب من نفوطها، فهل يمكنها مستقبلاً أغتيال التنين الصيني الشره القادم من بعيد أو أحتواء أخواته الوصيفات وهنّ يزاحمن الحصص في الكعكة البترولية (اللذيذة)*؟ فالصين تدخل اليوم بذكاء في أروقة (أوبك) في (فينا) ولها عيون وآذان في كل وزارة بترول وفوق كل حقل عملاق* يـَنتج النفط، وسيكون لديها الإستعداد للذهاب حيث يتواجد آخر برميل نفط في العالم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
× الاخوات السبع: إكسون موبيل، أيوك (حالياً آي بي البريطانية)، إيسو، كولف اويل، شيفرون، تكساكو ورويال داتش شل.
Mobil , AIOC , ESSO , Culf oil , Chevron , Texaco , Shell
× الشركات السبع (الوصيفة) التي تضع لها اليوم موطئ قدم هي (أرامكو السعودية وبتروناس الماليزية وغاز بروم الروسية وبتروبراز البرازيلية والوطنية الصينية والإيرانية الوطنية ونفط فنزويلا). وتخلو القائمة من شركة عراقية ذات نفوذ.
معلومات أضافية قد تهمك...
× يُنتج ثمانون مليون برميل من النفط الخام يومياً (برميل النفط يعادل 220 لتر) تستهلك الولايات المتحدة 25% منه، بينما يشكل سكانها 4% فقط من سكان الأرض.
× حقول العراق وإيران والخليج هي من الحقول السهلة (قريبة من سطح الأرض)، وتكاليف أستخراجها منخفضة وأقل بكثير من أنتاج البحار (خليج المكسيك أو بحر الشمال) وأقل كلفة من نفوط تُنتج وتُنقل من أماكن نائية، سيبيريا وألاسكا.
× الأوبك تنتج ثلث النفط المستهلك يومياً وهو بحدود الثلاثون مليون برميل، أما روسيا وفنزويلا والمكسيك وأنكلترا والنرويج ومصر فهي دول منتجة ومصدرة للنفط من خارج منظمة الأوبك ولا تلتزم بقراراتها.
× تنتج السعودية 10 ملايين برميل يومياً وتصدر منه 8 ملايين، بينما تنتج الولايات المتحدة 8 ملايين وتستورد 12 مليون أي تستهلك عشرون مليون.
× لدى (شل) وحدها (43 ألف) محطة تعبئة وقود حول العالم، وألوف الشاحنات الحوضية وأسطول ناقلات عملاقة مسجلة بعشرات البلدان.
× أكبر حقل بترول في العالم هو حقل (الغوّار) وينتج (خمس ملايين برميل يومياً) أي نصف إنتاج السعودية، وهو بطول 260 كلم وعرض 25 كلم وكان حين اكتُشف بالخمسينات بسعة مائة مليار برميل، ولم يتبقَ منه اليوم سوى 40 %، ويراهن خبراء شركة (أرامكو) السعودية الراعية للبئر على أستمرار إنتاجه بنفس الكفاءة وذلك بضخ ملايين ألتار ماء البحر للمحافظة عليه.
× الحقول العملاقة التي لا تزال نشطة: خريص ـ السعودية، البرقان (ثاني أكبر حقل في العالم) والروضتين ـ الكويت، بوليفار ـ فنزويلا، خوزستان ـ إيران، كاشاغال ـ كازاخستان.
× عراقنا الحبيب... الحقول العملاقة (المكتشفة): الرميلة 17 مليار ومجنون 13 مليار والقرنة 10 مليار والبزركان ـ غير محدد ـ ولم يتبقَ من نفط كركوك سوى 9 مليار لأنه أستنزف بشكل جائر بسبب عدم التخطيط وسوء الإنتاج.
× يَحرق العراق الآن 60 % من الغاز المصاحب الذي يُفترض أنه إما يُكبس كسائل للتصدير أو يُعاد للبئر للمحافظة على عدم تخلخل الضغط بالداخل.
× لنلاحظ عملية حساب غريبة: أسعار المحروقات في أوربا تخضع لمعادلة فريدة، فكلما يزداد سعر النفط عالمياً بنسبة، ترفع هذه الشركات أسعار محروقاتها (ضعف) هذه النسبة، بينما حين ينخفض السعر تقوم هذه الشركات بخفض السعر (بنصف) نسبة النزول. هذه العملية إذ تجري، فإنها تحت مرأى ومسمع ورضا الحكومات الأوربية لأنها تتقاضى نسبة 20% تقريباً من حجم المبيعات، وبالتالي فأية زيادة بالأسعار، مزيد من الدخل لخزائن تلك الدول.

نشرت في قصة
السبت, 21 كانون2/يناير 2017 23:22

رون وآسو وجانو

(رون كيرك) شاب إنكليزي وسيم يعمل مديراً لفرع شركة (ديكسون) للشحن والدعم اللوجستي للشركات البريطانية العاملة بالعراق بالسبعينات، تعرفنا عليه بعد أن أصطادته فتاة عراقية أسمها (آسو) وأوقعتهُ في شباكها خلال تواجدها هي وصديقتها (جانو) بالنادي الإيطالي بساحة الواثق. تعرفنا نحن الأصدقاء الثلاثة (صلاح وسالم وأنا) عليهما في دورة معرض بغداد الدولي عام 1978 حيث تعاقدتا للعمل كمشرفات خلال فترة أفتتاحه لقاء أجر، وبدورهما عرفنّا عليه عند تواجده لتمثيل مجموعة شركات تحت سقف الجناح البريطاني، فكوّنا معاً (كومبني) أصدقاء.
حين كنا نجلس معاً بالنادي الإيطالي أو أحياناً بنادي التعارف بالقصر الأبيض، كان يضع علبة سجائره الفاخرة (الروثمانز أنترناشيونال أو الدنهل) ويقول أن فنجان قهوة وسيجارة تعني له عدة معاني، بداية... أستمرارية... نهاية، ولادة... حياة... ممات. دخلنا عن طريق (رون) مكاتب شركته بالداوودي، وصرنا نتجول ونستخدم أجهزتهم وسياراتهم (إدخال كمركي مؤقت) الحديثة، ورافقناه كظلّه لفنادق بغداد الراقية ومطاعمها... فندق بغداد والقصر العباسي وصدر القناة والمدائن، ومطاعم الخمس نجوم... البرمكي وكولدن بليت (الإناء الذهبي) وفوانيس، وذهبنا بسفرات للملوية بسامراء وزقورة عقرقوف وأثار بابل وسدّة ديالى (الصدور) وبحيرة الثرثار...
(رون) شاب صحي ذو قوام ضخم، نشيط جداً يتمتع ببشرة بيضاء نضرة، كان بإمكانه من أجل إطفاء حر صيفنا، المراهنة بأن يحتسي عشرة أقداح بيرة بجلسة واحدة ليسكر وينطلق ويصبح بخفة الريشة. كان يكتفي بإرتداء (تي شيرت) رغم موقعه الوظيفي ورغم أن سياراتهم مكيفة ومكاتبهم مبردة مركزياً في وقت لم تعرف بغداد بعد التكييف المركزي إلا في البنوك والوزارات. مشكلة (رون) المستديمة حر صيفنا الذي يفوق تحمله، فيتحول لون بشرته أحمر وينقلب عصبي المزاج وخطير.
× × ×
في ليلة هادئة، كنا نحن الأربعة عائدون بعد منتصف الليل من سهرة (عزّابي)، وبينما كان (رون) يقود سيارة الشركة (الفولفو) قرب الجسر المعلق مقابل بدالة الجادرية، وإذا بسائق بيكب يضايقنا فيجبرنا أن نصعد بسيارتنا رصيف الجزرة الوسطية ونصطدم بنخلة صغيرة لتمتص زخم الصدمة وتُقتلع بعد أضرارها بمقدمة السيارة، نزلنا جميعاً وحمدنا الله أن الضرر كان بسيطاً بمقدمة السيارة فقط، لكن ألمنا مشهد اقتلاع النخلة المسكينة. لم نخفِ حزننا عليها، فقلتُ (لرون) أن النخلة عزيزة لدى العراقيين ويظنون أن فيها روح، وشرح (سالم) له كيف ورَدَ تحريم قطعها في شريعة حمورابي، بينما قال (صلاح) أننا كعراقيين نجدها تحمل في قمتها قلباً، مَثلها مَثل البشر،صحنا نحن الثلاث بألم... (لقد قتلناها)! لم يستغرق الأمر إلا دقائق حتى تحول هذا الرجل العملاق إلى طفلٍ صغير، وجلس على حافة الرصيف يبكي عمتنا النخلة (القتيلة).
كان سائق البيكب قد أركن سيارته وراقبنا ليقفل عائداً يتباكى على مصباح سيارته المهشم، وكان يدعي ذلك لأجل تعويضه، فتجمع بعض الفضوليين ليقسم أمامهم بأنه ضحية وأن مصباحه قد تهشم، لكن المتجمهرين سخروا منه وقالوا بأن المصباح مهشم منذ فترة، أما نحن فقد أجبناه بأن الذنب ذنبه وأنه قد دخل بسيارته أمامنا بشكل خاطئ. وهنا لاحظ أن (رون) سكران ويجلس على حافة الرصيف باكياً، مسك بهذا الأمر لحين ما وصلت سيارة شرطة، عندها أستقوى وشكى لهم السائق الأجنبي وقال بأنه سكران و(يبكي) بسبب فعلته. ذهبنا لمركز الشرطة لنجد المفوض الخفر وقد أنحاز لجانب القروي حتى قبل أن يسمعنا، فأجبروا (رون) على دفع غرامة مباشرة (بدون حق) بعد أن أستغلوا عدم مبالاته. ومع أن الأمر قد فضّ بتضرر السيارة ووفاة نخلة وعملية أبتزاز دنيئة، لكنهم لم يدعونه يغادر حتى وقعتُ لهم على كفالة بضمان سكني فيما لو يستدعوه مستقبلاً.
× × ×
آخر فترة عمل (رون)، طلب أن نذهب معه لخطبة (آسو) في شقة أهلها بعمارة بالبتاويين، وحكى لنا ما لم نفهمه، قال بأنه قد وجد فيها ما لم يجده بغيرها! كانت (آسو) قد حصلت بمساعدته على تأشيرة من السفارة البريطانية ورتبتْ مع أهلها ومع الكنيسة زواجها منه، إلا أن أبوها فاجأهم بضرورة تتبع بعض (الشكليات) أمام الجيران، وأشترط أن يأتي (رون) علناً لخطبتها كي لا يتهمون أبنته بأنها قد فرّت مع أجنبي! أجبرْنا (رون) أن يتبع طقوس تليق بالمناسبة وعلى لبس بدلة (ثري بيسز) وربطة عنق بعز الصيف وذهبنا معاً لشراء حلقة وخاتم (سولتير) وبعض ملابس الزفاف من شارع النهر وأن نأخذ (بوكيه) ورد طبيعي من (ريحانة) بالمنصور. كان (رون) سعيد جداً (بأتيكيت) وسالميات (سالم) غير مبالي بالصرفيات...
ومع أن الموقف كان محرج للغاية وكل شيء تمثيل أمام الجيران، لكن أول صدمة صادفناها أن العمارة كانت قذرة وبدون مصعد، فصعدنا سلالم الطوابق الثلاث المليئة بناس يدفعهم فضول مشاهدة هذا العريس الغريب، ومما ضاعف محنة الرجل أننا جلسنا ليلسعنا هواء المروحة بتموز. المشكلة أن (رون) يرتدي بدلة ورباط ضّبطه (سالم) بالمليم! ما أن جلسنا وسط (الهوسة) وتحت إيقاع الهلاهل والدبكات، حتى ذاب الرجل من شدة الحر وصار لونه أحمر، ثم تمدد ببدلته الجديدة على الأرض وصار يتنفس من فمه سريعاً أشبه بفاقد الوعي، أضطررنا لطرد المعازيم وحرصنا بسرعة على تهوية المكان وخلعنا عنه البدلة وغسلنا وجهه ولولا كرم الجيران ببعض (المهافيف) لراح هذا (الغول) من أيدينا!
بعد أيام عسل جاءا لتوديعنا وصمما أن نصطحبهما للمطار، أخبرَنا حينها أن بأستطاعته تدبير سفرنا للندن بأن يرسل لنا عقد عمل بشركته لو رغبنا، فضحكنا وهززنا أيدينا ليستمع نفس الجواب... (أي مجنون يفكر أن يترك دراسته وأهله وبلده... ويهاجر).
... مر نصف عام على سفرهم وجاءنا كارت ملون منهم وصورة لابنهم (بول)، باركـْنا لهم من القلب، فمولده السريع هذا قد فسّر لنا ما كان قد وجدهُ فيها، وأدركنا بأن (العالم) قد دخل فعلاً... عصر السرعة!
× × ×
في يوم جاء شرطي للبيت يسأل عني، (يا ستار يا الله، خيراً؟) سألتُ، بعد ساعة كنتُ بمركز الشرطة ليبلغوني بأن (أمانة العاصمة) قد رفعت دعوة وكسبتها ضد سائق (الفولفو) لأنه قد تسبب بقلع نخلة بتلك الليلة، وقرر القاضي تغريم (رون) بأن يدفع للأمانة مبلغين، الأول لقاء قلع الشجرة والثانية عن كلفة زراعة فسيلة جديدة. دفعت ا(عشرة دنانير) مُرغم وأمري لله، وعدت ندمان ليس على الدنانير العشرة بل على (الدموع) التي (ذرفناها) على النخلة (المرحومة)!
... كنتُ وعلى مدى ثلاث عقود لحين ما هاجرت من البلد وكلما أمر بمكان الحادث تأتي ببالي أغنية... (كل ما أمر على الدرب، عيني على الباب)*، لكن بدل عيني على الباب، تذهب عيني على مكان النخلة وأتساءل متى تفي الأمانة بوعدها وتزرع نخلة بديلة؟ لو أوفت من وقتها بالوعد وزرعتها لأثمرت اليوم، لكنها لم تفِ بوعدها، وبالتالي فهي لا تستحق دنانيري الخمسة، وعليه فأنني أطالبهم بالإسراع بشتلها وكلي أمل بأن لا يخذلوني، وإلا سأجد نفسي مضطراً لمقاضاتهم، وغداً لناظرهِ لقريبُ*!
عماد حياوي المبارك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
× غداً... ظرف زمان يعني باكر، ومجازاً فهو ظرفاً يعني فترة غير محددة من المستقبل وبحسب الجملة، بعد شهر أو سنة... وهكذا، فنقول غداً يأتي الربيع أي بعد أشهر، وغداً تصبح عجوزاً أي بعد سنين، وغداً يستقر العراق... أي بعد عشرات السنين أو ربما أكثر!
× كلما أمر على الدرب
كلمات هلال عاصم، ألحان جميل سليم، غناء المطربة الخالدة مائدة نزهت
كلما أمر على االدرب عيني على الباب
أنتظر نسمه تهب من عطر الاحباب
لما يمر الولف وتسهل الشوفة
عيني تغيب وترد ماتقدر تشوفه
والنار وسط القلب تسري لهب لو غاب

يا اللي تقول أبتعد ما أنصفت والله
شلون روض الورد والمغرم يلمه
روحي تروح وترد يم دار الاحباب
أنظر شعاع القمر لو نوّر بحبهم
وأسأل نسيم السحر لو هب عذب يمهم
واتمنى روحي تهب ويه النسيم الهاب
كل ما أمر عالدرب عيني عيني على الباب

نشرت في قصة
الجمعة, 20 كانون2/يناير 2017 20:29

تالي الليل تسمع حِسّ العِياط

لا يُفرِح الراعي ويُثلِج صدره مثلما يسمع ثغاء حمل جديد أطلقته عاريا للتو أمُّهُ التي ضاقت به ذرعا؛ بل هو الذي نفذ الصبر منه فغادر السجن الذي رغما عنه قد قُيد به، ولا يُحزِنه إلا أن يغزو قطيعه الذي بات جزءا عزيزا ممن بهم تكفل من العيال؛ ذئبٌ تعوَّد أن يفوز برأس من الأغنام كل ليلة، على غفلة منه، أو تحديا لشجاعته، وهو قد لا يشغله كثيرا أن يواظب ابنه الصغير أو البنات على الدرس بقدر ما يشغله توفر المراعى لما بحوزته من باقي المخلوقات، وليس بمستعجل أن تتزوج كبرى البنات تحاشيا لسن العنوسة مادامت هي التي أخفت حنَّاءها تحت الوسادة لتقضي رحلة كل يوم من هزيع ليله الأخير حتى آخر أنفاس النهار راعية للأغنام، والأحلام لم يعد لها متسع من الوقت، فالسعادة ما هي إلا شعور نسبي، وهي عند ( شرهان ) حضيرة أغنام يزداد تعدادها عند أول خيط من خيوط الربيع، وامرأة تشاطره الفرشة وهي الولاَّدة التي له أنجبت فصيلا من الرعيان الصغار، ومضيف عامر بما نال من حكمة وتدبير عقل، حتى غدا مقصدا لمن التبست عليهم الشائكات.
للقرية أعرافها، ولها قوانين تخصها وثَّقتها علاقات دم واحد، أو مصاهرة، وأحيانا أحلاف لمن ابتعد قسرا عن قبيلته، ومنهم من حطَّ الرحال بحكم مهنة منها يعتاش وفيها نفع للناس؛ والكل تجمعهم محبة وإخاء وحسن جوار، ناديهم ليلا بعد عناء نهار طويل مضيف شرهان ما بين حديث ديني وموعظة، أو ما يحمله من أخبار المدينة اولئك الذين منها عادوا بعد أن قايضوا هناك ما كانوا معهم يحملون، لا تتعدى زواجا لواحد منهم، أو عزاء لمن غادر إذ لم يسعفه مضمد واحد في المستوصف لا يملك إلا الماء المُقطَّر ولفافة من القطن، وأبو زيد الهلالي والزناتي خليفة كل ليلة يرويها لهم شرهان ولا يقاطعه سوى دوي كلاب القرية التي تنبأت بأن الذئب قد نال نصيبه من قطعان المساكين، والمساكين لا يشغلهم غير الذئاب، والذئاب لا تستتر إلا بالظلام، واقتحام الظلام لقتل ذئب شرس بحاجة إلى شجاع قوي القلب، حسن التدبير، يجيد الحيلة للنيل من محتال سلاحه المخالب والأنياب؛ وليس من مُرشَّح لهذا الدور إلا شرهان الذي تبرع طوعا للقيام به، سلاحه عصا طويلة من نبات برِّي، وخنجر طويل، ومسحاة، وما غير النجوم دليله وقد أدرك البدرَ السِرارُ، والظلام خير ساتر له مختفيا بين القطيع.
البرد قارس أواخر تشرين، منتصف الليل، وسط الصحراء، مُمدَّدٌ شرهان على بطنه وسط الذين يحبهم كل الحب، ومن أجلهم يجازف الليلة كي يقاتل ذئبا عاث فسادا بهم وما جاورهم من قطعان، يرهف السمع بانتظار فريسته، يهيء نفسه للضربة الأولى، أبالخنجر، أم بالعصا، أم بالمسحاة؟ ولعل الأخيرة خير ما يُبتدأ به في القتال، تمنحه مناورة بها يتمكن من خصمه دون تضحيات.
السرحان قادم، أجفلت الأغنام وفي كل اتجاه فزعت لولا أن قيدتها داخل الحضيرة الأسلاك، وفي هروبها احتمال للخسارة إذ يتفرد بواحد منها لقمة سائغة بلا عناء، وينجو من الكمين المُدبَّر له، هاهو وجها لوجه، بدمه ولحمه السرحان المطلوب حيا أو ميتا، والقرية كاملة بانتظار أن تزف لها البشرى عند الصباح، فتعلو زغاريد النسوة، أو يرقص بعض من الرجال، وكم جميل هو الرقص للسلام! وما أجمل عيشا وأهنأ ليلا للعشَّاق بلا ذئاب، سيدخل اسم شرهان التأريخ وقد تتناقل فعلته إذ قتل الذئبَ الأجيالُ، توسَّط القطيع لينتقي منه السمين، الظلام دامس، تطاير الغبار من كل صوب، على طوله استقام شرهان، بكل ما حشَّد من قوة مُسدِّدا الضربة القاتلة في الرأس، وخير ما يُختار لضرب العدوالرأس، والرأس هو المُدبِّر الذي إن ضاع ضاعت معه كل التدابير، سقط الحيوان مُضرَّجا بدمه، بلا حراك سوى النفث.
زغاريدهن جاهزة بانتظار ساعة الصفر، أطلقنها احتفاء بالفارس العائد المُكلَّل بالنصر، شرهان، قاهر الذئب الذي فجع الرعاة أكثر من مرة، وعلى ما به يفرحون يعتاش، مهوال القرية قد هيَّأ ما سوف تدور عليه خلفيات الرجال وهم بأقدام مُشقَّقة حافية يرفسون الأرض فتمتلئ غدرانها بالصعيد، وتُنشر الرايات ذات الأجراس يهزها عملاق يطاول السماء، وكما يعدو الطاعون يسري خبر مثل هذا فيما جاور من قرى وقصبات، والناس ملهوفة لا تطيق الانتظار حتى الصباح، حملوا المشاعل كالزرافات قاصدين ساحة القتال، مُبشِّرين بنصر مبين، وكلٌّ يسابق جاره كي يحظى بالنظرة الأولى لذلك الوحش الذي سرق النوم من جفونهم، وفجعهم بأعز ما يملكون.
وصل الموكب مجتمعا، والرايات خفَّاقة تلوح، زغاريد النساء تسابق الريح، والمهوال يُنشد طول الطريق بما جادت به قريحته لمثل هذا اليوم، والمهاويل حيثما مالت الرياح يميلون، شقُّوا القطيع نصفين، الحيوان مُمدَّدٌ والدم الساخن ينضح من وجنتيه، لكن ...هناك في بطنها جنين يرفس حيَّاً يُصارع الموت، أمُّ الأشعث كانت من أحبِّ النعاج إلى قلبه، شرهان.

نشرت في قصة