• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 18 نيسان/أبريل 2013 08:57

ضياع في غربة

 لقد أخذنا بنصيحة جارتنا العراقية، وقلدنا ما فعلته صديقتي سميه، وخالتها رقيه،

وقلنا لأنفسنا لماذا لا نجرب أن نفعل مثلهم؟! ونحن نراهم يعيشون برفاهية، وبأحسن حال،

 وكأنهم ملوك في قصورهم البهية الثرية!!

 

قرع جرس باب منزلنا بشكل متواصل مرعب، كصفارة الإنذار، وكأن القيامة قامت...

سألت زوجتي مرتبكاً: ترى من يكون الطارق وفي مثل هذا الوقت؟

- علمي لا يزيد عن علمك... افتح وستعرف!!( أجابت موجزة بتوتر )

نزلت من الطابق العلوي مهرولاً دون شعور وأنا في ملابس النوم، والفزع يركبني... أغمغم مع نفسي: اللهم رفقاً بنا، اللهم اجعله خيرا؟ ثم  فتحت الباب...

وإذا بميسون زوجة حازم( أصدقاء العائلة ) تدخل دون إذن صارخة، باكية، متشنجة، خائرة القوى، وهي تهذي وتزفر وتهز رأسها، قائلة:

لقد غلى مرجلي، ولم أعد أتحمله أو أطيق تصرفاته... الخائن، البشع، المقامر، المغامر الذي غدر بي دون رحمة، تباً له وليغدر به الشيطان، كما غدر بي!! وأتمت بتهالك:

رجل كثير الخداع، سريع النسيان، بلا مروءة ولا حياء أو وفاء...

نظرت لها نظرة رثاء، وقلت لها في إشفاق:

تفضلي، اجلسي هنا أرجوكِ... وبرفق أجلستها في غرفة الاستقبال؛ وهممت بمناداة زوجتي التي جاءت هي الأخرى بملابس النوم، لأن الوقت كان قد تأخر، والساعة قاربت الحادية عشر ليلاً...

قدمنا لها كأساً من الماء البارد، وجلسنا قبالتها، وقلت بلهجة الناصح، متثائباً، صريحاً وصادقاً، مبادراً في الكلام:

أرجوكِ ميسون، لكل مشكلة حل، اهدئي قليلاً، خذي نفسكِ وحديثينا عن السبب الذي جعلك تنهارين لهذا الحد؟ ( وبخبث أردفت ) وتستنجدين بنا في مثل هذا الوقت؟!

عندها انتقلت زوجتي من مكانها إلى ميسون حيث هي كانت جالسه، فمسكت بكتفها وهي تواسيها بلطف وعطف...

لكن صديقتنا انفعلت وتشنجت مجدداً وارتجفت أطرافها، وكأنها تشكو من نوبة حمى، ثم بكت بصوت عال مفضوح، فخفنا( أنا وزوجتي ونحن نتفرس وجوه بعضنا بقلق ) من أن صوتها سيقلق الأولاد في نومهم ويوقظهم...

تعرفنا على عائلة حازم في الغربة عن طريق شخص عراقي ثالث، طالما تحدث عنهم بالخير والبركة، فزادنا شوقاً، وتقنا للقائهم، حتى حصل... ثم استمرت العلاقة فيما بيننا ونضجت وباتت متفتحة، زاهية، نقيه، صادقة، لا تشوبها شائبة.

تخرجت ميسون من جامعة بغداد كلية الصيدلة، في حين كان زوجها مهندسا ميكانيكيا، رزقا بولدين وبنت وهم الآن في سن الزواج؛ تجاوز حازم منتصف الحلقة الخامسة من عمره وظل محافظاً على لياقته وصحته، وقور المظهر وله شارب يعتني به كثيراً، وكأنه يعني له الكثير!! قليل الكلام، محايد الفكر والرأي، لا يحب التحزب ويميل إلى الانطواء ويرغب في الهدوء، يتمتع بثقافة مقبولة تساعده على إدارة الحوار أثناء الجلسات...  في حين أطفئت زوجته قبل أيام معدودة- وبحضورنا وبغياب زوجها، والسبب كما قالت لنا كاذبة: عمله - شمعتها الثامنة والأربعين، طويلة القامة، عريضة الردفين، واسعة العينين، رقيقة الشفتين، كثيرة المدح لنفسها إن تحدثت، باردة الطبع، هادئة ومنطوية، كزوجها، لكنها كانت تفوقه في هذا المجال كثيراً، حتى يتخيل لبعض من يعرفها، بأنها تعاني من شذوذ ما، أو تتمتع بحالة من الكآبة المزمنة! قليلة الاهتمام بأولادها، وفيها شيء من التكبر والغرور وفي أحيان يتجاوز الحدود الدنيا، لكنها طيبة القلب، نقية السريرة، وتحب الأكل والنوم كثيراً وتفضلهما على كل الهوايات!! والحقيقة، كنا نستمتع بالحديث واللقاء مع زوجها أكثر منها...

وها هي تلمع جبهتها بالعرق، تنوح أمامنا الليلة نادبة، متجهمة، تبكي وتشتم زوجها وتقول ما لم نسمع منها من قبل مثل هذا الكلام، خاصة بغياب حازم... وهذا ما جعلني أتذمر وأصرح برأي جهرا:

يعني عذراً أخت ميسون... لا أظن من حقنا، أن نتكلم عن حازم بهذه الطريقة وبغيابه!!

- ماذا تقصد؟ ستجعلني أتضايق منك( قالت ذلك وهي غاضبة من وراء دموعها )

- كيف هذا؟ عجباً... فنحن لم نألف لحازم هذا طبعاً فيه!!

- بذعر، هادرة، متذمرة صاحت: ماذا؟ هل تكذبني؟!

- عفواً، أنا لم أقل ذلك... بل أردت أن أقول أننا وحازم أصدقاء، ولا نحب الحديث عنه بهذه الطريقة المشينة وهو غائب... هذا كل ما في الأمر.

فهمّت ميسون بالوقوف، وكأنها تنوي مغادرتنا غاضبة، لكن زوجتي تدخلت بسرعة فأجلستها وهي تقول: اصبري قليلاً، زوجي لا يقصد أهانتك أبداً، وأنت تعرفين كم نحن نحبك ونود خاطرك.

- انتفضت مندفعة بحنق مولوله: حازم لا ينقطع عن الصول والجول ولم يفد معه لا أسلوب الوعيد ولا التهديد!! ثم نوهت: ماذا أقول؟ غفر الله له! وألصقت في زوجها صفات مشينة، فظهر زوجها بهذه الصفات وكأنه الشيطان.

- رددت معقباً: لا أله إلا الله.

- أجابت باختصار: صدقت وهو لا يصدق!

- ومن هو الذي لا يصدق؟

- بتأفف زمجرت( فبدت وكأنها قد ركبها ألف عفريت ): عجيب أمرك يا أخي، هو طبعاً، زوجي حازم، من يكون غيره؟

- خاطبت نفسي هامساً: غفر الله لكِ إذن!

- ماذا تقول؟

- لا شيء، أنها مجرد غصة، تأتيني كلما تجاوزت الساعة الحادية عشر ليلاً!! ثم همست مجدداً دون أن أجعلها تسمع: أي شيء وضع الله في رأسك بدل العقل؟! ثم سألتها بحرص:

أرجوكِ، حدثينا بهدوء عما حدث بينكما إن أردتِ، لعلنا نستطيع مساعدتكما، ولكن بصراحة( وشعرت وأنا أنظر إليها بأنها تضايقت وانزعجت من الكلمة الأخيرة ) فأردفت مضيفاً، أقصد ما حصل بالضبط!!

ترددت لبرهة قصيرة، وهي زائغة النظر( اعتقدت من خلال ترددها وتأملها، بأن المسألة كانت كبيرة وخطيرة، بحيث توقعت من إنها ستخبرنا بالحقيقة كاملة، لأجل تدخلنا ومساعدتهما، وقد صدق حدسي ) حيث عدلت من جلستها وبدت بمظهر الجد الحصيف، فرفعت حاجبها الرفيع المطلي بالصبغ الأسود، وقالت شارحة وهي تهز كتفها القريب من زوجتي:

لقد أخذنا بنصيحة جارتنا العراقية، وقلدنا ما فعلته صديقتي سميه، وخالتها رقيه، وقلنا لأنفسنا لماذا لا نجرب أن نفعل مثلهم؟! ونحن نراهم يعيشون برفاهية، وبأحسن حال، وكأنهم ملوك في قصورهم البهية الثرية!!

- قاطعتها زوجتي بفضول واستغراب: هل تقصدين بأنهم وجدوا عملاً لائقاً، يتناسب وشهاداتهم أو وضعهم الاجتماعي مثلاً؟!

- بمكر لعلعت غامزة: يا عزيزتي، وزوجة أخي، لا تكوني ساذجة إلى هذا الحد من التفكير المتواضع!! أي فرص عمل وأي شهادات تقصدين؟ أنا أتحدث عن شيء آخر تماماً... ثم استمرت بطلاقة ولباقة ودون تلكؤ:

لقد قررنا بجلسة خاصة، خلت من الأولاد... واتفقنا على كل الإجراءات التي يجب مراعاتها والأخذ بها، ومن ثم قمنا بتقديمها إلى الجهات المختصة في الدولة!!

- قلت وأنا أداري إغفاءه: جلسة سرية؟ دون أولادكم؟ وقرارات خطيرة؟ ومن ثم إجراءات ومراعاة... ثم انطلقت مستفسراً بحرارة ولهفة: أرجوكِ ميسون، لا داعي للرموز، قولي كل شيء دون ألغاز، فنحن في الحقيقة لم نفهم شيئاً!! ثم وجهت سؤالي إلى زوجتي: أليس كذلك يا عزيزتي؟

- أكدت زوجتي كلامي بقولها: هذا صحيح، ثم نظرت إلى ميسون وهي توجه الكلام لها: أنا لم أفهم ما يدور في خلدك، أو ما تقصدين!!

- فتراجعت ميسون إلى الوراء، ورصت ظهرها بالمقعد التي هي جالسة عليه، وقالت بغمغمة وتردد:

أردت أن أقول... في الحقيقة، قصدت إننا اتفقنا على الطلاق، فالمميزات والمنح والرواتب والمحفزات كلها كانت أمور مغرية، لم نستطع أن نمنع أنفسنا عنها... ثم انطلقت باكية بصوت مبحوح، مخنوق، خائف ومرتبك...

- بادرتها زوجتي بكلمات طيبة، رقيقة وحاولت تهدئتها بقولها:

لا تكدري نفسك، ولا تجهديها أكثر من طاقتها، إذا كان الأمر قد حصل، فلابد من الروية والتفكير قليلاً، لكي نستطيع أن نجد مخرجاً لهذه المشكلة الغريبة، العجيبة التي أسمعها، ثم أردفت بجد وخيبة:

أنا لم أسمع من قبل بأن هناك زوجين متحابين ينفصلا بالاتفاق لقاء منح أو رواتب أو أي شكل من أشكال المادة؟! ثم قست عليها بالتأنيب والتقريظ:

كيف طاوعتك نفسك؟ ألم تفكري بأولادك عندما يعرفون؟ ماذا لو تقدم أحدهم لخطبة ابنتك مثلاً، ماذا ستقولين له؟ مطلقة وتعيشين مع زوجك في دار واحدة؟ كيف هذا؟ وصاحت زوجتي بانفعال لم أتوقع حدوثه: لقد أفسدتنا الغربة والله!!

شعرت بأن ميسون أصيبت بانتكاسة بعد أن صدمت بقول زوجتي الحقيقي، الصادق الذي لم يعن سوى ترجمة لفعلهم الطائش ذاك، فتدخلت لتخفيف الوطء، واندفعت باستكانة، وكأني اخفي جرحاً، موجهاً الكلام إلى صديقتنا: 

لكنك لم تقولي بعد، مادام الاتفاق كان برضا الطرفين، فما المشكلة؟ أقصد ما الذي استجد وجعلك تنهارين بهذا الشكل؟!

( برهة صمت ) جففت من خلالها دموعها بكم قميصها، وربما رتبت فيها أفكارها رغم اضطرابها، وعدلت من جلستها وانطلقت بجرأة وبسطوة غير متوقعة، قائلة: هذا ما جئت من أجله... ثم تابعت بلوعة:

لقد عرفت وبطريقتي الخاصة!! أنه قد استأجر شقة، وبات يسكنها ويتغيب عن حضوره إلى بيته كثيراً، وبحجج واهية، منها عمله الجديد الذي لا أعرف عنه شيئاً ( توقفت من جديد، وهي تغص بالعبرات والحسرات) ثم أضافت بصوت محشور، كالخوار:

لقد اكتشفت بأن هناك امرأة في حياته، وهو مشغول كثيراً هذه الأيام بها... بعد أن قرر الزواج منها! وهذا ما جعلني أنهار وانفجر؛ ألوم نفسي على مطاوعتي له وقبولي بفكرة الطلاق بالاتفاق، ثم علا نحيبها وبكاؤها دون شعور منها وهي ترتعد ومن بين شفتيها خرج صوتها قاصف، عاصف، كالريح:

كم كنت غبية، طائشة، معتوهة وجشعة ولم أفكر ببأس القرار ونتيجة المصير؛ لم أفكر لحظة واحدة في أولادي الذين هم في سن الزواج، وصرخت جزعة، متلعثمة ومنهارة:

لماذا وافقته؟! ليأخذني الشيطان، ولير زوجي الخائن جهنم في حياته وقبل أوانه...

ثم همّت بمغادرتنا بخطوات نادمة، ثائرة وقلبها يتمزق لوعة وندم وهي في حالة كانت أقل ما تكون بين الجنون والانتحار... دون أن نستطيع اللحاق بها... ولِمَ نلحق بها؟! وبقيت أحدق بخيالها الشارد، فغمغمت أودعها بكلمات خرجت من صدري ومن بين أضلعي حارة، ملتهبة، متوقدة بالغضب: إنكم كفر لا يطاق!! ثم همست لزوجتي وأنا أشهق وعيناي فائضتان بعد محاولات يائسة لكبح الدموع... ولا أعلم لماذا؟! بحسرة وغيظ قائلاً:

نحيا وكأننا لن ننتعش في الغربة إلا بالتنهدات؟! وساد الصمت الذائب، كالسحر، منزلنا وعم الهدوء أرجاءه من جديد، واعتبرت السكون المخيم، كالسحب في تلك اللحظات، صلاة وفضيلة...

 

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 13:11

وعاد منتصرا , مِحكَان المِهوال

المهاويل وقت الحرب أصناف ثلاث, أولها ذلك الذي يشعل الفتيل قبل أوانها بما يسوغ اضطرامها, ويشحذ النفوس كي تتهيَّأ لحمل ما بأيديها من سلاح, يزين الباطل حقا, ويقلب الحق على العكس؛ فيحشد من ذلك الوقود لنار آكلة بانتظار أن تحرق الجذر والبذر, وحتما ذلك الوقود هم المساكين؛ إما لأنهم ضعفاء, أو لكونهم جهلاء .

 

والصنف الثاني هم الطبالون, نافخو أبواقها, حين يشتد أوارها, ويُحمى الوطيس, فتُنزَف الحمراء, وُتذرَف السواخن, فتُنفخ الكروش, الأرض تفغر فاها تلتهم الضيوف, وفي ليلة عرسها تنام مع الوسادة فاتنة الحي, حوراء, على أنقاضها يغني أغاني النصر, أوالفوز المزعوم هذا الصنف من المهاويل .

 

أما الثالث فهم رافعوا رايات النصر, إن كان هناك ما يسمى النصر, إذ لا أظن أن ما بعد الحرب منتصر قط, وإن لحقت الهزيمة القوم فهؤلاء هم مَن يختلق الأعذار, ويسعى جاهدا لتمرير أن الجولة التي ستأتي سوف يكون حليفها النصر, وسلاح المهاويل بكل أصنافه نفس السلاح, ذلاقة اللسان, سرعة البديهة, مقدرة عالية على التوظيف في العبارات, وهي موهبة فائقة في الضحك على الذقون .

 

أي صنف من هؤلاء أنتَ, يا { مِحكّان } ؟ تلفت حوله كي يطمئن أن لا أحد يصغي إلى حواره الذاتي مع النفس, وهو يعلم الجواب تمام العلم : كلهم - يا محكّان - أنا, فأنا الذي يُضرمها, وأنا أذكيها, والذي يغني على أنقاضها أنا, أنا مَن يواسي أراملها, أخبطها أنا ثم أشرب بعد ذلك صافيها .

 

تفقد صفَّي الرصاص المتقاطعَين على صدره, الشواجير المرصوفة بالتعاقب حول الحزام النسيجي, مسدس مُرَصِّع الغلاف بالنجوم, حربة تتدلى ملامسة عجيزته, علَّق أطراف ثوبه على الجانبين, فأفصح عن سروال من النوع الذي يرتديه علية القوم, لابد أنه بعض مما جاد به الشيخ إكراما لذلك النوع الفريد من { رقص الحروب } الذي لم ينافسه في أدائه ابن أنثى في القبيلة قط حين تحلق الرجال يضربون الأرض بأقدام كأنها طين عام بلا غيث, يقطع الحشد طولا بعرض, يُنشد الأهازيج, يلهب الحماس في النفوس, وعند الترنيمة يقفز عاليا في الجو كأنه البهلوان, يقذف المسدس في الهواء عاليا ثم يلتقطه بإتقان كي يثير إعجاب نساء القبيلة اللائي حضرن هازجات يودِّعنَ المقاتلين, ملهبات الحماس, يستبدل شاجورا فارغا بآخر ملآن, غير مبال بأن الظروف الفارغة قد داستها؛ فأوجعتها الأقدام .

 

راية القبيلة تعني الكرامة فلا يحملها إلا فارس القوم؛ فإن سقطت لحق الفزع المقاتلين, وما من مصير لهم سوى أن يولوا الأدبار هاربين, أو مأسورين, هذا إذا لم يكن نصيبهم من الأعداء الموت, وهل من فارس أهل لحملها, شامخا بها, غير { مِحكّان } المهوال, لقد أثنى عليه, باركه شيخ القبيلة, حمَّله الأمانة بأن لا يبادر مقاتل بإطلاق النار على العدو حتى تأتي الإشارة من مسدسه؛ فيُحكَم الفخ , لا ترحموا أحدا, لا أسر للمستسلمين, واغنموا من أنعامهم ما تشاؤون, ومن نسائهم ما تستطيبون, وعليَّ ببنت شيخهم, تلك التي توهمت أنها في برجها العاجي لن تطالها قبضة { اللقيط } أرأيتم حربا شعواء على مر الزمان إلا وأشعلها اللقطاء ؟

 

المقاتلون تمترسوا في الزوارق بين أكوام القصب المتشابك, والبردي, خافضين رؤوسهم, تكاد تسمع دقات قلوبهم عن بعد, كلٌّ يُمني نفسه بما سوف يغنم من تلك الحرب, وقد يُمسي تاجرا عزيز الجاه,يستبدل على هواه الزوجات بما لا يُخرجه عن حد الشرع, وفي حال مال قلبه لأكثر ففي الدين ملاذات ومخارج لذلك كثر, غنائم الحرب ليست بحرام, هكذا قال { الملا أبو حصان } لا سيما أن بلعومه سوف يُدهن ببعض مما يعود بهم الغانمون, أصابعهم على الأزندة بانتظار طلقة البدء من حامل الراية, الفارس المغوار, شجاع عصره, مِحكّان .

 

الرجال محاصرون من كل جانب, وكيف يبقى ليثا حين يُحاط غيلُهُ الليث, الكثرة تأخذ أشجع الشجعان, على رأس الواحد منهم ثلاثة أو أكثر من الخصوم, مَن لم يُقتل بالرصاص كان نصيبه قطع الوريد, أو التمثيل به وهو حي, فالثأر ثأر, ولا أخلاق في الحرب, القاتل لا يقطع الوقت كي يراجع نفسه أباطلا أم عدلا كانت تلك الحرب ؟ ألا لعنة الله, والكائنات جميعا على كل حرب, باللسان كانت, أم بالسيف .

 

تنادت على عجل قطعان الغربان مبشرة بعضها بصيد غزير, جثث تطفو على مياه طعمها مرٌّ, زوارق غاصت معانقة طمى الهور الغامق اللون, الخضيري توارى هاربا خلف السحاب صوب بلاد الثلج, القصب اغتاض فلم يَجُدْ بالذوائب لتعزف النايات, ومنه تُشيَّد الدواوين .

 

زورق وحيد, مقلوب, تقاذفته الريح لتصبغ قاره الأسود بحمرة الدم المُسال, هو الشاهد الوحيد على مذبحة الإنسان في تلك البقعة من الأرض, يد ترتجف وهي ترفع واحدا من جانبيه, أطل برأسه ليأمن أن لا موت بانتظاره مثل رفاقه الآخرين, امتطى الزورق معتدلا, جمَّع ما خلفه القتلى من عتاد, خضَّب الراية من دماء الرفاق, أعاد ترتيب صفي الرصاص, فأطلق الرصاص, والأهازيج, بالراية لوَّح راقصا, مُبشرا بالنصر, مِحكّان . . .

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 17:07

العنقاء تشتهي العصافير المسيحية

 الى أرواح الشهداء الخالدين, إلى الطلبة الذين توجهوا صوب العلم, ليهزموا الظلام,من سهل نينوى إلى مقاعد النور, فكانت لهم العنقاء بالمرصاد

 العنقاء تشتهي العصافير المسيحية

لم تمنعه لفافة شاش أبيض غطت وجهه حتى عينيه, ولا مخرز للمغذي اخترق الأزرق القاني, ووسادة قليلا ارتفعت لتسند الساق المطوقة بالجبس, أو نوبات الوجع

القاتل بين الفينة والأخرى من جهة الضلع الأيسر؛ بل ذاك الهرج والمرج فيما حوله الذي لم يميز منه شيئا سوى صرخة عانقت عنان السماء من أم عثرت على ابنها بين أكوام اللحم المكدسة في باحة مستشفى الحمدانية, وتلك الصغيرة التي انكفأت على ظهرها وقد تزحلقت ببركة الدم بين أسرة الجرحى, تفتش فيهم عن والدها سائق باص الجامعة إذ دس في جيبه علبة الحلوى التي تحبها, كعادته اليومية, من أسواق الموصل, ولأختها قد علَّق فستان الحفلة الكبرى. لم يمنع ذلك نوئيل من أن يقبض, بكلتا كفَّيه, بما أوتي من عزم على قميصه المخضب بالأحمر, رغم جرعة المخدر المحقون بها, القوية

 

أيها الأوغاد, يامن غادرت فيكم آخر قطرة من حياء البشرية, وتلبست أرواحكم من أسماها المندائيون { الروهة } روح الشر, وأم الظلام, خلعتم جلابيب الإنس وارتديتم بزات هولاكو فيما بعد القرن العشرين, أيتها الأفاعي القاتلة التي تشرب من أعشاش العصافير أفراخها, وصالح وحده لا يكفي كي يدعو ربه أن يهلك العنقاء, ونسل العنقاء, فصالح اليوم لم يعد كما كان, ولم يعد مجديا دعاء الصالحين قط, ولا صلاة الضعفاء اليائسين تكفي لأن تخلص العباد مما ابتلاهم به امتحانا للصبر الرب

ماريا, يا زهرة الأقحوان في الخميلة, وروحا قدسية تطوف على المعذبين, سنديانة ظليلة الفروع, حمامة بيضاء تشيع المحبة, يا أما حنونا تشيع المحبة,فهل ما زلتِ حيَّة ؟ أرجوك من كل قلبي أن تبقي حيَّة, أيها الرب أرجوك أن تبقيها حيَّة, وإن كان عندك الفداء مقبولا فخذ روحي بدلا منها؛ بل اجمعنا عندك إن أردت لنا الجمع جوارك سويِّا

ماريا, أمسِ قبل نومي لثمت جهاز عرسك, فستان أبيض مثلك, مثلك إكليل ورد, أساور, أقراط, خلاخيل موصلية, لم يبق إلا القليل يا حبيبتي, أيام معدودات نصطف, أنا وأنت وغيرنا, على المدرج الجامعي بزي التخرج, وكم هو حلو عرسنا في نشوة الحب, وقطف الثمار البهية, باتت حتى الفجر أمي تغني ترانيم عشق عراقية, شمالية, جنوبية, شرقية, غربية, ووالدي أشعل الشمع في المحراب متمتما دعوات صمت صميمية, جارنا الطيب, إيشو, سخَّن الطبل والمزمار, وارتدى قبل الأوان لباسا بهيِّا, صبايا الحي, يا حبيبتي, أحضرن صواني الحناء, والأمنيات, وما يستعرضنه قدام شباب الحارة, والعانسات صبغن الرؤوس, وزينَّ الوجوه, واخترن الأماكن, أما القس فعلى جمر يعد الدقائق حتى نعود اليوم فيكتب في سفر الأمة أن الجسدين في ذات الروح انجمعا, والماء سيبقى, غصن الياس سيزهو, في ظل النخلة طول العمر سيحيى, نوئيل وماريا

 

لا تموتي, أرجوك, فأول الراقصين بموتك الأوباش, أرجوك, ماريا, لا تموتي, أرجوك, ففيه تأكل الحب الذئاب, والدنيا يغادر الخير أهلها , تجف الجداول, تعمى المنابع, والثمار تذبل أزهارها, الغيث والبحر في خصام, والمحار يلفظ اللآلئ , الوالدات يفطمن الصغار مبكرا, ستخرس النوارس إن مُتِّ يا حبيبتي, والعنقاء تعاود الكرة, تخطف الكتاكيت في قمم الرواسي, فالعنقاء يا حبيبتي لا تستطيب لحما غير لحم الأنقياء, ولا تهدم عشا غير أعشاش الاتقياء, هي نفس الروهة التي شربت بالأمس دماء المندائيين سمير الصادق, وستار خضير, لا تموتي, أرجوك ماريا

 

السرير اهتز بعنف, على الأرض حمالة المغذي المتهالكة انهارت, الوسادة انزاحت من تحت ساقه المكسورة, تخشبت قبضته على قميصه الذي أخفاه تحت رأسه, أرعبت صرخته قاعة المستشفى حتى خُيِّل للحاضرين أن بعض الجرحى قد فارق الحياة, لا سيما أن بعضهم كان بليغ الإصابة, وجلهم طلاب جامعيون قصدوا العلم ليهزموا الظلام, فاحتج على فعلهم الظلام منتقما, وهل للظلام غير الدمار من سلاح ؟ وهل يخاف شيئا قدر خوفه من النور؟ شباب بعمر الزهور, أحلامهم لا تصدها أسوار, ولا تحدها حدود, في بلد بناه أجدادهم, فعلموا الدنيا أن الحياة بلا حب ليست بحياة, والرافدان ما كان أجاجا ذلك الذي ارتوى منه الزرع والضرع, وفيه تعمَّد أحباب الرب الحي العظيم

عاود الكرة صارخا, ماريا لن تموت, أبدا لا تموت ماريا, يد حنون مسحت على لفافة الشاش حول رأسه, قبضت بلطف على كفه الذي تيبست عليه بقايا بقع الدم, كفَّ عن الصراخ, القس { أبلحد } حاول فتح قبضتها, شال حريري ناعم داعبته أنامله, إنه شال ماريا, شالك هذا ماريا, يا قوم, هو ساخن,لا محالة هي حيَّة ماريا, حاول النهوض رغم آلامه, أراحه قليلا للخلف, من يده انتزع القميص, علبة صغيرة في الجيب, خاتم, سلسلة, صليب, رقعة صغيرة : من نوئيل إلى ماريا, كي تستمر الحياة, والماء, والحب, فتهرب العنقاء

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 08:02

اللطلاطه - الجزء الثاني

حيهن

 إلى الشرق من ميسان حيث هور الحويزة يصب نهر الكرخة، وعلى منتصفه تقع مدينة الحويزة، والتي تبعد حوالي 90 كم عن الأحواز شمال غرب مدينة المحمرة .

كانت الحويزة عاصمة الدولة المشعشعية في أيام المغول. أبدل اسمها الإيرانيون اليوم إلى( دشت ميشان ).

في هذه المدينة الكبيرة تقاسم بعض المندائيون العيش مع أهلها العرب من عشائر طي. ولكون المندائيون رعايا دين توحيدي قديم، ورد ذكرهم في القران الكريم ، تسامح الجميع معهم ، وتركوهم يعيشون يسلام. في الحويزة، فشيدوا لهم معبدا فيها ( مندي ) وكانوا يمارسون طقوسهم في الإرتماس في نهر الكرخة بكل حرية. وكانوا يرددون اسم الله في تلك الطقوس بلغة أخرى هي المندائية. تلك اللغة التي كانت سائدة في تلك الأصقاع قبل الفي عام عل الأقل .

في تلك المدينة ولدت حيهن في أوآخر القرن التاسع عشر، أو في بدايات القرن العشرين. أبو حيهن رجل الدين المندائي الأكبر في تلك الأصقاع، وكان أنشأ بعض أولاده على طريقته فأصبحوا رجال دين مرموقين هناك قبل أن يهربوا إلى العراق بعد أن فشلت ثورة الحويزة ضد الظلم الفارسي عام 1928، وبعد أن تعرضوا للقمع والإبادة، حيث لم يشفع لهم توحيدهم أو مساهمات أجدادهم في بناء الحضارة في تلك الأصقاع.

ربما كان ( بار أنوش) أحد الأجداد الأوائل لحيهن، والذي عاش في الأهواز في عهد الملك شابور. أشاد بار أنوش، هذا الرجل المندائي جسرا على نهر الكارون طوله 435 ذراع، وعرضه ستة أذرع، وبفتحات بلغت 15 فتحة في مدة لم تتجاوز الثلاث سنين . 

استقدمت حيهن بعد أن ترملت أمها لتعيش معها في دار واحدة في اللطلاطة. فأصبحت تلك المرأة الوافدة ( طبيب) اللطلاطة والقرى المجاورة، بما لديها من تجارب في معالجة بعض الأمراض، وبما تملكه من الخرز والأحراز التي كانت تساعد بها النساء الحوامل وغيرهن. ولكونها محسنة للجميع وتتكلم اللغة الفارسية إضافة إلى العربية أضفى عليها هاله من التبجيل ذاع صيتها بعيدا.

كان أخوة حيهن وأغلبهم رجال دين، يحيطون بها ويساعدوها في عيشها كأرملة، بعد أن استقروا معها في اللطلاطة .

عند الحديث عن مناخ العراق، كان معلم الجغرافيا يلقن التلاميذ الصغار، أن العراق ( حار جاف صيفا وقارص البرد ممطر شتاء ).

نعم الشتاء هناك بارد جدا، وبيوت الطين وإن كانت ممتازة في فصل الصيف، إلا أنها لا تحمي ساكنيها من برد الشتاء. مما يضطر الناس في الليالي الشديدة البرد

إلى استخدام مناقل الحطب للتدفئة، والنوم تحت أغطية ثقيلة ذات ألوان وزخارف هندسية رائعة كأنها السجاد تسمى الواحدة منها ( إزار ركم ) .

كانت العائلة في بيت سلمان تنام في الغرفة الواقعة على الشارع الموازي للنهر، أو قل كورنيش اللطلاطة، وكانوا يدخلون البقرة ( الدبسة ) في تلك الغرفة الواسعة لتنام معهم خوفا عليها من البرد، ومن اللصوص اللذين أخذوا يغيرون على القرية من حين لآخر. 

كان موقد النار يتوسط الغرفة الواسعة في بيت سلمان، في ليلة شتوية قارصة البرد. حطبه كرب النخيل، وبضعة أغصان من التوت، أخذت ناره ترسم لوحة بألوان قانية الحمرة بعد أن انقشع الدخان وتوهج الجمر.

غط الأطفال في نوم هادئ، وظلت حيهن وأمها يقلبن الأمور في حديث هادئ، عن مستقبل الأسرة، وكيف سيدبرن إعالة الأطفال بعد أن رحل سلمان .

كان للصوص تلك المناطق طريقة خاصة شائعة بينهم في السطو على البيوت. يدخلون الدور من خلال فتحة، يحفرونها في الجدر الطيني بخناجرهم المشحوذة دائما، يدخل اللص مؤخرته في تلك الفتحة خوفا على رأسه ممن قد يتربص به، ثم يدخل كامل جسمه، وبعد أن يطمأن يسرق ما يجده في تلك الدار، وما يقدر على حمله ويخرج من الباب الرئيسي، المقفول بمزلاج خشبي يعصى فتحه على الداخلين للدار لا الخارجين منها، وسكان الدار يغطون في النوم تحت تلك الأغطية الثقيلة .

استغرق حديثهن وقتا طويلا مع أمها، فالمشاكل معقدة والحديث يتشعب ولم يبقى من الليل إلا الهزيع الأخير .

وعندها سمعت حيهن نقرا على الجدار، ثم تأكد لها أن أحدهم يحفر فيه. قامت بهدوء وأحضرت محراث التنور، وهو سيخ طويل من الحديد يستخدم في تحريك الجمر داخل التنور لتنضج الأرغفة فيه. وضعته في الموقد وزادت الحطب عليه واستمرت بالحديث مع أمها التي لم تسمع منه شيئا بعد أن غلبها النوم وراحت تشخر بصوت مكبوت.

استمر الحفر في الجدار طويلا فالجدار كان عريض وطينه مداف جيدا بالتبن فتماسك جدا وحيهن تنتظر بقلق. أخذ السيخ يحمّر تحت وهج أغصان التوت الذي غطت شجرته وسط دار سلمان. 

بعد أن أنجز اللص المرحلة الأولى من عمله، وظهرت فتحته صغيرة في أسفل الجدار، تسللت منها خيوط القمر البيضاء، راح اللص يدس مؤخرته فيها ليلج الدار على عادته، حالما بصيد ثمين. بعد أن أدخل كل مؤخرته في تلك الحفرة الصغيرة، وقبل أن يدخل باقي جسمه، أخذت حيهن السيخ المحمر وراحت تكويه على مؤخرته بكل قوة وثبات، أخذ اللص يصرخ من شدة الألم محاولا الفرار.

لم يخرج اللص من تلك الورطة إلا بعد أن أيقظت رائحة الشواء أم حيهن، واختلط صراخ الصغار المرعوبين بصراخ اللص.

تركت حيهن اللص يهرب ولم توقظ الجيران، وأعادت الأطفال إلى فراشهم، وأغلقت الفتحة بحقيبة حديدية كبيرة كانت تضم بعض أدواة عمل سلمان وكأنها تعاتبه .

انتشر الخبر في اليوم التالي في المدينة كلها، ولم يجرأ بعدها أحد من اللصوص بدخول اللطلاطة. 

بعد تلك الحادثة عرض عليها أحد إخوتها بالانتقال للعيش معه، لكنها أصرت على أن يظل بيت سلمان مفتوح.

أراد ابنها الكبير قاسم ترك الدراسة، والتي قطع فيها شوطا كبيرا، ليعمل ويعيل العائلة. ولكن حيهن أصرت على إرساله إلى بغداد ليكمل تحصيله في كلية الملكة عالية، والتي ذاع صيتها بعد أن ينهي تعليمه الثانوي.

أخذت حيهن تشتغل هي وابنتها يساعدها الصغار في نسج الأطباق من جريد النخل، وصنع الحصران من سعفه، وبناء التنانير من الطين، وغزل الصوف، وحياكة الهمايين? وخياطة الرسته ، وغيرها من الأعمال التي كانت توفر دخلا شحيحا. لكن الحياة كانت تجري، وبمساعدة البستان والبقرة الدبسة التي كانت ساهمت بشكل جدي في توفر الحد الأدنى من العيش.

أنهى قاسم المرحلة الثانوية من الدراسة بتفوق، فأصرت حيهن على إرساله إلى بغداد ليحقق طموحه وطموح الأسرة، وليعيد اسم سلمان إلى الواجهة. 

كانت تزور اللطلاطة في تلك الأيام، ومن حين إلى آخر مستشرقة وباحثة في الأديان القديمة انكليزية الجنسية، وكانت تقضي الساعات الطوال في متابعة طقوس المندائيين وتتعلم لغتهم وعاداتهم. وخلال زياراتها، كانت تسكن في موقع الحامية البريطانية المبنية في الجهة الأخرى من النهر. 

كانت الليدي دراور ( وهذا اسمها) تطلب من قاسم أن يجلب لها قنينة حليب من الدبسة كل يوم، وكانت تغدق عليه العطايا. وتستعين بإنكليزيته البسيطة في التفاهم مع الآخرين في اللطلاطة، قبل أن تتعلم هي العربية. كتبت هذه الباحثة أهم الكتب عن الدين المندائية وعن هذا الشعب المنسي، وكان الكل هناك يستقبلونها دائما باحترام شديد، فكان يفرد لها كرسي في وسط مندي اللطلاطة، تظللها شجيرات الياسمين ، ويحيطها ورد الجوري البري الذي يغرق الجميع بعطره الفواح. 

لم يكن العيش سهلا على الرجال في اللطلاطة، فلم تتوفر لهم فرص للعمل في المدينة عدى بعض الحرف الصعبة كالحدادة ونجارة الزوارق والقلة منهم وجدت فرصة العمل في مجال التعليم . وهكذا تغرب الغالبية منهم في البصرة أو في دول الخليج يحثا عن الرزق.

حاول عبد الرزاق وهو أخو قاسم الأصغر، أن يجرب حظه في السفر أيضا . ترك اللطلاطة ، قاصدا مدينة البصرة وهو لا يزال غلاما . ليعمل هناك من أجل أن يشبع بطنه بعد أن عجزت الأم الأرملة في إطعام كل الأفواه التي كانت لم تعرف الشبع يوما .

كان يضحك دائم فلم يحزر أحدا قدر ألمه عندما روى لأمه ذات مرة كيف أن الذين عمل صانع عندهم في البصرة. يضعون مائدة الغداء ظهرا بعد ساعات من العمل الشاق . فتمتد العديد من الأيدي القوية إليها مسرعة . أما هو فكان يجد صعوبة في الوصول إلى قلب المائدة التي توسطتها سمكة مشوية تناهشتها أيدي الكبار. فيلملم ما كان على الأطراف منها في لقمته . 

وقبل أن يشبع بطنه يأمره الأسطى بجلب كوب من الماء ليدفع به الغصة . فيعود صاحبنا بالماء وعندها تكون المائدة أخليت تماما . فيأمرونه برفعها ليتكرر ذلك في اليوم التالي والذي بعده إلى أن هرب من عقاب ( تعلم الصنعة ) .

كان الكبار يعودوا إلى اللطلاطة بالمناسبات محملين بالهدايا، والتي كانت تدخل القرية لأول مرة، فلم تعرف اللطلاطة السجاير مثلا، ولم يكن فيها من يدخنها أصلا، فكانت علب سجاير (بلايرس) المعدنية والتي يصرّ غالبيتهم على جلبها ريبما إعجابا بصورة البحار الملونة التي طبعت على العلبة بإتقان، تفرغ تلك العلب في اللطلاطة من السجاير لتتحول إلى صناديق لبعض الحلي ولوازم الخياط من أبر وخيوط وأزرة. أما السجاير فيفرغها الأطفال من التبغ وتتحول إلى فرارات.

الكثير من الهدايا وخاصة المرسلة للعائلات فلا يعرف أحد طريقة استعمالها، فراحت النساء تلبس القمصان الداخلية الحريرية فوق الملابس ليتفاخرن بشرائط الدانتيلا التي تزين حواشيها، أما حمالات الصدر فكانت تستعمل في اللطلاطة كواقيات لرفع القدور الساخنة، وكان صبغ الأظافر يستعمل في الشعر أويستعمل كعطر، وعندما ما وصلت حبوب الفاصوليا أول مرة، قامت النساء بطحنها وأطعمها للأبقار.

كان أحدهم قد جلب لأولاده (غراموفون) مع اسطوانات غربية مختلفة ، فأصبح مفخرة اللطلاطة الأولى، وراحت الموسيقى تسمع في القرية لأول مرة، ولكن أولاد ذلك الرجل كانوا يمنعون بقية الصبية من الاقتراب من الدار كي لا يستمعوا إليها. ولكن الحضارة أخذت تقتحم تلك القرية بإصرار مع الأيام. 

لم يعد يشغل حيهن وسكان اللطلاطة إلا مسألة الحصول على سندات ملكية الدور ( الطابو) بعد أن ازدهرت القرية وأصبحت محط أنظار الجميع.

كانت رسوم التسجيل ( الطابو) تلك الورقة السوداء السحرية باهظة الكلفة في ذلك الوقت، وتتطلب معاملة خاصة في دوائر التسجيل العقاري في مدينة العمارة مركز اللواء. 

قام السكان بحملة تقشف لتوفير رسوم الطابو، والتي بلغت ثلاثة دنانير وسبعمائة فلس. و بعد أن جمع المبلغ، كلفت القرية قاسم بإيصال هذا المبلغ إلى أحد المعارف، والذي يسكن مدينة العمارة. 

بعثوا له مع قاسم الذي سيسافر إلى بغداد رسالة، وحلانة? من التمر النادر، وكيس من الكليجة، وكل الأوراق والوثائق المطلوبة.

بعد أن وصل قاسم بمشقة إلى سوق العمارة في طريقه إلى بيت أبو علوان وحلانة التمر قد هدت كتفه وهو يجرجر بحقيبة سفره. وعند مروره بالسوق ، وبعد أن أجهدت الحلانة كتف سلمان، وزاد به العطش، استجاب لنداء بائع اللبن الذي افترش الدرب وسط السوق، فوقف بجانه، فكف هذا عن صراخه في منداته الغريبة على بضاعته ( ماي دجلة، ولبن عجله، واليشربه يشيل رجله)، شرب قاسم طاسة من لبن العجلة وكان نصفها من ماء دجلة، ودفع ثمنها ثم شال حلان التمر، وواصل البحث عن بيت أبي علوان.

طرق قاسم الباب فاستقبلت الحلانة بترحاب كبير، وحل قاسم عندها ضيفا عزيزا في بيت أبي علوان. تسامر الرجل مع قاسم مرحبا به، وأخذ منه الدنانير وكافة الأوراق وتعهد له بأن ينجز المعاملة بسرعة، ويوصل السندات لأهلها قريبا بيده مباشرة إن شاء الله .

نام قاسم ليلته تلك مطمئنا،فقد انزاحت الحلانة من على ظهره، والنقود وصلت للشخص المطلوب، ولم يبقى له إلا الحلم ببغداد ومباهجها وببنات بغداد.

من الصباح الباكر غادر العمارة في سفرة طويلة وشاقة على متن حافلة تجر نفسها بصعوبة إلى بغداد. تلك كانت سفرته الأولى إلى خارج حدود العمارة.

عاد قاسم إلى اللطلاطة بعد عدة شهور، ليقضي عطلته الأولى فيها، بعد فصل دراسي مرهق، قطع الدرب من قلعة صالح إلى اللطلاطة ماشيا بين البساتين، سارح بفكره يستعيد ذكرى أيام الطفولة، وعندما وصل القرية تجمع حوله جميع من كان فيها يومئذ، وحتى قبل أن يصل الدار، سائلين قبل كل شيء عن أوراق الطابو، وعن مصير النقود والأوراق التي أرسلت معه منذ عدة أشهر، وضحت الصورة لقاسم، ووضح سبب هذا الأستقبال الغاضب من سكان القرية له، بعد أن علم أن نقودهم قد تحولت إلى طابوق في واجهة بيت أبي علوان الجديد، في وسط العمارة، ولم يعرف مصير الأوراق بعدها.

سببت تلك الحادثة ألما موجعا لقاسم، وإحراجا كبيرا لحيهن، وظلت اللطلاطة مسجلة في دوائر الطابو، ولا يملك أصحابها سندات التمليك إلى اليوم .

لم يستطع قاسم الصمود في بغداد لأكثر من سنة بسبب فقره المدقع فعاد إلى قلعة صالح ليعمل معلما في مدرستها الوحيدة.

عندها تبدلت الحال وتركت حيهن العمل الشاق واكتفت بحياكة (الهمايين) ولغرض المتعة وتمضية الوقت، وأخذت الأسرة تعتمد على الراتب الشهري الذي يتقاضاه قاسم من مديرية المعارف.

عاد قاسم إلى قلعة صالح وقد غيرته بغداد. فعاد منها محملا بأفكار جديدة كانت هي السبب في هجرهم اللطلاطة والتشرد في القرى النائية، وفي معانتهم القادمة.

ظلت حيهن تنتقل مع قاسم من قرية إلى أخرى حتى سكنت بغداد، بعد أن تزوجت ابنتها هناك، وبعد أن انتقل قاسم إلى بغداد ليدّرس في مدارسها. وهكذا حرمت حيهن من النعيم والأمن الذي كانت توفره لها اللطلاطة .

لم تستمر أيام السعادة في بغداد طويلا، فقد أعلنت الأحكام العسكرية فيها، بعد مظاهرات صاخبة تحولت إلى وثبة عارمة كادت تطيح بالحكم، وأعتقل قاسم بسبب دوره فيها، وبسبب أفكاره التي ظل يبشر بها أينما حل. لقد كان قاسم أحد الدعاة المزمنين ل(جمهورية افلاطون) .

جرت محاكمة قاسم في محاكمة سميت ب (محكمة النعساني)، والتي كانت مهزلة مضحكة وليست بمحكمة، فبعد أن جلبت مجموعة من المعتقلين وقاسم بينهم مقيدي الأيدي إلى تلك المحكمة، راح الحاكم ينطق بالأحكام على صف الشباب الذي اصطف أمامه، والذين لا يعرف أسماءهم حتى، وكان فيهم شابا طويل القامة وقف في الوسط،، فتليت الأحكام ، وكانت:

من الطويل وإلى اليمين سبعة أعوام سجن مع الأشغال الشاقة، ومن الطويل وإلى اليسار، عشر سنين سجن مع الأشغال الشاقة، فحار الطويل في أمره، فسأل الحاكم مع من هو؟ فأعطاه القاضي خمسة عشر سنة سجنا مع الأشغال، وكان قاسم يقف على يسار الطويل، فكان نصيبه عشرة سنين، قضاها في سجن نقرة السلمان وسط صحراء السماوة. 

وهكذا عادت حيهن إلى الفقر من جديد، وعادت تصارع جوعها، ولكنها كانت الخاسرة في صراعها الجديد، بعد أن تبدل سلاح المعركة، فلا حصران ولا همايين في بغداد. 

دفعت الثمن غاليا من عوز وجوع، وحرمت صغارها من التعليم، ودفعتهم للعمل قبل أن يشتد عودهم، فراحوا يذرعون الشوارع بحثا عن لقمة العيش، والتي تطالعهم على خجل.

إنتقلت عدوى الأفكار ( الهدامة) إلى أولاد سلمان الواحد بعد الآخر، وظلت حيهن تحمل همومهم إلى أن توفاها الله.

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 03:58

اللطلاطة الجزء الأول

سأتجاوز المقدمات، والديباجة، وغيرها من أساليب الكتابة المتعارف عليها، والتي لا أتقنها مع الأسف في سرد أحداث هذه القصة.

 أسرد عليكم قصة سلمان بحيادية تامة، فلست متواطأ أو منحازا إلى أي فصل من فصولها، كلما في الأمر، هو إنني أقرب إلى أحداثها منكم، وكنت أنفعل مع أداء أبطالها إلى حد الشهقة، ولكنني ومع الأسف لا أستطيع تبديل الواقع، إنه القدر. ولكون الأقدار تدون بعد الحدث دائما فأنها صادقة تماما وبدون نقاش. وقدر سلمان إنه ولد في نهاية القرن التاسع عشر كما يقال .

 وهكذا أضيف اسم سلمان للملايين الثلاثة التي كانت مجبرة على العيش في بلد اسمه العراق.

 لا يغرنكم اسم العراق، وألقابه الرنانة، مثل أرض السواد، وبلاد ما بين النهرين، أو مهد الحضارات، أو موطن الخلافة وغيرها. فهو لم يكن إلا بلدا بائسا ومنذ القدم.

 ولسوء طالع سلمان، إنه عاش في أسوأ حقبة في تاريخ هذه الرقعة من الأرض التي اسمها العراق.

 كانت الزراعة في تلك الأيام هي المورد الأساسي الذي يعتمد عليه الناس في قوت يومهم. وعلى الرغم من المساحات الزراعية الواسعة، والأرض الخصبة التي ترويها أنهار خالدة، فكان كل ما يزرع من الأرض، هو جزء صغيرا جدا لا يتعدى سبع الأراضي الخصبة القابلة للزراعة.

 يذهب نصف محصول ذلك الزرع إلى المستعمرين الأتراك، على شكل ضرائب وإتاوات، ثم يتربع الإقطاعيون، مفترشين الأرض لتقاسم النصف الثاني. فيأخذوا ما استطاعوا أخذه من المحصول الذي سقي بعرق الفلاحين، هذا إذا سلم من غزو أسراب الجراد. وبعد ذلك يرمون بما تبقى من هذا الفتات إلى الملايين الجائعة والتي كان الموت يلاحقها دائما على شكل جوع وطاعون وجدري وكوليرا، أو على شكل فيضانات لا تنتهي وإلى آخر وسائل الموت الجماعي.

 بعد أن تعب إله الموت من لهوه في قتل الآلاف في فيضانه عام مولد سلمان، والذي لم يقتصر فيه على قتل البشر، وإنما قضى على المزارع والبساتين. فبعد أن قتل البشر وأباد مليون نخلة، راح يأخذ قسطا من الراحة.

 وفي هذه الفسحة من الزمن الصعب، يجد سلمان فرصته في الولوج إلى هذا العالم ليزيد فيه عدد البائسين بائسا آخر .

 لا أعرف كيف استطاع مخرج هذه الدراما أن يأتي بسلمان في تلك الفترة الرهيبة بالذات؟ ولم أجد تفسيرا مقنعا في إعطائه فرصة العيش والعمل لا بل حتى تعلم القراءة والكتابة. في الوقت الذي لم يجد فيه الناس ما يقتاتون به. فلم يكن في عموم العراق كله سوى 160 مدرسة، بما فيها المدارس الخاصة والتي استأثرت بها مدينة بغداد والمدن الكبرى .

 شب سلمان طويل القامة. قوي البنية . شديد السمار ككل العراقيين الأقحاح. ولما أصبح رجلا غطت وجهه لحية كثة* لم تبقي من معالم وجهه، سوى عيون حادة الذكاء وأنف تخطى الحجم المعتاد.

 

كانت تربية سلمان الدينية صارمة. فقد كان ينزل النهر كل يوم في الصباح الباكر ليرتمس فيه ثم يتوضأ ويقيم صلاته، ولم يمنعه برد الشتاء القارص ولا صيفه المغري بنوم الضحى.*

 

رغم هذا الورع وهذا الزهد، كان سلمان شاعرا غزلا، وفنانا لم يجد فرصته في ذلك الزمن الصعب.

 

اقترن صاحبنا بفتاة اسمها حيهن. وكانت هي الابنة المدللة الوحيدة لرجل الدين الأكبر في مدينة عربية كان اسمها ومنذ القدم (الحويزة) قبل أن يبدل الفرس اسمها إلى ( دشت ميشان ). كان ذلك في بداية القرن العشرين،لا أحد يعرف بالضبط متى وكم كانت أعمار العروسين، ولكن ابنتهم البكر ولدت عام 1917 ، وإذا أخذنا بالاعتبار أن زيجات البنات كانت تتم مبكرا في تلك الأيام فإن حيهن ربما ولدت في مطلع القرن العشرين.

 

كان زواج سلمان بعيد جدا عن غزله ومشاعره المرهفة، وكأنه أراد بتلك الزيجة أن يضمن وسيلة مؤكدة للتقرب بها إلى الله.

 

راحت حيهن تنجب له الأطفال بفترات متباعدة. فقد كانت دائمة الخصام معه. لفقر حاله قبل كل شيء ثم لترحاله الدائم سعيا وراء الرزق. والذي ظل شحيح على الرغم من سعيه ومثابرته وتعدد مواهبه.

 

لقد تميز سلمان على أقرانه في إجادته الصنعة، فكان صائغا فنانا للحلي الذهبية والفضية. ذلك الفن الذي هو السبب ربما وراء ذلك الفقر الدائم . كان يتأنى في صناعة الحلي لتأتي رائعة الجمال، كاملة الصنعة. فينفق الوقت الطويل لأجل ذلك الكمال، ولكن الأجر الذي يتقاضاه كان قليلا ولا يختلف عن ما يتقاضاه غيره. فالفن كان يعّد رفاها في ذلك الزمان. ورغم ذلك ظل سلمان مخلصا لفنه الذي لم يجني منه سوى زعل حيهن. والتي كانت تهرع إلى بيت أبيها كلما وجدت سببا للخصام، وما أكثر تلك الأسباب التي كانت تجدها تلك المرأة المدللة في عيشها مع سلمان .

 

لوّ كان لي برا و فرضا

 

لسرت في الأرض طولا وعرضا

 

يبدأ سلمان رحلته السنوية فجر يوم الاثنين الأول من شهر آذار. يرافقه ابن أخته زهرون. وهو صبي في أول العمر لم يبلغ بعد مبلغ الرجال.

 

كان زهرون شديد التعلق بخاله، وهكذا كان الخال يحنو بدوره على هذا الصبي الذي تيتم صغيرا. فكان يحرص على تعليمه أسرار الصنعة والقراءة والكتابة وأصول دينهم الموغل في القدم. فهم آخر من تبقى من أهل العراق الأوائل. إنهم بقايا السومريين كما يعتقدون ويعتقد ذلك غيرهم.

 

ترافقهم في سفرهم أتان صغيرة بيضاء تعبت معهم من كثرة الترحال فبرزت أضلاعها. كانت تنقل لهم السنادين والمطارق وموقدا من الطين يعود تاريخ اختراعه لأيام أجدادهم السومريين وغيرها من العدد، والتي صنع معظمها سلمان بيده .

 

كانت حيهن تعد لهم متاع السفر من التمر المدقوق بالجاون * .فبعد أن يمزج التمر المهروس بالسمسم المقشر والمطحون مع حبات من الينسون تصنع منه كرات صغيرة، لا تدخل الفم مرة واحدة وإنما بعدة قضمات.تكون تلك الكرات ( فلّ ) شهية ومغذية وتظل محافظة على قيمتها الغذائية زمنا طويلا .

 

وللمندائيين يوم خاص لدق الفل وهو تقليد ارتقى إلى أن يكون أشبه.بالعيد. والفل خير علاجا للجوع في وقت السفر. ثم تضع لهم كيسا من الخبز وكمية من التمر الخضراوي المكبوس في الحلان من العام الماضي وقربة ماء وبعض الأغطية ثم تسكب طاسه من الماء خلفهم طردا للشر.

 

لم أعرف سببا وجيها لسفرهم في كل مرة إلى شمال العمارة. فلم يصادف أن سافروا إلى الجنوب سوى مرة واحدة. وربما كانت هي السبب في سفرهم إلى الشمال دائما .

 

حدث هذا عند مشارف هور*العمارة .

 

كان الشيخ فالح من كبار شيوخ عشيرة( البو محمد ) قد سمع بسلمان وأراد أن يمتع ضيوفه بأشعاره ونوادره، ويجعل من زواج ابنه البكر فرصة للمباهاة. فاستدعى سلمان لحضور العرس وليصوغ ( النيشان ) حلي العروس .

 

جاء وكيل الشيخ المقيم في مدينة العمارة، إلى سلمان في قريته وأعطاه تسع ليرات ذهبية عثمانية ليصوغ منها نيشان العرس. وأمره بجمع عدته ويسافر فورا إلى مضيف الشيخ وسط الهور. ثم أعطاه بضع ربيات كتقدمة عن جهوده تركها سلمان مع حيهن لتدبر أمرها بتلك النقود.

 

وجد سلمان في هذه السفرة فرصة مناسبة قد تفتح باب الرزق عليه لما اشتهر به شيوخ تلك المناطق من ثراء فاحش.

 

خاطت حيهن كيسا من القماش ليحفظ الليرات في داخله وعلقته في رقبة سلمان بعد أن أحكمت إغلاقه خوفا عليها من الضياع.

 

راح سلمان يلملم عدة العمل ولوازم السفر الأخرى على عجل. ولم يصطحب ابن أخته معه هذه المرة، والذي كان يتعافى من مرض البلهارزيا المستوطنة في جنوب العراق وبشكل وبائي.

 

وضع أغراضه على عجل على ظهر رفيقة دربه وسار معها في الطريق إلى الهور حيث مضيف الشيخ فالح .

 

بعد أن وصل مدينة مسيعيدة ترك الأتان هناك تلهو مع أبناء جنسها عند أتباع الشيخ و أوصاهم بها خيرا، وأخذ منهم عهدا بأن يطعموها جيدا وأن لا يحملوا عليها. واستعار منهم قاربا لرحلته.

 

كانت القوارب المستخدمة في الأهوار رفيعة ذات مقدمة مرتفعة تسمى ( طرادة ) ظلت محافظة على شكلها السومري إلى الآن. وكان جماعة سلمان من المندائيين قد اختصوا وبرعوا بصناعتها

 

انطلق سلمان من الفجر في طرادته يشق طريقه برشاقة بين أعراش القصب الذهبية، وبين مستعمرات البردي متجاوزا مزارع الرز وقطعان الجاموس التي تقضي جل وقتها في الماء وكأنها ضفادع مهولة الحجم .

 

كانت الطرادة حديثة الصنع تفوح منها رائحة القار، وكان مزاج سلمان رائقا ولم يعكره سوى الضباب الذي يلف عالم الهور حاجبا الرؤيا أمام زواره المتطفلين .

 

كان سلمان يدفع طرادته بقوة بالمردي وهو عصا طويلة من الخيزران وكان يحرك ساعديه بتناغم أحيانا بغرافة مصنوعة من الخشب. وكل همه أن يصل في وضح النهار فالشمس هي المرشد في هذه المتاهة.

 

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

 

وصوت إنسان فكدت أطير

 

بعد أن توغل سلمان في وسط الهور، اعترض طريقه أربعة لصوص وكأنهم ظهروا من تحت الماء. كان أحدهم مسلح ببندقية من نوع موزر الألمانية، صوبها نحو سلمان مجبره على رصف طرادته إلى الجزرة الصغيرة التي يقفون عليها .

 

كانوا يترصدونه وكأنهم على علم بما يحمله من ثروة. ولما لم يجد سلمان وسيلة للخلاص منهم رمى الليرات الذهبية التسعة على الأرض بعد أن أركن الطرادة إلى الجرف كما أمروه .

 

راحت الليرات تتدحرج على الأرض كل واحدة منها تشق لها دربا مختلفا وسط العشب العالي. مما جعل العثور عليها مسألة صعبة . تفرق اللصوص في البحث عنها تاركين حامل البندقية واقفا يحرس سلمان .

 

كانت تراود هذا الحارس رغبة جامحة في الانضمام إلى رفاقه للبحث عن الليرات التي لم يرها في حياته قط وإنما سمع عنها .

 

استغل سلمان رغبة حارسه وحثه على الانضمام إلى الباقين قبل أن يسرقوا حصته منها ، وتبرع له بأنه سيحمل البندقية بدل عنه لحين عودته مظفرا بإذن الله !

 

لم يكذب الحارس الخبر، فأعطى البندقية لسلمان شاكرا له نصيحته وراح مع الآخرين يبحث عن الكنز .

 

وقف سلمان هادئا والبندقية في يده، يرقب اللصوص وهم يعثرون على الليرات واحدة تلو أخرى .

 

جهز سلمان البندقية وصوبها نحو اللصوص طالبا إعادة الليرات التسع كاملة له.

 

فلم يجدوا بدا من إعادتها إليه بعد أن تأكدوا من نيته بالقتل إن امتنعوا والحسرة والندم تكاد تفتك بهم وبالخصوص الحارس الأرعن.

 

قفز سلمان بخفة إلى الطرادة ودفعها عن الجرف والبندقية في يده ، فلم يجرأ أحد منهم في اعتراضه أو الاقتراب منه.

 

أخذ اللصوص يسيرون على الجرف بمحاذاة القارب. يتوسلون إلى سلمان على إعادة البندقية لهم مقسمين بأغلظ الأيمان بأنهم لن يتعرضوا إليه بسوء أبدا.

 

لم يكن سلمان يود الاحتفاظ بالبندقية ، فوعدهم بأنه سيعيدها لهم في مضيف الشيخ فالح . وراح يشق طريقه بين أعواد القصب بعيدا عنهم يترنم بأبيات من الأبوذية كان قد قالها تغزلا بإحدى الجميلات وردت فيها كلمة موزر يقول فيها :

 

لقاني خفيف الطول ما زرّ

 

خمل وزرار فوق النهد ما زرّ

 

بقلبي من لحاظه يثور موزر

 

نهودك والتفك عمن عليه*

 

وراح يغني بتلك الأبوذية على الطور الصبي تاركا اللصوص يلطمون على رؤوسهم بعد أن فقدوا الليرات والأمل باستعادة البندقية .

 

وصل سلمان مضيف الشيخ فالح عصرا. ولولا قصة اللصوص لوصل عند الغداء الذي كان يمني نفسه به. وهو وجبة شهية اشتهر أهل الأهوار بإعدادها تسمى طابق وسمك.

 

أحدثكم قليلا عن تلك الأكلة، والتي كنت قد جربتها ذات مرة، وفي الهور أيضا، في مكان قد يكون قريبا من مضيف الشيخ فالح، ولكن في وقت قريب حيث كنت أبني مشروعا لتصفية مياه الشرب في قرية صغيرة في هور العمارة.

 

والطابق أكلة لم تتغير منذ الآف السنين . وعندها أدركت سبب حرص سلمان على الظفر بتلك الوجبة .

 

عندما يأتي ضيف إلى الهور يرحب به بحفاوة. وفي أثناء الترحاب بالضيف من قبل رب الدار ( الكوخ )* يذهب أحد الشباب أو اليافعين، وإذا لم يوجد أحد منهم تذهب إحدى الفتيات بالطرادة مع الفالة * لصيد سمكة. وحتى مجيء السمكة وشقها وتمليحها. تكون ربة الدار قد أعدت النار من القصب ومخلفات الجاموس المجففة على شكل أقراص تحت صحن من الطين المفخور يشبه دائرة قطرها يقارب المتر. وعندما يصبح الصحن ساخنا، وشديد الحرارة يسكب فوقه طحين الرز المخلوط بالماء والملح، فيسيح الخليط مكونا رغيفا بسمك سنتمتر أو أكثر يغطي مساحة الصحن .

 

بعد أن تشوى السمكة يقدم الطابق ساخنا مع بضعة رؤوس من البصل اليابس للضيف، على طبق نسج من سعف النخيل على شكل دائري، ليتناول وجبة شهية مع رب العائلة، والحاضرين من الشباب الذكور.

 

دخل سلمان مضيف الشيخ فالح بعد أن وصل مباشرة. وكان المجلس قد التأم وأخذ كل واحد مكانه حسب مقامه وكبر سنه متربعا على سجاجيد،غزل صوفها محليا ونسجت في القرى المجاورة .

 

راحت دلال القهوة تدور بين الحاضرين الذين ازدحم به المضيف المبني من القصب بطراز معماري فريد يختلف عن باقي بيوت القرية.

 

فالمضيف يشبه برميلا كبيرا طرح طوليا، بعد أن قطع ثلثه الأسفل. ترفع سقفه العالي أعمدة من حزم القصب، جمعت وربطت بحبال مبرومة من شرائح سعف النخيل أو القنب على شكل دائري تتشابك مع بعضها من الأعلى لتشكل قوسا كبيرا.

 

يرقد فوقها السقف والمكون من حصران القصب المنسوجة بطريقة يتقنا سكان الأهوار، تسمى ( البارية ). أما جدران المضيف فهي مكونة من حزم صغيرة من أعواد القصب تتقاطع مع بعضها مكونة أشكالا رباعية بديعة الشكل، تسمح بمرور الهواء والضوء إلى داخل البناء.

 

بعد السلام على الشيخ وتقبيل يده جلس سلمان في أحد أركان المجلس .

 

بدأ سلمان السلام على الحاضرين، وبعد ترديد جملة الله بالخير التي راح يرددها الجميع بترتيب تراعى فيه المقامات أيضا.

 

أعلن سلمان عن نفسه. وهنا عاتبه الشيخ كونه حضر إلى المجلس متأخرا. فطلب سلمان الأذن من الشيخ ليقص على الحضور ما جرى له مع اللصوص، والذي كان السبب في قدومه متأخرا .

 

بعد أن سرد القصة بالتفصيل الممل، وضع سلمان البندقية أمام الشيخ كشاهد على صدق روايته

 

( وهذا شاهد حجايتي ).

 

ثارت ثائرة الشيخ فالح عند سماعه أن لصوصا في عشيرته اعتدوا على حرمة ضيفه، ومحاولتهم سرقة أموال تعود للشيخ أصلا، وزاد في غضبه تأييد الحاضرين له ودعوتههم في القصاص بقسوة ممن ارتكب تلك الجريمة بحق الشيخ وضيفه.

 

أمر الشيخ حراسه وأحد مساعديه بجلب اللصوص بسرعة وحذرهم من العودة من دونهم .

 

انطلق الحرس في أثر اللصوص فورا، ولم تكن عملية العثور عليهم صعبة رغم متاهات الهور. فالقليل من الناس من يملك بندقية في تلك الأنحاء.

 

جاء حرس الشيخ باللصوص الأربعة مريوطي الأيدي، ومقيدين إلى بعضهم بحبال متينة من القنب، ورموهم تحت أقدام الشيخ بطريقة استعراضية، وكأنهم أكياس من الرز، حيث اجتمع المجلس مبكرا في اليوم التالي للنظر في هذا الأمر الجلل.

 

بعد أن أبدى اللصوص ندمهم على فعلتهم ، رووا القصة كما جرت، وكما رواها سلمان تماما. ثم راحوا يتوسلون بالشيخ وبالحاضرين وبسلمان للعفو عنهم، ومسامحتهم على فعلتهم التي هي من غواية الشيطان الرجيم لعنه الله .

 

فرض الشيخ غرامة كبيرة على اللصوص الأربعة كونهم اعتدوا على ضيف من ضيوفه ، وليكونوا عبرة لغيرهم ممن يتجرأ على التطاول على مقام الشيخ. وأخذ منهم تعهد بعدم التعرض لسلمان مستقبلا، وترك مسألة استعادة البندقية لتقدير سلمان فهي أصبحت ملكا حلالا له حسب العرف المتبع.

 

لم يرغب سلمان في الاحتفاظ بالبندقية أصلا، فهو يعتبرها أداة للشر، ودينه يحرم عليه قتل البشر قطعا، وحتى قتل الحيوان محرم عندهم و إن كان لغرض الصيد. كان قد قرر مع نفسه في إعادة البندقية لهم، ولكنه أراد العبث بهم والمزاح معهم، معلنا أنه قرر أن يعمل من ماسورة البندقية سيفا لأبن الشيخ كهدية عرس.

 

وهنا اصفرت وجوه اللصوص، وراحوا يتوسلون بالشيخ لإقناع سلمان بإعادة البندقية إليهم، وعدم إتلافها، وقد نذروا علنا وأمام الحضور بالتضحية بخروفا أبيضا إن عادت لهم البندقية، مع استعدادهم بدفع تعويضا مناسبا لسلمان عنها .

 

أعاد سلمان البندقية لهم دون أن يأخذ ثمنا لها مكتفيا بالنذر. وتصالحا وقضى الجميع سهرة ممتعة استمعوا فيها بشوق لأحداث قصة أبو زيد الهلالي كما رواها سلمان بأسلوبه المشوق.

 

بعد أن أنجز سلمان عمله في صياغة حلي العرس، استأذن الشيخ فالح، وشكره على ضيافته وكرمه . وعاد إلى أهله بخروف أبيض وبمجموعة من طيور الخضيري التي تشتهر بها الأهوار مع كمية من النقود .

 

وعادت الأتان بأحسن حال بعد شهر من العلف الجيد،والراحة التامة واللهو مع أبناء جنسها.

 

استقبلت حيهن هذه المرة سلمان بحفاوة، وترحاب كبير، فعيد البنجة* على الأبواب وربما هذه المرة الأولى التي تذبح فيها العائلة خروفا للعيد، فالخراف لا يقدر على شراءها إلا الميسورون ، وكان الناس يكتفون بذبح دجاجة أو ديك في هذه المناسبة إن توفر ذلك .

 

بعد الذي جرى له مع اللصوص، عاهد سلمان نفسه بعدم الذهاب إلى تلك النواحي مرة أخرى مهما كلفه الثمن. واكتفى بالسفر إلى الشمال فقط.

 

عندما تسافر إلى شمال العمارة ترى القرى الصغيرة تقام بالقرب من نهر دجلة، وتبنى بيوتها من الطين في أحسن الأحوال. أما القرى الكبيرة فكانت تشاد على ضفاف النهر مباشرة. حيث بيوت الإقطاعيين التي كانت واسعة ومميزة وتبنى من الطابوق في الغالب.

 

معظم القرى الكبيرة كانت تستقبل سلمان كل عام وكأنها على موعد معه. يفرد له شيخ العشيرة التي يحل فيها، كوخا صغيرا قرب المضيف، ليضع فيه عدته وأغراضه، ولينام فيه أيضا مع ابن أخته.

 

أما الأتان فتكون مدللة في تلك القرى، فهي تسرح حيث تشاء لا أحد يعترضها، أليست هي أيضا في ضيافة الشيخ ؟. وربما تكون تلك الأوقات المستقطعة هي مصدر صبرها على احتمال مصاعب السفر مع سلمان.

 

ينظف سلمان سكنه الجديد على طريقته ويرتب عدده فيه ويجمع الفحم لموقده . وبعد أن يقضي

 

أيام الضيافة الواجبة، يبدأ في إنجاز ما يحتاجه أهل القرية والقرى القريبة من صياغة حجول الفضة والقلائد الذهبية والخواتم والخزامات وهي التي تعلق في الأنف وغيرها من الحلي وكذلك إصلاح الحلي القديمة التالفة.

 

يتم كل ذلك بنظام يتكرر كل عام، تكون فيه الأولوية لعائلة الشيخ، ثم أولاده وبناته المتزوجات وأسرهم، ثم دور السيد (مومن) القرية والسراكيل، وهناك استثناءات للعرسان ولكن بموافقة الشيخ ثم لبقية الناس .

 

يمتد العمل أسابيع وأحيانا شهور ويظل سلمان طيلة تلك المدة في ضيافة الشيخ وحمايته.

 

يقضي نهاره في العمل وفي المساء يكون في مضيف الشيخ الذي تحول إلى مجلس أدب، حيث الشعر الشعبي، والأحاجي، والقصص، والأحاديث المختلفة، ولسلمان نصيب كبير في ذلك المجلس.

 

كان سلمان نجم تلك المجالس بشعره وقصصه المشوقة، التي جعلت الشيوخ يتمسكون به ويترقبون قدومه كل عام، ويشملونه بحمايتهم ويغدقون عليه الهدايا.

 

كان سلمان قوي البنية ، جريئا فلم يكن يبالي بالمخاطر، أضف إلى ذلك حماية الشيوخ له فلم يتجرأ عليه أحد من اللصوص يوما .

 

أما الجن والعفاريت فلم يقربوا من سلمان لورعه وكثرة تعبده، والذي أضفى عليه هالة من القدسية جنبته الكثير من المشاكل، وتركت له فرصة التغزل بالجميلات دون رقابة أحد.

 

بعد أن ينجز سلمان أعماله في تلك القرية. يجمع عدده ويحث أتانه لقرية أخرى ويتكرر المشهد.إلى أن يقترب الشتاء، فيجمع ما قسمه الله ويأخذ أغراضه وأتانه على ظهر أول سفينة نازلة إلى مدينة البصرة، والتي كانت تتوقف عادة في المدن الكبيرة ومنها مدينة العمارة.

 

فيعود سلمان مع ابن أخته وأغراضهم على ظهر الأتان مشيا إلى قريتهم ، محملين بالهدايا من قماش وقهوة وشاي وسكر وغيرها، وبقليل من النقود والتي لم تعد تسد حاجة أسرته التي أخذت تكبر، وأسرة أخته الأرملة التي تعتمد عليه أيضا، ولحين رحلته القادمة.

 

لم تستمر حياة سلمان على هذا المنوال .

 

رحل الأتراك عن العراق على مضض بعد قتال ضاري مع الجيش البريطاني، والذي كان الجنود الهنود السيخ والكركة عماده الرئيسي

 

تبدلت الطرابيش التركية الحمر بقبعات انكليزية غريبة لم يعتد العراقيون على تقبل رؤيتها بسهولة ناهيك عن لبسها.

 

أحس العراقيون أن عاداتهم وتقاليدهم مهددة، وإن كبرياءهم قد طعنت بعد أن كثرت العيون الزرق حتى وصلت الأهوار. والمحتلون الجدد يعتنقون دينا آخر، ولهم عادات وتقاليد غريبة عن العراق وأهله، وراحوا يتصرفون مع الناس بعجرفة المحتل ممتهنين كرامة الإنسان العراقي.

 

فلم يبقى لشيوخ العشائر ورجال الدين والفلاحين من وراؤهم، سوى رفع السلاح بوجه هؤلاء المحتلين في ثورة عارمة.

 

كانت تلك ثورة العشرين التي اشترك فيها أكثر من مائة وثلاثين ألف من العراقيين، قد دامت لأكثر من خمسة أشهر وشملت العراق كله.

 

قمعت تلك الثورة من قبل الانكليز بوحشية لم تعهدها البلاد من قبل. فالحقول دمرت وقتل الآف من الفلاحين والنساء والأطفال وسويت قرى بكاملها مع الأرض.

 

وهكذا انتقل سلمان بعائلته إلى مدينة قلعة صالح القريبة من مدينة العمارة. استأجر غرفة هناك وحشروا فيها جميعا.

 

وفي عام 1921 جلب الإنكليز ملكا من دولة أخرى ونصبوه ملكا على العراق. ثم أسسوا حكومة من أتباعهم تعمل تحت إشرافهم. وهكذا أخذت الأمور تستقر شيئا فشيئا إلى أن انتهى الانتداب البريطاني على العراق عام 1932.

 

أخذت الزراعة تنتعش فتحسنت أمور الناس، ونال سلمان نصيه من هذا التحسن فكف عن السفر،

 

فتح محلا للصياغة في سوق المدينة الرئيسي، وظل يكافح فيه لسد نفقات الأسرة.

 

ظل سلمان وطيلة أوائل الثلاثينيات يعيش في الغرفة التي استأجرها في مدينة قلعة صالح. تلك المدينة الواقعة على الضفة اليسرى لنهر دجلة، في منتصف الطريق بين مدينة البصرة والعمارة، وإن كانت للأخيرة أقرب وتحسب عليها إداريا.

 

الطريق المعبدة التي تربط البصرة بالعامرة تقع في الضفة الأخرى من النهر. فربطت قلعة صالح بالضفة الأخرى من النهر بعبّارة كبيرة صنعت من صفائح الحديد وكأنها فلكا كبيرا. ربطت بأسلاك حديدية من جهتي النهر.

 

بمعونة تلك الأسلاك والعتلة التي في وسطها، راحت العبارة تقطع النهر جيئة وذهابا عشرات المرات يوميا .

 

كانت بلدية المدينة تؤجر هذا الجسر المتحرك سنويا لبعض المتعهدين لقاء أجر محدود، وهؤلاء بدورهم يأخذون أجور من الناس لإيصالهم وأحمالهم إلى الضفة الأخرى.

 

كان بيت سلمان مطلا على تلك العبارة، والتي أصبحت السبب في تركه تلك المدينة الحديثة التي لم يمضي على بناءها قرن واحد، والتي أخذت اسمها من اسم أحد القادة العثمانيين .ليعيش بعيدا عن تلك العبارة .

 

كان أحد مجانين قلعة صالح واسمه ( جلوف ) عاشقا لتلك العبّارة، يقطع النهر عليها مئات المرات، ولا يأخذ أحد أجور منه لتنقله الدائم رفقا به، وربما تبركا حتى أصبح جلوف جزء من تلك العبّارة وكأنه عتلة فيها.

 

وفي يوم .عبرت امرأة على تلك العبارة وعلى يدها رضيعها ، وصادف عبور سلمان معها إلى الضفة الأخرى لقضاء حاجة طارئة .

 

كان الرضيع يصرخ بألم عجزت أثداء الأم عن تهدئته أو إسكاته، فحارت به المسكينة وسط هذا النهر الهادر.

 

تبرع جلوف وعرض خدماته على الأم متعهدا بإسكات الرضيع. أعطته الأم رضيعها بعد أن عجزت والذين من حولها وحتى سلمان من إسكاته .

 

وقد أسكته جلوف بالفعل ولكن إلى الأبد .أخذ جلوف الطفل بين يديه وألقى به إلى الماء تاركا أمه المذهولة تلطم، وتندب حظها، ثم شدت عباءتها على وسطها وراحت تلطم على طريقة نساء العمارة مرددة أهزوجة ارتجلتها)Lو منك هايه يجلوف جا هايه من الله مودايه ).

 

لم يستطع سلمان عمل شيئا لإنقاذ الطفل وكذلك الآخرين الذين منعوا الأم التي أرادت أن ترمي نفسها وراء رضيعها .

 

فدجلة كان غاضب وفي ذروة فيضانه، وهكذا وبكل بساطة ابتلعته أمواج النهر التي كانت تهدر كأنها التنين.

 

لم تغادر صورة الطفل خيال ووعي سلمان، وراحت تؤرقه فقرر ترك تلك الدار التي كانت تطل على العبارّة التي تذكره بتلك الحادثة الأليمة.

 

كان سلمان من القلائل الذين يجيدون القراءة والكتابة في المدينة في ذلك الوقت، وبذلك عدّ من المثقفين بمقاييس ذلك الزمان، و أخذت تربطه علاقات طيبة مع موظفي تلك المدينة الصغيرة والذين لم يكونوا أكثر ثقافة منه.

 

عن طريق تلك العلاقات علم أن القائمقام الجديد ولقبه الصوفي ، ينوي إجراء إصلاحات عصرية في المدينة ، من مدارس وطرق وحدائق، لذا سوف تتبدل خارطة المدينة.

 

كانت قلعة صالح تمتد مع دجلة. يفصلها عن النهر شارع أو قل كورنيش. ولكون بساتين النخل الممتدة خلف المدينة كانت تأخذ مياه السقي من دجلة عبر أنهر حفرت عشوائيا، لذا أصبح الكورنيش عبارة عن شارع غير معبد، تقطعه عشرات المعابر التي مدت من جذوع النخيل، تجري من تحتها أنهار اختلف عرضها حسب مساحة البستان الذي ترويه.

 

قرر القائمقام حفر نهر كبير شمال المدينة ليروي كل تلك البساتين من الخلف، ويعيد بناء طريق الشاطئ بشكل حضاري. وبعد أن أخذ الموافقات من السلطات العليا في بغداد وضع خطة للمباشرة بتنفيذ مشروعه.

 

بعد أن تم تنفيذ المشروع، ظهرت قطعة أرض كبيرة شمال المدينة تكفي لإقامة قرية صغيرة عليها .

 

فطلب سلمان وأحد نسبائه وهو رجل الدين المندائي الأعلى مرتبة في المدينة، من القائمقام بيعهم تلك القطعة من الأرض لإقامة حي للمندائيين عليها .

 

وهنا قدم القائمقام طلبا موقعا من قبل سلمان ونسيبه ورفعه إلى الملك مع رجاء بمنح تلك الأرض لهذه الطائفة التي تعتنق أقدم الأديان التوحيدية في التاريخ. هكذا وبعد أخذ الموافقات المطلوبة تم إعطاء تلك الأرض التي أفرزتها ألدوله، والتي تبعد كيلومتر واحد شمال المدينة لهم وبأسعار رمزية وسجلت بأسمائهم في دوائر الطابو.

 

قام سلمان بمتابعة الموضوع بكل جدية ونشاط وأقنع إخوته وأخوة زوجته في التعاون فيما بينهم لبناء دور لهم على تلك البقعة الجميلة، والتي تحيطها بساتين النخيل . فتوفر لهم حرية الأرتماس بالنهر وإقامة شعائره فيه دون منغصات المدينة*.

 

تحقق لسلمان ما أراد وتم فرز تلك القطعة إلى أربعة وعشرين بيتا، على عدد حروف الأبجدية المندائية *. فقام كل واحد منهم في تشييد داره حسب رغبته، وحسب إمكانياته المادية. وقد تعاون الجميع على ذلك. الغني منهم يساعد الفقير، وأن كان لا يوجد بينهم غنيا بمعنى الكلمة، ولكن الفقراء كثر. واتفقوا على أن يبدأ البناء في يوم الأحد تبركا بهذا اليوم الذي هو اليوم المبارك عند المندائيين .

 

جاء يوم الأحد المنشود فترك الجميع أعمالهم وتوجهوا مع نساءهم وأطفالهم إلى أرض " الميعاد " الجديدة . أخذت أهازيج الرجال ترتفع لتختلط بزغاريد النساء وصراخ الأطفال الذين لم يفقهوا سبب كل هذه الضجة، التي عكرت صفو تلك البقعة الهادئة. حتى طيور الفاخت والتي لم تشهد مثل ذلك الصخب من قبل، راحت تصفق بأجنحتها بعد أن ابتعدت محلقة تاركة أعشاشها. أما كلاب بيت رسن والتي تحرس بساتين النخل من العابثين واللصوص بشراسة، فولت هاربة بعد أن شاهدت هذا الحشد الكبير، وشعرت أن المسألة جدّ .

 

خططت البيوت بمساعدة قصبة غليظة وبعض الحبال. ثم أخذت معاول الرجال الأشداء تشق الأرض التي استسلمت لهم بكل دعة.

 

كبرت الحفر أمام البيوت ونقل إليها الطين الحريّ من جانب النهر على الحمير من شمال القرية .

 

وانبرت مجموعة من النسوة وفي مقدمتهن حيهن . بعد أن رفعن ثيابهن إلى الركبة وتحزمن عليها بعباءات الصوف ، ورحن يخلطن أعواد التبن الذهبية بالطين في تلك الحفر . وأخذت السيقان البيض تغوص في خميرة الطين في رقصة جماعية بديعة.

 

الرغبة تظهر الإبداع ! عندما تنظر إلى حيهن وسط معركة البناء لا تصدق إنها ذات المرأة المدللة التي أرهقت سلمان بدلالها. لقد كانت صلبة وقوية ومبدعه ، تقود مجموعة النساء في عمل الطين وكأنها تحارب. بعد أن يتجانس الطين ينقل على شكل كرات كبيرة لتشاد الجدران منها .

 

كانت هناك قصة وراء نشاط حيهن ولم تكن صحوة ضمير. عندما كانوا مستأجرين غرفة في قلعة صالح، وكان رضيعها الصغير نائما في المهد، خرج إليه ثعبان أسود، وراح يلتف على جريد المهد، فقفزت الأم إلى الطفل وحملته وخرجت من الدار راكضة، ولكن الثعبان ظل يلاحقها طالبا الطفل، حتى وصلت إلى إحدى ورش يناء الزوارق الخشبية، وعندها اجتمع الصناع حولها وبأيدهم الفؤوس فقتلوا الثعبان . عندها نذرت حيهن إن يبني لها سلمان بيت تعيش فيه، سوف تتحزم وتخلط طينه بقدميها وقد وفت نذرها.

 

أما العجائز فقد انشغلن بالقدور، والطبخ ومراقبة الصغار. وهكذا استمر العمل كل يوم حتى أخذت الجدران ترتفع . فظهرت في الساحة جسور من خشب الجندل وحصران من القصب وشبابيك وأبواب من خشب التوت. كانت تلك الأبواب التي تقفل بمزلاج لمصنوع من الخشب أيضا.

 

بعد أن انتصبت الجدران بأبوابها وشبابيكها ومدت جسور الجندل فوقها بقياس واحد متكرر.

 

نشرت حصران القصب وأخذت بعض النسوة في ملج تلك السطوح بالطين الحر وبطبقات عدة لتجعل حبات المطر تنزلق بسهولة ويسر وبانحدار واضح لتصب في مزاريب من صفائح التنك التي تطرد المطر بعيدا عن الجدران .

 

ذلك النشاط المنظم اليومي، والإصرار والأمل وشمس العراق جعلت من الحلم واقع. فظهرت بعد أسابيع عدة قرية جميلة تحتضن شلة متحابة من البشر سميت باللطلاطة .

 

من أطلق هذه التسمية ؟ لا أحد يجيب .

 

ربما جاءت التسمية من لطلاط ماء دجلة الذي كان يداعب تلك الشواطئ الجميلة .

 

كانت مياه النهر خجلة عند مداعبتها الجرف العالي، فلا هي تفيض وتغرق المكان، ولا هي تكف عن تلك المداعبة وتترك الجرف وشأنه، فسميت باللطلاطة .

 

لقد كانت مياه دجلة هي الضرع الذي سقى سكان تلك القرية طيلة عمرها الذي لم يمتد طويلا للأسف.

 

كان نصيب سلمان من تلك القرية بيتا على شاطئ دجلة فيه ثلاث غرف وطارمة مسقفة . والطارمة كانت مسكنا للبقرة الدبسة شتاء، وفي ظهر الدار مساحة من الأرض غرس فيها بستانا من أجود أنواع النخيل من قنطار وبرحي وبريم وديري وخضراوي وجبجاب وتبر زل وشكري وحلاوي وغيرها .

 

زرع سلمان أربعة وعشرين فسيلة نخل على عدد حروف الأبجدية المندائية التي تبدأ بالألف وتنتهي به .

 

كافحت حيهن وابنتها الوحيدة في سقي تلك الفسائل بمشربيات من النحاس تسمى ( مصخنة ) . كانت عملية زرع بستان وسقيه والاعتناء به، من المهمات الشاقة على النساء لا تقدرعليها إلا القويات منهن. وهنا ظهر معدن حيهن وابنتها، كن ينقلن المشربيات على الأكتاف إلى أن شبت الفسائل متطلعة إلى السماء بسعفها الطري. فازدهر البستان وراح النخل يؤتي ثمارا شهية .

 

عم خيره على أهل اللطلاطة كلهم. فالرطب كان على موائد الفطار في كل بيت وحلان الخضراوي فاكهة الشتاء المحببة، ودبس الدمعة المعصور من التمر والذي يجمع قطرة بعد أخرى بعد أن يوضع فوقه الحلان المنسوج من الخوص والتي شارك في نسجها الجميع حتى الأطفال . كان ذلك الدبس النقي يتبلور ( يجرش ) شتاء في صفائح التنك، فتنحني في داخله ملاعق الأكل إن لم تنكسر عند الغرف منه. والخلال المطبوخ من البريم والجبجاب كان سلوى للجميع في كل الأوقات، خاصة الصغبر. لم يكن إعداد الخلال المطبوخ مسألة صعبة . فقد كانت عذوق الخلال تقص وتطبخ وتجفف على السطوح . هذا كل شيء.

 

أما تمر الديري فكان يترك في عذوقه إلى أن يجف ثم تقص تلك العذوق وتعلق في الغرف.

 

وقبل أن يسكن الناس تلك البيوت قامت بلدية المدينة بإيصال الكهرباء إلى الشوارع ، فأضاءتها بمصابيح صغيرة ارتفعت عاليا فوق أعمدة من حديد الشيلمان ولكنها لم تجرأ على الدخول فيها. فبعد أن نقل القائمقام ( الطوخي ) إلى مدينة ثانية . أصبح مدير البلدية واسمه "زنيد" يدير أمورها ، كان هو السبب الذي جعل الكهرباء لا تجسر على الدخول إلى البيوت الحديثة البناء فكانت تضاء بالفوانيس و"اللالات" المحلية الصنع.

 

وعندها قال سلمان شعرا :

 

غمج يا جلعة جي جسر ما بيج

 

من غرب الطوخي زنيد حكم بيج

 

قبل أن ينتهي الخريف كانت البيوت الجديدة قد كنست ونظفت، وجاءت كل أسرة بما تملك من الأثاث، وهو بعض سجاجيد منسوجة يدويا، وصناديق من الخشب صبغت بألوان فاقعة، وبعض القدور وأسرة صنعت من جريد النخل.

 

انتصبت "التنانير" في كل بيت وجهزت المواقد ومعالف البقر وتصدرت الدور جرار الفخار التي كانت تصفي الماء وتبرده.

 

كثر ركض الأطفال وزاد صخبهم في المكان الجديد، وكانوا يتجنبون النهر أو مرة إلى أن اعتادوا على سكنهم الجديد، وما أن جاء الصيف الثاني حتى سكنوا النهر وكأنهم حيوانات برمائية.

 

لم يقترب الأطفال من بساتين النخل التي تحيط باللطلاطة خوفا من الكلاب الشرسة التي كانت تحرسها، والتي كانت تتجمع في العادة عند الناعور وسط البستان الذي يفصل اللطلاطة عن قلعة صالح.

 

هذا الناعور الذي كان يدور أبدا بفضل حمار متوسط الحجم ربط إليه معصوب العينين، فلم يعرف إلى أين ستنتهي مسيرته وهل سيتحرر يوما منها؟

 

لكون الطريق التي تفصل القرية الجديدة عن المدينة طويلة، إذا ما قيست بخطوات الصغار ولكونها محفوفة بمخاطر الكلاب، كان الصغار يذهبون للمدرسة جماعات، وكان الأكبر سنا ينضمون معهم في تلك المسيرة اليومية، ولكل منهم هواجسه، فالكل كان يسير بمحاذاة النهر متجنبين الطريق السالكة وسط البستان وهنا تتعدد الأسباب، الصغار يخشون الكلاب رغم إغراءات الرطب المتساقط من بعض النخيل، فيفضلون طريق الشاطئ على مضض .

 

والكبار لهم أيضا ما يخشون منه في طريق البستان فقد تربع الطنطل* على السدرة التي توسطت البستان فيعودون مهرولين إلى طريق النهر عندما يصرخ أحدهم، وهكذا كل يوم إلى أن تأتي عطلة المدارس، وعندما تظهر نتائج الامتحان يرجع من كان ناجحا عبر البستان غير مباليا بالكلاب ولا بالطنطل، ليبشر أمه ويحصل على هديته. أما من فشل فيعود للبيت سالكا طريقا ملتوية تدور حول المدينة ليصل إلى اللطلاطة عبر أرض سبخة خالية من الأشجار أصبحت لاحقا مقبرة للقرية حيث أخذت شواهد القبور تنمو عليها بتتابع.

 

راح سكان هذه القرية يرتبون حياتهم كما يشتهون رغم الضائقة الاقتصادية التي تعم البلد، كان الرجال المكلفون بإعالة هذه المجموعة من البشر يعملون في الغالب في الحرف اليدوية. وكانوا ماهرين فيها . فهم الحدادين وهم صناع الزوارق وهم الصاغة وهم الأكثر ثقافة بين شرائح مجتمع قلعة صالح، فبعد أن حصل شبابهم على التعليم ظهر فيهم لاحقا المدرس والطبيب والمهندس، .و بذلك أصبحت مكانتهم الاجتماعية مهمة ويحظون بتقدير الجميع في قلعة صالح وحتى في المدن الأخرى مثل العمارة والبصرة.

 

أشادت هذه المجموعة معبدا لها في اللطلاطة من الطابوق وأحاطته بالأزهار، فكان يرتاده الباحثون والمستشرقين الأجانب. وكانت مجالس السمر شبه ليلية في الصيف، حيث يفرش شارع النهر بالحصران فيتجمع الرجال والنساء والأطفال، فيقظون وطرا من الليل بالقصص والأحاديث المختلفة، بعد أن استقرت الأمور في القرية و كبر الأولاد، ترك سلمان سوق قلعة صالح بعد أن أصبح الرزق فيه شحيحا، وعاد إلى هوايته القديمة في مطاردة لقمة العيش مرتحلا بين القرى، وربما تحجج بضنك العيش في قلعة صالح ليعيش حياة الحرية والترحال التي اعتاد عليها.

 

سافر سلمان بعيدا إلى الغرب هذه المرة. ولم يرجع من تلك السفرة وكأنه استطاب الهواء الغربي فدفن هناك. ولم يرجع إلى اللطلاطة إلا نعيه .

 

ظلت اللطلاطة وأهلها وإلى وقت طويل يتداولون القصص والأحاديث بإعجاب وفخر عن سلمان مؤسس هذه القرية التي ارتبطت بذاكرة المندائيين إلى اليوم .

--------------------------------------------------------------------------------

* من عادة الطائفة المندائية إطلاق شعر الوجه والرأس وعدم قصه أبدا.

*يسكن مناطق جنوب العراق بضعة الآف من البشر يقال أنهم بقايا السومريين سكنه العراق الأوائل . يدينون بالديانة المندائية وهي بقايا دين توحيدي قديم ويتكلمون اللغة المندائية وهي آرامية قديمة أيضا .عرفوا بتزمتهم الديني وحرصهم المبالغ فيه على نظافة النفس ونظافة الأبدان .وهم موحدين إلا حد المغالاة . وأهم طقوسهم الارتماس في مياه الأنهر الجارية غسلا للذنوب مهما صغرت .- الكاتب -

* الجاون هو جذع شجرة يحفر داخلها إلى عمق كبير ويكون كالقدر العميق يستخدم في هبش الرز وتقشيره بعمود من الخشب أيضا يسمى بالميجنة .ويستعمل هنا في هرس التمر.

* الأهوار مستنقعات مائية واسعة تغطي مساحات شاسعة من جنوب العراق تكثر فيها أحراش القصب والبردي وفيها ثروة سمكية كبيرة وتهاجر إليها في موسم الشتاء أنواع عديدة ونادرة من الطيور . قبل أن يأمر بتجفيفها نظام البعث خدمة لأغراض حربية.

* هناك مشكلة في كتابة الشعر الشعبي لورود كم كبير من الأصوات الغير عربية وهي أعجمية في الغالب مثل (G )

 

والمعنى لاقته فتاة خفيفة الظل ولم تحيد عنه وكانت قد نسيت أن تسد فتحات الثوب عند الصدر فكان الشوق لها كطلقات بندقية الموزر.فأورثته الهم.

 

 

* الناس في الأهوار يسكنون أكواخا من القصب وتكون على مجموعات وحسب وسع الجزيرة التي يبنون عليها وأحيانا يكون بيتا واحدا يبنى على جزيرة صغيرة تكون قد شيدت من القصب وبعض الطمي .

* الفالة أداة تشبه المذراة من الحديد ذات ثلاث رؤوس وذراع من الخشب ترمى على السمكة المراد اصطيادها والت تكون تسبح في الجوار وهي في الغالب من نوع القطان ذو الرأس الأسود ويكون حجمها على قدر عدد الضيوف الواجب ضيافتها.

* عيد البنجة هو عيد الخليقة عند المندائيين ينحرون في الخراف ويمارسون طقوس الأرتماس في الماء وغيرها من الطقوس بشكل واسع.

* الشعيرة الأساسية في الدين المندائي هي الأرتماس في الماء الجاري ولا يمكن أن تكتمل أهم طقوسهم إلا به وكانوا يتعرضون لمضايقات المتطفلين عندما كانوا يمارسون تلك الطقوس في المدينة .

* اللغة المندائية هي أحد فروع اللغة الآرامية مثل العربية والعبرية وكانت تستخدمها مجموعات كبيرة في تلك المناطق فق قديم الزمان.

* الطنطل مخلوق خرافي تقول المعتقدات انه يسكن شجر السدر ويلبس البياض ويرمي الصغار والكبار بالحجر ويؤذي من ينفرد به

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 11:32

الصمت حين يلهو

يقوم الهيكل العام للنص الروائي الذي تكتبه الروائية العراقية خولة الرومي علي بنية تراجيدية في الأعم الأغلب. ومرّد هذا النزوع متأتٍ من طبيعة الأحداث الفجائعية التي تشكل النسيج الداخلي للرواية، وأكثر من ذلك فإن هناك إيغالاً مؤسياً قد يتجاوز حدّه التراجيدي ليقع في دائرة التمثيل، والتشويه، والقسوة التي يُفتَرض أن تجدها في بيئة بربرية متوحشة، لا في بيئة إنسانية تستمرئ الإيغال في القتل، وتبالغ في تشويه الجثة كما حدث للضحية ضمير التي فقدت توازنها إثر مقتل أخيها باسل الذي كان مناوئاً للسلطة الملكية القامعة آنذاك. وانطلاقاً من هذا النَفَس التراجيدي المرعب فإن روايتي رقصة الرمال و الصمت حين يلهو لخولة الرومي تحتاجان الي ناقد متخصص في النقد الأدبي من جهة، وفي النقد النفسي من جهة أخري لكي يسلّط الضوء علي طبيعية بعض الشخصيات الإشكالية المريضة المتوحشة التي تعاطت معها الروائية خولة الرومي بحرفيةٍ عالية ووضعتها تحت مجهرها الروائي الدقيق مثل شخصيات عبد الله أبو شاكر، وأم شاكر، وشاكر نفسه فهذا الثلاثي هو أنموذج غريب للقسوة والتمثيل بالجثة البشرية التي يفترض أن نحترمها ونجلّها بعد الوفاة ونحن الأمة الأكثر ترديداً للحديث النبوي الشائع الذي يقول: إن الإنسان بنيان الله ملعونٌ من هدَمَ بنيانه ولا أدري أين يقف النقد النفسي إزاء الطُبَر بوصفه أداة للجريمة حينما فصل عبد الله رأس ضمير عن جسدها، ثم بقرَ بطنها ليرتكب جريمة مضافة وهي قتل الجنين الذي تحمله في بطنها جرّاء عملية اغتصاب أقدم عليها الشرطي محمد، وكررها لاحقاً هو وشاكر الذي يرتبط معها بصلة الدم والقرابة! وهي ذات الأداة الجارحة التي فصلت رأس ملاذ في رواية الصمت حين يلهو . كما أن مشهد الشنق الاعتباطي لحازم الحلاوي، مدير الأمن العامة والذي نفذته الجماهير الهائجة يكشف عن حجم الفوضي التي تعم العراق في لحظات التغيير الحاسمة غِبَّ الانقلابات والثورات التي تطيح بسلطة ما، لترتقي سُدَّة الحكم سلطة جديدة أو حزب ما كان مقموعاً، وتتكرر عندها ثنائية الجلاد والضحية من جديد.

 

الاستهلال والخاتمة

 تبدأ خولة الرومي روايتها الموسومة رقصة الرمال بداية رمزية مدروسة. فحتي الأسطر الوصفية الخمسة التي كانت تصوِّر الشَحاذَين وهما ينصتان الي الضجيج المنبعث من بغداد لها علاقة قوية بالجملة الاستهلالية التي تأخرت قليلاً لسبب سردي حينما يخاطب الشحاذ الأول صديقه الهرم قائلاً: أما زلتَ تنتظر؟ فيأتيه الجواب دامغاً ويقينياً لا يعتريه الشك: أجل، وماذا لديَّ غير الانتظار . الملاحظ أن الشحّاذ الثاني يفلسف الأفكار التي ترد في ذهنه مُخرِجاً إياها من إطارها اللغوي العابر، قاذفاً بها الي الإطار المجازي الذي يتصف غالباً بقوة الدلالة، وشدّة التعبير. فالتداخل المُتَعمَّد الذي أحدثته الكاتبة بين الحقيقة والوهم، أو بين الواقع والخيال إنما هو تداخل فني له علاقة بآلية السرد، والتصعيد الدرامي، وتقنية التشويق والترقّب، والبناء السردي التراتبي أو القائم علي الاستعادة الذهنية التي تعتمد علي قطع الحدث ثم المعاودة اليه بعد مدة زمنية محدودة تتناسب مع اشتراطات الصدق الفني والواقعي للنص الروائي بحيث تبدو الإطلالات اللاحقة لأية شخصية مناسبة ولا تخرج عن إطارها المعقول الذي يتساوق مع طبيعية الأحداث التي تتماهي مع عناصرها الزمكانية المستوعبة لحركة الشخصيات ضمن المسارات السردية التي تقترحها خالقة النص ومبدعته. وحينما يتيقن القارئ من حكمة الشحاذ الثاني أو الرجل الهرم، فإنه يظل منتظراً أية إطلالة أخري لكي تعزز لديه هذا النزوع الفلسفي الذي يتجلي عبر ثنايا النص ومنعطفاته، حتي أن مكانهما المطل علي نهر دجلة، والكائن أمام منزل العقيد المتقاعد غالب المنصور، له دلالات إضافية تعمق البُعد الرمزي المُشار إليه سلفاً. فهذا المكان أشبه بالمرصد المُشرف علي الأحداث والمجريات الكبيرة التي تقع ضمن محيط هذا البيت اللافت للانتباه، حيث ستضع الروائية أفراده علي طاولة التشريح كل علي انفراد، كما أنها لا تتفادي تشريح الناس الذين يترددون علي هذا البيت بدءاً بحازم الحلاوي، مروراً ببعض العشاق الذين يترددون علي المنزل أمثال سامر الخطيب وبشار قادر السهيلي، وانتهاءً بأم محمد وابنها الشرطي الذي سوف يلعب دوراً مهماً في صناعة بعض الأحداث وتطورها عبر مسارات النص. أما الجملة الختامية فتتمثل بحكمة الشحاذ أو الشيخ الطاعن في السن، والذي سيرحل بعد ذلك، أو يُودِع حكمته التي سوف يحملها العراقيون جيلاً بعد جيل. نجحت الروائية خولة الرومي في الحفاظ علي بنية النص المتينة، وتماسكها الرصين بواسطة هذا التناوب المنتظم للشخصيات التي أثثت النص عبر المساحة الممتدة من الاستهلال المعبِّر وحتي الخاتمة المفتوحة علي أفق واسع الدلالة.

 

تقنيةُ العين المُستعارة

 قبل أن نخوض في فكرة العين المُستعارة والتي استعملتها خولة الرومي في رصد الأحداث الروائية التي امتدت لمدة خمس عشرة سنة في الأقل، وهو الزمن الذي اختفت فيه أمل زوجة العقيد المتقاعد غالب المنصور، حيث تركت وراءها ثلاث بنات وولداً وهم سُهاد، سمر، نادية، وعزّام، واختفت عن الأنظار تحت حجاب ثقيل، غير أنها كانت تطل بين أوان وآخر كلّما هزّها الشوق الي بناتها الثلاث وولدها الوحيد، حيث تشبع ناظريها وهي تتطلع إليهم من مسافة غير بعيدة. اعتمدت خولة الرومي علي تقنية العين المُستعارة بواسطة عدد من شخصيات النص الروائي من بينهم الشحاذَين والأم الغائبة الحاضرة. وبواسطة هذه الشخصيات الثلاث التي كانت تقوم بدور الراوي العليم الذي يعْرِف بسياق الأحداث أو يتنبأ بها كما تنبأت الأم أو أدركت بحاستها السادسة مقتل زوجتها وابنتها سهاد. إن تقنية العين المُستعارة كانت توفر للقارئ مساحة كبيرة من التوقعات الصحيحة عبر الرؤيا الحاذقة لبعض الشخصيات التي أُسندت لها مهمة التوقع وقراءة الأحداث المستقبلية واستشرافها. لا شك في أن القارئ الكريم سيعرف أثناء مطالعته لهذا العمل الروائي الناجح أن هناك بؤرة مكانية مقصودة وهي منزل العقيد غالب المنصور، إذ تتركز معظم الأحداث في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة التي تضم بين جدرانها وأروقتها أنموذجاً لعائلة عراقية قد تجد لها مثيلاً، قلَّ أو كَثُرَ، في أطياف الشعب العراقي متعدد الأعراق، والأديان، والجنسيات. كما أن منظومة العلاقات التي تربط أفراد هذه الأسرة بشخصيات من عوائل وأُسَر عراقية مختلفة ستكشف بالضرورة عن نماذج أخري من المجتمع العراقي الذي وضعته الروائية تحت عينها الخاصة أو الأعين المستعارة التي استعانت بها لمتابعة سير الأحداث والتفاصيل الروائية الأُخَرْ.

 

النزعة التراجيدية

 تعتمد خولة الرومي في كتابة النص الروائي علي نزعة تراجيدية واضحة المعالم. فثمة مشاهد تبدو وكأنها منتزعة من حدث ملحمي. والغريب أن عينها هي عين سينمائية قادرة علي أن تضم مساحة واسعة من هذا الحدث الملحمي المُشار إليه سلفاً، ويكفي أن نلفت الانتباه الي مَشاهِد قطع الرؤوس بآلات حادة مرعبة والتي تكشف بالضرورة عن طبيعة النزعة الوحشية لدي بعض الشخصيات التي استوطن الشر في نفوسها، وجرَّدها من أية مشاعر إنسانية. وعلي الرغم من هيمنة الفضاء التراجيدي لأعمالها الروائية إلا أن بصيص الأمل أو نقطة الضوء تظل قائمة وموجودة في نهاية النفق المظلم الذي تتحرك فيه شخصيات النص الروائي كله، بمن فيها الشخصيات القامعة والمترَفة والتي تمتلك زمام الأمور مثل مدير الأمن حازم الحلاوي، والعقيد المتقاعد غالب المنصور الذي كان يطمح الي أن يكون أحد أعضاء البرلمان العراقي، خصوصاً بعد أن أغرقه حازم الحلاوي بعدد من الوعود الزائفة. إن دراسة هاتين الشخصيتين لوحدهما كافية لأن تسلط الضوء علي الشخصية العراقية التي تحتل منصباً كبيراً وحساساً ثم تطوِّعه لمصلحتها الشخصية، وترتكب من خلاله مخالفات قانونية تتمثل في ابتزاز الآخرين كما فعل حازم الحلاوي بحق صديق طفولته غالب المنصور.

فالقارئ الذي كان يتابع نمو شخصية حازم الحلاوي الذي أصبح مديراً للأمن العام قد لا يستغرب مثل هذا السلوك الذي أفضي الي خسارة الطرفين في النهاية حيث عُلق الحلاوي علي عمود النور، بينما سدّد الثاني فوهة مسدسه الي رأسه ومات ميتة مؤسية الي جانب ابنته الراقدة تحت شرطي مجرم ومبتّز لا يجد ضيراً في أن يتحسس عجيزة أخته. لم نعرف من شخصية هدي، زوجة حازم الحلاوي سوي أنها انتحرت لأنها لم تطق العيش معه، وهذه الإشارة كافية لأن تنبهنا الي أن التعايش مع هذه الشخصية هي عملية مستحيلة، كما تشير من طرف خفي الي أن الحلاوي كان عقيماً بمعنيً ما، وأن هذه الشخصيات لا تحيا إلا دورة حياة قصيرة وامضة ثم تنطفئ بسرعة البرق حيث تنتظرها حبال المشانق أو النصال الحادة التي تلتمع في رابعة النهار.

أما العقيد غالب المنصور الذي تقاعد وانزوي في عقر داره بعد أن هربت زوجته من ظلمه واختفت عن الأنظار لمدة خمس عشرة سنة، لم يجد هذا الشخص الإشكالي سوي السقوط في دائرة الأوهام التي خلــــقها له حازم الحلاوي بأن يضمن له بساتينه بأسعار مغرية، ووعده بالترشيح للبرلمان العراقي بعد أن يعرّفه علي رئيس الوزراء، الباشا نوري السعيد. 

وبالمقابل فإنه كان يطمح بالزواج من ابنته الوسطي سمر. ولا غرابة في أن تكون له علاقة جنسية محرمة مع البنت الكبري سهاد، العانس المترهلة التي لم تجد من يطرق بابها، خصوصاً وانها كانت المُضحية الأولي في العائلة حيث تركت الدراسة، وتولت تدبير أمور المنزل بعد اختفاء أمها الذي أربك حياة العائلة برمتها. أجد من الضروري هنا أن نمرّ مروراً سريعاً علي العلاقات العاطفية لبنات العقيد غالب المنصور. فسهاد كانت محرومة من أي شكل من أشكال المداعبات الجنسية، وهي تحتاج من دون شك لإشباع هذه الحاجة الإنسانية، لذلك لم تجد أمامها سوي بعض الذين يترددون علي هذا البيت لعل أولهم مدير الأمن حازم الحلاوي، وثانيهم الشرطي محمد الذي يتوفر علي شخصية منحطة، وخارجة علي القانون، علي الرغم من كونه رمزاً من رموز القانون. أما البنت الوسطي فهي سمر، مُدرِّسة التاريخ، التي أحبت سامر الخطيب، مدرس الفيزياء في كلية العلوم، لكن حازماً كان يشتهيها هو الآخر، لذلك ساوم والدها علي الزواج منها مقابل وعوده الكاذبة.

أما نادية، الفتاة الصغري، وهي طالبة في كلية الطب فقد ارتبطت ببشار قادر السهيلي الذي واجهَ ظروفاً قاسية في نهاية النص، لكنه تيقَّن لاحقاً، بأن حبيبته نادية كانت علي حق، وأنها لم ترتكب إثماً بخلاف توقعاته وشكوكه التي ذهبت به بعيداً عن واقع الحال حيث كانت نادية تلتقي بأمها سراً بعد أن وعدتها بعدم فضح هذا السر الذي قد يدمّر العائلة كلها. أما الشخص الرابع في العائلة فهو عزّام، هذا الفتي الوسيم الذي كان يحلم بالسفر الي الخارج من أجل الحصول علي شهادة الدكتوراه، فقد غيّر مسار حياته بالكامل حينما قرر الالتحاق بالخدمة العسكرية نتيجة لقناعاته التي ترسخت لاحقاً. كما أنه وقع في حب دينا شقيقة سامر الخطيب التي وافقت علي الاقتران به شرط أن يسمح لها بمواصلة دراستها العليا في الأدب الانكليزي أو الصحافة. وخلاصة القول إن العقيد غالب المنصور ينتحر حينما يري بأم عينيه الشرطي محمد وهو يواقع ابنته في عقر داره فيقتلهما معاً وينتحر. أما حازم الحلاوي فيواجه مصيره المحتوم علي أيدي الجماهير الغاضبة اثر إندلاع الثورة التي قادها الزعيمان عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف حيث سيطر هذا الأخير علي مراكز الدولة الحساسة، وأذاع البيان رقم واحد بنفسه من دار الإذاعة العراقية واعداً العراقيين بحياة أفضل. أما الشخصيات الأُخَرْ التي لعبت أدواراً مهمة فهي باسل الذي فقد حياته بسبب نشاطه السياسي، بينما ظلت زوجته خديجة متعلقة به علي الرغم من أنها تزوجت لاحقاً من صبحي بائع الباقلاء. لن يفلت الشرطي الشاذ من العقاب لأن خديجة استنتجت بواسطة حدسها الداخلي أن محمداً قد يكون الشخص المعتدي بخلاف التُهمة التي حاول أن يلصقها بصبحي زوراً وبهتاناً. هناك شخصية عزيز حميد المنهمك في النشاط السياسي، والذي لعب دوراً مهماً في محاولاته المستميتة لإطلاق سراح السجناء السياسيين، وتحريض الرأي العام علي السلطة القمعية. لا بد من الإشارة الي شخصية الكردي التي جاءت خلواً من الاسم، فقد تعرض هذا الفلاح الي ظلم أحد الإقطاعيين الكرد، فبسبب مبلغ مادي لم يستطع أن يسدده أخذ الإقطاعي ماله وحلاله واشتهي زوجته، ثم طرده بعيداً عن دياره. ترد في النص شخصية أم محمد وزوجها عبد الرزاق اللذين تعرضا لظلم رجل إقطاعي من الجنوب هذه المرة حيث أخذ البقرة لأنها كانت ترعي في مضاربه. وعندما خسرا كل شيء لم يجدا بُداً من الرحيل من محافظة العمارة الي بغداد حيث توسط لهم العقيد غالب المنصور وأدخل ابنهم محمد الي مدرسة الشرطة غير أن هذا الأخير كان عاقاً وساقطاً حيث تنكّر لهذا الجميل الذي أسداه إليه والي عائلته المتواضعة. تصلح الأم أمل أن تكون أنموذجاً للشخصية المُقنَّعة فحينما هربت من البيت واختفت ظنَّ الكثيرون أنها ماتت، بمن فيهم ابن عمها توفيق البغدادي الذي لم يصدقها حينما التقته في بيروت طالبة منه مد يد العون والمساعدة حيث اعتبرها امرأة محتالة تنتحل شخصية المرأة الطاهرة التي لاقت أجلها المحتوم. كما أن هذه المرأة قد تقنعت لاحقاً باسم سالمة شاكر ابنة أخت وهيبة. ولهذا السبب فقد ارتضت أن تعيش تحت هذه التسمية الجديدة.

في حين واقع الحال يكشف أنها كانت تساعد نبيل ابن الحاج إسماعيل، الشخص الذي كانت تحبه في صباها ولم تستطع الاقتران به، وهو الآن مُطارد تبحث عنه الشرطة في كل مكان، وأخيراً دهموا مخبأه ووجدوه بصحبة امرأتين أحدهما أمل التي تخفَّت تحت اسم سالمة شاكر والغريب أن الأجهزة الأمنية قد اتهمتها بممارسة الدعارة وسجنتها لمدة ثلاث سنوات في سجن النساء. من خلال هذه الشخصية المقنعة نكتشف أن نبيلاً قد التحق بالجيش ولأنه كان متمكناً من اللغة الإنكليزية فقد عيَّنوه في قاعدة الحبانية العسكرية، وشاءت الظروف أن تقع تحت يده وثيقة تؤكد أن مقتل الملك غازي كان مُدبّراً من قبل الباشا نوري السعيد، فزجّوه في سجن انفرادي، لكنه نجح في الفرار من ذلك السجن، وها هو الآن علي مشارف الموت تحيط به فوّهات البنادق من كل حدب وصوب.

 

تداخل الذات والموضوع

 نجحت الروائية خولة الرومي في توظيف سيرتها الذاتية والأسرية جانباً، فكما هو معروف أن شقيقتيها كانتا طالبتين في كلية الطب، لذلك فإن التسميات والاصطلاحات التي بالباثولوجي والتشريح هي اصطلاحات علمية دقيقة تقرّب القارئ من واقع الحال. كما أن مدينة الأعظمية قد أصبحت واحدة من البؤر المكانية التي يتحرك النص في مدارها، وهو ذات المكان الذي كانت تعيش فيه عائلة خولة الرومي. إن انطلاق الرومي مما هو ذاتي الي ما هو موضوعي قد عزز بنية النص، ومنحه الكثير من الحرارة والمصداقية. ومما يلفت الانتباه أن خولة الرومي تحاول دائماً الإفادة من الموروث الشعبي الذي يستجيب لمخيلتها الفنتازية حيث اختارت يوم العاشر من شهر محرّم لتصور فاجعة الإمام الحسين ع التي تحييها الطائفة الشيعية كل عام عبر طقوس مليئة بالقسوة المتمثلة في جلْد الذات. ركزت الروائية علي حركة الضباط الأحرار التي كانت تفكر في الإطاحة بالنظام الملكي ولعل آخرها ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 التي أنهت الحكم الملكي بطريقة دموية لا تقل بشاعة عما اقترفته الجماهير الغاضبة بحق الجلادين حيث قُتل الملك وعائلته وأتباعه في قصر الرحاب، كما سُحل رئيس الوزراء نوري السعيد في شوارع بغداد، وكأن السحل قد بات ماركة مسجلة باسم العراقيين دون شعوب الأرض جميعاً. هكذا ينتهي النص الروائي من دون التطرق الي فحوي الثورة ومغزاها الذي اختلف عليه الكثيرون، فمنهم منْ يراها نهاية لعهد بائد لا مجال لعودته، ومنهم منْ يراها الخطوة الأولي نحو بوابة الجحيم التي انفتحت علي العراقيين الذين لا يزالون يسبحون في حمّامات الدم الساخنة التي فجرها الحقد الطائفي المقيت الذي جاءت به الأحزاب الدينية المتخلفة التي تمشي بالمقلوب صوب كهوف مذهبية متطرفة دامسة الظلام. السؤال الوحيد الذي أود إثارته في نهاية هذا المقال هو: أين النقاد العراقيون من هذه الرواية الناجحة فنياً والتي تهم الشعب العراقي بمختلف قومياته وأطيافه وشرائحة الاجتماعية؟ يا تري، هل غُيّبت خولة الرومي لأنها كاتبة مندائية مع الأخذ بنظر الاعتبار أن روايتيها الموسومتين بـ رقصة الرمال و الصمت حين يلهو تخلوان تماماً من الإشارة الي أي طقس مندائي مع عتبي الشديد عليها لأنها لم توظِّف الطقوس المندائية في نصيها المذكورين سلفاً، ولكنني واثق من أنها لن تهمل هذا الموروث الثر في عملها الروائي الثالث الذي نترقَّب صدوره علي أحر من الجمر. وجدير ذكره أن الكاتب عبد المنعم الأعسم قد كتب مقدمة مقتضبة ودالة للرواية، فيما زيّنت غلافها الأول لوحة فنية للتشكيلي العراقي المعروف فيصل لعيبي.

 

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 11:16

جوكة حرامية

 السوق مزدحم جداً,واسراب الناس تمر ذهاباً واياباً في سوق الشورجة الواقع في شارع الجمهوري..الوقت ظهراً ولهيب الشمس الحارقة في شهر تموز يجعل ممر السوق المؤدي الى شارع الرشيد مكتظاً ومزدحماً وخاصة اذا اليوم هو رأس الشهر حيث المحافظ والجيوب مليئة بالنقود وهو يوم تسويقي..الجميع في حالة حركة مستمرة منهم الحمالون وهم يشكلون نسبة كبيرة في السوق.الباعة المتجولة وهم ايضا يشكلون نسبة النصف في السوق..

اصحاب المحلات وتجار الجملة المنتشرين في جميع ارجاء السوق.المتسولون والعاطلون ومفترشي الارض الذين يعيشون على الصدقة والرأفة والاسترحام,فهم كثيرون وقد ابتلى بهم ذلك السوق العتيد.اما اصحاب اللحى والعمامات ومرتدي الملابس الدينية الذين يوزعون الصدقات العينية والاحراز والادعية التي غطت بقماش اخضر اللون مع الشموع وقليلاً من قراءة الأيات يحصل هؤلاء المرابون على مبتغاهم وقد اصبحوا محط انظار الجميع ومنهم من يحسدهم على افكارهم النشطة الفعالة..القسم الاخير هم الحرامية والنشالة وهذا القسم هو اخطر المراحل التي يمر بها السوق. لأن هذه (الجوكة) لا تمثل فقط السرقات وانما امتدت ايديهم بعيدا جدا حتى شملت الصفات الباقية منها كمثال الكذب والنفاق وشهادة الزور والاحتيال على البسطاء من عامة الناس..وفي لحظة معينة بدأ الصراخ من مشاجرة كبيرة حدثت في وسط السوق..بين مجموعة من الرجال استعملت بها اشد الاسلحة ضراوة من قامات وخناجر وعصي..ناهيك عن الشتائم والفشار والطعن العلني..

وهنا دخلت مجموعات كبيرة لفض النزاع الحاصل وفض المشكلة ومنهم من حصل على الاجر والثواب ووقف سفك الدماء..حصيلة المعركة التي دامت قرابة نصف ساعة من الكر والجر وتدخل الناس المارين في تلك اللحظة التي حدثت فيها المعركة والتي لا يعرف سببها...جروح بالغة ودماء قد انتشرت هنا وهناك وقد تعطل عمل السوق والعجيب ان اصحاب المحلات لم يتدخلوا اطلاقاً بل اغلقوا محلاتهم وغادروا المنطقة غير ابهين بذلك الحدث المأساوي..بعد ان انقشع الغبار وبانت معالم الحقيقة وجد الجميع بأن محافظ النقود والجيوب المليئة بها من المتداخلين في وسط المعركة قد اختفت.

نظر (الفوازيع) لأنفسهم بعد (البوري) والمعركة الوهمية التي اختلقها النشالة والحرامية لسرقة المارة من الناس..وهنا قال احد اصحاب المحلات..هذه الممارسة تحدث كل اسبوع مرة وخاصة في رأس الشهر,وهي بسيطة وسهلة ولكن الادهى من ذلك لو استعملوا الخطة رقم ١ طواريء..وصرخ احدهم حريق فقط ..حتى نحن لا نسلم من تلك المصيبة..اما الدماء التي على وجوههم وملابسهم فهي اصباغ مصنعة لهذا العمل..والاسلحة كلها من البالستيك المطلية بالكروم الامع لكي تؤدي عملها بشكل متقن..الشرطة لا تتدخل في هذا الشأن لأنهم شركاء.

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 11:10

الوداع

تصدر من زوجتي سناء، آهات مسموعة متقطعة عندَ الصباح الباكر، وحيث الشمس مازالت لم تتوسط كبد السماء بعد، تلكَ الإنسانة الرقيقة ذات العيون الخضراء الجميلة والشعر الخفيف الطويل المتموج، الذي يشبه لحدٍ ما نافورة وهي ترش الماء، بيضاء البشرة، ولها سحرٌ خاص، خارق في كسب ود الناس بسرعة ومجاملتهم بشكل لا يصدق، تعشق الأطفال حد الجنون، بحيث يصعب عليّ شرح ذلك الحب بالكلمات التي أعرفها؛ عمرها لم يتجاوز الثالثة والأربعين، لكنَ طباعها كانت توحي للمرء بعد التقرب منها، بأنها مازالت طفلة في الرابعة من العمر، وعندما تتكلم، يصدق من يسمعها لتبدو وكأنها تعتذر!

 فزعتني أصواتها التي بدأت ترتفع، نظرتُ لها وأنا في حالة من الذهول والهلع لما يحصل، رأيتها تتوسط السرير وهي متربعة، كما يجلس التركي، تمسك رأسها براحة يديها وكأنها تلتقطه بعد أن أنفصلَ عن جسدها! لقد كانَ منظرها يجلب للمرء السكتة القلبية، فسألتها باستغراب ما الذي حصل؟ وهل تعانين من مشكلة؟ وكيفَ يمكن لي مساعدتك...؟ لكنها تجاهلت توسلاتي كعادتها، وبدأت بالبكاء وهي تندبُ حضها العاثر وتقول بأسى:

 إنني إنسانه بائسة، وليسَ لدي أي حظ في الحياة ولا نصيب من السعادة التي أسمع فيها ولم أتعرف عليها، ثمَ علا صوتها وبدأت بالنحيب وكأنَ شخصاً عزيزاً لها قد توفي تواً، فأردفت: لا أريد أن أحيا بعد اليوم، ثمَ قالت بصوت مرتجف متهدج وهي في حالة من الهستيريا:

  أريد ببساطة أن أنهي حياتي، أن أموت، فلا أطمحُ بالحياة بعد وبهذا الشكل، لا... لا أريد... ثمَ أجهشت في البكاء المر الذي يقطع أوصال من يسمعها... بعدَ أن عادت لتكرر الكلمات التي قالتها قبلَ لحظات... أنا إنسانه بائسة، تعيسة، لا أفقه من الحياة سوى عذابها، وليسَ لدي أيّ طموح ولا حتى بصيص أمل يجعلني أعيشُ من أجله... فقاطعتها وتقربت منها وسرحت شعرها المائي، وحاولت تهدئتها فقلت لها: عزيزتي ماذا تقولين...ما الذي أصابك؟ فأنا لم أعهد فيك هذا التشاؤم من قبل وخاصة عندَ الصباح، فنحن وكما ترين مازلنا في السرير ولم نترجل منه بعد! هدئي من روعك أرجوكِ واشرحي لي بهدوء الموضوع، كي يتسنى لي فهمه ومساعدتك...

 لكنها أكتفت بأن أدارت لي ظهرها وهي تبكي وتنتحب وكأنها في مأتم عربي! فقلت متردداً كالذي يعتذر: سأتصل بالطبيب حالاً، ما دمت لا تجيبينني ولا تحبين أن أساعدكِ... قمت من السرير ونظري لا يفارقها، لكنها شعرت فجأة بالحرج ربما، فقالت وهي تصوب نظرها دونَ أن تطرف، إلى اللوحة الزيتية المعلقة على الجدار، الأصلية، لرسام هولندي، التي زرعت فيها الطبيعة الحانية في فصل الربيع وطفلان يتنزهان وهما متشابكا الأيدي، وقالت وهي مازالت تنظر إلى اللوحة، وبصوت غير مسموع تقريباً... لا داعي، ثمَ صمتت، لكنَ بكاءها لم يصمت!

 أستغفر الله، قلتُ متذمراً قليلاً، ماذا عليّ إذن أن أفعل...؟ قالت متسرعة كالشخص الذي لا يخشى شيئاً أو حتى لا يهاب الانتحار:

 لا شيء، لا تفعل شيئاً، وأعقبت، اتركني أرجوك، فما أعانيه قد لا تقدرهُ حتى لو فهمته، اتركني، أتوسل إليك، ثمَ أجهشت في البكاء مجدداً... لكنَ القلق بات يؤكلني، فقلتُ لها برقة لم أتعودها:

  زوجتي الحبيبة، ما عليك فقط هو أن تثقي فيّ وتقولي ما تعانين منه، وأنا سأتكفل بكل الأمور الأخرى  أعدكِ بذلك، فأردفتُ كالواثق من نفسه: لا تشغلي بالكِ أبداً، لا تحملي أي هم، ثمَ أنا لا أطلبُ أكثر من هذا؛ ثمَ شرعت وقلت لها بلهجة متوسلة لأبدو كالشحاذ: بالله عليك هل هذا كثير؟!

 تغيرت لهجتها وأصبحت عصبية المزاج فجأة، لكنها ترددت للحظات، وهي ترتجف وكأنها تعاني من الحمى فقالت: الموضوع لا يخصك، وصحتي جيدة، ولا أعاني من أي آلام عضوية، ثمَ أردفت بإصرار: ومعَ ذلك أتوسل إليك وأقول اتركني لوحدي الآن، أرجوك؛ وغاصت في السرير مرة أخرى لتبدو وكأنها ليست موجودة، إلا من آهاتها وزفراتها الحارة العالية...! وبعدَ لحظات قليلة معدودة، رفعت رأسها وكأنها تذكرت شيئاً تريد أن تقوله، فأردفت: ليأخذنني الشيطان، فأنا وكما قلت لا أريد الحياة، بل أمقتها وأرفض الخوض في مضمارها، ثمَ وبكل ما تملك من إباء وحزم وصرامة، وبعد أن جمعت قواها، صرخت مصرحة بكل إخلاص:

 

أريد أن أقتل نفسي، وأجهشت في البكاء والنحيب وهي تردد لا أريد أن أعيش، هل هذا مفهوم يا رجل، وهي تنظر لي بأسى ودونَ رحمة، عندها أشارت لي بأصبعها الصغير الرفيع الجميل الذي يشبه إلى حدٍ ما ميل الساعة المنضدية التي نمتلكها في غرفة الجلوس! وقالت بطريقة آمره يملؤها الحزن:

  أجلب لي ورقة وقلما، ثمَ أردفت مباشرةً: أريد أن أكتب وصية، وابننا الصغير آدم سيبقى أمانه في عنقك  وليسَ لدي أمنيةٌ أخرى أود تحقيقها أو تسجيلها، سوى أن تربي ابننا على الفضيلة والأخلاق الحميدة ولا تجعله يحتاج شيئاً، أرجوك عدني بذلك، بل أقسم لي الآن وأمامي، بأنك ستنفذ وصيتي هذه بحذافيرها، هيا... عدني أرجوك...ثم بدأت تصرخ بشكل غير مألوف، مما جعلتني أفقد توازني المعهود ورصانتي وحكمتي التي يشار لها بالبنان في المواقف الحرجة والصعبة، ولم أستطع التركيز فيما يجب أن أفعله، وشجاعتي هذه المرة قد خانتني تماماً وكما يقال:

 المرء يكون قوياً وأبياً وحكيماً عندما تكون المشكلة لا تخصه؛ وما أن يقف في المواجهة والموضوع يتعلق به شخصياً، فسرعان ما يذوب لوعةً وحرقة، فما أغرب طبع الإنسان هذا...!!

  بقيتُ جامداً كالثلج بلا حراك، وأنظر لها وقلبي يدق بقوة ليبدو وكأنه يود أن ينفجر أو أن يخرج من مكانه... في هذه اللحظة بالذات رنَ جرس الباب بصورة متواصلة وكأنه صوت إنذار لسيارة إطفاء مما زادَ موقفي تعقيداً وارتباكاً وحرجاً، هرعت لفتح الباب، وإذا بابني آدم يدخلُ عائداً بعدَ أن غادرَ المنزل قبلَ عشرين دقيقة تقريباً متوجهاً إلى مدرسته، وقلت له متسائلاً باستغراب شديد، وملامح الحيرة وشعور من الغضب والرجاء رسمت على وجهي المتعب الناعس والذي لم أغسله بعد:

 ما الذي جعلكَ ترجع مجدداً يا آدم؟ هل هناك مشكلة؟

 تركني كالتمثال واقفاً عندَ الباب ولم يرد على أسئلتي، ليتوجه راكضاً، مسرعاً إلى أمه التي مازالت في السرير وعيونها تذرف الدموع الغزيرة بكل سخاء... وهو يقول لها مبتسماً:

 ماما، معذرةً، لقد نسيت أن أقولَ لكِ معَ السلامة وأنا أغادر إلى المدرسة، لقد كنتُ في عجلة من أمري... ولكني... ولم تنتظر زوجتي أن يكمل آدم كلامه ، لتخطفه من الأرض بحركة مذهلة، مدهشة، سريعة وخاطفة، بعدَ أن قفزت من على السرير كالأرنب لتضمه إلى صدرها وتقبله بحرارة وكأنها لم تراه منذ سنين وهي تبتسمُ ضاحكة  كالأطفال وتقول:

 لو لم ترجع الآن يا آدم لقتلت نفسي... بينما صدحت ضحكاتها المرحة، الفرحة في كل أركان المنزل، بعدَ أن عادت لها الحياة وبُعثَ فيها النشاط والحيوية فجأة، لتبدو وكأنها في اللحظة التي قالت أمام الشيخ الذي عقد قراننا: نعم أقبل به زوجاً...

 يزرع آدم قبلة على يدها الناعمة الملساء التي تشبه سطح الزجاج وهو في الحقيقة لم يفهم كل ما كانَ يدور من حوله، لأنه مازالَ لم يتجاوز بعد عامه التاسع!

 

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 11:07

يحيى الصابئي

 في فجر شتاء قارص البرودة، وجده يحيى الصابئي أمام عتبة باب داره، ملفوفا بقطعة قماش بيضاء؛ يبدو حديث الولادة، موضوعا في سلة مصنوعة من أوراق سعف النخيل الصفراء، يرتجف ويبكي من الجوع والبرد دونَ انقطاع...

 انحنى الصابئي بعوده الرفيع ورفع الطفل الوليد برفق، كأب يحمل ابنه المريض. عرف عن يحيى في منطقته التي يسكنها في الجزء الجنوبي من بغداد بتحفظه الشديد في آرائه حول الأديان، يحب دينه كثيرا، ولا يرضى بغيره، دينا، رغم تحفظه وآرائه... وغالباً ما كان يردد شعاره الذي يتغنى به أينما وجد: الدين هو الأخلاق! ثم يهتف بتفاخر عجيب: كن على خلق، فأنت مؤمن والله يحبك. لقد كان الرجل وحيداً، حيث ترمل بعد وفاة زوجته وهي مازالت في مقتبل العمر، لم تلد له طفلاً، ولم يقبل بالزواج من بعدها بأية امرأة أخرى... لحين ما عثر على الطفل الذي وجده في ذلك الصباح الذي تلسع برودته كلسعة النحلة.

 حمله إلى داخل داره، وهو يتألم لمنظر الطفل المروع، قبله ووضعه أمام الموقد في الغرفة الجانية من مكتبه، وأعد له زجاجة من الحليب الدافئ، رضعها الصغير دونَ أن يأخذ نفساً للراحة... نظر الطفل إلى وجه يحيى وابتسم، كابتسامة الصيني؛ لم يستطع الصابئي من تحمل هذا المنظر، ذرفَ الدموع دونَ شعور، فسقطت على وجه الطفل... ثم تورد وجه الرجل إشراقاً، مدَ يده نحو الطفل برقة... فاستجاب الصغير له ورفع إصبعه الصغير الذي يشبه نواة التمر، فانحنى يحيى عليه وقبله مرةً أخرى وهو يخاطبه، كالراهب:

  أمكَ تحبك كثيرا، فلا تغضبُ منها أبداً، ثم استطرد بصدق وبسرور: 

 ماذا أسميك ؟ سأسميك رسولا، ما رأيك؟! ثم أردف: رسول كلمة رائعة، فالرب بعث للبشر عدة رسل، وأوصاهم بنشر العدل والحب على الأرض، ها... ماذا تقول؟!

 - حرك الطفل قدمه بخفه، كرعشة عصفور مبلل.

 - إذن اتفقنا!

 شبَ رسول قوياً، ذكياً، مسالماً في أحضان دار الصابئي، له عينان واسعتان، جميلتان وكأنهما تعودان لفتاة، طيب القلب، نقي السريرة، واضحا، مباشرا وصريح الحديث وقد اعتادَ على عمله اليومي الذي يبدأ منذ الفجر  وعند ظهور الخيوط الأولى من أشعة الشمس الذهبية التي تشبه سنابل القمح؛ يهمُ بالذهاب مباشرةً لأبيه يحيى، يساعدهُ لاستقبال يوم جديد بفرح وهمة، يكنس الدار، يرتب أدواة المطبخ... بعد أن كان قد أنهى دعاءه بصمت وهو يقول في سره:

 

 يا رب، أنا لا أريدُ شيئاً، ولكن لا تجعل أبي يتألم  في كبره، ولتكن حياة شيخوخته، كلحظات غروب الشمس، تنسحب وهي صامته، إنه يسعلُ كثيراً هذهِ الأيام، إنه عبدك يا رب  جعلته ودوداً وطيباً، فأعطه بمقدار ما يعطي، وخذ منه  بنفس القصد... أمين.

 

ثمَ يذهب مودعاً، إلى ورشة النجارة التي يتعلم فيها مهنة النجارة، والتي لا يعرفُ غيرها في الحياة. بدأ منذُ الصغر وهو يفكر بأشياء تبدو له كبيرة وصعبة المنال؛ لكن لا شيء في الحياة مستحيل( هكذا كانَ يقول له أبوه ) فيقنع نفسه بالتمني، ويسعد بأوقاته أثناء عمله... خاصة تلك التي يقوم بحفر الخشب فيها ليصنع منها لوحات جميلة مزخرفه، وبأحجام متنوعة، تهدى مجاناً ، لبعض دور الأيتام والمستشفيات الخاصة، وفي إحد الأيام طلبَ من أبيه أن يحضر له خارطة أفريقيا، فأستغرب أبوه وقال: ماذا ستصنع بها؟

 

- سأقوم بنحتها.

 

- ولكن، لماذا أفريقيا؟

 

- لأنني أريد زيارتها عندما أكبر وسأجمع من المال ما يكفي لرحلتي تلك. 

 

- شيء جميل يا بني، عندما يحلم الإنسان بشيء ويود تحقيقه، وإن كانَ صعب المنال، سأحضرُ لك ما طلبته غداً.

 

- شكراً يا أبي، فأنا أحبك كثيراً.

 

نحتها وعلقها في الممر المؤدي إلى الورشة... لقد كانت رائعة، فقد استغرقَ نحتها خمس سنوات، بعد أن طعمها بأنواع كثيرة من الأخشاب والأحجار، لتكون في نهاية المطاف لوحة جميلة جداً، لا تقدر بثمن.

 

 أصبحَ عمرهُ ثلاثين عاماً، التقى بأبيه كالعادة، وكانَ في وعكة صحية فسأله الأخير برقة:

 

متى ستسافر إلى أفريقيا؟ وهو يسعل كالمصاب بالسل.

 

- لدي الآن نصف المال، وعلي أن أجمع النصف الآخر.

 

- لكنك الآن في الثلاثين يا بني!

 

- أعلمُ ذلك يا أبي، لكنني مازلت أعيش الحياة، إذن سأبقى أحلم... وهو يقبل يده.

 

ماتَ أبوه يحيى عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، فيما كانَ ابنه يبلغ من العمر التاسعة والخمسين، في حين حادثة الوفاة سببت له أثراً مؤلماً وبالغاً في حياته، فهو لم يشعر بيد ترعاه، كما كانت يده، ولم يسمع كلمة حب، كما كان يجدها من أبيه، فقد عوضه عن حنان الأم المفقود، قدر المستطاع، وأصبح له مثلاً يقتدي به، حتى باتَ يقلده دونَ شعور، في الكثير من حركاته، طريقته في الكلام، مشيته الصامتة ، فقد كانَ يمشي وكأنه يزحف! باتَ يقضي أوقاتا أكثر من ذي قبل في مكتب أبيه، وكأنه يعوض الفراغ الذي خلفه. لكنهُ ظلَ يحلم ويجمع المال الذي سيسافر به لمشاهدة حلمة على أرض الواقع.

 

شاخَ رسول سريعاً، صارَ عجوزاً وهو في الخامسة والستين، نحيفاً  كعصا، فقرر السفر أخيراً... لم يأخذ معه سوى نقوده، ونظارته الكبيرة ذات الإطار الأسود، التي بدونها يصبح كالأعمى، فأستقلَ القطار الذي ينقله إلى سبر اغوار حلم حياته، لطالما سهرَ الليالي وهو يحاكي طيور أفريقيا، ويتغنى بأسماء فيلتها، ليعبر القارات من أجلها.

 

بعدَ رحلة مهلكة لعجوز مثله، وفي شتاء بارد جداً، لم يتوقعه أن يكون هكذا في أحر قارات العالم، وصلَ إلى عاصمة جنوب أفريقيا، وجهه منهك من النعاس والتعب ومعفر بالغبار، وشعره الذي بلون الرصاص، أشعث، وكأنه ليفه استعملت كثيراً في التدليك، أول قدم وضعها على أرض محطة القطار هي اليمنى، بينما مازالت قدمهُ اليسرى على عتبة باب القطار، عندها استقبله مباشرةً، شاب أفريقي شبه عار، ومنظره يدلُ على أنه شحاذ، قالَ بصوت جهوري مسموع:

 

أعطني يا أبي يدك، سأساعدك في النزول، رفع بصره ليرى رجلاً كالفيل، لكنه جائعٌ جداً، لأنه رآه وهو يرتعش رغم ضخامته، سلمَ يده بكل ثقة وأمانة، لكنه تفاجأ، عندما رفع الشاب علية سكينة جيب صغيرة، يكسوها الصدأ، لا يمكن لها حتى أن تجرح طيراً، فقالَ له آمراً:

 أعطني ما تملك يا هذا، أنك لا تحتاج إلى النقود وأنت بهذا العمر، فكم ستعيش بعدَ الآن؟  هيا... أعطني مالك  وإلا قتلك!

 - ابتسمَ  له رسول ومدَ يده في جيبه ليخرج ما جمعه من مال طوال خمسة وستينَ عاماً، وقدمها له وهو يقول: خذه يا بني لأنك فعلاً بحاجة له أكثر مني.

  لم يصدق الشاب الأفريقي نفسه، فإنه سيحصل على نقود كثيرة وبهذه السرعة... بدون أي إصابات أو جروح، ولا ندب ودماء وآثار!

 أخذَ النقود كلها، وهم بالفرار وهو مذهول من المفاجأة، لكن رسول استوقفه وخاطبه بلطف:

  لحظة من فضلك، إني أراك ترتجف من البرد، ستموت لو بقيت هكذا عريان! خذ هذا... فنزع عنه معطفه، وهو يبتسم كشمس الصبح، وهو يرى حلم حياته ينساب ويتسرب من غربال عريض الفتحات. ليسأل المارة برجاء أبوي:

  أرجوكم، بالله عليكم، قولوا لي، أينَ هي القنصلية العراقية؟ وكلمات أبيه ترن في أذنيه، كالطنين: الدين هو الأخلاق، كن على خلق، فأنت مؤمن ويحبك الله...

  

نشرت في قصة
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 11:03

حانة العم مرزوق

لم يعرف العم مرزوق في مقتبل حياته سوى الخمر والنساء؛ ذلك الرجل الذي لسانه تبرأ منه منذ زمنٍ طويل، لا ينفك عن القرح والذم والتهريج، كبائع متجول! وهو المميز بعلامة فارقة لا يمكن تجاهلها عندما تنظر إليه، فهو ولد بعين واحدة سليمة، يرى العالم من خلالها؛ وعندما تغرّبَ مبكراً، لم يجد أمامه إلا أن يفتح حانه، ليمارس ما كان أصلاً قائماً في حياته في العراق قبل غربته- التي يقول عنها تعسفية - إلى تركيا، وهناك مارس عمله الذي هو كل حياته ولا يعرف سواه، الخمر؛ لكن هذه المرة دون النساء...  بعدما أن هرم الرجل وهدّه المرض والعرق.

 أفتتح حانته في المنطقة العربية المكتظة بالبضائع والسكان العرب وضجيجهم الذي لا ينقطع في مدينة إسطنبول القديمة؛ تجدها مدفونة بين بيوت الحي، على ناصية شارع فرعي يؤدي بدوره إلى شارع رئيسي ينتهي إلى مركز المدينة. علق لوحة على واجهة الحانة وكتب عليها بكل فخر: حانة العم مرزوق، وبخط يد منحوس، مخربش وبالكاد كان يقرأ؛ أبقى على جدرانها العارية الصماء التي تعكس وحشه خرساء مذبوحة أو مغتصبة، عتيقة الطلاء، بعد أن أبى تجديد دهانها؛ أحضر بعض الطاولات الخشبية المستعملة مع ما يناسبها في القدم من كراسي، وظلت الأرض عارية من أي غطاء، سوى الخشب الذي ما أن تطأه الأقدام حتى يصرخ مهتاجاً، وكأنه يتألم؛ جعل الحانة محل لعمله ومكان لإقامته وسكنه؛ فلم يكن يغادرها إلا ما ندر أو شذ أو في الحالات التي يحتاج فيها شراء بعض ما يلزم من خمر أو( مزات ) لإدامة عمله، الذي يقول عنه مسل، بائس ولعين في نفس الوقت، خاصة عندما تقوم بعض المناوشات الكلامية وتتطاير في الهواء الكلمات النابية الفاحشة بين جمهور الشاربين بعد أن يستولى الخمر على ما تبقى من عقولهم التائهة أصلاً... وهو الذي يسقي زبائنه ويشاركهم الشرب، عادة، رغبه، إدمانا، إرضاء ومجاملة في بعض الأحيان، وما أن يستمر بالشرب حتى يزداد ليناً، انشراحاً وتألقاً، فيصبح مزهواً، معتداً بنفسه، وهو يردد مقولته التي يفتخر بها، نعم، أنا أشرب العرق، لكني لا أسمح للعرق بشربي!! لذلك أبقى واعياً ولا يتسرب الخدر إلى خلايا جسدي... ومهما أكثر من شربه، لا يصل إلى حدود السكر الحمراء أبداً.

طلع القمر في بهائه الساطع، والحانة من تحته تستحم بضيائه الناصع... تقدم المساء المخترق السكينة بسبب الأصوات العالية والمتداخلة خارج الحانة، واللغط والقهقهات التي تصدر من الداخل، بعد أن اكتظت بالشاربين كالعادة، وبدأت الروائح الزنكة المختلطة بالعرق المتصبب من الأجساد والذي ينضح تحت الآباط بشكل مفضوح وكريه، ودخان السجائر المتصاعدة تملأ سماء الحانة الداكن، الغائم الكئيب...

فتح أحدهم باب الحانة الهزاز غير الطويل، ذا الطلاء الرمادي الغامق المتعفر، المتشقق والمقشر بسبب العتق والاستعمال وفعل السنين...  دخل بتثاقل وهو يغرز نظراته في الجالسين بفضول مبهم، غريب؛ ثم التفت نحو إحدى زوايا الحانة، المقابلة إلى ذلك الباب الذي لا يعجز عن إطلاق الأصوات المتشنجة، المقززة في كل مرة يفتح ويغلق فيها... وهناك اتخذ مجلسا من إحدى الطاولات الشاغرة، المحشورة في أحد الأركان حشراً... وجلس صامتاً وهو يترقب بحذر شديد، وكأنه بانتظار إشارة أو أحد.

كانت ملامح القادم الجديد الذي دخل لتوه مريبة بعض الشيء، إذ كان يتمتع برأس صغير، وأنف حاد، تنطق عيناه بنظرات ثابتة، قصير الشعر، غليظ الشارب، وملابسه لم تكن تدل على أنه من الميسورين أبداً؛ وعندما طلب خمراً يحتسيه، كانت نبرته، نبرة المجنون للعاقل، بعد أن تحير والتمع الدمع في عينيه ولم ينزلق، فظل محبوساً في الأحداق...

رفع الكأس وأخذ رشفه طويلة منه، ثم مسح شاربه الغليظ بقفا كفه وصاح بتجهم: ما هذا؟ وأردف مجيباً مشفقاً على تساؤله، إنه ماء جهنم وحق الشيطان ومن خلقه!! ثم قهقهه، كمن يستخف بمأساته وصمت، ليبدو وهو جالس،  كالمتشرد النائم على رصيف.

بعد برهة من ذلك الصمت الأخرس، أفاق على نفسه وصاح بصوت جميل، عذب وشجي بحيث يجلب الانتباه، وهو يصيح بعم مرزوق: أرقدش( كلمة تركية، تعني أخي بالعربية) هل لك أن تخبرني  عن رحيم أين أجده؟ ألم تره؟ ألم يحضر إلى هنا؟ ثم تابع برجاء حقيقي وتوسل، أنا بحاجه إليه كثيراً، لم أعد الصبر والحياة من دونه... لقد تركني بعد أن تخاصمنا على مبدأ حياة الغربة، وهرب... ولا أعلم إلى أين؟!

- أجابه عم مرزوق وهو يقترب منه، حاملاً كأس العرق بيده اليمنى، ويركز النظر فيه جانبياً، بسبب عوره، وهتف: لطف الله، الرحمة واجب، من أين لي أن أعرف رحيمك هذا؟ يا أخي، ومن ثم أنا لم أتشرف بعد بمعرفته، فكيف، أستدل عليه؟ ها... السؤال الآن موجه لك، ومن حقك أن تمتنع عن الإجابة وضحك بتهكم! ثم سحب كرسياً مقابلاً له وجلس.

 

- ركز بنظره، وكأنه ينظر له من ثقب باب، وبعد وقفة قصيرة، استعاد فيها هدوءه قليلاً، قال باستياء: يا إلهي، أمرٌ لا يصدق!! كيف لا تعرف رحيم؟ أنا استغرب ذلك كثيراً!!

 

- ومن يكون؟! ثم نبر، بالتأكيد أحد الصعاليك الذين نراهم هنا وهناك يتسكعون في غربتهم بتركيا.

 

- صرخ به باستنكار، كالمعتوه، وبصوت هادر مخيف وشجي في نفس الوقت:

 

يا رحمة الله، أرجوك، سوس أولان( كلمة تركية تعني اسكت هذا عيب بالعربية)  لا تقل مثل هذا الكلام عن رحيم، ثم أردف بتماسك، إنه فنان أصيل، أقصد فنان بالفطرة، مطرب كبير، يتمتع بحنجرة لم تصقلها الدراسة، إنها الموهبة الربانية التي قل أن تجدها في شخص آخر... ثم سعل قليلاً واستطرد مشفقاً على محدثه، خيبت آمالنا، أطال الله في عمرك يا... ( ولم يقل اسمه ) وتابع دون مبالاة، كان رحيم مطرب مشهورا في العراق، وله معجبون كثر، لكنه كان صريحاً ولا يحب التشوف أو المباهاة الفارغة ولا التنازل، لذلك ظل بعيداً عن الأضواء، تلك التي تعرفها... ثم واصل، إنك صاحب حانه وتعرف ما أعني، أليس كذلك؟!

 

- رد عليه متحذلقاً وبلسان ثقيل قليلاً، بعد أن جرع ما تبقى من كأسه الخامس لهذه الليلة: نعم، نعم أعرف كل هذا، قال العم مرزوق ثم سأله بتأنيب، لكنك لم تقل لي بعد لماذا هجرك؟ وأنت تقول إنه أعز أصدقائك، وإنه شخص لا يهادن أو يهاب!!

 

- هذا هو السؤال الذي أنتظره، ثم باغته بقوله: جدد لي كأس العرق أولاً... وأنا أقول لك! بل أنا لم آتِ إلا لأقول وأبحث ولأجد رحيما...

 

ذهب صاحب الحانة لملء كأسه... فسمع صياح جليسه ومن مكانه الذي تركه فيه، برعونة غير متوقعة من بقية الجالسين وبنفس الرنة الهادرة السابقة دون تردد:

 

تلك هي المشكلة، أقصد الغربة، الطقوس التي نمارسها دون احترام لذاتنا، ولأننا في غربة، اختلفت أخلاقنا، كثر كذبنا ورياؤنا، وأصبح من كان في العراق زبالاً... هنا طبيباً!! ثم هتف، كيف؟ لا نعلم!! هكذا هي أخلاق الغربة، هراء، لا تصدق كل ما يقال... ثم توقف عن الخطابة بعد أن بادرته نوبة سعال حادة، أستسلم لها، وفي هذه الأثناء حضر عم مرزوق وبيده كأسين ممتلئتين بالعرق واتخذ مجلسه أمامه، في حين عاود صاحبنا الهتاف والتنديد قائلاً، إرادتي ( أرقدش ) أغتالها اليأس، بينما رحيم لم يستسلم فتركني... ثم خفق ناطقاً، أسيفاً، تلك هي المشكلة! أقصد إننا لم نتفق، فتركني وهو ملاك، وأصبحت أنا في نظره، في شريعته وفي قانونه وعرفه، نذلاً، نزقاً أعاني الأمرين بعد أن اختلطت عليّ الأشياء وباتت كلها بلونٍ واحد... وما كنت أراه صائباً أصبح كفراً، والحمامة التي كانت في حضني سلاماً، تحولت فجأة إلى غراب ودون علم مني، بل تحولت إلى... فسق، زندقة وعدوان على نفسي والآخرين!! ثم ناح، وكما ترى بنفسك، أجالسك، أسكر معك، وكأنني أطلب التوبة على يديك!!     

 

- رد عليه عم مرزوق بعدم اكتراث وهو يدق كأسه بكأس جليسه نخباً: أنا أتفهم وضعك يا أخي، ولكن لا تعذب نفسك هكذا؟ تجمل بالصبر، والغائب عذره معه كما يقال، لا تيأس أرجوك، فاليأس هو الابن  الشرعي للموت! أليس كذلك؟ وتابع بحيوية نشطة، لا تعود إلى شخص شارب، وأنا لا أراك إلا ابناً للحياة، أشرب، أستمتع، تذكر كما يحلو لك، انس إذا أردت، ارقص إن شئت، غن إن أحببت، ولكن لا تيأس... ثم دعا، كمؤمن، قرب الله لقاءك بمن تحب، آمين رب العالمين( قال ذلك وهو يفتح ويغلق عينه اليتيمة بسرعة غريبة، نزقة)

 

- أشكر لك عواطفك الصادقة( أرقدش) ولكن- وهو يتلفت ويزر الآخرين بتلك النظرة الثاقبة المعتادة- ما هذه السهرة غير الماتعه، المعتعته، الباردة التي لا تريد أن تنتهي... ثم أضاف، ولا أن تجعل من العقل سلطاناً يذوب وهو يعاقر الخمر؟!

 

رد عليه أحدهم بصوت مقهور، وقح، وكأنه مخذول من شيءٌ ما: ستنتهي وحياة أمك( ضجت الحانة بموجة ضحك متهتك) ثم نبر بلؤم، ولكن بعد أن تجد صاحبك، أقصد رفيق عمرك هذا الذي أصدعت رؤوسنا به، من كثر ما رددته على مسامعنا، ثم ناح، لقد أفسدت علينا طقوس ليلتنا، أفسد الله عليك لياليك جميعهاً، كف وأعدل عن فكرة البحث... على القليل الليلة هذه، ثم شارك الآخرين الضحك، ها... ها... ها

 

- أجابه صاحبنا منفعلاً، مغتاظاً وهو يلوح بيده، بعد أن التمع ماء النشوة والغضب الزجاجي في عينيه: يا عدو الله، أنت... يا وجه الشيطان، يا سليط اللسان، أنت! طائش، أرعن ولا يفرق بين الديك والدجاجة! ثم أضاف، جنوني أفضل من عقلك، وغروري أسمى من فعلك، وتفاهتي أجمل من فنونك، ضنفوس( كلمة تركية تعني خنزير بالعربية) زنديق، لا يعرف نفسه حتى وإن ظل ينظر بالمرآة عاماً كاملاً... ثم تابع، أنتم يا أولاد السحالي، أراكم تشربون الخمر، كما تشربون الماء، كي تسكرون نشداً في النسيان، وهذا يخالف وجهتي في الشرب تماماً، فأنا أشرب كي أتذكر!!( ورجت الحانة بالضحك الصاخب من جديد )

 

فجاءه صوت قبيح من إحدى الزوايا التي لم يتعرف عليها: سلام يا نسيان، ثم أردف، أنت قواد وابن قحبه، والكل هنا يشهد... 

 

- مرحباً، شهود، سكتر( كلمة تركية فاحشة)!! ثم عقب، تقصد هؤلاء السكارى، شهود؟! ما شفاك الله من ورطتك اللعينة هذه إذن!! وتابع، أنت يا مسلولا... يا صلاّ... يا جسم فانيا، الموت سيكون نهايتك السعيدة، بأذن الله! ثم همس في أذن عم مرزوق، وكأنه يسرّ ذاته، أنا أرعن وأستحق كل هذا العذاب، أتعلم ذلك؟! ثم سكت، كراهب بوذي يتعمد في وحدته.

 

- أجابه صاحب الحانة مستدرجاً، متملقاً، وهو يتظاهر بالعفو ويصطنع الكلمة والغفران:( أوغلوم، كلمة تركية وتعني ابني بالعربية ) التاريخ يعيد نفسه، صالوما الداهية هي التي أدت بيوحنا إلى التهلكة! والزمن عبرة، والماضي لا فائدة منه، ورحيمك هذا لن يظهر بسهولة خلافاً لما توقعت! لذلك أقول، لا تتألم، اترك الأمر لصاحب الأمر( وبعد جرعة من كأسه ) تابع بحماس، يا حفيظ، جرب أن تصدقني، أو على الأقل، أن تأخذ بنصيحتي، فالحزن، كالابتسامة لا يمكن وصفهما بسهولة، أعني ليس بالشيء الهين أن ترسم الحزن أو الابتسامة على الوجوه، حتى وإن كنت رساماً بارعاً، لذلك أراك تتعذب أمامي وتسكر، والذكرى هنا زمن فائت كما قلت، غير موجود، ونحن هنا لا نتعامل مع الأشباح إلا عندما نسكر!!

 

- رفع صاحبنا رأسه وصوب نظراته التي لا تخطئ، كالسهم الموثوق منه، حرك لسانه وقال: جبر الله بخاطرك( أرقدش ) وما تقوله صحيح، ولكن... كيف أشرح لك؟ أقصد، أن الغربة في جدال مع التناقض، والأخلاق هي محور الحوار! والشخص الغريب في الغربة هو الخائن الخسران وإننا لا نعيش هنا على سجيتنا، بل نتصنع، نموه ونميل إلى الخداع والتشويه والتحريف، ناهيك عن قسوة ومعاناة البعد والتشرد الذي نعانيه... لذلك أقول أن منطق الغربة في جدال أو صراع مع التناقض!! ثم صاح بحنجرته العريضة الواسعة، أتفهم ما أقول؟! والدموع كانت قد غزت عينيه بسخاء لا حدود له وفجأة ودون إرادة منه... راح يدندن بنغم شجي، مؤثر رائع، حميم أبهر الجالسين وهو يردد، مازال صديقك يا رحيم يدور، تعودنا الجهل، فصار الجهل نورا، أحببنا الحياة، ولم نعلم بأن الحر مقصور، تجاهلنا الحق، وطبع الخلق مغرور، فهمنا الحب وشعور القلب مسحور، تكبرنا وشر العقل مدحور... ثم جرع ما كان باقياً من كأسه في جوفه دفعة واحدة وناح، رحيم، أين أنت الآن؟! أين؟ وصديقك مازال يسكر وفي مكانه يدور، وظل يدندن بذات الصوت الحزين العذب...

 

في هذه الأثناء... دخل زبون جديد إلى الحانة، فزعق الباب الهزاز باستهتار صارخ بأن أحدهم شقها من الوسط!! نظر إلى الجالسين وهو يعاين المكان، وكأنه ينوي شراءه، حتى عثر على صاحبنا الباكي، الشاكي الذي كان غارقاً بالغناء... فصرخ القادم الجديد به فرحاً، غير مصدق:

 

منْ هناك؟ سلطان الطرب! وأخيراً وجدتك، يا رحيم يا فنان يا ملهم، يا أصيل... توقف لحظه، بلع ريقه، لوح بيده، وكأنه يرحب بالجالسين وصاح هاتفاً، يا رجل لقد أتعبتنا... فمنذ الصباح ونحن نبحث عنك في كل مكان... تقرب منه وهو يدعوه مبتسماً، هيا أنهض معي ولا تجعلنا نتأخر أكثر، فالفرقة الموسيقية تنتظرك، والمدعوون كذلك  وأنت هنا! ثم استدرك، لا حول الله يا رب، ماذا أقول، ولمن أشتكي؟!

 

توقف رحيم عن الغناء، اعتصم بالصمت ولاذ به، كأنما يمثل طبع الحجر، الذي لا يعرف الشعور أو التأثر أو النظر، وينظر بالقادم وفي حال شبه غائب عن الوعي، بسبب كثرة الكؤوس التي جرعها وهو يشعر بالذل والخيبة والهوان ومن عدم الانتماء؛ الانتماء الذي هو علاج لكثير من الأمراض في غربته القسرية التي لا تريد أن تحيه أو تميته، وهذا ما كان ينقصه، فمرض بعد أن تخلى ضميره الحي، الناطق، الصادق عنه، وهو في أمس الحاجة لنقد الذات في سويعاته المقهورة الحزينة تلك.

نشرت في قصة