• Default
  • Title
  • Date
الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2013 19:44

العلاقة بين المثقفين

مألوف ، وصار تقليديا، ذلك الأسلوب التنافسي الذي يحكم العلاقة السائدة في الأجواء الثقافية. وهو اسلوب مقبول لو بقي بالفعل ضمن حدود التنافس، ولم يتجاوزه الى اشكال تناحرية خطرة من المقولات التي تدين صاحبها في النهاية اكثر ما تدين الاخرين. مقولات، اقل ما توصف به، انها حصيلة خلل في التوازنات الذهنية وعدم موضوعية لدى المثقفين المعنيين.

الرابطة المندائية ، كانت احدى الواحات الثقافية التي عاشت مثل هذه الصراعات، ربما بسبب غزارة الوقت المهدور في حياة بعض من زملائنا، وهم في بلدان الاغتراب يقتلونه بالتلاسن الخفي والخبيث والذي تتردد اجوائه وروائحه الكريهة في المحافل المندائية هنا وهناك، يتهمون من يعمل بجد واخلاص بالتآمر والحفر من تحت الاقدام والالتفاف على الزعامات الوهمية ،مستمدين هذه السلوكية ، من التربية التآمرية التي خلقها النظام السابق في نفوس الناس. وهذا قد تفرغ عنه بالضرورة، بعض من التراجعات والانكسارات فرضت نفسها على طبيعة العمل الذي كنا نرتقبه ويرتقبه معنا العديد من الزملاء والاصدقاء ليرتقي الى مجالات فسيحة وواسعة تشمل نشاطات وابداعات ،والقيام بحملات تضامنية مع محنة المندائيين في داخل العراق الذين يتعرضون الى مخاطر الابادة الجماعية.

بقي بعض من مثقفينا متمرسا في موقعه الاول الذي تربى عليه زمن الديكتاتورية، صاحب الرأي الابوي الذي يجوز له ان يقول كل شيء، ولا يجوز لغيره ان يقول شيئا، وبقي هذا البعض يحاول تهديم الاسس التي شاركنا جميعا في بنائها من اجل اعادة هذا البناء على مقاسات واسس يرتأيها هو وتكون وفق مقاييسه الشخصية لتحقيق طموحات ونزوات ضيقة لاتعترف بالعمل الجماعي بقدر ما تشيد بشخصه وتحقيق طموحاته.

عدد من المثقفين المندائيين لايشذون عن القاعدة التآمرية ، التي اشرنا اليها، فهم على اي حال خريجوا الاساليب التربوية التي تربت عليها جحافل كثيرة، من مثقفين وغير مثقفين، ورغم التزام هذا البعض في بداية عملية التأسيس بالعمل والمواضبة، فان ممارسته تلك سرعان ما خفتت مساراتها وحرارتها الاولى ما ان تم انتخاب غيره لقيادة العمل ، حتى صرنا كأعضاء في الهيئة القيادية نتوسل من اجل حضور هذا البعض اجتماعاتنا الدورية المقررة !!

ثمة عمليات استقطاب كانت جارية بنهم شديد لاجل خلق تجمعات وتكتلات تبنى حسب توافق في الذهنية والتقاء في الاراء ازاء مواقف اغلبها لايحمل صفة الوضوح، ولم نعارض اي من هذه الاتجاهات ، بل كان اصرارنا على ضرورة التعامل باسس العمل الديمقراطي كمبدأ تربوي لايمكن تنحيته او اهماله او الغاؤه، الا ان المسلكية العشائرية الحزبية التي اتبعها هذا البعض والتي لاتمت الى الوعي الثقافي باي صلة، ظلت مصرة على التهديم. 

فماذا شكل هذا العمل من خطورة على بناء الرابطة الوليدة؟ باختصار انه زعزع الهيكيلية الثقافية برمتها، بل هو ايضا، زعزع الذهنية الابوية نفسها التي اراد فرض هيمنتها على الجميع وجعلها في النهاية عاجزة عن التقييم الموضوعي لانها تكون في الاصل عاجزة عن استيعاب الاعمال الجدية لغيرها ولاترى في المرآة الا نفسها.

لكننا الان وبعد هذه المراجعة التي اجريناها على انفسنا ورحلة العمل التي امتدت اشهرا طويلة، قادتنا لاتخاذ قرار شجاع، هو التواصل والاستمرار في العمل، لانجاح هذه التجربة الفريدة والمتميزة وامامنا جولة قادمة نحتكم بها الى التاريخ ليحاسب.

الغضب وحده لايصنع حلولا نطمح لتحقيقها جميعا، والسخط لاينتج حقوقا نريدها لابناء المندائية اينما كانوا، فعلى الرابطة وهي تستكمل بناء نفسها، تفعيل العمل الايجابي بالتوسع لتصبح حركة ثقافية حقوقية نضالية تستطيع جذب جميع المثقفين والفنانين المندائيين، وهي تلتزم باطار صارم من العمل الموضوعي الثقافي والاخلاقي المهني، لتساهم جنبا الى جنب اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر،والجمعيات والروابط المندائية الاخرى، برصد كل ما يتعلق بانتهاك حقوق الانسان المندائي، ورفض التهميش والاضطهاد التي تقوم بها قوى الظلام والسلفية.

الرابطة تناشد الجميع بأهمية توحيد الصف، والتعبير عن المطالب المنشودة التي جاءت بالميثاق الثقافي والنظام الداخلي. وتدعو جميع الزملاء اعضاء ومناصرين ومؤيدين للرابطة في الالتفاف حول هذه النافذة الثقافية العراقية لدعمها وتأييدها والوقوف الى جانبها لتجاوز كل العقبات التي يرسمها الاعداء امامها.

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2013 17:16

عائش جبر يحيى

كنت في ايام الصبا قد التقيت الراحل عائش جبر يحيى اكثر من مرة لان والدته المرحومة ( ام عايش) قد سكنت دارنا مستأجره احدى الغرف في الطابق العلوي لعدة سنوات في منطقة الصالحية ببغداد، وكان هذا المربي الكبير في عدد من زياراته لوالدته ، يتحدث عن الانفتاح على المستقبل وتوجيه الابداع نحو منظور مستقبلي ، مؤكدا وهو ينظر باعجاب الى رسوماتي التي كنت انجزها بالحبر الصيني على الورق الابيض ، بان مثل هذه المسألة ليست سهلة بل هي مسالة صراع اجتماعي بين القوى التقليدية في طائفتنا المندائية والقوى الطليعية المنفتحة على آفاق التقدم والمستقبل. خاصة على المبدعين والفنانين المندائيين الشباب بان يبدعوا عطاءات ونماذج لم تجد لها آنذاك سندا كبيرا، الا انهم باعتقاد المرحوم عائش وكل من المربيين الراحلين نعيم بدوي وغضبان الرومي ، وعشرات غيرهم ،يمثلون فعلا قوى التقدم والامل في الطائفة المندائية.
كان هذا المربي الكبير ومن خلال متابعاتي ولقاءاتي به القليلة لاني كنت قليل اللقاء بابناء المندائية في تلك السنوات، يحث بان يكون للشبيبة المندائية دور يتجسد بالتبشير بالتقدم وانارة لمكانات المستقبل، فما كان ينتظره منا جميعا هو ان نتحول الى قوة اجتماعية وفكرية رائدة في مجال تحديث الطائفة وفك اسرها لتنطلق بمبدعيها نحو الافق الذي رسمه لها الاجداد والاباء الاوائل .
اتذكر وجهه الانساني الذي يمتلك جاذبية كبيرة، يلفه جمال مندائي ساحر آخاذ، لم يكن قد نال منه العمر الا تداعيات السنين في عمله التربوي الكبير، فظل الى ان غادرت العراق ورأيته مع ابنه صديقي الدكتور نعمان، لاخر مرة في شارع المستنصر لاسلم عليه بحرارة التلميذ لاستاذه مودعا والى الابد ارض العراق الحبيب، متوجا بالنضارة والالق والاشراق ، على سمو ورفعة واباء تليق بواحد من اعلامنا المندائيين ، نفخر بهم وبما قدموه من علم ومعرفة للوطن والطائفة.
سلاما لك ايها المربي الكبير في ذكراك التي ستظل عامرة في قلوبنا اينما تواجدنا وحللنا في ارض الله الواسعة.
وسلاما لتلك المحطات التي زرعتها لاجيال من بعدك، اغترفت من علمك الكبير ونبلك وطيبتك المندائية الاصيلة.

المرحوم الاستاذ عائش جبر يحيى

- ولد المرحوم عائش جبر يحيى عام 1910 في قضاء قلعة صالح في محافظة ميسان وأكمل دراسته الابتدائية فيها.
- دخل دار المعلمين الابتدائية في بغداد وتخرج منها عام 1931 وكان من ضمن الخرجين لتلك السنة من المندائيين ، إضافة للمرحوم عائش جبر كل من المرحوم نعيم رومي والمرحوم راشد لامي.
- عمل في سلك التعليم فتعين لاول مرة في البصرة ثم إنتقل الى مدينة العمارة.
- عمل كمدير مدرسة لمدة قاربت خمسة عشر عاما.
- إنتقل الى بغداد عام 1958 وعمل في سلك التعليم لحين إحالته على التقاعد عام 1964 بعد أكثر من ثلاثة وثلاثون في سلك التعليم كان فيها مثالا للمعلم الناجح والمربي للالاف من طلبته الذين لايزال الاحياء منهم يحمل له أسمى وأنبل الذكريات.
- تزوج عام 1939 من كريمة المرحوم الكنزبرا يحيى الكنزبرا زهرون.
- أنجب ثلاثة أبناء وهم الدكتور غسان عائش والمرحوم المهندس عدنان عائش والدكتور نعمان عائش، وستة بنات وهن نجله وأميره وخوله ونهله ونضال وبان.
- إنتقل الى جوار الحي العظيم في 8.7.1990 بعد مرض لم يمهله طويلا.

عمل المرحوم عائش جبر في خدمة الدين المندائي وأبنائه بنكران ذات على مدى أكثر من ثلاثين عاما من العمل المتواصل فكان من أوائل الذين سعوا لكي يكون لهذه الطائفة كيان معترف به.
منذ تأسيس مجلس التولية في زمن المرحوم الكنزبرا عبد الله الكنزبرا سام، عمل المرحوم عائش جبر مع الاستاذ المرحوم غضبان رومي والاستاذ المرحوم زهرون وهام و المرحوم خليل مال الله وآخرين بجهد لايكل ولايمل من أجل أن تحصل الطائفة على بعض حقوقها ، ونتيجة لتلك الجهود المضنية تم شراء دارلكي تكون أول مندي للطائفة و كذلك الحصول على قطعة أرض لتكون مقبرة
خاصة للمندائيين في منطقة أبي غريب. ثم تكون المجلس الروحاني الاعلي للطائفة فكان المرحوم عائش جبر من أوائل أعضاء المجلس الذين ساهموا في وضع اللبنات الاولي لكان منظم للطائفة وبقي عضوا فعالا في المجلس لفترة قصيرة قبل وفاته.
لقد كان إيمانه بخدمة الطائفة لا يتزعزع وكان مؤمنا بأن ما يفعله من أجل الطائفة سيكون ثوابا له في آخرته وذكرى طيبة بعد مماته.
لقد رثاه الدكتور الشاعر محمد جواد الحلي في أربعينيته بقصيدة مؤثرة قال في أحد ابياتها

أنت الذي لم تكن يوما جوارحه الا سراجا بحب الناس يلتهب

الأحد, 14 نيسان/أبريل 2013 20:48

المربي الكبير نعيم بدوي

الكتابة هذه عن هذا المربي الكبير ، ليس لمن يحبون النرجسية او يرجون خداع النفس او الغير، ليس كتابة عن عبادة الذات، ولا هي محاولة تسويقية للتمجيد، ليس قطعة من الغزل بماضي انسان تشكل حياته تاريخا لنا نحن المندائيين في كل مكان، كما انها ليست دفاعا بالحق او الباطل عن رجل لازلنا الى يومنا الحاضر نحمل اعتزازا كبيرا له اسوة باعتزازنا برجل اخر من رجالنا الكبار وهو عبد الجبار عبدالله. ان الكتابة عن واحد من اعلام ثقافتنا الكبار، يمثل عرضا يقرن المحاسن، ويشخص مواقع القوة، ايمانا بوطنية هذا الرجل الشمولي، الذي امتلك جرأة المفكر الذي عرف دوره فتقدم لادائه دون ان يقف به مطمع او يحرفه هوى.
نعيم بدوي شخصية عراقية رحبة الافاق، ذات تاريخ مفعم بالمتغيرات، وهي في جوهرها الاساسي تقيّم على ضوء الدور الثقافي الذي لعبته وعلى النمط الاجتماعي وفعاليته وعلى الطموح السياسي الذي قادته خارج التقليد
وظل هذا الرجل طيلة سنواته التي تجاوزت التسعين ( 1911- 2002) موضوع مثالي لما امتلكه من تاريخ حافل، ولا يزال هذا التاريخ ينتظر من يبحث به ويستخرج مواقع الابداع فيه، فحياة الرجل لازالت ارضا بكرا على المستوى الاكاديمي المتخصص والثقافي العام معا. وما اقل ما يعرفه ابناء طائفته بشكل خاص والفئات المثقفة من العراقيين عن جغرافية هذا الرجل الذي يعد ابرز مربي الاجيال العراقية، بعد تأسيس الحكم الوطني في القرن الماضي . ولنا به مثلا يمكن ان يحتذى دون مواربة او تزلف، خاصة وان عراقنا بكل تشكيلاته المتنوعة، تربويا وثقافيا يجتاز هذا اليوم اخطر مرحلة، حيث يساق ويدلف الى احرج اختناقة في تاريخه الحديث وربما القديم كله. ان هناك انقلابا تاريخيا في مكان العراق اليوم، نحو الاسفل ولربما للوراء، نراه جميعا رؤية العين ولكن يبدو ان الاخرين متفاهمون بالصمت.
كان الراحل نعيم بدوي في محاضراته ورسائله الشخصية، يؤكد على الدوام بان الوحدة الوظيفية في اي مجال لاتأتي من الوحدة التركيبية المجردة والمنعزلة لاي بناء، بل ايضا من التنوع التركيبي داخل المجتمع او الطائفة، وهذا بالدقة ما يعرف بمبدأ التنوع او الوحدة بالتنوع. كان ينظر الى الشخصية المندائية عبر تجانسها في المقومات الاساسية لوحدة المجتمع العراقي ككل. كما كان يركز على الجوانب الثقافية في نمو وتطور وتحديد ملامح الشخصية المندائية، ولم يشجع الولاءات الضيقة او روح الاقليميات في وجه الولاء الوطني او على حسابه، ولم يمهد في طروحاته لنعرة طائفية منعزلة فكريا وسياسيا بقدر ما كان يضيف الجزء الى الكل من خلال العزة الوطنية الواسعة. كان يؤكد على التجاور المثمر في الثقافات العراقية، جنبا الى جنب ، كما تتجاور الحياة والموت، لقد ابصر كباحث ،ازاء حالتنا النادرة كطائفة دينية عريقة جنبا الى جنب الطوائف العراقية الدينية والقومية الاخرى من حيث السمات والقسمات والتقاليد والثقافات التي تجتمع فيها، كثير من العوامل المشتركة مع الاخر، لكن الاختلاف بوجهة نظره يجعل من كل من هذه الفسيفساء مخلوقا فريدا فذا، ثم هي تأتي عادة النموذج المثالي والمثل الكلاسيكي في كل شيء يحمل شراكة الوطن الواحد. مركزة مكثفة متضاغطة على نفسها بدرجة نادرة، بهذا وبذاك معا تجمع بين الحد الاوسط على الاقل من التعميم والتخصيص.
ان كل هذه الافكار التي كان يطرحها هذا المفكر ذات مغزى كبير في ارض يشترط انها ارض المتناقضات او الاضداد، الا انها تجمع بين اطراف متعددة غنية متألفة بكل جوانبها الخصبة، بين ابعاد وافاق واسعة تؤكد التجانس، وتؤكد في الوقت نفسه من خلال مسيرتها تلك الموهبة بسر بقائها وديمومتها وحيويتها على مر العصور، وهو ما يمنحها كذلك سمة التفرد.
يؤكد نعيم بدوي على اطروحة" النهر الكامل" فحياة كل الطوائف هي النهر، ولا وجود لاي طائفة بدونه، وزمن كل واحدة يرتبط بزمن وعوامل داخلية، تتميز بين الشد والجذب لتخرج شخصية العراقي الذي تحول الى عامل جغرافي موجب على مدى قرون طويلة، يغير ويشكل ويعيد تركيب ارضه الطبيعية باستمرار، ويمزج الطبيعي والبشري، الجغرافي والانساني، في هذا النهر الكبير الذي نطلق عليه وادي الرافدين.
التجانس بعد التكاثف تلك هي الكلمة –المفتاح والنغمة الاساسية داخل هذه البلورة المركزة والمضغوطة في وصف العراق التي كان يرددها هذا المفكر، وهي في كل هذا تبدو طبيعيا وبشريا، من التضاريس والمناخ حتى العرق والعقيدة والقرية والمدينة، جسما متجانسا الى ابعد حد ممكن، لا تتطور نحو التباين التدريجي الا على الاطراف التي تشكلها وثقافة هذه الاطراف المتنوعة، وعدم تغليب ثقافة على اخرى واو قسر ثقافة لاخرى، حيث تبزغ او تبرز الملامح المحلية الوطنية بكل نضجها الحضاري، اما الابتعادات الخاصة المفرقة فهي لاتتسع لتخلق التناقض والتصادم ،الا من خلال الاستبداد والطغيان، فلا شك ان الديكتاتورية هي النقطة السوداء والمشوهة في شخصية العراق، وهي منبت كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية العراقية، لا على مستوى المجتمع فحسب، ولكن الفرد ايضا، لا في الداخل فقط ولكن في الخارج كذلك. والشيء المؤكد الذي يصر عليه نعيم بدوي بان العراق لا يتغير جذريا، ولن تتطور حضارته لتستعيد مجدها وتتحول الى دولة عصرية حقا يسكنها شعبا متعدد الثقافات الا حين تدفن ظاهرة احتقار وانكار الاخر الشريك، لان مجتمع الاكفاء الانداد والافذاذ، هي التي تقرب الجميع الى وحدة النهر، لتتحول جغرافية التنوع الى ملحمة حضارية، ثمرة تزاوج الثقافات المتعددة، فهي محكومة بمثل هذا التنوع، وسوف تخسر نفسها ومصيرها ورصيدها الحضاري الكبير، ام هي تناست هذا المبدأ لترتفع الى مستوى التحدي والمسؤولية
انها شهادة مفكر شجاع في زمن التردي والتخلي وحكم صغار العقول، قدمها هذا الرجل وهو يعي تماما الوعي، ان الحاكم بالنظرية او بالتطبيق بالوراثة او الممارسة، بالانقلاب وبالدم يتوهم بان العراق دائما ملكا له، ضيعته او قريته الكبرى، هو الدولة وهو الوطن، والولاء للوطن هو الولاء للنظام، وكل نقد موجه لنظامه موجه له شخصيا، وبالتالي فهو خيانة وطنية.
عسى ان يجد كل عراقي نفسه في هذه الطروحات

ولد الراحل نعيم بدوي في قرية المجر الكبير في مدينة العمارة عام 1911
اكمل المرحلة الابتدائية في مدينة العمارة
درس في دار المعلمين الابتدائية في بغداد وتخرج منها عام 1931
مارس مهنة التعليم الابتدائي لمدة ست سنوات في القرى والارياف في قلعة صالح والمجر الكبير
دخل دار المعلمين العالية وتخرج منها عام 1941 وبقي في التدريس الثانوي لمدة سنتين
انتقل بعد ذلك الى التفتيش الابتدائي قرابة ستة اعوام
احيل الى التقاعد بسبب نشاطاته السياسية
يعتبر من مؤسسي الحركة اليسارية في العراق
عمل في التدريس الخصوصي حتى عام 1958
بعد ثورة 14 تموز اصبح مديرا عاما للتجارة في وزارة الاقتصاد
عمل بالتعليم المهني ثم عمل في المفتشية العامة متخصصا باللغة العربية
احيل الى التقاعد بعد انقلاب 1963
رأس اول تشكيلة ادارية لنادي التعارف لابناء الطائفة المندائية
ترجم جنبا الى جنب صديقه وزميل عمره الراحل غضبان رومي كتاب الصابئة المندائيون
قام بالقاء عدد كبير من المحاضرات عن المندائية
كتب العديد من الدراسات والمقالات في الصحف والمجلات العربية
ظل يؤكد على اهمية تعليم اللغة المندائية للاجيال الجديدة كاساس لحفظ المندائية وتماسكها الديني والثقافي
ترجم العديد من اعمال الكاتب الروسي انطون تشيخوف الى العربية
اعتبر من ابرز المربين اللغوين العراقيين في مجالات اللغة العربية
وهو احد اعضاء مجمع اللغة العربية
قضى فترات طويلة من حياته في السجون، نقرة السلمان/ سجن الحلة/ السجن المركزي

 

كلمة عن نعيم بدوي القاها الاستاذ جاسم المطير بمناسبة وفاته

لا أظن أن بإمكان أي واحد منا غير أن ينتابه الصمتَ وهو يتذكر نعيم بدوي. تلوح الآن بقعة نور تضيء أمامي بعض جوانبَ حياةِ أنسان لم تتعب قدماه ذاتَ التسعين عاماً من مواصلةِ السيرِ في ذات الطريق النير .. لم يذهب بصره إلاّ نحو النور ..ولم تسكنه حالة يأسٍ .

بهذه الصورة قابلته أولاً عام 1964 مثلما قابلته آخر مرة في عام 1996 وأنا مصمم على مغادرة الوطن .لا أستطيع ولا غيري يستطيع أن يلخص تسعين عاماً من سيرة رجل حمل في صدره سر الوطنية الحقة .تجاوز كل مداهمات الظروف القاسية ومدلهماتها منذ أول أنتمائه للحزب الشيوعي في بداية الأربعينات ومذ أصبحت تشع في عينيه أنوار الحرية في خضرة منهمرة على نهر دجلة في مدينة صغيرة ، مجرها كبير ، لا تتجدد فيها الحياة كما في مدن العالم الأخرى .داخل المدينة الصغيرة تحركت أفكار بضعة معلمين وهم يحاولون تنوير عقول سكانها نعيم بدوي كان أحدهم . لنقل كان طليعتهم ..

بادئاً منذ منتصف الثلاثينات يصارع ظلمة الجهل الدفينة بين شطري تلك الأرض مكتشفاً بؤس سكان أهوارها الذي يعانون ظلم توأمين : الفقر والمرض عليه أن يضرب سراً هو ومجموعته ، كل ما يعيق تقدم الأفكار الوطنية بين صفوف الناس المساكين ، لكنه يريد الخروج من عالم النضال السري الى المجادلة العلنية مع الحياة والناس فنقل الى مدرسة قلعة صالح .كان مديرها غضبان رومي فصار بنور نعيم بدوي عنصراً تنويرياً في المدرسة وفي المدينة كلها .آمنا معاً بأن كل شيء في الحياة دائب التحول . آمنا أن لا شيء يهبط من السماء غير النجوم ولا يقضي على ظلام الحياة غير نور البشر .
لستُ أدري كيف ومتى نمت روح جديدة في قلعة صالح متحولة الى قلعة للوطنية الصلبة مخترقة الطريق الصعب نحو شعبها .لستُ أدري كيف ومتى أستطاع نعيم بدوي أن يُنبت بذور أفكاره في عديد من القرى وفي عقول عديد من الناس فيها ، لكنني أعرف أنه أقتحم عقل مدير الناحية قاسم أحمد العباس فحوله الى عقل شيوعي .
لا اعرف كيف ومتى صافح بكفيه كفيّ رجل العلم العظيم عبد الجبار عبد الله لكنني أعرف أن تأثير الصغير على الكبير كان فاعلاً. لا أعرف كيف ومتى أقتحم عالم الأدب لكنني أعرف جيداً أنه بدأ كتابة الشعر في أول شبابه .
لا أعرف كيف ومتى وأين تعلم اللغة الإنكليزية فأتقنها لكنني أعرف أنه صار مترجماً قديراً ، منها وإليها ، ساعدته على التقدم خطوة خطوة نحو عالم الثقافة الكبير ينهل منه كل ما هو مثمر لمسيرته في حياة الكفاح المضني من أجل قضية شعبه في الحرية .
لا أعرف كيف ومتى ولماذا أدخل الى سجن نقرة السلمان لكنني عرفتُ أن الصلابة معدنه وأن الإصرار إرادته ، وأن الإبداع كماله ، وأن الربيع غبطته ، وأن عشق الوطن شأنه ، وأن الجنوب قيثارته ، وأن الشمال فضته . لا أدري متى وكيف وأين التقينا في منتصف السبعينات لكنني أعرف أننا غدونا صديقين فراقنا قليل ولقاؤنا كثير .
لا أدري كيف ترجم كتابه مع رفيق عمره غضبان الرومي عن ديانة الصابئة لكنني عرفت أنه ضليع في تواريخ الأديان كلها
لا أدري بأي حبر كتب سطور إهداء كتابه أليّ ، لكنني أحفظ كلماته عن ظهر قلبي المليء بعنفوانها وهي تقول : يا صديقي .. ثمة نور وافر في الحياة يجب ان نظل باحثين عنه إن في السماء أو بين صخور الأرض.. رغيفنا نور ، وبستان وطننا نور.. وتراث شعبنا نور ..حريتنا نور ..
**
هذا هو صديقي لأربعة عقود نعيم بدوي..
يا للمنفى البغيض يمنعنا من السير خلف جنازته مودعين. عانقته ضراوة الموت ونحن اصدقاؤه في المنفى ..
لا نطوي ورقات ذكرانا معه في هذا الاحتفال ، بل نفتحها ورقة ورقة من قلب المتحدثين وسط عالم الموت الصامت كي يظل لمعان البرق في رحاب نعيم بدوي الىالأبد ..
***
جاسم المطير
  

في رحيل الخال العزيز والمربي الكبير نعيم بدوي

لم نرثيك بالدمع أيها الرجل الكبير...
بل بالحزن العميق بعد ان أخذك الموت عنا في رحيل نحو المطاف الأخير
فقد علمتنا بان لا نلطم على الصدور.. لا نبكي موتانا
بل سنرثيك بالكلمات كما كتبت لي يوما ما
كنت أراك من بعيد وكان الوجع في روحك والدمع في قلبك وأنت تعترض مكابرا على ضربهن لصدورهن باللطم في مأتم والدتك الحنون الذي شهدته دارنا الطيبة هناك في البعيد ببغداد الحبيبة.
......
الكلمات تخشع أمام لغتك التي أشعلت في قلوبنا منذ ان كنا صغارا أبجدياتنا الثقافية الأولى، فعشقنا مفرداتك لنتعرف من خلالها على مواقع أنفاسنا في جنبات كل الأمكنة والأزمنة التي مررنا بها.
.....
في تلك الأيام التي غادرتنا فيه الطفولة، أغوتنا أحاديثك وكتاباتك فتبعناها الى عالم الأسرار للبحث عن الحرية كما أوصيتنا.. في الدهاليز والسجون والبيوت التي كان يلفها الشجن والأسى
.....
كنت تحفر في التاريخ والجغرافيا لحضورنا ليحتفظ كل لنفسه نافذة مفتوحة
بكلماتك ووصاياك ودأبك المتواصل لتخرجنا من أتون التخلف والأوهام وما ابتلت به الأعمار، وما تعلق بالنيات كي لا نقع في متاهات التعصب والضلال.
....
فكنت رمزا وسحرا مارس تأثيره على أجيال متعاقبة.. فوقفت جميع عربات حياتنا، فتية وكبارا، رجالا ونساءا في محطتك للتزود بوقود معارفك الواسعة، الا انك غادرتنا بعد ان بقيت مفترشا مساحة هائلة من وجدان وعينا
...
ونذكرك ايها الرجل الكبير الذي نود جميعا الاقتداء بجوهره الطاهر وأنت حاملا مفاتيح النضال من اجل حرية وكرامة الإنسان بكل معانيها السياسية والاجتماعية، فقد كنت نهرا عذبا ارتوت منه أجيال.
....
لن نخونك بالنسيان فذاكرة قلوبنا تختزن بمحبتك.. وذكرى أقوالك عن الناس، حروبها وافعالها وبغضائها وأمجادها ومعاركها.. لازالت منذ زمن بعيد معلقة في قلب كل من احبك
....
رافقتنا ونحن نؤسس لنهضاتنا الفكرية والمعرفية فقد أغويتنا وتبعناك الى عالم الأسرار للبحث عن حريتنا وكان هذا درسك الأول لنا
....
هكذا تصطفي الأشياء يا أبا المعرفة وتذهب أنت بعيدا عنا... أيها النقي الهادئ الصادق الوقور لتمضي جسدا ، وتبقى ذكرى بسعة الوطن البعيد
....
وكنت مع الذين رحلوا عنا من المبدعين الكبار من أبناء بلدي،
كنت حيا وستظل حيا بعد الرحيل، وما غيابك الا استراحة بين موتين افتراضيين بينهما تكمن الحياة
....
هكذا تمضي من أمامنا ونحن في مدن الاغتراب حيث تتواصل أحلامنا في عناد بعدم نسيان تلك المسافات التي سعيت أليها، وذلك الزمن الذي أسسته لنا جميعا الذي لا زال يمتد من القلب الى حدود القلب
.....
أينما كنا ، وبكل الأعمار والأسماء والانتماءات... نفترش أحلامك الكبيرة بانتظار صباحات جديدة لنتذكرك كواحد ممن حمل مفاتيح الحرية بكل معانيها والتي أخرجت العديد منا من مستنقعات الانغلاق وعشق الذات والظنون
.....

علمتنا منذ ان كنا صغارا بان زياراتك الصباحية التي تخلدت في القلب في أيام الأعياد، لم تكشف لنا ونحن كبار عن هذا السر العجيب الذي لا يزال يضج في شرايين القلب
سر الخيط الذي لا نزال نتمسك به ببعضنا، ونرنو الى آخره فاذا على امتداده يشد صحبتنا وقرابتنا، ويخضّر أعمارنا التي تيبّست قبل الأوان
.....
وجاء الموت ليخطف محطة المعرفة.. ليخطف الشجرة التي تظللنا بفيها.. ليخطف من نحب بدون استئذان ... يمر من أمام أنظارنا بدون كلام ولا سلام فالموت يمضي كعادته مثل البرق.. انه زائر يمضي لكنه سيعود
....
ستظل عوالمنا بعدك موبوء بالنسيان والحروب ونكبات الأمهات، الا أننا سنعلم أولادنا من تلك المعارف التي علمتنا إياها، بأنها نور في عتمة هذا الزمن الرديء
سوف نفرش من تلك الأحلام التي ناضلت وسجنت زمنا من اجلها أشجارا كبيرة ليتفيأ أولادنا بظلالها.

الأحد, 14 نيسان/أبريل 2013 20:05

الشيخ دخيل عيدان

اصرار على قيام تعاون بين الديانات العراقية للحفاظ على القيم الدينية والاخلاقية

ونحن نجلس فوق هذا الركام الكثيف الذي يلفنا في ارضنا العراقية الابية الصامدة، ويحيطنا من جميع الاطراف، ركام ارواح ابنائنا وبناتنا، نجلس كي نحصي الخسائر المتتالية التي يحصدها القتل الهمجي، لكننا لا ننسى اعلامنا البارزة الذين علمونا ابجدية الحوار مع الاخر، ومحبة الوطن، وضرورة الحوار والتعاون بين الديانات الشريكة بالوطن الواحد للحفاظ على القيم الدينية والاخلاقية في المجتمع العراقي . فان اغتال القتلة احد ابنائنا، فهم غير قادرين على اغتيال ذكرى الرجال والنساء التي زرعوا القوة والصبر والشجاعة في نفوسنا جميعا، وان كتبنا كلمات في وداع الراحلين عنا، الا اننا سنفتح وللابد كلماتنا بذكرى الطيبين، فليس الكره وحده هو من يعلمنا الانتظار الى الغد بل ومحبة المعلمين الاوائل الذين سعوا الى ظفرنا المندائي المجيد.

ااحد ابرز اعلامنا المندائية من الذين كانوا سباقين في نشر التنوير الديني المندائي العريق، انه احدى واجهات تاريخنا المندائي المعاصر، الشيخ الفاضل الجليل دخيل عيدان الذي علمنا حب الوطن ومفهوم الانتماء المعاصر لديننا ولغتنا وطقوسنا واصولنا وثقافتنا المندائية وكيفية اعطائها المقومات الوجودية الدائمة.

ونحن اذ نقدم هذا الشيخ المندائي الجليل لقرائنا، نرجو ان يكون مفتاحا ييسر لهم الدخول في باب المندائية الواسع، ودليلا يهدي خطا الجميع. ونطمح ان يكون اختيارنا لواحد من اهم اعلامنا المندائية الدينية في تاريخ المندائية المعاصر، ليس للمتخصص بدراسة تاريخنا المندائي، لان مثل هذا يتطلب الدراسة المتفحصة لفكر الرجل ومقولاته وتفسيراته وتعليقاته، اي ما هو متراكم منذ عشرات السنين، ما هو حاضر او غائب ومحجوب ومطمور ومغمور عن انظارنا تحت طبقات النسيان والاهمال، بل كمرجع لكل ما قدم الينا شفاهيا يتمثل في خدمات جلى لابناء الطائفة اعاد لهم وجههم الحقيقي من خلال سلوك ومواقف متجانسة دينيا ودنيويا.

نضع بين يدي القاري اطلالة صغيرة تعريفية نأمل من خلالها من ابنائه ورفاقه وجامعي وثائقة في المساعدة على حفظ تراث هذا الرجل المندائي الفذ في بعض خطوطه من اجل استخلاص الكثير الذي يساعدنا على تكوين رؤية معينة قادرين على استخلاصها في كتاب كامل يتحمل اتحادنا تكاليف طباعته وتوزيعه لرجل كرس جل وقته لدراسة الدين، وكانت من اسمى غاياته واهدافه، التي اطلق عليها الثوابت، القيام بتعاون جميع الديانات العراقية للحفاظ على القيم الاخلاقية في المجتمع العراقي.

من الصعوبة في حال ذكر الشيخ دخيل عيدان، بوجه خاص كاحد ابرز الاعلام المندائية في عالمنا المعاصر، ان نجرد طريقة بما يتصل بالرجل ومواقفه وتصوراته وقناعاته وفلسفته، فقد مضت سنوات طويلة على وفاة هذه الشخصية المرموقة التي امتلات بالاعمال والنشاطات الدينية والاجتماعية والاتصالات واللقاءات مع الشخصيات السياسية التي قادت بلادنا في فترات متباعدة مامتدت من ايام الانتداب العثماني مرورا بالحكم الملكي وانتهاءا بالحكم الجمهوري، حيث تعززت علاقاته مع الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، اضافة الى المراكز المهمة الدينية والسياسية والثقافية، من اجل اعلاء شأن مكانة الدين المندائي والارتقاء بسمعة الطائفة والدفاع عنها.

ان اهم ما اسداه هذا الكنزفرا الجليل بما حمله من غزارة فكرية وايمان متبحر للمندائية بطقوسها ولغتها وفلسفتها وتاريخها ومعتقداتها ، روحانية الصابئي الملتزم بالحوار من اجل روحانية منفتحة، النزعة المسكونية لاهل الكتاب، الله الكبير، الله المحبة والتسامح.

ينحدر الشيخ دخيل عيدان من عائلة مندائية عريقة في تاريخها الديني والاجتماعي، يمتد عبر سلسلة من رجال الدين تقدر بثمانية عشر رجل دين( شيخ). ولد بتاريخ 14/4/1881 في مدينة العمارة، وتوفي يوم 24/6/1964 عن عمر يناهز 83 عاما. وقد اوصى ان يدفن في باحة داره الكائنة في بغداد/ الدورة/ المهدي/ وقد اصبح مزارا يؤمه ابناء الطائفة من كل مكان قاصدين ضريحه الذي يضم رفاته الطاهر.

لقد نشأ وترعرع في كنف عائلة محافظة تسودها القيم والتقاليد الدينية التي توارثها عبر الاجيال فكان لهذا اثر كبير في بناء شخصيته وتكوين قيمه الاخلاقية والروحية، تلك القيم والاخلاق التي تمسك بها اباؤه واجداده محافظين على نقائها وبقائها جيلا بعد جيل. درس مفاهيم ومبادىء الدين المندائي واللغة المندائية على يد عمه الشيخ محيي، وكذلك الشيخ جودة والشيخ ساموك عام 1892. فقد تعلم اللغة المندائية والم بها وفهمها فهما جيدا وغاص في بحورها الواسعة، ولم يتجاوز عمره احدى عشر عاما، واستمر بدراسته الدينية على يد الشيخ سام حتى عام 1898. قتل والده الشيخ عيدان اثناء ذهابه الى تادية طقوسه الدينية بمناسبة عيد البنجة عام 1893 وكان عمر الشيخ دخيل اثنتي عشر سنة. كان منذ طفولته على درجة كبيرة من الذكاء والفطنة، كما كان ذا مقدرة واسعة على تعلم واستيعاب لغات اخرى وعلى راسها اللغة المندائية ودراسة كل ما يتصل بالديانة، فقد تعلم اللغة العربية الفصحى ذاتيا بدون ان يدخل ( الملا) او المدرسة، واستمر يدرس ويبحث في اللغة واصول الدين وفهم الطقوس والشعائر والعمل على ادائها على احسن وجه وبكل دقة وبصورة صحيحة. لقد كان خطه المندائي جميلا ساعده في استنساخ الكتب الدينية( بيت كنزي) كما حفظ عن ظهر قلب الكتاب المقدس( كنزاربا) وعددا من الكتب الدينية الاخرى. لقد اصبح مؤهلا لنيل درجة الترميذا عام 1904 وكان عمره 23 عاما في مدينة الناصرية وكسب وهو في بداية شبابه شهرة واسعة لما قدمه من خدمات كثيرة. لقد كان مؤمنا شديد الايمان بدينه محبا صادقا وفيا فتح قلبه وذراعيه لاحتضان ابناء الطائفة وانشغل بمتابعة امورهم والقضايا التي تتعلق بمستقبل ومصير الطائفة، فاخذ على عاتقه لم صفوفها والعمل على تثبيت حقوقها وابراز هويتها في كل المناسبات والمجالات. بعد التقدم الواضح في حياته الدينية وتكريس جل وقته لدراسة الدين واداء الطقوس بكل جدارة نال درجة( كنزفرا) بكفاءة عالية ومقدرة فائقة فاحتل بذلك موقعا دينيا واجتماعيا يليق به واضحى صاحب سمعة طيبة واسعة عمت جميع افراد الطائفة في كل مكان وكذلك بين رجال الدين آنذاك. اتصف بالحكمة والمعرفة والامانة والصدق والشجاعة والكرم وعمق الايمان وقوته. وكان عادلا مخلصا لمبادئه السامية، هدفه الاسمى هو الدفاع عن الطائفة والمحافظة على سمعتها وسمعة ابنائها. كان يشارك المندائيين في افراحهم واحزانهم ويحمل عبء همومهم ساهرا من اجل حل قضاياهم، يزورهم متفقدا فردا فردا في كل مكان يضمهم وكان يلبي كل مطاليبهم الشخصية والدينية دون مقابل، مدافعا عن حقوقهم الدينية والاجتماعية ويقف في وجه كل شخص او جهة مهما كان موقعها تروم المساس بسمعة الطائفة وديانتها او التجاوز عليها. كان له دور متميز وواضح في شرح وايصال المفاهيم والمعتقدات الدينية المندائية الى كثير من رجال الدين والشخصيات من مختلف الاديان والمذاهب، وكذلك الى بعض رجالات الحكم طيلة مسيرته الدينية بدء من الحكم العثماني مرورا بالحكم الوطني وحتى الحكم الجمهوري. في سنة 1917 وبعد ترشيحه من قبل الطائفة المندائية صدرت الموافقة الرسمية على تعينه رئيسا روحانيا لطائفة الصابئة المندائيين في العراق وايران وبتخويل من الحاكم الملكي العام في العراق اللفتنت كولونيل أ. ن. ولسن . بتاريخ 1920 عين معلما لتعليم اللغة المندائية ومبادىء الدين الدين المندائي لابناء الطائفة حتى سنة 1922 من قبل الحاكم العسكري انذاك، واثناء الاحتلال وعند البدء بافتتاح المدارس لتعليم الاولاد لاول مرة في العراق.

بتاريخ 31 اذار عام 1917 اعطى الحاكم العسكري بالمنتفك( الناصرية) امرا بتقديم المساعدة والتسهيلات الممكنة عند الحاجة من قبل كافة المسؤولين في الحكم السياسي الى الشيخ دخيل رئيس الطائفة المندائية في العراق.

في عام 1919 تم تأسيس مجالس بلدية في كل لواء من الوية العراق، وبتاريخ 1920 تم تعيين الشيخ دخيل عضوا في مجلس بلدية الناصرية من قبل الحاكم السياسي في الناصرية.
لقد عاش شيخنا الفاضل تجربة تاريخية متميزة تعايشت فيها اديان متعددة وشعب واحد انطلاقا من مركب غني العناصر يتضمن التجانس والمسار التاريخي المشترك، اضافة الى التداخل الجغرافي، والتواصل الثقافي، حيث ساهمت كل هذه العناصر في ايجاد حياة مشتركة بين المسلمين والمسيحيين والمندائيين والايزيديين واليهود والشبك والكاكائيين والبهائيين وغيرهم من الطوائف الدينية العراقية، تتجاوز الوجود الفيزيقي لافراد يعيشون في اطار نطاق جغرافي واحد، الى مواطنين يشاركون ويتفاعلون في اطار وطن واحد بغية صناعة التطور والمستقبل لكونهم اعضاء في جماعة وطنية واحدة.

لقد رأى ببصيرته المتفتحة بان هذه الجماعات المتعددة تجد في فترات النهوض والتقدم درجة كبيرة من الاندماج والتكامل وفي فترات التخلف والقعود والتدهور مثل التي نعيشها هذه الايام العصيبة، الاحتكاك والصدام. لقد اكد في اكثر من مناسبة بان المواطنة تعني المشاركة والمساواة والحقوق بابعادها واقتسام الموارد، والمواطنة شانها شأن اي عنصر من العناصر المكونة للعملية السياسية في اطار العلاقة بين الحكام والمحكومين، تتأثر ايجابا وسلبا بالمنظومة المجتمعية العامة، وعليه فهو يرى بان المواطنة تعد محددا مهما بالنسبة لموضوع العلاقة المتكافئة بين الديانات العراقية كافة، اي ان المواطنة تعني تجاوز مفهوم الطائفية والملة والذمة، حيث ان الوطن يستوعب كل من سبق، كما تتجاوز المواطنة بما يترتب عليه من نتائج.

تحية لهذا الرجل الخالد الذي نعاهده باننا سنبقى كما اراد ونطالب باسم الاتحاد جميع الاخوة والاخوات في الداخل والخارج بتزويدنا بكل ما يتوفر لديهم من معلومات ووثائق لغرض جمعها وتنسيقها من اجل اصدار كتاب خاص عن الرحلة المجيدة في حياة هذا الرجل التي وصلت درجة احترامنا ومحبتنا حد التقديس.

الأربعاء, 10 نيسان/أبريل 2013 17:04

مَنْ الذي يُهدّد وجودَ المندائيين؟

ليس الذي نطالعه من قبل البعض من حين لآخر بالجديد والمستحدث والمستنتج مع الأحداث ،من أن المندائيين في الوطن العراق ومن ثم دول جواره (دول اللجوء) وحتى (إيران) مستهدفين بسبب بعض الكتابات والأصدارات من تعليقات وأخبار التي ينشرها بعضاً من كتــّابهم و مثقفيهم تحديداً، فلقد عشنا أحوالاً مماثلة منذ أكثر من عقد من السنين حول هذا الموضوع المختلق في عنوانه و في تفاصيله ، وعانى المثقفون الوطنيون المندائيون عموماً من التلويح بالعصا لهم ومن ثم التخويف والترهيب ومحاولة تحييدهم، بضرورة الأبتعاد عن الاساءة لأنظمة البلدان التي يعيش فيها المندائيون أو الأشارة الى ظلم وتعسف تلك الحكومات الجائرة أو ما يهدد مصالحها الفكرية والسياسية والطبقية!! فما أن ينشر أحدهم مثلاً قصيدة ما للجواهري في زمن النظام الصدامي المجرم ( الذي أسقط الجنسية العراقية عن الجواهري ذاته وعن غيره من المثقفين العراقيين ) فإن نشر مثل تلك القصيدة ستشكل خطراً واضحاً على المندائيين وعلى وجودهم وعلى ديمومة المياه المقدسة لنهري دجلة والفرات و (شاخات الأنهر)! وما أن يكتب أو ينشر أحدهم قصيدة للشاعر سعدي يوسف أو للشاعر الكبير مظفر النواب، فهذا أنحياز معلن مع للشيوعيين وخطرهم القادم! أما لو جاء التضامن مع تشيلي وشعبها ضد نظام بينوشيت الفاشي، وهي البلد التي تبعد عن العراق بعشرات الآلاف من الكيلومترات، أو مع شاعرها وفنانها (فكتور جارا) الذي قطعت يداه الأثنتان من قبل الأنقلابين في 1973 وظل يغني، فهذا يعني تهديداً مباشراً و خطراً سيعصف بأنظمة صدام والخميني و سيمحق بسلالة سومر المتبقية من المندائيين!! وحتى الصور الملتقطة التي تصوّر البؤس والفاقه والعوز الذي يلف العراقيين وأضطرارهم للأستجداء أو ممارسة أعمال مهينة لأنسانيتهم وكرامتهم كبشر في سنوات الحصار المعروفة، حتى تلك الصور كان يجري الأعتراض عليها لأنها تهدد نظام البعث و تسيء اليه! لكون أمارة مونت كارلو وسكانها كانوا يحسدون العراقيين على رخاءهم الذي فاق رخاء تلك الأمارة الزاهية في تفاصيل عيشها!!

 

هكذا (عشنا) وبعدها ( رأينا) الأحوال المستجدة، فلا صدام أحسنَ الى المندائيين و جنّبهم عذاباته للوطن وشعبه ومعها جرائمه المتعددة التي أنتهت بهم وبأولادهم قتلى وأسرى و مفقودين في السجون وجبهات القتال ومن ثم بهم لاحقاً، مبعثرين ومشردين بسبب حروبه و مغامراته في أيام حكمه، إلا بما يضمن الدعاية له أمام المجتمع الدولي، ولا آيات الله في إيران و نظامهم قد أحسنوا للمندائيين ومنحوهم كامل الحقوق الأنسانية كما تنص المعاهدات الدولية وحتى اللحظة، ولا الذين راهنوا على بقاء و ديمومة النظام وفكره وسياساته و طبلوا له ومدحوه قد بقوا معه الى النهاية وحتى آخر ساعاته المعروفة و دافعوا عنه، فقد هاجر الكثير من هؤلاء مع الملايين الهاربة من الحروب والحصارات المتعددة و البطش!

 

كل ذلك الذي كتبتهُ أحداث العراق قد مضى و يمضي ومضت قبله بعض من تلك الأنظمة وجاء معها الأحتلال بمباركتها هي ذاتها قبل رحيلها، والمندائيون من حال سيئ ٍ الى حال لا تسر ( هُم أعرف بها قبل الأصدقاء والمُحسنين ) تعج بهم المخاطر المتلاحقة و تنزف دماء أبناءهم من حين لآخر تحت سطوة التطرف الديني و ينزف وجودهم ، دون أن تؤثر في الحكام على مختلف مللهم ونحلهم و توجهاتهم السياسية ، برقية ما ذليلة كأصحابها أو قصيدة ما لشاعر مهزوز ولعين تمدح بحاكم أهوج و صفيق و تنصفه فوق الآلهة وهو لايعدو كونه جورباً أخرقاً و نتناً !! كل ذلك لم يحدث ولن يحدث، لكن الذين يهتزون هلعاً وخوفاً على أمتيازاتهم ومصالحهم الفكرية والذاتية الضيقة هم الذين يطالعوننا من حين لآخر بتسريبات و ( خرّوعات ) لا أصل ولا فصل لها عن الحكام الأشاوس و مضايفهم العامرة الذين لا يزالون يمسكون بسياطهم ، جالدين و مفزعين لعامة الناس، وكذلك عن الخطر الذي سيعصف بالوجود المندائي في هذا البلد أو ذاك عند الأشارة الى هؤلاء الطغاة، وكأن أجهزة مخابرات ودوائر الأمن وأجهزة الرقابة لتلك البلدان لا شغل لها ولا همّ لها سوى مراقبة المندائيين وما يكتبوه وتحركاتهم وبرامجهم السرية الخطيرة التي تهدد مستقبل البلدان!

 

لن نستغرب إن طالعنا أحدهم يوماً ما من أن ( خطاً تليفونياً دولياً ساخناً ) قد تم أقامته بين الرئيس الأمريكي (أوباما) والرئيس الروسي (ميدفيديف ) والصيني (هو جين تاو) لتجنب تهديدات حروب نووية كارثية محتملة الوقوع بسبب المقالات التي ينشرها الكتاب الوطنيون المندائيون أو بسبب الأخبار التي يتداولونها حول الأنظمة المجرمة التي تسحق بشعوبها دون رحمة في أية بقعة من بقاع العالم الملتهبة !!

 

ليس هناك أعتبارات ما في قانون محلي أو دولي أو شريعة ما تعترف بوجود المندائيين توجب عليهم أن ينصاعوا لأرادة هذا الحاكم أو ذلك القانون ولا يكتبوا أو ينشروا مقالة ما أو يتداولوا خبراً ما. كل هذا وغيره لا وجود له، إلا في أذهان حاملي (خيالات المآتى) الذين ينتقون بعض الكتابات و يتعاملون معها بأنتهازية واضحة ومفضوحة كما نرى من حين لآخر! فالإساءات التي تشير الى أوضاع العراق السياسية المتدهورة ومظاهر الفساد و الفضائح، يسارع هؤلاء البعض الى التطبيل و الترويج لها، بل و يسيئون للقوى الوطنية النزيهة التي تحارب كل تلك المظاهر، فيما ينتفضون ضد أية إساءة تشير الى حاكم عربي ما أو نظامه، معتقدين أنه سيحمل لواء المندائية يوماً ما، رافعاً ( درفشهم ) ومدافعاً عنهم!

 

المندائيون في العراق وفي كل الدول المجاورة له أو البعيدة عنه يُعاملون كما هو معروف كعراقيين من خلال وثائقهم و وجودهم ومصالح ذلك الوجود كأفراد وليس من خلال تبعيتهم الدينية، وبعيداً عن كونهم يمثلون حزباً سياسياً معارضاً يعادي ما موجود من نظام حكم في العراق أو لأنهم طبقة بروليتاريا ثائرة أو نهجاً فكرياً يهدد مصالح كل هؤلاء الحكام من ملكيين أو جمهوريين أو أنظمتهم أو حتى الأديان عموماً. كل ذلك لا وجود له والأنظمة ذاتها و مؤسساتها المختلفة من أمنية أو مخابراتية أو أعلامية تعرف ذلك جيداً ولهذا فإنها و بسبب سياساتها التعسفية تنتقي أفراداً أو مجموعات للتطبيل لمثل هذه المخاوف والتهديدات المزعومة بسبب مقالة ٍ أو خبر ٍ ما أو صورة ٍ ما!

 

إن أي طارئ ٍ لا نتمناه سيحصل لأقامة العراقيين كمواطنين في سوريا أو الأردن أو اليمن أو ليبيا أو لبنان أو مصر أو الأمارات أو غيرها بسبب صراعات و تصفيات الحكومات العربية ذاتها والتي لا تعرف مجتمعاتها شيئاً عن المندائيين سوى كونهم عراقيين مهاجرين، فالمندائيون ليسوا أستثناءً منه على الأطلاق وسيقف بالضد منه وقبل المجتمع الدولي و منظماته الدولية كل الوطنيين العراقيين كما هو حالهم دوماً ولأعتبارات أنسانية واضحة وليس لأي أعتبار طائفي أو مذهبي أو سياسي.

نشرت في وجهة نظر
الثلاثاء, 02 نيسان/أبريل 2013 16:16

المثقفون المندائيون والمهرجانات

بمناسبة مهرجان الذكرى المئوية لميلاد العالم عبد الجبار عبد الله 

ان احترام حقوق الانسان الاساسية قيمة عليا في مستوى المبادىء وضرورة عملية لنجاح اي مسعى يستهدف تحرير العقل والارتقاء به . لكن كلمة الثقافة لم تنفذ بعد الى ناسنا، ناهيك بالاستقرار في ضمائرهم . ونعلم جميعا ان الفكر لايغير الواقع الا حين يتحمس له سواد الناس، ومن ثم يتعين علينا ان نطرح على انفسنا السؤال بصراحة: لماذا لايصدقنا الناس كما صدقونا في مواقع كثيرة في الماضي؟ ولا يجوز ان تقف الاجابة عند حد الممارسات القمعية السائدة التي نراها بام اعيننا على شاشات التلفزة، في مناطق عربية ساخنة، والقول صراحة بانها تبطش بمن يدافع عن حقوق الانسان، بل تجعل الجماهير تنظر الى خطابنا عن تلك الحقوق، وفي احيان كثيرة، كما لو انها ضربا من الخيال. فكل تقدم في تاريخ البشرية تحقق في مواجهة صادقة ومضنية مع القوى التي كانت ترفضه، وكان دعاة التقدم والديمقراطية في البداية قلة مؤمنة مضحية نجحت في ان تجذب اليها كثرة عززتها وخاضت معركة التغيير. ومن ثم لابد ان نحدد مسؤوليتنا كمثقفين عن افتقاد المصداقية الذي تعانيه الدعوة الى احترام حقوق الانسان العراقي مهما كان اتجاهه الديني او السياسي او القومي. حقا ان تغيير الواقع المشين، في اي مكان وزمان لايتم الا بنضال القوى الاجتماعية والشبابية التي تطالب بالتغيير الحقيقي في اوضاعاها المزرية، فنحن كمثقفين مسؤولين مرتين، مرة من حيث اننا اهل الفكر والتعبير، ومرة اخرى لان اعدادا كبيرة منا تنخرط في نضال منظمات حقوقية ومدنية وثقافية وسياسية، واذا كان التغيير فوق طاقتنا، فان التأثير هو صميم مهمتنا، ومن هذا المنطلق يصبح السؤال: ما اثر ممارساتنا اليومية في حصر تأثير دعواتنا الى احترام حقوق الانسان والتذكير بها والتركيز عليها؟

ان من حق الناس ان يشكوا في امانة كل مثقف يتحدث عن الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان ويؤيد في الوقت ذاته علنا او ضمنا القوى المسؤولة التي قمعت هذا الانسان في السنوات الماضية ولازالت تقمعه تحت يافطة الدين والسلفية والحنين الى الماضي.

فعلنا في عملية التأثير يأتي بثماره من خلال عملنا وفعلنا الثقافي المؤثر، ومن خلال قيامنا بفعاليات ثقافية كبيرة ونموذجها المهرجان الثقافي الكبير والمنظم تنظيما رائدا الذي اقامته الجمعية الثقافية المندائية في لوند بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد العالم العراقي الكبير عبد الجبار عبد الله. وفي تقديرنا بان مثل هذا المهرجان هو الحد الامثل الذي يمكن ان نبدأ منه كمثقفين مندائيين في ضوء الواقع العراقي الحالي الذي نرسم حوله علامات استفهام كثيرة، احتراما لانفسنا واتساقا لافعالنا واقوالنا واطلاقا لشعاع من نور وسط ظلمات التشتت التي اصابت المندائية في صميمها.

بروح واقعية نكتفي بالاشادة والتقدير والدعم والتعاون كاتحاد للجمعيات المندائية في المهجر، بمثل هذه الفعاليات التي تمجد الانسان وتناضل من اجل قيمته وحريته وعمله.

تحية لاولئك الابطال من اخوتنا المثقفين ابناء المندائية بقيام مثل هذا المهرجان الاحتفالي الكبير

نشرت في كلمة الأتحاد

في اعقاب سقوط النظام السابق في العراق، لاحظ الجميع من مندائيين وغير مندائيين ظاهرة انتشرت في طريقة لم تكن مألوفة من قبل، وهي: ظاهرة نشاط الاقلام المندائية، وبروز عدد من مثقفينا ومثقفاتنا للانخراط في صفوف هذه الظاهرة واعطائها مقومات التأثير، ووجود قراء ومتابعين في الصحافة العراقية والعربية والمواقع الالكترونية والفضائيات التلفزيونية... الخ. 

ومن ابرز هذه الاصوات التي وجدت لنفسها مساحة مرموقة ومتماسكة في هذه المرحلة الحرجة، هو  االمناضل والحقوقي  والناشط في مجال حقوق الانسان، الاستاذ عربي فرحان الخميسي، الذي شكل بجهده ووعيه وفكره المتنور، منبرا ثقافيا منطلقا من اعتبار الثقافة العراقية تمر الان في ازمة هوية وعلى الجميع القيام بصوغ الهوية الوطنية وتفعيل دور المثقف العراقي بشكل عام والمندائي بشكل خاص في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لان هذا المثقف حسب اعتقاد استاذنا عربي فرحان يمثل ضمير المجتمع، وايضا ضمير المجموعة التي ينتمي اليها اينما كانت. وقد سعى هذا الرجل من خلال مواقفه الملتزمة في تنشيط ودعم اتحاد الجمعيات المندائية منذ بدايات تأسيسه، واصبح عضوا فاعلا في سكرتارية الاتحاد ، ليأخذ مسؤوليته في دعم واسناد الجوانب الحقوقية والقانونية في عمل الاتحاد الذي ينشط ويتسع يوما بعد آخر. وساهم الاستاذ  ابو رغيد وبشكل فعال في تأسيس رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الصابئة المندائيين، بهدف خلق تجمع يهدف الى تكوين وانشاء مركز ثقافي مندائي تنويري ، معبرا عن رغبة المنضوين تحته في اشاعة ثقافة مندائية عراقية حرة بعيدة عن كل التأثيرات السياسية والايديولوجية، من اجل اعادة انتاج واقع ثقافي حضاري  في مرحلة ثقافية حرجة تمر بها الطائفة المندائية. 

دعا هذا العلم العراقي في كل مداخلاته وكتاباته ومواقفة الاصيلة الى تأسيس رؤية مندائية جديدة، تتطلب اعادة صورة علاقتنا كمندائيين بالاخوة الاخرين من العرب والاكراد والتركمان وجميع الاقليات العراقية الدينية والاثنية، من خلال المساهمة الجادة في خلق اجواء الحوار واعادة بناء ثقافة وطنية متعددة ، تعتمد قبول الاختلاف وتشكيل قيم معاصرة اساسها الانفتاح على ثقافات الاقليات والعالم، والابتعاد عن الاساليب القسرية في دمج الاخر وثقافته في ظلمات وطغيان الاخر المتسيد سياسيا. 

وقد ساهمت كتابات ومداخلات عربي فرحان من خلال المواقع العراقية والمندائية الى جر العديد من ممثلي ثقافتنا المندائية الذين ظلوا خارج دائرة الفعل لاسباب متعددة ليس اخرها غياب الامن وتسليط سيف الارهاب، او لرفضهم التأطير الايديولوجي او لغياب او قلة المنابر الثقافية التي تكفل حرية الفكر واستقلالية المثقف، الى تفعيل دور المثقفين في البحث عن الصيغ الجديدة للهوية المندائية باعتبارها تجسيدا لثقافة وحضارة عراقية تراكمية ساهم ببنائها الجميع، وتشكل نتاجا متلاقحا بين شعوب وديانات تعيش على هذه البقعة من الارض اسمها العراق. 

لقد ساهمت كتابات هذا المندائي النبيل بكشف الاحتقان الطائفي الراهن، بكونه يشكل خطرا لايهدد بتمزيق النسيج الوطني فحسب، بل ينذر بقطع التواصل التاريخي بين جميع مكونات الشعب العراقي. وقد سعى ولايزال في تفعيل دور المثقف المندائي في اشاعة ثقافة الحوار واحتواء المشكلات بين المثقفين من اجل خدمة اهداف الطائفة في الحفاظ على بقائها واستمرارها، بعد ان كشف الجميع ما تتعرض له طائفتنا المسالمة من تهديد بالابادة الجماعية. 

عربي فرحان الذي عرفناه مناضلا قديرا ضد الديكتاتورية في كل عهودها، وعاش فترات من عمره المديد في السجون والمعتقلات، والهرب والتخفي بعيدا ، عرفنا به انسانا يعشق الحرية، وهو واحدا من مثقفينا الذين علمنّا بان الحرية ليست فكرة جاهزة، ولا طبقا جاهزا، ولا حتى حلما جاهزا، او مقدسا جاهزا، عرفنّا ان الحرية تصنع ونراها، نلمسها، نتحسسها، عرفنّا بان الحرية تصنع كالخبز كل يوم يايدينا، وان كنا نحتاجها فعلينا ان نقاتل من اجلها لان ثمنها كبير في حياة كل منا 

تحية لهذا الرجل.... وتحية للحرية التي يريدها لنا جميعا

لاشك ان سوء الاوضاع التي تعاني منها الطائفة المندائية، لاتعفي كل القوى المندائية من مسؤولياتها، بل تزيد من اعباء هذه المسؤولية وتضاعفها اكثر فاكثر. ولئن كانت الموضوعية السلبية لظاهرة التمزق المندائي في شتات العالم، قد لعب دورا رئيسيا في صيرورة الاوضاع الحالية التي بلغت في المرحلة الراهنة حالة التردي، فان العامل الذاتي المتمثل بالعديد من التنظيمات المندائية السابقة، كان على درجة من الضعف والانكفاء والافتقار الى المرونة والابتكار والمهارة في التقاط المتغيرات في اللحظة المناسبة.

ليس المهم بعد الان تبادل التهم او البحث عن المعاذير بقدر ما يهم تقييم تجربة العمل المندائي خصوصا ما يعلق بالتحالفات والاصطفافات التي سار عليها اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر بعد مؤتمره الخامس، وبروح نقدية جريئة واستخلاص الدروس واستيعابها على وجه السرعة واستبيان قوانين التغيير والتطور بدقة ووضوح وبمنهج علمي، ومن ثم اشتقاق المهام المرحلية والوسائل والاساليب المناسبة لانقاذ المندائية من المخاطر التي تحدق بوجودها. واصبح من الحيوي بالنسبة لاعضاء سكرتارية هذه المؤسسة الحقوقية المدنية ، هو الولوج في ميدان التقييم الجدي وتحديد المهام الرئيسية، بعزم وثقة.

لقد ادركنا ومنذ البداية ان جميع المهام الملقاة على عاتقنا بشقيها المدني والحقوقي تتطلب قبل كل شيء ان تعكف كل القوى المندائية على البحث والتفتيش سوية على ما يعزز واجباتها ويصون ويؤمن له الفاعلية والاستمرار ويغير في تناسب القوى لصالحها ويخلق المناخات والوسائل المؤاتية للعمل المهني والديمقراطي، وفي هذا المضمار يمكن الحديث عن مهمتين رئيسيتين لهما الاولوية على ما سواهما:

الاولى: تعزيز التحالفات المندائية وخاصة بين الاتحاد ورئاسة الطائفة الروحية المندائية

الثانية: الديمقراطية.

وبين المهمتين ترابط جدلي واتصال عضوي عميق لاتنفصل عراه. فالكفاح من اجل اشاعة الديمقراطية فتح افاقا لتعزيز تحالفاتنا ووقوفنا جميعا بخندق واحد، وبالمثل فان ادامة هذه التحالفات عزز من عملية كفاحنا من اجل الحفاظ على المسيرة المندائية، ونحن ندرك بانه من الوهم الوصول الى تحقيق هذين الهدفين بسهولة، فامامهما مصاعب وعوائق جمة.

فيما يتعلق بموضوعة التحالفات المندائية ،توجب على اتحاد الجمعيات المندائية العمل بجدية، بمثابرة لاتكل لتوفير الشروط الموضوعية والذاتية، والتغلب على تركة الماضي التي خلفتها تجربات النظام البائد، والتي تتلخص في الشكوك وفي تراث من عدم الثقة. لقد جاء عمل الاتحاد خلال السنوات الماضية مبنيا على الاعتراف صراحة ودون مواربة بحق سائر القوى المندائية الديمقراطية في التعبير عن هويتها وافكارها واهدافها، وحقها غير المنازع في الاختفاظ بعملها التنظيمي والفكري المنصب في صالح المسيرة المندائية والتعبير عن رأيها وتطلعاتها بكل حرية.

تعين علينا بعد المؤتمر الخامس لاتحاد الجمعيات المندائية تجنب الغوص في الخلافات التي تظهر بين الحين والاخر، وانحصر همنا الرئيسي في التفتيش عن القواسم المشتركة وبلورتها على شكل برنامج مرحلي يكون برنامج الحد الادنى، على اصعدة الهجرة، واقامة المجالس الروحانية، والدفاع عن حقوق الانسان المندائي، ورصد وتمتين العالم الثقافي من خلال فتح افاق جديدة لحفظ التراث والذاكرة المندائية وطبع ونشر الكتب والمجلات والدوريات، وفتح منابر اعلامية جديدة، ونظرنا الى اية خلافات تنشأ بموضوعية ومعالجتها باسلوب ديمقراطي على اساس القواسم المشتركة .

ومهما اقتضى عمل كهذا من تضحيات فانه لايعادل ما يمكن ان يحققه من انعطافة نوعية في مسار العمل الحقوقي والمدني الذي قام به الاتحاد، وغدا عنصرا فعالا في موازين كل القوى المندائية المخلصة يستحيل تجاهله، وقد استطعنا في غضون السنوات الاخيرة ان ننتزع قدرا من حقنا المندائي في التعبير عن الرأي وفي ممارسة العمل السياسي داخل البرلمان العراقي، برغم ما يكتنف ذلك من صعوبات وعدم ضمان السير بدرب الديمقراطية الى النهاية. بيد ان الرحلة في المسافات الكبيرة تبدأ بخطوة واحدة، وقد خضنا عملنا من اجل الديمقراطية بيننا بدون احلام تتجاوز الواقع الموضوعي وتعقيداته. غير ان المهم ان لانتوقف عن العمل المستمر.

في عملنا لم نروج لاساطير الوجود القاهر القادر على كل شيء، ولكننا في الوقت نفسه ابتعدنا عن صورة التخلف المتأصل كانه طبيعة ثابتة لا تتغير عند البعض. صورة الضعف والانسحاق والاحباط والتناحر والتآكل الذاتي. صورة الطبل الاجوف الذي يزعق برنينه العالي ثم يموت بغير صدى. صورة اللفظ بغير معنى، صورة الكلمة بدون فعل، صورة الانهيار الثقافي والحضاري الذي لايتوقف، صورة الاغتراب الكامل والامل المستحيل في بعث حياة مندائية جديدة متحضرة وصامدة.

من تحصيل الحاصل ان نقول الان، ان العديد من اخوتنا لايزال في طروحاته يكتب عنا وعن عملنا ومواقفنا بدون تعاطف، وبانانية ساذجة لاتخلو من خبث، تصل حد تجريح نشطائنا الذين لازالوا مواضبين على العطاء،وقد صور هذا البعض بنرجسية مفضوحة وعن جهل استعلائي، او عن انحياز كامل لكل ما يعادينا متلبسا بنزعة دينية موضوعية زائفة الافتراء على مواقفنا، ووضعها في اطار خارج سياقها التاريخي لتطور العلاقة الدينية والمدنية والحفاظ على استقلالية كل منهما وعدم تداخلهما بمهمات غيبية هي نسج اسطورة مضادة لاسطورة العقل المندائي المتحضر.

اننا نرفض وبشدة مثل هذه الدوافع والبواعث والمقاصد والاهداف، فهي لاتنطوي الا على امتثالية رجعية متخلفة، ستجر الطائفة الى مطبات ومزالق وانتكاسات مريرة في المستقبل، وتخضع لاخلاقيات الهيمنة باسم الدين من اجل التقليل من قيمة الاخرين دائما والغض من شأن عملهم، ومحاولة الوصول الى غايات نعرفها جيدا باقصر طريق واسهله. الحماسة البالغة في البداية ثم التخلي عن الهدف عند مصادفة العقبات الحقيقية، الرغبة في الانجاز السريع السهل، تملق الاعلى واحتقار الادنى، الشعور بالنقص الذي يتستر باسباغ الاهمية على النفس، والحط من انجازات الاخرين. اننا نسمي مثل هذه المواقف بعدم امتلاك اصحابها الحس التاريخي، وانعدام احساسهم بالزمان.

نحن في سكرتارية اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر ، نتشرف بمواقفنا، وبكل وضوح ضد التطرف في التفكير والرؤية، وضد التأرجح بين السلوك المنضبط والانفعال غير المنضبط ، الانفصال بين التفكير والكلام من جهة والفعل من جهة اخرى، والميل الى تفضي المثال النموذجي على الواقع الحقيقي.

بطبيعة الحال، لايمكن الرد الحقيقي على كل هذه المواقف والكتابات في مواقف واقوال مضادة لها. الرد المؤثر والفعال هو عملنا الدائم في تغيير بعض الخطوط القبيحة في صورة التضامن المندائي نفسه،ويتطلب ذلك منََّا جميعا المجابهة، من خلال الافعال الثقافية والحضارية المنفتحة، واعطاء كل مؤسسة من مؤسساتنا الدينية والمدنية مقامها ومقاسها وتحديد مهماتها، وعدم خلطها كما فعل مؤخرا اخوتنا اقباط مصر، اذ لايمكن فحسب في محاولة البعض صياغة صورة الاخر بالطريقة التي تتطابق مع مصالحه الذاتية الضيقة.

نشرت في كلمة الأتحاد

الكبار يذهبون الى الموت ويتركون لنا ابتسامات مضيئة في معارفنا، هي الاشد حضورا، حيث تضمحل جميع الصور، وتبقى صورهم راسخة في العقول والقلوب، تنتقل ابتساماتهم، ونحفظها لهم كنقش بليغ، في كل معرفة نقترب اليها، وفي كل موقف صعب نواجهه، فتظل كلماتهم وكتاباتهم قربانا مقدسا في مسيرتنا التي عبدوا طرقها باستقامتهم وافكارهم وانسانيتهم.
معلمنا جميعا، معلم معارفنا الدينية والاخلاقية والتربوية الراحل غضبان رومي الناشي، لايزال في مداره، حتى بعد غيابه الطويل، بعد ان ساهم، في رفع مكانتنا، منتصرا على كسوف الذل الذي عشناه، وها هو يعود من جديد هذه الايام ليستكمل دورته وليغمر اهلنا في ظلامه، كان قلما وصوتا واشعاعا، للحرية والمعرفة والحقيقة، فهو عاش وكتب كلمات فاصلة في ولادتنا المندائية المعاصرة، فكان حقا ضوءا مجيدا، وكان دفاعا عن الحرية ودفاعا من اجل حياتنا، لامن اجل الموت والعتمة، التي تقف على عتبات بيوت اهلنا في بلدهم العراق، انه وعى مبكرا بان الحرية هي الحياة، والمعرفة ، هي التي تحمي قاماتنا في زمن الصمت والقمع والقتل ، وسيادة جنون التفرقة ،وافلات لجينات الموت في ضرب الروح والوطن والمواطن.
لقد كان مدافعا عن الحرية، ومدافعا عن بقائنا وبقاء العراق، عن اجسادنا كما ارواحنا ومعارفنا، لانه ادرك وبشكل مبكر ، انه بغيابنا وتغييبنا، ليس للوطن الذي نحن ابنائه الا الغرق في الانقراض والغياب، فدفاعه عن الطائفة وبقائها، كان على الدوام مرتبط بدفاعه عن الوطن، ان نقبل بالاختلاف وان نعترف ونتأكد من حقيقة الاعتراف بالاخر ومعارفه وعقيدته وايمانه، فغياب الحلم غياب للحقيقة، كما غياب الحقيقة غياب للاحلام.
وكما هم الابرار، الذين جازفوا وقدموا انفسهم ضحية من اجل افكارهم النيرة، فقد رأى المربي الكبير غضبان رومي، الحرية، ووعى بانها لاتصل الينا كقطار مجهول، او كحمامة اليفة، فهي غريبة ، علينا تبيان قسماتها، لنذهب اليها، عبر التحرر من نظام الجهل الوصاية، ومسخ الاخر، فكان كبيرا، في ساحة الحرية، وفي المعرفة، وفي معاركها الكبرى، وهو تاريخ، ورمز سيظل في قلوبنا جميعا، نتذكره ونحن نعيش هذا الركام الكثيف من الحزن الذي يلفنا، ويحيط عوائلنا المهاجرة من جميع الاطراف. نجلس لنتذكر كبارنا ونحن نحصي خسائرنا المتتالية، خسائرنا التي لم تنته والتي لانعرف كيف ستنتهي.

غضبان الرومي
قارع جرس الاهتمام بالمندائيين وديانتهم

هو غضبان بن رومي بن عكله بن عران بن ناشي، ولد في عام 1905 في مدينة قلعة صالح في العمارة، ونشأ غضبان رومي في اجواء دينية مندائية وسط عائلة كبيرة.
اكمل دراسته الابتدائية عام 1921 في بدايات الحكم الوطني، وصادف ان مستشارا انكليزيا اسمه ( رايلي) كان يتجول في القصبات الجنوبية العراقية للتفتيش عن الشباب الواعين ممن يحسنون القراءة والكتابة لترشيحهم للعمل كموظفين ومعلمين في الحكومة الوطنية العراقية الجديدة، لان الانكليز رأوا ان هناك حاجة عاجلة للمتدربين لخدمة الحكومة، كما ان الحاجة كانت ماسة لتدريب معلمين من ذوي كفاءات عالية للتدريس في المدارس التي انشئت حديثا، واثناء مروره بمدينة قلعة صالح تعرف على غضبان رومي وابراهيم يحيى شيخ سام من جملة من تعرف عليهم.
اما ابراهيم فدخل دار المعلمين الاولية في بغداد وتخرج معلما، واما غضبان فدخل دار المعلمين الابتدائية ذات الثلاث سنوات، وبفض ذكائه تمكن من اتمام دراسته بسنتين فقط ، وتخرج معلما عام 1923، وتم تعينه في مدرسة قلعة صالح الابتدائية فكان بذلك اول موظف ومعلم مندائي يتم تعينه. ومن جملة من درسهم غضبان في باكورة عمله من المندائيين المرحوم الدكتور عبد الجبار عبد الله ورشيد غالب رومي وغيرهم، وبقي معلما في هذه المدينة طيلة اربع سنوات، تم بعدها نقله الى مركز مدينة العمارة وعين مدرسا في مدرسة( السنية) معلما ثم مديرا لاكثر من عشر سنوات، ثم نقل الى البصرة مدرسا للغة الانكليزية في احدى متوسطاتها، حيث امضى هناك سنتين، ثم عاد مدرسا في احدى متوسطات العمارة لاكثر من اربع سنوات، ثم نقل الى الكوت وامضى فيها سنتين، ثم الى بعقوبة حيث امضى ثلاث سنوات، ومن ثم تم نقله الى بغداد عام 1950 حيث اصبح مدرسا لمادة اللغة الانكليزية في مدرسة المأمونية، ومن ثم في مدرسة تطبيقات دار المعلمين في الاعظمية، ثم ارسل في دورة الى مدينة بيروت من قبل منظمة اليونسكو التابعة لهيئة الامم المتحدة لمدة ثلاثة اشهر لتعلم طرق تدريس اللغة الانكليزية، وكان ذلك عاك 1952، وحين عاد الى بغداد عين في مدرسة الغربية وبقي فيها حتى عام 1963 حيث احيل على التقاعد.
وكما ذكرنا فان غضبان قد نشأ في بيئة دينية منذ طفولته، وبدأ يتعلم اللغة المندائية على يد رجال الدين منذ عام 1918، وكان متحمسا جدا لخدمة المندائيين، وبدأ الكتابة في عدد من الصحف المحلية في العمارة، حيث كان ينشر في جريدة الكحلاء عن المندائيين والدين المندائي، وكانت كتاباته تلاقي الاستحسان والتأييد. كان يتتبع اخبار المندائيين ونشاطاتهم وما ينشر عنهم في الصحف والمجلات والكتب العربية والاجنبية، ويرد ما امكنه الرد مصححا وموضحا حقائق الدين المندائي. وقد اغنى الراحل المكتبة المندائية بمؤلفات لها اهمية كبيرة في تعريف الدين المندائي ومن مؤلفاته:
1- كتاب صابئة العراق
2- تعايم دينية لابناء الطائفة
3- الصابئة المندائيون قام هو والراحل نعيم بدوي بترجمته عن الانكليزية والتعليق عليه
4- كتاب النبي يحيى في زمانه
5- الصابئة
6- له عدد من المؤلفات المخطوطة غير مطبوعة الى يومنا هذا منها( وفاء الصابئة) ,( جذور مندائية)
قام الراحل بالقاء عدد كبير من المحاضرات في العديد من المعاهد والكليات العراقية موضحا فيها اثر الدين المندائي على بقية الاديان السماوية، كما قام بنشر الكثير من البحوث والمقالات والدراسات في الصحف والمجلات، وترجم الكثير من النصوص المندائية الى اللغة العربية.
اتجه غضبان رومي بعد احالته على التقاعد الى خدمة المندائيين باخلاص وتفان، فبعد ان انتقل غالبية المندائيين الى بغداد اصبحوا بحاجة الى رعاية وتوجيه، فبضل جهوده تأسس مجلس التوليه من وجوه الندائيين المعروفين، وبرئاسة المرحوم الشيخ عبد الله الشيخ سام، وكان هدف هذا المجلس هو جمع شمل المندائيين والحفاظ عليهم من التشتت، وبناء معبد يليق بمقامهم، وتم بالفعل امتلاك ( مندي) في منطقة الدورة، اتجهت النية للحصول بعد ذلك على قطعة ارض لجعلها مقبرة لموتى ابناء الطائفة، وبعد جهود مضنية تم امتلاك قطعة ارض في ابي غريب حيث تم تسييجها وتشجيرها وتنظيمها، ثم تحول هذا المجلس الى مجلس روحاني ضم وجوها مندائية خيرة تم الاعتراف به رسميا من قبل الدولة ممثلا للمندائيين عام 1981، ثم سعى غضبان ورفاقه لبناء مندي القادسية، وقد تم ذلك بجهودهم الخيرة وبمؤازرة ابناء الطائفة.
كان المرحوم غضبان رومي يتحرك بنشاط في كافة المجالات من اجل خدمة الطائفة، وحين سمع من بعض المندائيين الذين زاروا الهند عن طائفة( البارسيين) وتشابه الكثير من طقوسهم مع الطقوس المندائية بادر الى مراسلتهم، واطلع على حقيقة دينهم، كما انه كان مرجعا لبعض الشباب من رجال ديننا الافاضل، يستشيرونه ويستزيدون من علمه ومعرفته الواسعة بامور الدين ويأخذون بمشورته، وحين كلفه الدكتور عبد الرزاق محي الدين، رئيس المجمع العلمي العراقي بتاليف كتاب عن الصابئة المندائيين ، بطلب من الموسوعة العربية في مصر، بادر بتأليف كتابه الموسوم( الصابئة) عام 1983 موضحا فيه حقائق كان يجهلها الكثيرون.
وهكذا كان المرحوم غضبان لايبخل بصحته وماله ووقته من اجل اعلاء اسم الطائفة وديانتها الجليلة، اضافة الى انه كان ابا مثاليا استطاع تربية اربعة ابناء واربع بنات تربية صالحة جعلتهم يتفوقون في مجال دراساتهم وتخصصاتهم. وقد نكب في اواخر ايامه بفقد عقيلته مما ترك فراغا كبيرا في حياته، وكان كل من عاشره من المندائيين او غيرهم يشهد بانه كان رائع السيرة، صادقا وفيا مخلصا عفيفا، وتميز على الدوام بانه صاحب شخصية مرموقة كسبت احترام وتقدير الجميع، بسبب استقامته ونزاهته وصراحته وجرأته في الحق، كما كان ذا عقلية موسوعية علمية، وقد استطاع اتقان اللغتين الانكليزية والمندائية بطلاقة، وتمكن من اللغة العربية ببراعة متميزة
وبوفاته رحمة الله عليه عام 1989 خسر المندائيون شخصية المعية وستبقى ذكراه خالدة في قلوب المندائيين.

غضبان رومي الناشي
المعلم الاول في العمارة
بقلم: جبار عبد الله الجويبراوي

لم يسبق لسكان قلعة صالح- مسلمين ومندائيين- ان اقاموا احتفالا ضخما كالاحتفال الذي اقاموه عندما توجهوا بالسفن والزوارق الى منتصف الطريق النهري الذي يربط القلعة بالعمارة في مقاطعة المزارع الكبير داود الحميد، وذلك في انتظار ابنهم البار المعلم الجديد غضبان رومي الناشي الذي قفز من السفينة التي كانت تقله الى الشاطىء وهو يبكي فرحا، ويقبل ايادي الشيوخ الذين تجشموا عناء السفر من اجله ويشد بقوة على ايدي مستقبليه ويعانقهم بشوق وحرارة.
لاشك ان المسيرة الشبابية لهذا الرجل كانت حسنة جدا، والا فكيف يستقبل بهذه الحفاوة وهذا التكريم، وهو لما يزل في مقتبل العمر، ولم يتعد عقده الثاني بعد.
كان ذلك في عام 1923 وهو العام الذي باشرت فيه مديرية معارف منطقة البصرة افتتاح عدة مدارس في العمارة، لان العمارة كانت واحدة من ثلاث مدن تكوّن منطقة البصرة آنذاك.
اجا كان غضبان اول المرشحين الذين وقع اختيار مديرية المعارف على تحملهم المسؤولية التربوية في مركز مدينة العمارة، فكان لها ( ابو يحيى) وهو المعلم الذي افتتح مدرسة الكحلاء- الامام الصادق في ما بعد عام 1923، والمدرسة الشرقية- فيصل الثاني- - الوثبة- في ما بعد عام 1925، ومن هناك تألق نجمه وصار علما يشار اليه بالبنان فاسندت اليه عدة مسؤوليات تربوية ومهنية اذ اسس جمعية للمعلمين عام 1926 وكانت باكورة اعماله فيها القاء محاضرة قيمة عن تاريخ مدينة العمارة في العهد العثماني. ومن يقرأ تلك المحاضرة يتنبأ بامكانية هذا الباحث، وهو يحلل الاحداث التاريخية، ويضع النقاط على الحروف فيما يكتب. فقد اشار الى السياسة التعسفية التي مارسها العثمانيون الغزاة ضد ابناء شعبنا في مدينة العمارة، ولمح بطرف خفي الى خطط الاستعمار الانكليزي البغيض الذي احتل مدينتنا بعد هزيمة الاتراك في الثالث من حزيران عام 1915.
سكن غضبان مركز العمارة، وتطلع الى حالتها الصحية، فوجدها تحتاج دعما، لذلك شمرّ عن ساعديه، واسس دارا للصحة في متوسطة العمارة الفتية، فكان موضع اعجاب وفخر، وطار صيته الى العاصمة بغداد، فتوالت الوفود الصحية على مدينة العمارة، وزاره مدير الصحة العام وامر يالتحاقه بالمستشفى الملكي لتلقي دروسا في الصحة العامة، ومعرفة مسببات الامراض، وطرق الوقاية منها. وما ان اكمل دورته حتى صار يشد الرحال ايام العطل الرسمية الى القرى والارياف النائية، وهو يرشد الناس الى الوقاية من الامراض، ويدعوهم الى زيارة المؤسسات الصحية لاخذ العلاج المناسب.
قد يتصور المرء ان هذا الرجل سيتوقف عند هذا الحد من النشاط الانساني، فقد زار قلعة صالح في مطلع الثلاثينات وفد كشفي من المانيا وكان غضبان على رأس المستقبلين رافقهم في عدة جولات سياحية، الى المجر الكبير والكحلاء وعرض عليهم كرم العراقيين وقيمهم الاخلاقية العالية، فترك ذلك انطباعا حسنا في نفوسهم، عبروا عنه برسائل بعثوها اليه باعتباره الكشاف الاول في قلعة صالح والتي افتتح فيها فيما بعد ناديا هو الاول من نوعه حيث جعل منه تجمعا ثقافيا للشبيبة والشباب، وكانت المحاضرات التي يلقيها فيه تنشر على صفحات الصحف المحلية في مدينتنا.
كل هذا وغضبان منذ الثلاثينات كان يرقب بعين ثاقبة كالعقاب، الباحثة الانكليزية ( الليدي دراور) وهي تجمع المعلومات عن الصابئة المندائيين في العمارة وضواحيها وهو لم يدخل في شؤونها ولم يعترض على كل ما تكتب وتسأل، وهو عالم علم اليقين في ما تكتب وتسأل، حتى اذا ما انجزت كتابها البكر آنذاك، طار به شوقا يقلب صفحاته ويدعوا واحدا من ابناء طائفته اليه وهو المربي القدير نعيم بدوي ليمنحه شراكة في ترجمة الكتاب الى العربية. فكان بحق واحدا من امهات الكتب التي اعتمدها الباحثون في الاطلاع على الديانة المندائية.
اعداد موسى الخميسي
بعض مانشر في هذا الموضوع مأخوذ من مجلة افاق مندائية العدد 10 السنه 4 مايس 1999

الإثنين, 26 تشرين2/نوفمبر 2012 09:00

الفنان يحيى الشيخ في مدار التحولات

اقام موقع "الفنان العراقي" الذي يشرف عليه نخبة من الفنانين والكتاب العراقيين معرضا للفنان يحيى الشيخ تحت عنوان " فنان الشهر"

نقدم للقارىء المندائي هذا المعرض


مجموعة كبيرة من الأسباب دفعت الفنان يحيى الشيخ الى تقديم اتجاهات جديدة في عمله الفني في الآونة الأخيرة، ليختزل إبعاد كثيرة في الرؤيا، محمولا على رؤى مختلفة مكتظة، متمردة، وغنية ، الى جانب حريتها الكبيرة، فهو حين يقترب من تجربته الجديدة، التي تمت بقرابة أكيدة الى الفن التعبيري، وأطلق عليها اسم " اشراقات" وركيزتها مادة الصوف واللباد بكل الفتها التاريخية وطبيعتها الشفافة ذات الخصائص الحرة ، تبدو للوهلة الأولى وكأنها رسوم أطفال بما تمتلكه من قوة وسلطة على تعليمنا دروس الحكمة والبراءة في آن واحد، ليكون عمله بعيدا عن قاعدة إعادة إنتاج ما هو مرئي، بل ان يجعل الأشياء مرئية حسب تعبير بول كلي. وتتقلص المسافة كما يقول في إحدى رسائله الشخصية بين اليد والقلب، ليشغله ما 
هو أكثر ألفة في الحياة اليومية، وهو الانتقال الى فن يتحالف مع روحه" وينفتح أمام اتساع الرؤيا وشد الخناق على روحي"، روح الإنسان الباحث عن الابتعاد لكل ما ينغص عليّ اتفاقاتي مع نفسي" لأجل الدخول الى عوالم الفن البدائي الأول بعد ان خبر كل وسائل وحرفيات العمل الفني وازدهاره وأفوله وروعته الأكاديمية وتشوهاته التجريدية.

الفنان يحيى من المهتمين بمستقبل اللوحة، وهو شاهد جيد على اختفاء العديد من المعايير الفنية التقليدية واستبدالها من خلال البحث المستمر عن معايير جديدة ترضي الطموح ولا تنسجم مع عمليات التشوية الإنسانية للفن، بل انه كان ولا يزال يعمل من خلال اللوحة لإنقاذ القيم الفنية في ظروف تفشت فيها الروح التجارية والسياسات الرجعية لتدمير كل ما هو إنساني من اجل مصالح الارتزاق لحفنة صغيرة من اللاهثين وراء المال والسلطة في عراقنا.

 

مشكلة الصورة عند يحيى الشيخ هي البحث عن مصطلحات فلسفية فنية جديدة محددة بدقة وغير معزولة عن المشكلات الفلسفية العامة التي تعيشها البشرية، تعكس حالة التمثيل اللاصوري القائم على تجربة الفنان مع كتلة الصوف بألوانها المتعددة المضاءة ، وعلى سطح اللباد، كقاعدة للوصول الى نظام تزييني مؤلف من الرموز المتحررة إزاء ضرورات خارجية كثيرة، الا ان هذا النظام مرتبط بحقيقة موضوعية تحاكي الطبيعة باستخدام جزء من موادها الصافية، لتسجل عاطفة إنسانية تقع تحت مستوى الوعي فهو يدرك بان الوعي أحيانا يكون ثانويا فيما يتعلق بالواقع، لان وعي الإنسان 
يدرك الواقع كوجود اجتماعي وهذا الوعي لا يمكن في كثير من الحالات ان يكون مرآة جامعة تعكس العالم الذي يحيطه، فهو بإدراكه للواقع يكافح من اجل التأثير في مجرى تطوره.

والوعي الجمالي هو وكما نعرف، شكل من إشكال إدراك العالم، الذي نعيشه بكل تجرباته التاريخية، يستطيع أي فنان مقتدر ان يصور جوانب كثيرة من الحياة وينقلها عبر حواسه ومشاعره على اعتبار وجود إشكال مختلفة لتصوير الواقع باشراقاته الجمالية، بكثير من الإشارات الميثولوجية، من اجل الابتعاد عن داء مصطلحات القوالب في الفن الذي يخلقه بؤس إدراك الواقع وحركته الذي نلاحظه عند عدد من الفنانين . وفنان مثل يحيى الشيخ، ينزع للتعامل مع الفكرة والشعور او الحس ، او ما يسميه كاندنسكي" الضرورة الداخلية" في محاولة لجعل اللامرئي مرئيا الذي لم يهمل المبدأ الهام من ان اكتشاف العناصر الجديدة المميزة في الحياة وتصويرها الجذاب يتطلب بحثا ملهما ودائبا يفضي في النهاية الى إحراز وحدة المحتوى والشكل، التي هي وحدة فريدة على الدوام، للوصول الى المصادر الذاتية وعلاقتها بالمصادر الطبيعة في عملية إدراك متناغم للفضاء والأشياء ودينامية الحركة للاقتراب من الواقع الداخلي للطبيعة.


هذه اللوحات التي تبدو موجزة في تفاصيلها الغنية بمحتوياتها الأنيقة في ألوانها، تقدم حالة للعالم المحيط بنا، ففي الوقت الذي تتثبت بعض الأواصر في العمل الفني، تركز لوحات يحيى الشيخ على العديد من السمات والخصائص المتنوعة لما هو متميز وهام بشكل شمولي، وتظهر قوتها من خلال بعض التفاصيل التجريدية في تركيبات العمل نفسه والتي حددت سمات خاصة عديدة للموضوعات التي تطرق اليها ومن خلال التعميم المتنوع وتدفق الحياة من خلال تركيب العواطف والجمال الإنساني فيها.

وبمعزل عن عقد مقارنات بين فترات سابقة ولاحقة في عمل الفنان، الا انه يبدو ناقدا وساحرا، معبرا، مخففا من عنف الصورة باعتماده الرمز، محاولا التعبير عن رغبته في الانعتاق وإرادة العيش في غياب أوهام كثيرة في الحياة ومنها أوهام الأساليب التقليدية في الرسم.

 

 

الصفحة 3 من 3