• Default
  • Title
  • Date

كلما بلغ التكاثف السكاني، في المدن والحضارات بعامة، حدا معينا وكلما تزايد تنقل الناس وكثرت تحركاتهم نجد انه قد توفرت شروط انتشار الاوبئة القادرة على ان تصيب اقصى عدد من الافراد في ادنى الاوقات. ومن اشهر الاوبئة شهرة محزنة، من دون شك ولا خلاف، هي الطواعين. فالطاعون يضرب باصوله في التاريخ القديم وبفعل قوته المدمرة والمخربة فقد صار في المخيال الجماعي يدعى بـ "الموت الاسود"وهو الوباء الذي صاحب الانسانية لعدة قرون ولاجل هذه العلة غالبا ما نجده في الاعمال الادبية والفنية الكبيرة. واقدم الاوبئة ينقلها لنا الانجيل، حيث يحكى عن تفشي مرض مجهول ينقل بالعدوى ابان العملية الجنسية تسبب في قتل العديد من اليهود، فعُدّ المرض عقابا الهيا اي انه كان جزاء عن اثم ما كانتقام الهي او نذير سام من الله.
وبالرغم من كل ذلك فان الطاعون معروف منذ 3000 سنة على الاقل. ففي سنة 430 ق م اصاب الطاعون أثينا فجعل سكانها يتخبطون في حيرة كما ذهب بحياة العُشر من سكانها مثلما اودى بحياة بارقليس صانع الهيمنة الاثينية في بحر ايجه. اما في الصين فقد سجل لنا التاريخ اوبئة منذ سنة 224 ق م.
وباء اخر انتشر في القرن الرابع عشر: ويرجح انه جلب سنة 1346 من شمال الصين عبورا بسوريا ومنها الى تركيا الاسيوية والاوربية ليصل فيما بعد الى اليونان، ومن ثم الى مصر والى شبه جزيرة البلقان؛ اما في سنة 1347 فقد اكتسح جزيرة صقلية ومدينة جنوى الايطالية؛ ثم في عام 1348 اصاب سويسرا متوسعا الى فرنسا والى إسبانيا. وبلغ الى انجلترا سنة 1349، اسكوتلاندا وايرلندا؛ وفي سنة 1353، بعد ان عم اوربا كلها، بدات بؤر المرض في تناقص الى ان اندثر الوباء تاركا وراءه ما يقارب العشرين مليونا من الضحايا.
ومن سنن الحضارة ان يتأثر كل من الثقافة والفن تاثرا بالغا بمثل هذه الاوبئة: في الفنون التشكيلية نجد تاكيدا على محوري الموت والالم مقابل الصفو والرصانة الموجودتين في فن الايطالي" جوتو"(1266ــ1337) الذي يعتبر فاتح عصر النهضة الايطالية في الفنون. اما المعماريات فقد عرفت بدورها ضربا من التطور الذي تولد عنه ما يسمى بـ 'الغوطي المتلهب' ، حيث نجد اندفاعات شبيهة بالسنة النار المتلوية.
يعود الرسم على الجص (الذي لا يختلف تقنيا عن الرسومات الجدارية او الجداريات) المعنون بـ "انتصار الموت" الى سنة 1446 وهو الذي انقلع من فناء قصر اسكالفاني بمدينة باليرمو العاصمة الاقليمية لجزيرة صقلية والمحفوظ اليوم في احدى صالات قصر "أباتلّيس" بنفس المدينة.وهذا العمل الفني هو العمل الاكثر تمثيلا لوباء "الطاعون الاسود" ، اذ علاوة على كونه الرسم الافضل حول هذا الموضوع، الذي انتشر في القرن الرابع عشرة ، فان موضوعه قد رسم مع توكيد خاص، الى حد الهوس، على ذوات مروعة وغريبة في وحشيتها بتعبيرية قاسية وغليظة وهذه تُعدّ من الخاصيات النادرة في الفن الايطالي مما يجعلنا نعتقد في ان الرسم المجهول هوية الفنان الذي رسمه ،هو من نتاج يد فنان عظيم.
تبدو اللوحة الجصية كما لو انها صفحة كبيرة قد تضمنت رسوما صغيرة او نمنمات، حيث نجد حديقة مترفة وبهيجة ينبثق منها شبح الموت، على صهوة طيف حصان قد رد الى هيكله العظمي، بصدد رمي سهامه القاتلة التي تصيب شخصيات من جميع الطبقات الاجتماعية فتثخن فيهم قتلا. فشبح الموت ذاك قد ربط على جنبه منجلا ويصحب معه كنانة، وكل ذلك يشكل مجموع الصفات الايكونوغرافية النموذجية لذاك الرسم. اما في اسفل الرسم فتظهر جثث الاشخاص المقتولين: اباطرة، آباء الكنيسة ، اساقفة، رهبان، شعراء، فرسان وفتيات نبيلات. اما على اليسار فنجد مجموعة فقراء الناس وهم يضرعون الى شبح الموت بان ينهي آلامهم لكنه يتجاهل ذلك بكل قسوة. ومن بين هؤلاء نجد الشكل الذي ينظر الى من يشاهد اللوحة على انه رسم محاك لصاحب الرسم ذاته. وبالرغم من ثراء وتعقد الموضوع فان المشهد قد ركب بطريقة موحدة بفضل اساليب خطية ناجعة وبفضل الضربات واللمسات العريضة للفرشاة ، تلك اللمسات القادرة على نقل وايصال الكثافة المادية للّون.
ويعتقد ان هذا العمل كان له دور العمل الفني الملهم للوحة التي تحمل نفس الاسم والتي رسمها الفنان الفلمنكي الهولندي بيتر بروغل الاكبر (حوالى 1520/1530- 1569) اثر زيارته لمدينة باليرمو سنة 1552 تقرييا لا تحديدا. كما يعتقد ايضا ان انجاز اللوحة الجدارية "الغورنيكا" للفنان بيكاسوا (1881-1973) كان ثمرة الهام من نفس الرسم بباليرمو. الا ان لوحة الفنان الهولندي بروغل "انتصار الموت" تعد بحق ما رمزية لفورة وثورة الغضب الشديد ولعدوانية هذا الوباء الذي اصاب اوربا انئذ.
والامر من الناحية الفنية متعلق بموضوع فني قروسطي نموذجي واجهه الفنان بالاحالة الى محاور ايكونوغرافية مختلفة: كمحور الرقص المروع (للهياكل العظمية مثلا) ، فارس نهاية العالم ، قيام القيامة (الهيكل العظمي المسلح بالمناجل) ومحور بعث ونشر الموتى، الذي يبديه من بعد الهيكل العظمي الخارج من الحفرة.
وتجدر الاشارة الى اننا نجد دواعي اخرى قد اعيد تشكيلها في اعمال الفنان هيرونيموس بوش (1453ــ1516) مثل الزوجين المتحابين او مشهد الناس الذين يقع سحبهم من على الجسر الذي حمل اسم اللوحة "جسر الارواح" والى عذاب المتكبرين. لا شيء يدخر لنا في مثل هذه الاعمال الفنية، بل كل شيء فيها مبذولا حتى الطبيعة نفسها: اذ نجد ان الهياكل العظمية تطيح بالاشجار، والبحار تغرق السفن ابتلاعا، وانهار الحرائق تسوّد السماء، وهياكل عظمية لحيوانات منبجسة من الارض وحيث ما ولينا نظرنا لا نجد غير الدمار ، البؤس واليأس والموت والخراب.
ولقد ظل حضور الطاعون وباءا قرينا لاوربا مستقرا فيها طيلة القرون الثلاثة الموالية للقرن الرابع عشرة (15-16و17) ليندثر منها لاحقا وتدريجيا- وكان آخر اندثاره من انجلترا- بعد "الطاعون الكبير" لسنوات 1664-1666 وكان اندثاره لاسباب ظلت من دون تفسير. مع انه حتى رسائل البريد كانت تعد لقرون حاملة وناقلة خطيرة للعدوى ولهذه العلة كان الاجراء المعمول به والاكثر شيوعا بين الناس لرفع العدوى عنها يتمثل بعرضها على النار او بغمسها في الخل محاولة منهم للوقاية من انتشار العدوى.
طاعون اخر انتشر قرب مدينة يافا في فلسطين خلال حصارها من قبل القوات المسلحة لنابليون حوالي 1800. ولقد رسم لنا ذاك الطاعون الفنان انطوان جان غروس (1771-1835) الذي تعرف على زوجة نابليون بونابرت جوزبينا بمدينة جنوى الايطالية والتي بدورها قدمته لاحقا الى نابليون. وبما ان نابليون قد انبهر بفن الرسام الى حد كبير فقد طلب من الفنان ان يكون رديفا له كرسام رسمي لحروبه؛ وهي التجربة التي تمخض عنها عمله الاكثر شهرة: نابوليون يزور مطعوني مدينة يافا (1804) .
في ذاك العمل الفني نرى القائد الفرنسي- في الوسط- وقد رسم ابان لمسه لاحد المصابين بالطاعون، وهي حركة، حسب تقليد انئذ، اختص بها الملوك دون غيرهم لما وهبوه من سلطان يجلعم يمتلكون قدرات هي من طبيعة المعجزات، مثلما كان شائعا، ولاجل هذه العلة نجد ان المصابين يحاولون بدورهم ان يلمسوا نابليون؛ بيد ان معاونه على خلافه نراه يغطي وجهه بمنديل للحماية وحتى لا يتأذى من الرائحة الكريهة في المكان. ولاحقا بعد ان كانت مدينة يافا بؤرة الطاعون نجد طواعين اخرى قد ظهرت وان بشكل متقطع وقد كان اخرها الذي تطور في الصين عام 1894 ثم انتشر منها الى افريقيا ، الى جزر المحيط الهادي ومنها الى استراليا والى الامريكتين وصولا الى سان فرانشيسكو سنة 1900.

نشرت في وجهة نظر
الثلاثاء, 29 تشرين1/أكتوير 2019 09:00

وفاء لايقونات ملونة تعيش في قلوبنا

برؤية وبصيرة نافذة، استطاع الكاتب والناقد الفني سمير غريب في كتابة الجديد" خلود المحبة" الذي صدر عن دار" الهيئة المصرية العامة للكتاب" في القاهرة، ان يحفر عميقا في معاني الفقد والموت ، وعالم المشاعر الإنسانيّة المرهفة، وهو يدخل في عالم السرد لسيرة عدد من المثقفين المصرين الذين منحونا خرائط سرديّة جماليّة للحياة الثقافيّة والتحوّلات في عالم الفن والادب ، من الذين عرفهم كاصدقاء ومعارف . مثقفون وفنانون، منكسرين ومنتصرين والجامع المشترك بينهم ،هو فعلهم الانساني المبدع ، وهو المتعالي على الزمان والمكان. ومثلما أن لا حيازة في العلم فكذلك الثقافة مشاعة، والمجتمعات الأكثر استقرارا واتزانا هي التي تسود فيها الثقافة معممة على الأفراد غير منحسرة في طبقة ولا متقوقعة في أشكال أو تمثلات بعينها يأخذ، هذا الجامع " فعلهم الانساني"بتجلياته المتعددة تتحكم فيها عوامل ثقافية واجتماعية وتاريخية وغيرها. إنه فعل إنساني شامل يجتمع فيها ما اختلف، ويتفرق فيه ما ائتلف من أنماط وعي، وسلوكات، وعلاقات ، لشخصيات ساهمت بخلق ذاكرة مصر، وعدد من البلدان العربية المعاصرة في العقود الخمسة الماضية، انه شهادة عن كائنات بشرية رفضت الحروب والظلم والعنف والطغيان والاستبداد، من اجل اعلاء شأن الحياة الانسانية. سمير غريب ،اشبه برسام ، اعاد بكتابة ، وبشغف رسم ملامح رجال ونساء، كانوا احدى واجهات ثورة ثقافية وفكرية شاملة يحضر فيها الإنسان كقيمة فردية ومرجعية صانعة للتغيير. لقد صوّرهم بلوحات جميلة ملونة تحمل محبته ومودته الصادقة التي تصفح عن مزايا ومآثر وحسنات كل شخصية من تلك الشخصيات التي استحقت عن جدارة ان تدخل في قلوبنا كايقونات ملونة وجميلة، اتسمت حياتها وفعلها الابداعي بفهم لوازم البذر ومتطلبات الغرس في أرضية كأرضية واقع مصر والعديد من بلداننا العربية وتربتها المتأزمة بالحروب المذهبية والطائفية البغيضة، والنزاعات الفئوية وشروخات الهوية والانتماء وترسبات العرف والاوهام ، وتبعات السياسات الداخلية والخارجية ومشكلات الحياة الاقتصادية واحتداماتها الاجتماعية والنفسية. سنجد في هذه النصوص دائماً عناصر رومانسيّة أساسها محبة الابداع. لابدّ في كلّ نصّ من هذه النصوص أن نصدّقه بسبب بنائه اللغويّ الوقائعيّ والتهكّميّ الممزوج بالبساطة و الحنين إلى الحياة بأسئلتها المقلقة ورغبات بشرها في العطاء .
الكتاب، وهو يطوف في بعض من تفاصيل السيرة الشخصية، نقرأ نحن البعيدين، وكأنهم احياء.فهو يصورهم بنفس سردي شاعري عذب، كاشفا الكثير من اسرار الانكسار والانتصار التي عاشتها هذه النماذج الانسانية بريادتها الفكرية والاخلاقية، بخيالها وفنطازيتها، بخيباتها وانكسارها وضياعها، فهي نبتات انسانية، تحدّت ما احاط حياتها من صخور الكراهية،المكبوتة والمعلنة، لتعلن انحيازها للانسان في مجمل ما ابدعته. ستظل الصلة قائمة بيننا وبينهم، وتظل تلك الأواصر والوشائج القوية بين أناس لم نلتق بهم، وربما لا نلتقيهم أبدا، الا بافكارهم ووعيهم وما ابدعوه، فقد استطاع سمير غريب في نصوصه الـ 56، أن يشتغل على تقنيّاته. فهو يستتبع أسئلة فلسفيّة أعمق عن ابداع الانسان ، وعلاقته بالوعي أو بالواجب، كما عند الكاتب والمفكر لويس عوض، والمعمارية العراقية زها حديد،التي قال عنها" للعرب ان يفخروا بها، وللنساء العربيات خاصة ان يفخرن، فهي زهوة قدّمت نفسها من حديد بالفعل" اما عن الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر، فوصفه قائلا"لم يكن عفيفي جماهيريا، لم يحب بهرجة الاعلام وضوضاءه، كان يعيش بقيمة الحقيقية، وليس لزيف المظاهر، يعيشها في حياته ، ويعبر عنها في كتاباته العميقة، مثلما كان فريدا في شعره، حفر لنفسه طريقه الشعري مميزا ".، وكتب عن الشاعر العراقي مظفر النواب، والفنان النحات المبدع المصري آدم جنين،وباحث الفنون شاكر عبد الحميد، والمنشد الشعبي أحمد برين الذي اطلق عليه تسمية " قبس من روح مصر".. الخ. وبغض النظر عن الأجناس والأنواع، والموضوعات والرموز التي تحدثت عنها هذه المقالات التي نشرت في فترات متباعدة في الصحف المصرية وصحيفة الحياة اللبنانية، اغلبها مرثيات ، تهدف الى ابراز خصوصية حياة وفكر شخصيات تستحق احترامنا وتقديرنا الفائق لانسانيتهم الرائعة، فهي تدفع المتلقين في كل زمان ومكان في اتجاه البحث عما تميزت به.
لقد انطبعوا في القلب، حركوا مشاعر الرفض والاحتجاج والغضب وثورات الشباب وحماسات القلب التي كانت هدأتها المعرفة والتجربة والاغتراب الطويل الذي يجعلنا كقراء نتفاعل وتشتعل ذاكرة كل منّا مع مقالات، اشبه بنصوص شعرية . ما كتبه سمير غريب ، هو وفاء محبة خالدة وكبيرة لمن خلد في قلوبنا، واشاع في نفوسنا القيم الانسانية النبيلة والجمال الفني الرفيع المتدفق في رواحه وارادته الواعية، الى طريق العدل السليم في الحياة، بنظر ثاقب وفكر واع لمفرداته المنبثقة من خياله ورؤاه الفكرية التي تكشف عما يمتلكه من خزين يوظفه في اداء رسالته الكونية ، عارفا بان الثقافة معرفة والإنسان بطبعه كائن معرفي، يمتلك العقل ويمارس التفكر ويجري حساباته، معللا ،ومتأملا، ومستنتجا، انها ردّ للجميل الذي صنعه هؤلاء، توق محبة لجميع من كتب عنهم، على اختلاف مشاربهم، توقاً جباراً حارقاً يخلق من كل واحد منهم كتلة مشتعلة، كل ما كان في حياتهم ومن لازال يعيش معنا الان تواقون للمسك بزمام حيوات أنفسهم،عاشوا حياتهم بلا نفاق، بلا تمثيل، بحقيقتهم الكاملة الشاملة. فهو يؤكد في مقدمة كتابة على حرصة " بان تكون موضوعات الكتاب مرآة صافية لمعنى خلود المحبة، استعدت فيه وجوها أحببتها، رحلت او اطال الله عمرها، استمتعت بها أوتعلمت منها، راجعت فيه كتبا قرأتها وتأثرت بها، استرجعت تجارب عشتها في حياتي او شاهدتها".

 

جريدة الصباح الجديد

كتاب "خلود المحبة " لسمير غريب

نشرت في وجهة نظر

"الموسيقى هي ملجأ الأرواح التي جرحتها السعادة " إميل سيوران .

لقد نوهت في الجزء الأول بان الموسيقى السومرية ترتقي بالحياة مثلما ترتقي الفلسفة بالفكر ، وهي تعتبر في معناها عن عمق الروح ، وولادتها تاتي من تجانس احاسيس عدة تنطلق من فعل الهة ما ، وهي كما وصفت في التدوينات الاولى ( الاصوات المتناغمة التي نريد بها ان تستحضر الالهة ) وفعلا كان السومري يحث من خلال صوت الموسيقى الروح الهائلة الاخرى التي يظن انها مخبأة في مكان ما من زوايا العالم ، لهذا بدأت الموسيقى مع بداية الفهم الوجودي لاشياء الحضارة ، وربما تكون هي اللصيق الاول للغة حيث ادركت الدراسات ان تناغم الموجودات الطبيعية في عناصر عدة كهديل الحمام وخرير المياه ، وهدير العاصفة ، مثلت لدى الانسان سياقات صوتية عبر بها عن ردود فعل اراد بها السيطرة على شيء ، كما جاء في كلام الدكتورة نارايا ناميثون رئيس المجلس الدولي للموسيقى قولها : ( ان النظام الموسيقي الاقدم الذي نعرفه هو النظام السومري وربما كانت ذروته قبل 6000 سنة مضت ، هي الوضع الاكثر قدما في الافكار الموروثة حتى من عصور ما قبل التاريخ ، وكانت الموسيقى جزءا ضروريا من الحياة الطقوسية السومرية ) ، وتقول ايضا : ( كانت طقوس هذه الهياكل تبدو ذات نظام موسيقي عالي التنظيم ولدينا عنها إحصاءات دقيقة مضبوطة ، وقد غمر المناطق المجاورة شيء من مجدها ومكتسباتها .
اذن كان تاثير الموسيقى السومرية والقيثارة السومرية تاثيرا كونيا وهي كما الشعر يمكن ان تكون اداة ارتقاء وتحول نحو المثل الكونية التي اعطت العالم مزيدا من منارات المعرفة ، وهذا يقودنا الى الاعتقاد ان الهاجس الموسيقي مولود في الذاكرة السومرية قبل الشعر وقبل اكتشاف الفعاليات الحضارية المدونة كالرياضيات والقوانين والتدوين بانواعه النثرية كالاشعاروالاساطير والمراثي ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الالواح الباقية ان المرأة السومرية لا تحمل ولدها اٍلا على الجهة التي يقع فيها القلب ، وهذا اكتشف بعد اَلاف الاعوام من قبل العلماء ان صوت القلب ينبض بهاجس موسيقى خاص يدفع الطفل الى الهدوء والنوم ، ولقد تركت لنا المدونات الكثير من الترتيلات والاغاني والاشعار التي تمت بهاجس الموسيقى الى الحياة والمجتمع في سومر ، وكان للسومريون اقدم نظام موسيقي في العالم وربما ندرك في الموسيقى السومرية سرمدية الذات التي تفكر بتجاوز معضلة اليوم الصعب عندما تستعيد من قبل ثري او كاهن او أمير لتجد في الموسيقى سلوة الوصول الى حكمة القناعة بان الاّلهة تضع في الموسيقى مسببات قدر الولادة لكل سومري ، سنقرأ في هذه المدونة ، مانراه تأكيداً لما سبق ذكره :- ( أضربي في البوق ، واعزفي على الوتر ، سأرى في ذلك الطريق ... واشاهد المشيئة المطلقة ... أن ارادة الاًلهة كتبت قدري .. وشاهدت في عزفها حياتي القادمة) .
ومن الملاحظ ايضا ان في الديانة الهندية وبالاخص الديانة الفيدية التي هي جزء منها وهي ديانة قائمة على اساس الاسفار المقدسة ( كتب الفيدا ) وهي اربعة كتب ( الرغفيدا ، الياجوسفيدا ، الاتهارفافيدا ، السامافيدا ) تعتبر هذه الكتب الاربعة من تراث اقوام الهند الدرافيدية الاصلية والاقوام الارية التي وفدت اليها عام 1500ق.م ، ( وتحتوي تلك الاسفار على المعتقدات والالهة والهموم والاناشيد الدينية ، والسياسة والصلوات والاعراف والتقاليد والمهن وردود الفعل ازاء الطبيعة ... وهكذا يمتزج في كتب الفيدا ، السحر والتجارب البشرية بالنظرات الدينية ، والتراتيل ، والسرد بالتحاليل والمعارف العامة بالحكمة الشعبية والاداب الاجتماعية ، وقد كتبت هذه الاسفار باللغة السنسكريتية . .
نجد كذلك في الكنائس المسيحية واليهودية التراتيل والموسيقى الهادئة والمريحة التي تسعى للسمو بالمؤمن ، ورفع درجة تركيزه وايمانه نحو الذات الالهية ، واضح ذلك في الناقوس والاجراس الكنائسية .
وعند المسلمين نجد تراتيل قراءة القران واناشيد الايمان وامتداح الرسول ، وحتى الآذان ،كلها تسعى لرفع الدرجة الايمانية ، و للسمو بالفرد واتجاهه نحو الله سبحانه ، وتسمى الموسيقى بالمعازف وهي محرمة شرعا .
لو تمعنى جيدا لوجدنا ان تراثنا الديني المندائي وكتبنا الدينية المقدسة زاخرة بالتراتيل والترانيم الدينية الرفيعة المستوى والتي تعبر اصدق تعبير( عن الحالة النفسية التي كان يعيشها اجدادنا وتعكس صورة حية عن نظرتهم الى حقائق الكون والحياة والوجود والخلود والتناقض بين الخير والشر ، وبعضها يدل على نظرة فلسفية عميقة تمس السلوك الأنساني والقيم الاجتماعية والروحية وتعبر عن الاعراف الدينية والأدعية والصلوات التي يرددونها ) .
لذا نجد الترانيم والتراتيل واضحة جدا في الكتب الدينية المقدسة ومنها كتاب الانياني اي كتاب التراتيل والاناشيد الدينية ، وكذلك القلستا ( كتاب الزواج ) وهو كتاب خاص للبحث عن رسوم الزواج وسننه والاحتفالات التي تقام في اثناء عقده والاناشيد التي تقرأ فيه والتي بعد الانتهاء من قراءتها واجراء العمل الخاص يصبح العروسين روح واحدة ، وهو يتعلق بالزواج الروحي الذي اقيم لملكا شيشلام ربا من ازلات ربتي والتي اجريت لهم في عوالم النور العليا.
يمكن القول ان ديانة الصابئة المندائية زاخرة بالأناشيد والنصوص الشعرية الجميلة :-
( كتبت من اجل الرؤيا والرائي والمرأى
وحملت مراتب الوجد لتنظر الى نور الروح
ثم تبعد السيف عن فم الوردة
فليس هناك اجمل من نغم وقصيدة
تصعد الى السماء بسلالم أجفان كاهن
وليس هناك أجمل من اغنية مندائية و ترتيلة قديمة
تقول ، حتى تصبح عريساَ مباركاً
احمل عبارة الحب وضوء القمر مهراً لعروسك ... ) .
لقد كانت للاناشيد التي قدمتها فرقة تراتيل الصابئة المندائيين ذات الاثر الكبير في بلورة تلك الافكار الى واقع ملموس يضج بالحيوية والنشاط في كثير من المناسبات الدينية والبراخات الجماعية الكائنة حاليا في دول المهجر خصوصا في العراق حيث اللبنة الاولى وفي ديترويت في الولايات المتدة الامريكية او في مدينة سدني الاسترالية في مندي الشيخ داخل ، حيث تقدم تلك الاناشيد وتلك التراتيل الجميلة باللغتين العربية والمندائية ، وكان لاعضاء فرقة مندي بغداد الدور الكبير والمميز في اظهار الصورة الايمانية للمندائية .
وهذه الفرقة تأسست بإيعاز من لجنة المرأة المندائية التابع لمجلس شؤون الطائفة العام في مندي بغداد وباشراف عضوة اللجنة الانسة فيحاء عبد الاحد ( الحاصلة على دبلوم معهد الدراسات الموسيقية وعضوة فرقة بابل التراثية وعضوة نقابة الفنانين العراقيين ) ، وهذه الفرقة تتكون من كورس للاطفال وكورس للأنسات المندائيات ، مختصة بأداء الأناشيد الدينية فقط . وقد استحوذت فرقة التراتيل المندائيةعلى اعجاب الحاضرين في الحفل الرائع الذي اقيم في مندي بغداد بمناسبة ظهور الترجمة العربية للسفر العظيم كتابنا المقدس ( الكنزا ربا ) الى النور لاول مرة في التاريخ عام 2001 م .
ومنذ ان تأسست تلك الفرق المندائية الفاعلة وإلى اليوم ، وهي تقوم بواجبها بكل اخلاص وتفان ينظمها ويقودها شباب نذروا انفسهم لخدمة الطائفة والدين المندائي ، وهذه لجان الشباب التابعة للمنادي التي تختار النصوص الملائمة للتراتيل وتضعه بين ايدي الملحنين المبدعبن الذين يسهرون الليالي لاعدادها ثم يمضون الساعات الطوال لايصال هذا اللحن لاذهان المنشدين حتى يستقيم على السنتهم ويصبح نشيدا دينيا هادفا يرضي كل الاذواق ، بعد أن ظهر الى العلن شعراء أغنية مندائيين مقتدرين في هذا الون من الشعر الغنائي الراقي .
اما الموسيقى العربية بشكل عام يمكن القول انها تتضمن الوانا من الانواع والاساليب الموسيقية التي تمتد بين الموسيقى الكلاسيكية وصولا الى الموسيقى المعاصرة الحديثة ، وبين الانشاد الديني ذات الطابع المدني ، بينما تعرف الموسيقى العربية بتفردها وحيويتها فان لها تاريخا طويلا من التاثير من وفي موسيقات الحضارات المجاورة مثل الحضارة المصرية القديمة ، والاغريقية ، والفارسية والكردية والاشورية والتركية والهندية ، وموسيقى شمال افريقيا ، والموسيقى الافريقية ( السواحلية ) والموسيقى الاوربية ( ىالفلامنكو ) .
ان تذكر الاندلس وايام العرب فيها وحضارة الشرق العربي التي أثرت في تلك البلاد حتى يتبادر الى الذهن أسماء أعلام كبار كان لهم حضورهم المميز سواء في الساحة الادبية أم في الساحة العلمية أم في الساحة الفنية ومن هؤلاء زرياب موسيقار الاندلس ذلك الصبي الاسود اللون ، الذكي الملامح ابو الحسن علي بن يافع الذي عرف في التاريخ بأسم زرياب ، وانه كان تلميذ ابراهيم الموصلي وابنه اسحاق من بعده ، وزرياب موسيقار الاندلس اول من زاد الوتر الخامس في العود ، ويعتبر ابراهيم الموصلي الموسيقار الاول بلا منازع .
اما الموسيقي ابو نصر محمد الفارابي ( 872 - 950 ) وهو من فاراب وهي مدينة من بلاد الترك في ارض خراسان اليوم (ايران ) وكان ابوه قائد جيش سيف الدولة الحمداني ، وكان في بغداد مدة قصيرة ثم انتقل الى الى سوريا وتجول في البلدان الى ان استقر في دمشق وتوفى هناك وهو فيلسوف اشتهر باتقان العلوم الحكمية ، وكانت له قوة في صناعة الطب ومن اهتماماته في الميتافيزيقيا ، فلسفة السياسة ، علم المنطق لان الفارابي المعلم الثاني نسبة للمعلم الاول ارسطو بسبب اهتمامه بالمنطق لان الفاربي هو شارح مؤلفات ارسطو المنطقية اضافة الى اهتمامه بعلم الأخلاق ، ونظرية المعرفة ، والطب ، اضافة الى اهتماماته في الموسيقى الذي ألف ( كتاب الموسيقى الكبير ) والذي تضمن الأسس والقواعد الموسيقية التي يسير على نهجها الموسقيون العرب حتى يومنا هذا ، ويمكن الاشارة الى المقامات الموسيقية بوصفها الأساس اللحني والنغمي للموسيقى العربية ، وهو يمكن ان يميز بالطبقات الصوتية او ادوات العزف ولا يتضمن الايقاع .
كما تناول تعريفا بمراحل تطور الموسيقى العربية في العصر الاندلسي ، ويشير الى تأثير الموسيقى العربية في الغرب ، وكيف ساهمت الاّلات الموسيقية العربية في تطوير الاّلات الغربية ، موضحا ان الجيتار تطور من القيثارة ، وان الكمان تطور من الربابة ، والطنبور من العود ، واّلات الايقاع من الطبل ، وغيرها من التاثيرات. ولا يمكن نسيان الموسيقى الأوربية العريقة من اعلامها ، على سبيل التمثيل لا الحصر ، من موسيقي القرون الوسطى منهم فليب دي فيتري ، فرانسيسكو أندريو وغيرهم ، اما عصر النهضة منهم ، وليام بيرد ، جون كوبير ، توبياس هيوم . والعصر الباروكي ، ولهليلم فريديمان باخ ، جورج فريدريك هاندل ، جين فليب رامبو . وعصر النهضة ، وليام بيرد ، جون دولاند ، فيليب فيرديلوت . والعصر الكلاسيكي ، لودفيج فان بيتهوفن ، ليوبولد موزارت ، مايكل هايدن . ثم العصر الرومانسي ، كلارا شومان ، يوهان شتراوس ، بيتر إليتش تشايكوفسكي ، وريتشارد فوغنر ، وغيرهم كُثر من مؤلفي النوتات الموسيقية والسمفونيات العالمية القديمة والحديثة .
وفي الغرب نشأت جماعة دينية جديدة تسمى السينتولوجيا ، وانتشرت كنائسها في الولايات المتحدة الامريكية ودول اوربا .. ومن بين الاشياء التي تعتمدها السينتولوجيا ، الموسيقى الدينية الخاصة بالجماعة ، اذ يتم بيع اقراص هذه الموسيقى باسعار باهظة الثمن ، وتلك موسيقا ليست صاخبة بل هادئة ، ويدعي العلمولوجيون بانها تغسل الدماغ وتنسي الموروث الفكري المكتسب بكامله ، وتصنع شخصا جديدا ، مؤمنا بالديانة الجديدة ، التي هي العلمولوجيا .
والموسيقى الصاخبة عند عبدة الشيطان شيء اساسي وهي وسيلة لتعطيل الحواس البشرية ، ونوع من التخدير العقلي ، ولان عالم فطرة الانسان هادىء يميل الى هدوء الاعصاب والابتعاد عن الصخب والصراخ والضجيج ، اخترع اصحاب الشيطان موسيقاهم الخاصة بهم ، فهي مزيج من الصخب والضجيج الذي يصم الاذان ، ويوتر الاعصاب ، ويميل الانسان الى الصرع والجنون والتخبط ، واطلقوا على تلك الموسيقى القابا واسماء لا تخلوا من النفور والتقزز والخوف والرعب ، مثال السبت الاسود والاسود القاسي العنيف وغيرها من الالقاب ، وقد اكد المحللون الذين راقبوا الموسيقى المستخدمة لدى عبدة الشيطان ان هناك انماطا عدة للموسيقى وهي ( البلاك ميتل ) و (هافي ميتل ) و ( ديث ميتل ) وكل نمط له مميزات ورقصات خاصة يهزون فيها رؤوسهم بطريقة راسية هسترية ، اما الاغاني فهي تشتم الاله وتمجد الشيطان وتمجد كل معتقداتهم وطقوسهم .
أما الموسيقى العربية المعاصرة بوصفها امتدادا للتقاليد الموسيقية التي تاسست بعد انهيار الامبراطورية العثمانية ، نشير الى بعض نجوم الموسيقى والغناء العربي الاصيل سيد درويش التي شكلت اغنياته وجدان اجيال عديدة في تلك المرحلة ( اغنية بلادي ) ، سعيد مكاوي ، رياض القصبجي ، رياض السنباطي ، وفريد الاطرش ، ومن الملحنين اصحاب الحدائة الموسيقية محمد عبد الوهاب ، بليغ حمدي ، وكمال الطويل ، ومن المطربات كوكب الشرق ام كلثوم ، عبد الحليم حافظ ، نجاة الصغيرة ، فائزة احمد ، وفيروز ، والمطربة اللبنانية صباح ، و الهام المدفعي من العراق ، والاشارة الى منتصف القرن الماضي بوصفه الشاهد على الموسيقى العربية المعاصرة التي تاثرت بالغرب ، ثم لفترة التسعينيات بوصفها فترة التاثير بالموسيقى الغربية في الحان مزجت بين الشرقي والغربي ، مشيرا إلى أبرز أسماء النجوم الشباب العرب ، كذلك نجد ان من اشهر العازفين في القرن العشرين هو زرياب القرن العشرين ، وعازف العود الفنان الكبير منير بشير ، ومن بعده عازف العود العراقي الشهير نصير شمة .
ان التغني للحب والجمال فهو غذاء الروح ، لانه جوهر التفاعل الحضاري الإنساني ، لان الوعي بعلاقة الحب الوجداني والالهي يخلق بناء ثابت ورصين في بناء قاعدة المجتمع السليم.
لذا نرى كل الحروب في العصور الغابرة كانت تستخدم الموسيقى كالدفوف والابواق والأجراس وغيرها ، لتحفير الجيوش على القتال ، وهو نوع من الدعم المعنوي كما هو الحال في الأناشيد الوطنية والتراتيل الدينية في الوقت الحاضر بعد ان تطور إستخدام الآلات الموسيقية والوترية والاجهزة الصوتية والمرئية الألكترونية .
كلمة أخيرة : " الموسيقى لغة عالمية لتبادل العواطف" فول فرانز ليست .

المصادر:
1- مؤيد مكلف سوادي - الترانيم الشعرية في الأدب المندائي- افاق مندائية / العدد-4.
2- علاء كامل غليم - مسؤول لجنة التراتيل الدينية في مندي بغداد- افاق مندائية / العدد- 20.
3- فرقة التراتيل المندائية تستحوذ اعجاب الحاضرين- افاق مندائية - / العدد-16.
4- فراس السواح / مدخل الى نصوص الشرق القديم .
5- خزعل الماجدي / متون سومر ( الكتاب الاول - التاريخ ، الميثولوجيا ، اللاهوت ، الطقوس)
6- جان بوتيرو / الديانة عند البابليين - ترجمة د. وليد الجادر .
7- محمد المدني / انهم يعبدون الشيطان ( موسوعة العقائد والمذاهب والاديان ).
8- نعيم عبد مهلهل / ( الروح اولاً ) - جريدة المدى البغدادية .
9- خزعل الماجدي / بخور الالهة .
10- هاري ساغز / عظمة اّشور / ترجمة خالد اسعد عيسى .
11- ناجح المعموري / موسى وأساطير الشرق .
12- هاري ساغز / عظمة بابل / ترجمة خالد اسعد عيسى واحمد غسان سبانو .
13- ابراهيم فرغلي / فضاء الموسيقى الالكتروني والمغالطات العربية / مجلة العربي الكويتية.
14- الموسوعة الحرة/ ويكيبيديا.

 

نشرت في وجهة نظر
الجمعة, 02 آب/أغسطس 2019 16:15

شلالات فيـكتـوريا

(تعتبر شلالات فيكتوريا من عجائب الدنيا ومن أجمل صنائع الطبيعة وأبهاها وأكثرها جرأة حين تتدفق ملايين الأمتار المكعبة من المياه في هوّة عميقة لتمضي بفجٍ ضيق وكأن الأرض تبتلعها)


تأخذ اللغات من ألفاظها البسيطة ذات المعاني الجميلة أسماءً تُطلق على الناس كي يمكن تمييزهم، بعضها يتخصص بتسمية أنثوية وأخرى ذكرية دون الرجوع احياناً لمعانيها، ومنها ما يكون مشتركاً، كصباح وصفاء وسهام وغيرها. أما أسماء (الدلع) والألقاب الجميلة فنتبادلها لتدل على حبنا للأبناء والأحبة وتعلقنا بهم ولتعبر عن الحالة الحميمة التي تجمع الخلان، وهي وإن تكون خارجة عن السياق اللغوي لكنها غالباً ما تكون أحلى من اللفظ الأصلي وأحياناً أطول منه، فمن هاني هنوني وحارث حتوتي وعماد عمودي وحنان حنونة وسيف سيوفي ويحيى حياوي..... ولا يتبع ذلك قاعدة، بل غالباً ما يكون تصغيراً للاسم كي يصبح محبب أكثر، فمن كريم كريّم ومن سمير سميّر. عملية التصغير واردة باللغة الهولندية وتتبع قواعد ثابتة، فيضيف الهولنديون (جة) أو (شة) ليصبح الأسم مصغراً، التفاحة (أبل جة) والصديقة (فريند جة) والآيس كريم (آيس شة)، وهم بذلك يجعلون من الشخص أو الشيء محبب أكثر، وحين يشتري الهولندي بيتاً أو سيارة يصفه بالصغير والبسيط فيقول بأنه أشترى (هاوس شة وأوتو جة) ويختصرها (هاوشة وأوتُجة).
بلغتنا العربية الجميلة لأسم (أنتصار) تصغير (تدليع) متعارف بأن يكون (نصّورة)، لكن هل سمعتم بأن يكون (صرصورة)، هذا ما كنت أنادي به أحد البنات اللائي التقيتهن، (صرصورة) بأيام مراهقتي كانت أكثر من صديقة لكن حكم التقاليد والمجتمع هو ما فرّقني عنها. (أنتصار) أسم جميل له معنى محدد هو غلبة وفوز في معركة وفي سباق وأنتخاب. بالانكليزية يُشتق الأسم (فيكتوريا) من النصر (فيكتوري) ومن أول حرف بالكلمة جاءت علامة النصر حين يلوح بيده اللاعب الفائز والجندي والشعب المنتصر.
لم يصادف أن ألتقي بحياتي في العراق بأمرأة تحمل أسم فيكتوريا، لعل السبب هو أن الأسم أجنبي، لكني وحين كنت أكتب مقالتي هذه على لوح الطابعة، كانت كلماتي تأخذ طريقها لمسامع زوجتي، فقالت بأنها قد إلتقت بالعراق (بفكتوريتين) لن تنسَهما، فقد رافقتها الطالبة (فيكتوريا) سنوات الإبتدائية وكان يميزها طول شعرها الذي يصل حتى ركبتيها وهو صحي يعاود النمو بقوة حتى لو تقصه، الثانية كانت مُدرسة الرياضيات بالمتوسطة، (مصلاوية) شديدة متمكنة من عملها وتؤمن بالثواب والعقاب بحيث كانت تمنح الشاطرة درجتين وتستقطعهما ممن تتخلف عن تأدية واجبها البيتي لتقول... (مخصوم منكِ دغجتين).
فيكتور وفيكتوريا يوحي لنا برزمة أبطال وبطلات حملوا هذا الاسم، الكثير من (الفيكتوريات) دخلن التاريخ أشهرهن ملكة بريطانية في القرن التاسع عشر والتي تعتبر فترة تقلدها العرش الإمبراطوري الأطول بين الملوك في التاريخ، فقد تعدت اليوبيل الذهبي ولتوصف فترة حكمها بالماسية*. حقيقةً ما خلدها حتى قبل أن ترحل لا علاقة له بالسياسة والحكم، بل أمراً آخراً يأخذنا بعيداً عن أوربا وحياة الترف، إلى أفريقيا ومجاهلها، لشلال وبحيرة*، إلى جنوب شرقها حيث نهر الزامبيزي العنيد وحدود زامبيا وزيمبابوي، هناك تمتد أطول وأضخم ستارة مائية بالكرة الأرضية، يعزفُ هدير مياهها سيمفونية الخلود ويطرزها قوس قزح دائم بينما يرسم الرذاذ الذي يرتفع في الليالي المقمرة لوحةً بديعة لها سحرٌ أكبر من السحر نفسه، أنها شلالات (فيكتوريا).
تسمى البحيرة التي يصنعها النهر قبل أن تنساب مياهه مسبح الشيطان (ديفل بول) وهو أسم ليس بمحله البتة، فبرغم الإثارة لكنها ليست بالخطيرة ولا العاصية على السباحين بل بالعكس مياهها هادئة وكأنها لا تعلم أن أنخفاضاً يبلغ مائة وعشرون متراً بأنتظارها.
× × ×
من الأحلام الجريئة التي تراود المغامرين أن يقطعوا القارة الأفريقية من البحيرات الكبرى إلى جبل كلمنجارو فهذه الشلالات، ورغم أن هكذا رحلة ستكون شاقة وطويلة تبلغ ألوف الأميال، لكن ذلك يهون أمام المخاطرة بعبور حدود أدارية رسمتها سياستنا نحن البشر، الأمر الذي جعلهم يترددون بالمغامرة لأستكشاف منابع نهر الزامبيزي ورسمها بدقة.
لو ننظر للخارطة من شرق البحر المتوسط وحتى جنوب شرق أفريقيا، نلاحظ أن هناك شرخ يبدأ من البحر الميت فوادي رم بالأردن فخليج العقبة ثم يتسع في عمق البحر الأحمر ويمتد لجنوبه فيشطر أرض أثيوبيا لهضبة وسهل ومن ثم يكوّن البحيرات الأفريقية العظمى، يسمى (الصدع الأفريقي العظيم)، لو نتجه إلى الجنوب منه نصل جبل كلمنجارو الساحر ثم نسير وسط السهول بعمق القارة، نجد أن الأرض قد قصمت (ظهر) نهر الزامبيزي وشطرته لقسمين أعلى وأسفل، ولتصنع هذا الشلال الرائع.
عندما قرر المغامر الأيرلندي (ديفيد ليفنغستون) بمنتصف القرن التاسع عشر أستكشاف الزامبيزي ـ رابع أكبر أنهار أفريقيا بعد النيل والكونغو والنيجر ـ فضل أن يتميز عن بقية المستكشفين بأن يذهب برجاله براً إلى أبعد روافده، من هناك بدء بمعونة دليل محلي بتتبع جريان النهر باتجاه مصبه، لم يتوقعوا بأنهم سيُصارعون نهراُ هو الأكثر صخباُ بجريانه، فبعدما أخترقوا منطقة غابات كثيفة ممطرة مليئة بأفاعي سامة بإمكانها الأنطلاق كالسهام من أغصان الأشجار نحوهم، ساروا بزوارقهم الصغيرة فوق أجساد عملاقة تزن عدة أطنان لفرسان النهر، كان بإستطاعتها وبحركة بسيطة لو (عطست) أن تقلبهم، حينها تكون مسألة تذوق لحومهم من قبل التماسيح الجامحة عبارة عن مأدبة مجانية. ومع أن تحديات كهذه كانت متوقعة بالنسبة لمستكشف متمرس ومغامر محترف، لكن صوت هدير مياهٍ كان يثير فضوله ويشده لتتبع أثره، فطاف بالنهر أميال بينما الصوت يشتد ليجد نفسه أمام إحدى عجائب الطبيعة حيث عمل هذا النهر شلالاً بعرض ميل (1.7 كلم) وعلواً أكبر من شلالات (نياكارا) ذائعة الصيت وبأشد قوة تدفق لمياه على وجه الأرض. عجزت قواربه الأستمرار وتوقفت الرحلة، عاد الفريق براً إلى حيث دلتا مصب النهر ليبدأ جولة أكثر سهولة، بعد خمسمائة ميل وجد الرجال أنفسهم من جديد مذهولين أمام ستارة عملاقة بيضاء اللون تعمل كحاجز يمنعهم ويحول دون الإستمرار بأية رحلة.
الزامبيزي، النهر الوحيد الذي لم يتم أستكشافه بشكل كامل، يصفه سكانه بأنه صاحب الروح التي تحاكيهم وتجلب لهم المياه والأسماك فأسموه نهر الحياة، شلالاته هذه هي بحق قلب أفريقيا النابض، تتربع بمقدمة لائحة التراث العالمي. إن الرذاذ المنبعث نتيجة التدفق الشديد لمياه النهر على مدار الساعة شكـّل حوله غابات مطيرة هي الوحيدة التي لا تعتمد على أمطار وتحتوي على تنوع نباتي فريد. إن مشهد (قوس قزح قمري) لا يمكن مشاهدته ببقعة أخرى على الأرض يحدث بالليالي المقمرة ويرسم أقواساً كالألعاب النارية بكبد السماء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
× لم يجرِ تسمية هذه الشلالات بأسمها المحلي (موسي وا تونيا) أي الدخان الذي يُطلق الرعد، حيث أطلق المستكشف (ليفنغستون) أسم ملكته (فيكتوريا) عليها بعد أن أبهرته في العام 1855 وأوقفت بعناد شديد تقدمه لأستكشاف النهر، وقفة كانت جديرة بأن يخلدها للتاريخ.
× بحيرة فيكتوريا، أكبر بحيرة بأفريقيا وأحد منابع نهر النيل، سُميت على أسم ملكة بريطانيا حينما أستكشفها البريطاني (جون سبيك) عام 1858. لكن الرحالة العربي (الإدريسي) كان أول من أشار لها ورسمها قبل ذلك بسبعمائة عام.كوّن البحيرة نهايات الصدع الأفريقي العظيم، تشترك كينيا وأوغندا وتانزانيا بمشاطأتها، وهي وبحيرات أخرى أصغر يشكلنَ البحيرات الأفريقية العظمى.
× الملكة ألكسندرا فكتوريا، تولت الحكم ستة وستون عاماً وساهمت بأصدار دستور جديد لا يزال العمل بمعظم بنوده لليوم، كانت بريطانيا في أوج عظمتها فسميت فترة حكمها بالعصر الفيكتوري، أبيها أبن الملك جورج الثالث وأمها ألمانية، تولت الحكم بعمر ثمانية عشر عاماً بسبب موت والديها وأعمامها. أنجبت من زوجها الأمير البرت تسعة أبناء تزوجوا وشغلوا مناصب في أرجاء أوربا، لذا تكنى الملكة فيكتوريا بأم أوربا. وبرغم أن صلاحياتها كملكة محدودة بحسب الدستور البريطاني، لكنها أثرت بالحياة السياسية بشكل فعال من خلال تدخلها كطرف محايد لحل النزاعات داخل البيت البريطاني الذي ماكانت تغرب شمسه. الجدير بالذكر أن الملكة الحالية، إليزابث الثانية أبنة جورج السادس، ذات الخمسة وتسعين عاماً، أصبحت صاحبة أطول جلوس على العرش البريطاني حينما تعدت في العام 2015 فترة حكم جدتها فكتوريا.

نشرت في وجهة نظر

في العام الدراسي 1962 ــ 1963 م ، كنت طالباً في مرحلة الثاني المتوسط ، في ثانوية سوق الشيوخ .. وكان لنا بيتاً كبيراً شُيِّدَ من الطابوق ، في عام ثورة 14 تموز ، إذ كنّا نسكن قبلها في غرفَتَيْ طين وكوخ من القصب ( صريفة ) ، والبيتُ يتوسط محلتنا ، محلة الصابئة ، التي تحتل الضفة الشرقية من نهر الفرات ، المتباهي بغزارة مياهه وخضرة شواطئه ، والذي يخترق مدينة سوق الشيوخ ، متجهاً نحو أهوار الحمّار .
وكان من بين أبناء محلتنا ، عدداً من المعلمين ، أخص بالذِكر منهم الرعيل الأول ، وهم ، الأساتذة ، ورد عنبر ونوري جابر وخليل مكطوف وورد شجر وضايف عوفي ونهاد باشاغا وجبار طلاب وخزعل غلاب وجبار عناد ونايف مجيد وصبيح مزعل ( يرحمهم الله ) .. وناهي طلاب وحامد مغشغش وحمدان كطان ومطشر كحامي ومحسن ملغوث وشاكر الشيخ جوار وفؤاد فرحان ( أطال الحي الازلي أعمارهم ) .
ومع جل إحترامي للتأريخ التربوي والوطني للشخصيات الجميلة التي ذكرتها ، فحديثي اليوم يتعلق ، بالمعلم حمدان ( أبو رجاء ) ، المقيم في فنلندا .
فهو ، حمدان بن کطان بن مرّان السيفي ، من مواليد سوق الشيوخ 1935م .. كان ناشطاً يسارياً ، مؤمناً بقضية شعبه ووطنه منذ شبابه .. إنتمى لصفوف الحزب الشيوعي العراقي قبل ثورة الرابع عشر من تموز .. وواصل نضاله وبنشاط متميّز ، حتى حل يوم الثامن من شباط 1963 م .
وفي ذلك اليوم ، الذي نجح فيه تحالف القوى القومية والاسلامية والاقطاع والرجعية ، يقودهم البعث ، وبدعم من دول الجوار ، وبتخطيط وتوجيه أمريكي ، حيث تمكنت هذه القوى مجتمعة ، من توجيه الضربة المُبيَّتة لثورة الرابع عشر من تموز ومكتسباتها ، وفي مقدمتها اليسار التقدمي والحركة الديمقراطية العراقية بشكل عام .
وأذكر ، وأنا في الرابعة عشر من عمري ، كيف كان الحرس القومي ، يتجه صوب محلتنا ، ليعتقل عدداً من النشطاء المعروفين ، ومن بينهم ، حمدان كطان ومطشر كحامي وحامد مغشغش وصبيح مزعل ومحسن ملغوث وفرحان عنیسیوأمين كريم فرحان وماجد خضر وغيرهم.
وحين نعود للمناضل حمدان كطان ــ وهو موضوع عنواننا ــ ، فكان قد تعرض لأشد أنواع التعذيب على أيدي أزلام الحرس اللاقومي ( سيء الصيت ) .. وبعد أن أشفوا غليلهم ، متلذذين بدمائه التي تنزف من مواقع عديدة في جسده ، قدَّموه لإحدى محاكمهم العسكرية الصوريَّة ( المجلس العرفي في معسكر الوشاش ببغداد ) ، ليُحكَم لأربع سنوات ، قضّاها في سجن ( نقرة السلمان ) .
وفي هذا السجن ، كان الرفيق حمدان متميزاً بعلاقاته الرفاقية الطيّبة مع الجميع ، وأصبح معلماً في دورات مكافحة الأميَّة التي إفتتحها الشيوعيون في ذلك السجن .. وكان يشاركهم في حلقاتهم الدراسية في السياسة والاقتصاد ، وفي الرياضة والشطرنج ، يخدمهم ، يسهر على راحتهم ، يمازحهم ، يدعوهم لمشاركته في ما يصله من طعام من عائلته ، ليترجم الأخلاق الشيوعية ، كما تعلّمها وتربى عليها .
وفي سجن ( نگرة السلمان ) ، ذاع صيت ( نظرية علمية جديدة !!! ) ، أطلق عليها الرفاق ـــ للمزاح طبعاً ـــ ، إسم ( إشتراكية حمدان !!! ) ، وكان وراء ظهور هذه النظرية ، أنَّ شقيقة حمدان ( السيدة رسمية كطان) ، وحين يحلُّ موعد مواجهة السجناء السياسيين في نقرة السلمان ، كانت ــ وهي المعروفة بشجاعتها ــ تخترق بسيارات الأجرة الخشبية ، ذلك الطريق الصحراوي المُتعب الممتد عبر بادية السماوة ، لتوصل إلى شقيقها الملابس الجديدة وما لذَّ وطاب من المأكولات ، وفي مقدمتها طبعاً ، البط والدجاج ، المطبوخ على الطريقة المندائية ، وبعد أن تلتقي أخيها ، وتسلّمه مؤونة هذه الرحلة ، يقوم الرفيق حمدان بتهيئة الطعام في القاووش الذي هو فيه ، ثم يبدأ بتقطيع لحم هذه الطيور إلى حصصٍ بعدد رفاقة في ذلك القاووش ، وبالتساوي ومنها حصته .. ومن هنا سُمِّيَت هذه المبادرة ، التي ظلَّت تتكرر في سجن نگرة السلمان ، بـــ ( إشتراكية حمدان !!! ) ..
والسلام عليكم .. ودمتم في أمان .. وربَّنا يحفظ حمدان .. المقيم في فِنلندان .
مع أجمل التحايا

نشرت في وجهة نظر
السبت, 29 حزيران/يونيو 2019 15:02

دعاء الكروان

“الثقافة تبقى حين تنسى ما تعلمته" (هيغل) "كل الناس مثقفون ، وهكذا باستطاعة المرء أن يقول ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع" ( أنطونيو غرامشي).
من المعروف ان الثقافة تهذيب للنفس وتنمية القدرة على النقد البناء والتحليل الدقيق مدعومة بالحجة والبرهان ، ومن خلال خزين المعرفة والمران في الجدل المُنتج وهي حالة عزفت عليها الشعوب والأمم حتى اتخذتها برنامجاً سلوكياً في تعاملها مع الأحداث ، ومنطلقاً في بناء ذات للفرد والمجتمع ، بالتوازي مع القيم الوطنية والأخلاقية .
ان سلطان العلم والمعرفة التي تنادي بهما العقيدة المندائية في كل ادبياتها ومآثرها التي نعرفها ، هي إستخلاص دروس الماضي ووضعها في إطارها الجديد الذي يحمل خصال الثقافة التنويرية ، وإستحصال القيمة الروحية وجعل الإنسان الصابئي المندائي في احسن تقويم ، كي يقوم بواجبه بأفضل صورة وحسب قدراته وامكانياته الذاتية ، في الطريق لخدمة أسرته ومجتمعه الذي ينتمي اليه وأبناء جلدته كي يتذكرونه دائماً بالخير والثناء والتقديرعلى مدى الأيام .
وهو تعبير ضمني عن مكنون القدرة الإلهية وتأثيرها على القدرة البشرية ، وعلى قاعدة الجدل بين الإرادة الإلهية العدالة وإرادة الشر الظالمة ، وتحميل تلك الرسالة بيد أنبياءنا الصالحين الذين هم قدوتنا ودليلنا ، ومن ثمَ إلى الذين هُم مرشدينا من رجال ديننا المتنورين العارفين .
ويعد هذا بتوجيه الخطاب الإلهي لذات الإنسان ولضميره الحي ، لحمل تلك الرسالة السماوية واقامة العدل والمساواة يكون في المحصلة النهائية وفي المنظورالعام ، ان الإنسان هدف وغاية سامية وهو المتحرك المهذب المجتهد في فهم دوره جيداً حسب معتقده ومدى إيمانه به ، لأن يقابل هذا الفهم بالسلوك الجيد الصالح ، وسيكون أجره في الدنيا وثوابا في الآخرة حسب ما يؤمن به ، هذه العلاقة الجدلية والفهم بين الذات الإلهية والذات الإنسانية لا تقبل المهادنة ولا الإنغلاق اوالسكوت عليه ، إنما تنمية الإستيعاب بفهم منفتح بلا أدنى شك تبرز حاجة الدين إلى المعرفة بالقراءة والمواظبة والأجتهاد الناصح ، وهذه قاعدة عامة تنطبق على المثقف ورجل الدين على السواء ، فالمجتمع يكون بأمس الحاجة الى المثقف المتحرك اكثر من حاجته الى المتدين الساكن الجاهل ، وحتى تكون الفكرة اكثر دقة نطلق على المثقف المتدين مع جدل مستمر ، وغير المثقف متدين بتابو مقدس ، وهذا التباين يسبب بروز إشكالية ظاهرة التزمت ، لما لهذا المتدين من هالة صنعها لنفسه بالعزف على هالة التقديس ، لطمس اي توجه او بادرة جدية صالحة للمجتمع الذي ينتمي اليه .
ان اختلاف الآراء يكون حالة صحية وحالة دفع إلى الأمام ولكن ليس في كل الأحوال ، ولا في كل الظروف والأوقات ، نحتاج الى وقفة جدية في العمل الصائب بعيداً عن الليونة التي تفتت المجتمع والمهادنة التي تفسد ما تم بنائه وما عمل من اجله ، وبالتالي تقع المتاهه دون حساب لقدرة الزمن ونتائجه السلبية المدمرة .
اعتقد ان المثقف الواعي يفهمها هكذا ، واما المُتصلب لا نقول المتزمت ، يفهمها الفهم الآخر ، ألم تكن الحاجة ماسة اليوم للفهم الأول وبالتالي حاجتنا للمثقف المتدين أكثر من حاجتنا الى المتدين بتابو مقدس ، وهذا يد فعني الى الدعوة مجددا بتوحيد الخطاب الديني المندائي والذي ينعكس إيجاباً على العمل المندائي الشامل ، كي نتخلص من الإرث الثقيل الذي خلف الهوة بيننا وجعلنا نسير بخطوات بائسة وإلى الوراء بينما استحقاقاتنا تكون خطواتنا ثابتة وإلى الأمام ونحو خلق عجلة ثقافية توعوية شاملة ، لأننا اصحاب مشروع أمل جدي بعيد عن الهزل ، فان الإقدام والاستفادة من عصر المعلوماتية والتقارب الفكري للشعوب ، أصبح اليوم حقٌ مشروع للجميع ، لان العالم اليوم قرية واحدة كما يقولون .
وان قول الفصل يكون استرشاداً ب"دعاء الكروان" عن الرواية الخالدة للأديب المصري الكبير طه حسين ، في الثورة على الواقع المتردي وعلى المُكتسب من العادات والتقاليد البالية ، التي جسّدها الكاتب ببطلة الرواية "آمنة" التي تثأر لموت اختها "هنادي" التي دفعت ثمن حبها ومعاناتها ، عفتها وحياتها .
نحن اليوم في رحلة أحلامية مع وقفة تأملية صافية لغرض الوصول وحسب تلك الإعتبارات الى السعادة والنعيم في الدنيا وفي الآخرة .

نشرت في وجهة نظر

السياسي العراقي والوطني الغيور ، محمـد حديد ( 1907 ــ 1999م ) هو إبن لعائلة ثرية ، إذ كان والده الحاج حسين حديد ( 1863 ــ 1958 ) ، من كبار تجار مدينة الموصل ، وقد أتاح له ذلك الفرصة لاكمال دراسته الثانوية في كلية ملحقة بالجامعة الامريكية في بيروت ، حيث دخلها في العام 1924م ، ليتخرج منها بعد عامين .. ويبدو أنَّ طموحه العلمي قد تجاوز ما هو متاح له في العراق ، فقرر أن يسافر إلى لندن لاكمال دراسته الجامعية ، فإنتسب إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في عام 1928 م ، وهي أحد كليات جامعة لندن العريقة .. وفي حزيران 1931 م أنهى دراسته بمرتبة الشرف ، حيث تعيَّن في أيلول من العام نفسه في وزارة المالية العراقية بوظيفة مفتش مالي .

وفي عام 1946 م ، اشترك في تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي الذي تزعمه كامل الجادرجي، وإنتخب نائبا لرئيس الحزب .. ثم أنتخب نائبا في مجلس نواب عن مدينة الموصل خلال السنوات 1947 ، 1948 ، 1954 . وكان من مؤسسي جريدة الاهالي ، منذ صدورها في عام 1931 .
محمـد حديد شخصية سياسية وطنية عراقية حازت احترام العراقيين على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم . عُرف بثقافته العصرية الواسعة ونزاهته المطلقة وتفكيره الهاديء العميق . كان موضع التقدير في جميع العهود السياسية التي توالت على العراق .
تولى وزارة التموين أيام الحكم الملكي عام 1946 .. وتولى وزارات المال والصناعة والاعمار في العهد الجمهوري ،.. فكان الوزير الذي يستمد قوته من كفاءته ونزاهته وثقافته .. وهو السياسي الذي لم يمالئ من أجل منصب ، ولم يتراجع عن موقف من أجل مغنم ، وإنَّ إنتماءه إلى أسرة ثرية من وجهاء الموصل ، لم يمنعه من إعتناق الافكار الاشتراكية التقدمية المعتدلة ، التي وجدها ضرورية لرفع مستوى شعبه .. وكان سياسيا ًمثالي الافكار وواقعي الرؤية في الوقت نفسه ، وقد حاول التوفيق بين الاماني الوطنية والامكانات المتوافرة لتحقيقها ، ونجح في مسلكه نجاحاً كبيراً .
وقد إستقال من منصبه كوزير للمالية في حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم ، وذلك في عام 1960 م، وعاد لمزاولة نشاطه السياسي ، بعد أن إختلف مع عدد من أعضاء اللجنة المركزية في الحزب الوطني الديمقراطي وزعيمه كامل الجادرجي ، وأسس له حزباً سمّاه الحزب الديمقراطي التقدمي .
وكان محمـد حديد ، مؤيداَ بقاء الزعيم قاسم في السلطة ، معارضاً كل محاولة لإسقاطه ، لأنه يرى أنَّ سقوطه سيعود على العراق بكوارث جديدة ، ولكنه كان في الوقت نفسه ، يلح على عبد الكريم قاسم بوجوب إجراء الانتخابات وإنهاء الفترة الانتقالية في أسرع وقت .
وعلى أثر إنقلاب 8 شباط 1963 م ، أُعتقل محمد حديد لبضعة أشهر ، لكونه من أنصار الزعيم ، وقد أُفرج عنه لعدم توفر الادلة لإدانته ، فإبتعد عن العمل السياسي وإنصرف مرة أخرى إلى أعماله الخاصة ، مع إستمراره في متابعة الشؤون الاقتصادية والدولية والسياسية في شتى المناسبات.
وقد كان زميله كامل الجادرجي يزوره في معتقله لمرات عديدة ، وفاءً منه لنضالهم الوطني المشترك ، لثلاثين عام .. وقد كتب الجادرجي عن حديد في مذكراته ، قائلاَ :
(( بالرغم من أنني غير متفق معه كل الاتفاق في طريقة العمل ، ولكنني أعتبره من الاشخاص النادرين في العراق ، بالنظر لمتانة أخلاقه ومقدرته العلمية في القضايا الاقتصادية والمالية ، ولسعة إطلاعه في الامور الاخرى ، إذ قلَّما تجتمع الثقافة والاخلاق في شخص مثلما إجتمعت في محمد حديد )) .
وكان محمد حديد ، أحد المؤسسين الاوائل لــ (( جماعة الاهالي .. وهي أول جماعة يسارية في العراق في مرحلة الثلاثينيات ، وإن لم تك حزبا سياسيا بالمعنى القانوني )) .. وكانت جماعة الاهالي تقترب من الاشتراكية بإعتدال ، وتشدد على قيام الدولة بوضع خطة اقتصادية تنسجم مع اوضاع البلاد وحاجات الشعب ، وتؤمن سيطرتها على الصناعات المهمة ، وتشجيع الجمعيات التعاونية ، وتقرّب الفروق الاقتصادية . وكانت تعترف في الوقت نفسه ، بحرية مزاولة الشعائر الدينية ، والاحتفاظ بالنظام العائلي ، وتقترب من التفكير الليبرالي بتبنيها حرية الفرد واحترام حقوقه وملكيته ، وكذلك بتبنيها النظام البرلماني إسلوبا للحكم
وفي الجلسة التي عقدها مجلس النواب في يوم 6 آذار 1937 ، قدَّم ثلاثة عشر نائباً ، بينهم ( محمد حديد ) ، تقريرا طالبوا فيه : (( بتشريع قانون لمحاسبة رجال الحكم والموظفين ، الذين إستغلوا مناصبهم ونفوذهم في العهود السابقة لتحقيق منافع مادية على حساب المصلحة العامة ، وجمعوا ثروات كبيرة بهذه الطريقة ، لكي يكونوا عبرة في الحاضر والمستقبل .. وإقترح النواب ــ الثلاثة عشر ــ في تقريرهم ، تأليف لجنة تحقيق تحصي الثروات التي يملكها الوزراء السابقون وموظفو الدولة ، وتتحرى عن طريقة حصولهم عليها ، وتوصي بمصادرة ما أكتسب منه بطرق غير مشروعة )) .
رحم الله محمـد حديد وإبنته زها حديد
ملاحظة: ( الموضوع أعلاه مستخلص من عدة مواقع )

نشرت في وجهة نظر
الأحد, 26 أيار 2019 10:55

أساليب التربية الحديثة

تتبع العوائل مختلف الأساليب في التربية وكل حسب مايراه هو مناسب لشخصية الطفل وحسب ماتربى عليه الوالدين أيضاَ ومن الموروث العائلي،
ومن أساليب التربية المتبعه هي:
التربية التساهلية أو المتسيبة
التربية المتسلطة أو طريقة القاضي أو الشرطي
التربية الديمقراطية
ومن هنا سوف أتحدث عن هذه التربية المثالية وهي لغة الحوار وبالرغم من أنها تستغرق وقت طويل في المناقشة بين الأبناء والأولاد ألا أنها هي الطريقة المجدية في التربية والتي تكون أيجابياتها كثيرة وهي تعزيز الثقة بالنفس عند الأبناء وتوثيق العلاقة معهم ليصبحوا أصدقاء للوالدين ونمو الشخصية المتوازنة لدى الأبناء ويكون المنظار لأي موضوع بشكل مشترك وأفقي وليس رئيس ومرؤوس.
لغة الحوار تبدأ من عمر ثلاث سنوات مع الطفل وفي هذه الفترة يبدأ الطفل بالتعرف أكثر على العالم الخارجي وتكثر أسئلته وعلى الوالدين ان تكون اجاباتهم بسيطة وتفي بالغرض وبهذا يختلف الحوار مع اختلاف العمر وبالتدريج.
اما في مرحلة المراهقة وهي مرحلة التمرد وكسر القيود وهنا نحتاج الى أسلوب المحاورة كاصدقاء ومن نوع خاص لدخول الطمانينة عند المراهق وبأستخدام الأسلوب المهذب لمد جسور الحوار وبنفس الوقت أستخدام العبارات الودية المنعشة للمشاعر والتي ترفع من معنويات المراهق أو الطفل، وكما أن نغمة الصوت لها تاثير أيضاَ
ومن مميزات الحوار المثمر هو أنتقاء الكلمات المناسبة وفي الوقت المناسب ويتمتع الوالدين بأتقان فن الحوار،حيث أن المناقشة الهادفة تكسبهم الخبرة لدى الأطفال وأن طريقة ألقاء المحاضرات لم تنفع مع الأولاد ويجب أن يعطى للمراهق الفرصة في أن يفكر بعمق ليستنتج بنفسه وهنا تزداد ثقته بنفسه.
من العبارات التي يمكن أستخدامها في المحاورة هي :
مشاركته في التفكير لحل الموضوع وفي البدء مشاركته مشاعره ويمكن أن يذكر له بأنني أشعر بك أو أعرف بأنك تشعر بالخوف أن هذه العبارات تعبر عن معاني تفهم المشكلة وتدفع للمصارحة ومن ثم التفكير في الحل، وبألاضافة لذلك تشجيعه على الجرأة ليقول ويصرح وخاصة عندما تشجعه على ذلك وتقول له أنني أحبك وأحب أن أستمع اليك وليكن هذا شعار الآباء والأمهات على حد سواء..
وكيف تجعل من الحوار أن يكون ناجحاَ هو عن طريق الأصغاء الجيد والنظر في وجه المقابيل وبالحوار الواعي لكي يتم أستيعاب الأسئلة والأجابة عليها لأغناء الفضول ومن أجل التوضيح وتقديم النصح بدافع الحب والأهتمام، حيث أن من مميزات الأب والأب هو الحب الفطري الغريزي للأبناء ولكن الحب وحده لايكفي لأن الأبناء بحاجة أن تصل الى مسامعهم كلمات وعبارات تعبر عن هذا الحب ،وبالعبارات الودية تنتعش المشاعروتتقوى اواصر المحبة لتزيد من وشائج التواصل بين الأبناء والآباء.
أن الأهتمام بالأبناء هو أَوْلى (الهم الأول) أي يعطى له الأهتمام بالدرجة الأولى حيث أن تكوين عائلة جيدة هو أنك تكون مجتمع جيد.
أن ثقافة الحوار تعلًم الأطفال والأباء على تقبل وأحترام الرأي الآخر واحترام ذات الطفل نفسه..
أن التقنية الحديثة التي دخلت في بيوتنا وفي كل مفاصل حياتنا لها ميزاتها ولها مخاطرها على الأطفال وعلى وحدة الحياة الأسرية وعلى حياة الأسرة الأجتماعية ، ولتفادي هذه المخاطر أننا بحاجة الى أن نبقًي جسور الحوار والتواصل ممدودة لأبنائنا أو فيما بيننا ولكن بصيغة تتلائم وروح العصر ولذا على الأهل أن يعيشوا عصر الأبناء ويروا الحياة بمنظار مشترك والتفاعل مع مايحصل بعقل منفتح كي تصل الى خيوط التفاهم..
أن تحقيق الحوار المثمر هو من خلال أنتقاء الكلمات المناسبة والوقت الملائم وكل حسب عمره وطريقة تفكيره ومدى تقبله للحديث، حيث أن الحديث مع الطفل مليء بالعطف والحب ومع المراهق يكون الحوار مبني على العقل والحكمة والمشاركة الوجدانية وخاصة في حال أن المراهق يعاني من أحباط وهنا لايحتاج المراهق الى حل للمشكلة بقدر ما أن يتفهموا حقيقة مشاكلهم ولكنهم بحاجة الى من يشاركهم همومهم وبأستخدام الحركات الحميمية بالأحتضان وضم الأبناء بالأذرع.
أن كلمة السر هي من فضلك والتي تغنينا عن المتاعب وتحكم السيطرة على المراهق ولكي تبتعد عن جرح مشاعره.
اننا نتحاور مع المجتمع بكل تهذيب وأحترام وننسى أن نتعامل بهذه اللغة مع أبنائنا في البيت وكلما أحسنا أختيار الكلمات الملائمة مع الأبناء أننا نعودهم على التواصل مع المجتمع ونكسبهم القدرة على التحدث وتفهم الآخر وأفهام الكلام.
من الأستنتاجات التي يمكن التوصل اليها بأستخدام لغة الحوار التربوي، الديمقراطي هي:
-التعامل كأصدقاء بألفة ومحبة وتقارب
-أكتشاف المشاكل التي يعانوا منها والمساعدة في حلها
-تولد الأدراك والتفكير بعمق لدى الأبناء والتعلم على الأستماع بصورة جيدة وبجرأة لائقة في الحديث
- نمو الثقة بالنفس ويولد الشعور بالأهمية وتحقيق الذات لدى الأبناء وأكتشاف القدرات والمواهب لدى الأبناء
-التواصل مع المجتمع وكسب محبة وثقة الناس بالأبناء
-القدرة على تحمل المسؤولية وكيفية التأثير بالمجتمع
-أخذ وجهة نظر الأبناء في أمور تخص البيت أو أمور حياتية عامة
- الأصغاء الجيد للأبناء بالنظر في عينيه والمواصلة معه في الحديث بترديد بعض الكلمات أو أستخدام الخ ومن ثم وبعدين نعمكلمة
أن وصول الوالدين الى درجة يعتزون بأنهم مانحين الحياة لأولادهم هي التي تبقي العلاقة بين الأبناء والآباء برغبة لتسمح لهم حب التواصل والتعامل مع بعض وليس كحاجة تنتفي ضرورتها بأستقلال الأبناء بأنفسهم .


نشرت في وجهة نظر
الخميس, 16 أيار 2019 11:01

دور المثقف في نهضة المجتمع

لا تتوقف بلدان العالم المتقدم يوما واحدا في سعيها الحثيث والمستمر للنهوض بمجتمعاتها ثقافيا والعمل على مدها بكل مقومات الإرتقاء والتطور الذي يتلاءم مع متغيرات حياتنا المعاصرة، وذلك من خلال العمل المتواصل في نشر وترسيخ القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة والمبادئ الراقية في النفوس والعقول جنبا الى جنب مع الأفكار النيرة والقيم الجمالية العليا. ذلك ان شيوع مظاهر الرقي والرفاهية لدى المجتمعات انما هو الأساس الذي تقوم عليه بنيتها الحضارية المتكاملة في اطرها الصحيحة، وان أي تقدم يتحقق انما هو تحصيل حاصل وثمرة ثمينة للنمو المعرفي والوعي العام الذي يغرس في الأجيال المتتابعة للمجتمعات.

وبسبب أهمية ذلك فقد اولت البلدان المتحضرة اهتماما متزايدا وملحوظا للنواحي العلمية والثقافية في مختلف مجالاتها ووضعت خططا واضحة ذكية وبرامجا مدروسة ورصدت الأموال الكبيرة وبنت المؤسسات المتخصصة وهيأت الخبراء والعلماء واستعانت بنخب المثقفين والمفكرين لقيادة المجتمع الى المراحل التي يتطلبها العصر. وقد تحقق لتلك البلدان أهدافها المنشودة النبيلة فنالت ما سعت اليه من الرقي والتقدم وصارت مثالا يقتدى في هذا المجال، بعد ان حرضت حوافز النهوض في النفوس. فقطفت شعوبها ومجتمعاتها ثمار ذلك من خلال تمتعها في العيش بمستوى عال من الرفاهية والطمأنينة ومنحتهم قدرا كبيرا من الثقة بالمستقبل وبمزيد من الأفتخار.

ولهذا كان لابد للطبقة المثقفة ان يكون لها الدور الأساس في اخذ زمام الأمور والدفع بالأجيال الصاعدة الى الواجهة وتشجيع التحصيل المعرفي العميق والرصين وبث روح المنافسة العلمية وروح الأجتهاد والأبتكار، وكذلك الحث على تقديم الجديد دوما والاستفادة من خبرات الأجيال السابقة. والأهم دوما هو العمل على مد الجسور بين الأجيال الواعية وتأصيل حالة الالتزام الحضاري في جميع اوجهها .

لم تقم الثورات الفكرية والسياسية والأجتماعية عبر كل الأزمان الا من خلال ثورة الكلمة وثورة الحاجة للنهوض والتغيير والتي يطلق شرارتها دوما الطبقة الواعية المثقفة ونخبة المجتمع، فالعلماء والمفكرون والأدباء والفنانون هم الشرائح التي يُعتمد عليها في عملية النهوض والتغيير والإرتقاء، وهم فعلا المحرك الأساس لكل تطور من خلال مايقدمونه من مساهمات ونتاجات ورؤى عميقة متميزة فيها الجدة والأصالة وفيها الحكمة والبلاغة والألتزام بالقيم العليا. تلك النتاجات هي التي تُلهم أبناء الأمة ممن يتتبعونها بحرص ليغرفوا منها فيضا معرفيا ويقتدون بأطرها المتقدمة في مسيراتهم العلمية والثقافية والحياتية.
وفي ذات الوقت فان هذه الشرائح هي التي تتحمل المسؤولية إزاء مسألة تدني وعي المجتمع او هبوط المستوى الثقافي والعلمي او الانهيار الحضاري للبلدان. ان مسؤولية المثقف تحتم عليه التواصل الدائم مع المتغيرات، الفكرية والأجتماعية والسياسية والأقتصادية، من خلال تتبعها ودراستها والتعامل معها بروح معاصرة متفهمة لضرورة التغيير، او معالجة لها ان كان التغيير الحاصل ذا نمط سلبي .

......................................................................

 

نشرت في وجهة نظر

ان مشاكل المهاجرين في بداية هجرتهم تنتج بشكل اساسي من الانقطاع المفاجئ مع اللغة الأُم، حيث يجدون انفسهم مجبرين على التحدث بلغة البلد المستقبِل والتكيف مع البيئة الجديدة، وهذا بالطبع لا يحدث دائما بغير تصادم، حيث ان لكل مجتمع ثقافته وقيمه وانماط حياته التي قد تختلف أحياناً، بل قد تصل الى حد التناقض مع غيرها...وهذ الامر مشترك عند المهاجرين ومنهم المهاجرين من اصولٍ عربية. فالكلمات والتعابير اللغوية التي قد تكون مرغوبة ومحل تقدير عند شعبٍ من الشعوب، لربما تُعَد منبوذة او انحرافا عن المعيار عند شعوب اخرى. هذه الوضعية تدفع المهاجرين في الغالب لإعادة النظر في سلوكياتهم، وبضمنها بالطبع السلوك اللغوي، لكي يحققوا اندماجهم في المجتمعات الجديدة، وهذا لا يحدث دون صراع وتضحية وتبعات ومشاكل نفسية تؤثر في حياة هؤلاء المهاجرين وتنعكس على شخصياتهم.

اللغة، هذه الوسيلة الانسانية للتواصل، هي ايضاً كالناس تولَد وتنمو وتتطور وتتغير وتشيخ، وقد يدركها الموت لتحل محلها لغات أُخرى اذا تغيرت الظروف الموضوعية لوجودها، كما حدث للغة اللاتينية القديمة، واللغة القبطية وغيرها من اللغات. فاللغة لا يمكن ان تصبح وسيلة للتواصل إ لّا اذا انتقلت عبر الاجيال. وعلى كل حال فإنَ لُغات المهاجرين في دول استقبالهم تكون في الغالب موضوعا لسياسات تلك الدول المُستَقبِلة التي تقودها احيانا الى الاختفاء.
ومن اجل فهم وضعية المهاجرين من اصل عربي وموقفهم من لغتهم ومن اللغات الأُخرى، يجب الأخذ في الاعتبار طبيعة التغير الذي تخضع له هذه اللغة المفصولة عن وسطها الأصلي وخاضعة للاحتكاك مع لغة او لُغات أًخرى أكثرَ تقييماً واعتباراً من قبَل المجتمع ومن قبل العوائل المهاجرة نفسها.

لقد اظهرَ البحث الاحصائي للمعهد الوطني للإحصاء في فرنسا لعام 1999 ، والذي يُعتبَر اول احصاء مهم فيما يتعلق بالممارسات اللغوية للأقليات، عدم الاحتفاظ بميراث لغوي للمهاجرين. فالبرتغالية والايطالية والاسبانية والعربية... كلها تراجعَت من جيلٍ الى جيل وأُزيحَت بواسطة اللغة الفرنسية، وبأنَ لُغات الأقليات منقولة أو مُحوِّلة بشكلٍ أقَل فأقَل :

1/5 من المبحوثين "البالغين″ يستعمل في الوقت الحاضر في حديثه مع أقاربه من وقتٍ لآخر، لغة أخرى غير الفرنسية، 3/4 من هؤلاء كانوا يتكلمون الفرنسية فقط مع عوائلهم عندما كانوا في عمر خمس سنوات... وهكذا فان المهاجرين حين تطول اقامتهم، يستخدمون الفرنسية فقط في داخل العائلة وبالتالي لا تصبح العائلة إطاراً لتحويل اللغات.

فيما يتعلق باللغة العربية، أظهر هذا الإحصاء عدم نقل وتحويل هذه اللغة، وفقدانها الكبير من قِبَل ثلاث جاليات مغربية : فنسبة الفقدان بالنسبة للجالية الجزائرية 65 % ، للتونسية 60 %، وللمغربية 30%. لقد تطابقت هذه النتائج تماماً مع نتائج بحثي الميداني الذي اجريته في فرنسا عام 2006 والموسوم ″مكانة اللغة العربية في فرنسا" والذي كانَ جزءاً من اطروحتي للدكتوراه، حيثُ اظهر هذا البحث أنَ الغالبية من الأطفال والشباب المنحدرين من اصول عربية وعلى الأخص من اصلٍ مغربي "من الذين خضعوا للبحث″، يستخدمون اللغة الفرنسية فقط في حياتهم اليومية ولا يشعرون بالحاجة لدراسة اللغة العربية، لا من اجل التواصل، ولا من اجل النجاح والارتقاء الاجتماعي. ان هذه الوضعية اللغوية للمهاجرين تَنوَجِد في باقي دول المهجر، كما أنها تنطبق على المهاجرين من دول عربية اخرى كالعراق وسوريا ومصر والاردن... وهي تختلف بالدرجة لا بالنوع. اما التركيز على المغاربة هنا ، فهو يعود الى انهم يشكلون اكبر الجاليات العربية في فرنسا، وأَنَ خاصية هجرة هؤلاء الى فرنسا تختلفُ عن غيرهم من الجاليات العربية، وفي الحقيقة هم الاغلبية من الاجانب الذين يترددون على المؤسسات المدرسية الفرنسية، وفي الغالب النقاشات تدور حولهم. المغاربة يُظهرون تجمعا واضحا لثلاثة دول عربية ″الجزائر، المغرب وتونس"، وهي قريبة التجانُس من حيث الجوار والظروف المشتركة للهجرة والتشابه الحضاري والمشاعر الدينية...، وللثلاثة وضعيتهم الخاصة المرتبطة بالعامل التاريخي والسياسي، حيث ترتبط وضعيتهم اللغوية بالعلاقة مع الاستعمار وبسيطرة اللغة الفرنسية بمواجهة لغتهم الام، اللغة العربية. أما الجماعات العربية الأُخرى، فأسباب وجودها مختلفة وليست بالضرورة لسببٍ اقتصادي او لعلاقةٍ تاريخية، فمنهم الطلاب ومنهم اصحاب الشركات ومنه طلبة اللجوء السياسي واللاجئين الذين أُجبروا على تركِ بلدانهم هرباً من الأخطار، كالحروب والاضطهاد والمجاعة والتمييز الديني والطائفي والكوارث الطبيعية وغيرها.

إنَ اللغة العربية تجتاز اليوم وضعية صعبة في دول المهجر، بسبب علاقات القوة ما بين اللغات المتواجدة في هذه البلدان، وبسبب الصورة المُقولَبة والتي لا تستند الى أُسسٍ موضوعية عن هذه اللغة. فاللغة العربية لا تجد استقبالا حاراً في الوسط المدرسي الفرنسي، ويُترَك التكفُل بتعليمها في الغالب للمنظمات التابعة للمهاجرين فقط، وهذا ما يُساهم في عُزلتها وفي تهميشِها والحكمِ عليها بعدَم النفع للمستقبَل الدراسي والمهني، ليس من قبل بلد الهجرة فحسب، بل من قبل العوائل المهاجرة نفسها. وكل هذا يقود الكثير من أبناء المهاجرين الى استدخال عدم التقييم للغة العربية، لغة الآباء والاجداد ولغة البلد الأصلي لهم، ومُحاولة البحث عن وسيلة للتخلص من هوية غير مُقَيَّمة، بتصريحهِ مثلا بأن اللغة الفرنسية هي لغته الأُم وليس العربية، كما اظهرت ذلك جلياً نتائج بحثنا الميداني. وفي نفسِ هذا السياق اظهرت نتائج هذا البحث، بأنَ الكثير من هؤلاء الأطفال لا يتردَد بإخفاء اسمه الحقيقي ويصرح باسم آخَر، وحين يُسأل عن السبب يعطي اسبابا لذلك، ومن هذه الاسباب على سبيل المثال ″من أجل الحصول على اصدقاء، من أجل الشعور بأنه طفل سوي كالآخرين، من اجل ان يكون محترما، من اجل الحصول على وضيفة في المستقبل وغير ذلك من الأسباب والتي توضح الحالة النفسية لهؤلاء المبحوثين الذين يشعرون جيدا بعدم التقييم للغتهم، اللغة العربية. وهكذا تصبح نادية " نادَج ″، وليد يصبحَ وِلي، مُراد يصبحَ موس، ومنعِم يصبحَ ميشَل، وكريمة تصبحَ كرستين...الخ.
ولتوضيح الصورة اكثر طرحنا بعض الاسئلة على آباء هؤلاء الأطفال والشباب الذين خضعوا للبحث، منها :

- اذا استُحدثَ صف لتدريس اللغة العربية في مدرسة ابنائك ، هل تفضل ان يدرس اللغة العربية كلغة ثانية او ثالثة، ام تفضل ان يدرس لغات أُخَرى؟

أظهرَ الآباء بأجوبتهم مشاعر مزدوجة، فهم يتمنون ان يتكلم معهم ابنائهم اللغة العربية ولكنهم بنفس الوقت لا يرغبون باختيارها، ويتحدثون عن ذلك بمرارة بالغة، وفيما يلي بعض اجوبة الآباء :
- أُريدُ لأولادي النجاح في حياتهم، اختيار العربية لا يجلب النجاح في هذا البلد.
- نحنُ مجبرون على اختيار لغات اخرى لمستقبلهم فلسنا في بلدنا.
- نحب ان يتكلم اولادنا العربية ولكن نخاف عليهم من الفشل في الدراسة.
- احب ان يختار اولادي لغات عالمية تنفعهم .
- العربية جيدة للعطل حتى يتحدثوا مع اجدادهم، للمستقبل لا...لا.
- جئتُ الى فرنسا حتى يكون لأولادي مستقبل وليس لدراسة العربية.
- دراسة العربية لا تنفع اولادنا، لا هنا في فرنسا، ولا في أوربا ولا حتى في البلد.

هذه بعض الأجوبة... فاذا كان المهاجرون انفسهم وابنائهم، يشعرون بعدم التقييم للغتهم العربية، واذا كانت الممارسة للغة الفرنسية تتميز بالاستعمال الواسع في داخل وفي خارج المحيط العائلي، وأنَ المهاجرين العرب لا يختارون دراستها حتى وأن وُجدَت ضمن لُغات اخرى في المدرسة...فكيف يكون الرد الحاسم على مستقبل هذه اللغة... واذا كانت وضعيتها تبدو الآن هكذا، فعلى اي شكل سوف تكون في المستقبَل؟
هؤلاء الأطفال والشباب ابناء المهاجرين، هل يستطيعون نقل وتحويل هذه اللغة الى الجيل او الاجيال القادمة؟
أعتقدُ بأنَ الجواب على هذه الأسئلة سيكون فيه الكثير من الإحراج. فمثل هذه المعطيات ستؤثر حتما على مستقبل هذه اللغة، اللغة العربية، وتضعف وجودها، حيثُ لا يمكن لأية لغة أن تحيا وتستمر إلّا اذا مارسها واستمر على ممارستها كلاماً وقراءةً وكتابة الشعب الذي اختارها لغة له.

اكتفي بهذا القدر من التوضيح لوضعية اللغة العربية في" دول المهجر ″ وسأعود للحديث عن هذا الموضوع لأهميته.

نشرت في وجهة نظر