• Default
  • Title
  • Date
الجمعة, 19 أيار 2017 19:54

نَشْوَةُ الأملِ

بعدَ ترددٍ وحيرةٍ
وبينَ
خجلٍ ووجلْ
بعثَ لها بمرسالِ
حُبهِ
وفيه كَلاَمٌ مُختزلْ
بثَ بهِ لوعةَ الحُبِ
وأنتقى
جملاً رقيقةً
من
أدبِ الغرامِ والغزلْ
وحددَ لها
موعداً بذاتِ المكان
الذي التقتْ فيه نظراتُهم
لأولِ مرةٍ
فارتجف لها قلبُه
وعجّل مُبكراً
لموعدِ اللقاء
اتخذ نفسَ الطاولةِ التي جلست عليها
وأحتسى بقلقٍ
ثلاثةَ كؤوسٍ
من نبيذِ العسلْ
وراحَ يعومُ
بوجلٍ في يمِّ
الشكِّ واليأسِ والغرامْ
فدنتْ من خلفِ رأسهِ
نسمةُ عطرٍ
آسرةٍ ساحرة
هامسة بالآذنِ
أُحبُكَ
أدارَ الرأسَ والقلبَ
بكلِّ توقٍ ولهفة
فتلاقتْ المُقلِ
وبشوقٍ وعلى عجلٍ
تعانقتْ الشفاهُ بحميمٍ مِن القُبل
وبنشوةِ الظفرِ بالنصِرِ
ارتشفَ مِن شهدِ عناقِ القبلْ
فرقصَ الفؤادُ
وغنى مواويلَ
العشقِ والطرب
وتراقصتْ ثَمِلةً
الخمرةُ
في
الرأسِ والكأسِ
مالمو في نيسان/أبريل 2017

نشرت في وجهة نظر

وموضوع الخرافة وعلاقتها بالمنتج التشكيلي، لاشك انه معقد وشائك، رحب الارجاء، مترامي الاطراف، يصعب حشره في أطر تأليفية ، خاصة وان التحليل الاجتماعي والسيكولوجي يكاد يكون ضعيفا للغاية، كما تنعدم في مجتمعاتنا العربية،الابحاث الانثروبولوجية والاثنوغرافية التي يمكن ان تقدم الوقائع المحسوسة لكل بحث نظري حول هذه العلاقة الشائكة بين الفنون التشكيلية والخرافة. الا ان الخرافة والاسطورة والفلسفة والسحر والدين والفن كانت ولا تزال الى يومنا هذا، وفي العديد من تجمعاتنا الانسانية، تتداخل جميعها لتشكل مجتمعة او متصارعة، نمطا معينا من التفكير او الذهنية، غالبا ما اطلق عليها اسم الذهنية الالتباسية، مقابل الذهنية العلمية. فالخرافة لم تتلاش من سلوكياتنا وافكارنا ومعتقداتنا وطموحاتنا، لانها لاتزال تشكل جزءا من لغة التعبير الشعبي، فقد تبدل شكلها، اما طبيعتها فلا زالت باقية مترسخة. وقد يتغير دورها، اما بنيتها تستمر في علاقة جدلية مع البنية الاجتماعية وذائقتنا الجمالية للاشياء التي تحيطنا، انها تتعايش وتتكيف حتى اصبحت تشكل جزءا لايتجزأ من بنية قيمنا الاخلاقية ومحرماتنا الدينية. الخرافة لازالت تشكل جزء من لغتنا في مسيرة التغيير والتطور .
فالخرافة تصدر عادة عن العاطفة والشعور لا عن العقل الواعي باعتبارها سرد خيالي شعبي عفوي ذو معنى رمزي، تتضمن بعض الاحيان تقليدا قديما او حكاية عن شخصيات واحداث وتشير عادة الى ظواهر طبيعية او الى مرحلة تاريخية او الى مضمون فلسفي او خلقي او ديني، ويقال ان جميع الميثولوجيات العالمية انطلقت من اسس خرافية تشعبت وتلاحمت لدى عدد من الشعوب. والخرافة تبرز احداثا وشخصيات وهمية تتراءى من خلالها احداث وشخصيات واقعية. وترتبط بوقائع مادية وخيالية ، مأساويا او دينيا وترتبط بعقائد إيمانية او بشعائر سحرية .انها بعبارة اخرى عبارة عن تمثلات نسبية يعبر الفرد من خلال تداولها احداثا نفسية قادرة لان تكون جزء من مفاهيم ادراكية وسيرورات ومسارات.
والخرافة ولدت مع اول الافكار التي كان يشعرها الانسان، لتكبر وتتسع مع توسع مداركه، امتلكت سطوتها لتشكل اجابة للعديد من الظواهر التي واجهها الانسان ، واستطاع ان يصوغها كاجابات للاسئلة المستحيلة التي يرددها العقل البشري منذ ان وعى وجوده. ومن الضروري والحالة هذه ان تكون الاجابات التي خلقها الانسان لنفسه وللآخرين المحيطين به، تصويرية حية تمنح وتسبغ قوة هائلة على القدرات الغيبية بكل مشتقاتها وتكوناتها الدينية والسحرية.
وهذا البعد الوجداني لكل من الفن التشكيلي والخرافة يبرز تشابها بنيويا، باعتبار ان الفن قوة روحية خلاقة، وهو تجربة" شبه دينية" شخصية وجدانية تتم خارج نطاق الحواس فلا تقيدها قيود الواقع ولا المنطق. والفنان حسب عالم النفس"كارل يونغ" ليس مخلوقا عاديا يبدع اعماله عن قصد وتفكير ورؤية بل هو مجرد أداة في يــــــد " قوة عليا" لاشعورية. ويتسم مفهوم يونغ على مستوى البنية بروح قدرية تعد هي الاخرى ملمحا من ملامح التشابه بين الفن والخرافة، فالعمل الفني يصنعه الفنان وليس العكس، لان الفنان عبر منجزه الفني قادر عبر الادراك المباشر على النفاذ الى باطن الحياة. الفن هو حدس يستولي على الذات العارفة فيجعلها تتطابق مع موضوع معرفتها. وبرأي الفيلسوف الالماني" شوبنهور" فان الفنان الذات العارفة الخالصة المتحررة من الارادة واسر الجسد وعبودية الاهواء، فهو لايعود يعيش الا بوصفه مرآة لموضوعه، بعد ان فقد ذاته واستحال ذاتا عارفة خالصة عارية من الارادة.
ان اللجوء الى الفكر الغيبي والخرافي القائم على اسس غيبية لاعقلانية، له منطقه المختلف تماما عن منطق الفكر الموضوعي، والخرافة المكونة لهذا الفكر تنزع دائما الى اضفاء صفات قدسية غامضة على مواضيعها واشيائها واشخاصها، ولا مشادة ان الخرافة لها عمليا مستلزمات غيبية تستند اليها في كثير من الاحيان في الواقع، وتنعكس بواسطتها على الكثير من الظواهر الاجتماعية والسلوكية، فهي تتحول في كثر من الاحيان الى ممارسات وسلوكيات لتكرس الكثير من المفاهيم، وهذا يعكس من ناحية ثانية مدى اتساع آفاق المخيلة عن طريق الحلم والتخيل، وما الفن الا نظام رمزي قادر على الايحاء والتأويل، ومن ثم القدرة على كشف اللاانساني واللااخلاقي في رؤية الفرد. ولهذا نرى بان السحر والخرافة والاسطورة عند الفنان تحظى باهتمام أكبر منه عند الفئات الاجتماعية الاخرى . ويبدو ان ذلك يرجع الى ان الانسان الفنان ، بحكم ظروفه الحياتية المادية والذهنية يحتاج الى السحر والخرافة بدرجة اكبر مما يحتاجه الانسان المنتمي لمسارات حياتية اخرى. لانه يحيا حياة اكثر حساسية واكثر شفافية، تتسم بالكثير من الاوهام والاحلام والهواجس وبالقلق والخوف والتهديد، والشعور بالاستلاب والاغتراب، على كل مستويات الحياة بحكم اختلاف امكانات هذا الفرد التكنولوجية والعلمية واقترابه للمتخيل المنبثق عن اللاوعي. فهو كفرد اجتماعي ، مشحون بالعواطف والاحساسات، قليل البرهان العقلي، ولايخضع للمشاهدة الحقلية او المختبرية، ولا للتصحيح والتصويب بل يتقيد في العديد من الاحيان بالاعتبارات الخرافية الغامضة. يعيش في كثير من الاحيان عوالم مغلقة يقتصر وجودها على افراد وفئات محددة، يدخلونها بواسطة طرق واساليب اشبه ما تكون بالطقوس، لها خصوصية متفردة تحمل افكار وآراء من اعتقادات يكثر فيها الوهم والغرابة والغيبية، قادرة على الدخول الى ميادين كثيرة في فكر الفنان وممارساته ومنجزه الفني، فهو يرضي من خلالها دوافع نفسية مختلفة يجعلها في مقدمة الوسائل التي تدعم الوجود الذاتي والاجتماعي.
وعندما نستحضر تاريخ الفن التشكيلي، فانا نبدأ من مفهوم استجابة الانسان لشكل الاشياء القائمة امام حواسه وسطحها وكتلتها، باعتبار ان الاحساس بتناسق المنجز ومتعته، هو احساس بجماله، ولهذا فاننا نستحضر في صنيع الفنان، التاريخ متداخلا مع الميثولوجيا والخرافة والسحر والاسطورة، باعتبار ان الخرافة والسحر هما الملاذ الاول للانسان للانتصار على خيباته ولتخطي فواجعه، وبواسطتهما استطاع الانسان اتمام عملية الحلم والتخيل والاستذكار.
كان الخلق الفني لدى الانسان البدائي يعني اعادة تمثيل العالم المرئي من جانب، وهروبا من فرضية الحياة وتحكماتها من جانب آخر، وفي كلا الحالتين يشعر الفنان حتى في وقتنا الحاضر، برغبة في الامتاع اذ لم يكن هناك شيء مستمر او ثابت في حياته، فلم يكن لديه احساس بالديمومة والبقاء. فقد كان ولا يزال يتصرف ويسلك بصورة غريزية عند كل تحول للاحداث، ولذلك فانه عندما ينجز عملا ذو مسحة فنية يعتبره عملا من اعمال الاستعطاف السحري، في محاولة منه لخلق تعبيرا مرئيا عن الحال التي يعيشها، بمعنى انه يسعى لخلق مكانا خارج زمنه، ويحدد شكلا ظاهريا معبرا عن حالة هروبية ليجعل من كل امر غير طبيعي يواجهه وسيلة للتعاطف مع الطبيعة والمجتمع وتحيدهما.
اما عملية توظيف الخرافة في المنجز الفني، فنحن نعلم ان ما من فنان في العصور القديمة او المعاصرة، الا ووظف جوانب خرافية في اعماله، انها تشكل بحق نظاما خاصا يمتلك كل مواصفات الغرابة في بنية المنجز الفني. وقد يكون البعد التأويلي في الفن والخرافة هو الرابطة بينهما، باعتبار ان الفن كان على الدوام يعكس تعبيرا فردانيا عن مكنون مبدعه، فالمنجز الفني هو من انتاج فرد، غير ان الفن نفسه جزء من الحياة الاجتماعية. واذا لم يكن الرسم والنحت جزءا من الحياة الاجتماعية فسيكون من المستحيل انتاج الرسومات الفردية وتماثيل النحت. الفن نفسه عبارة عن عمل ماهر ذي مستوى رفيع لايهدف الى انتاج الضرورات المباشرة للحياة كالمأكل والمأوى. غير ان المعرفة ذاتها من جانب الفنان لما هو عليه نفسه وكذلك لما هي عليه حياته انما هي امور تتوقف على الديناميات الاساسية للمنجز الفني التي تجعل المجتمع نفسه حيا ومتغيرا. فان اردنا ان نجد مفتاحا يلج بنا الى طبيعة الفن والجمال فعلينا اولا ان نفحصها من حيث عمليتها الدينامية وتناميها المستمر. باعتبار ان العلاقة بين الظاهرتين المركبيتين تمتلك تركيب معقد له جذور راسخة في عالم الوجدان الانساني.
عندما ترافق الخرافة التكوين البشري منذ الازل حتى اقرب العصور، فان ثمة وضعا انسانيا مستلبا بحاجة الى تشكيلها وابداعها واللوذ بها ، وبالفعل فقد استطاع العديد من الفنانين العالميين ان ينطلقوا من البنية التراثية التي ينتسبون اليها ليشكلوا بدائل منها ويتجاوزونها، فصارت الحكاية والحدث الخرافي عند هؤلاء كثيرا ما تضاف اليها عناصر جديدة تتوال مع العناصر التقليدية ، ثم يعاد تركيبها جميعا في شكل متجدد يتنافى مع القيم الفنية والاخلاقية التي كان متعارف عليها من قبل. ووجد العديد من الفنانين العالميين في مجالات واسعة وحرية كبيرة، في الفن اللاصوري الذي تجنب فيه الفنان النقل وتمثيل الواقع وتخطي ضرورات الوجود الفردية وخلق فن صاف متحرر مما يحمله ويمليه الواقع، نتيجة شعور الانسان بهواجس الخوف والقلق والحيرة والظلم.
واذا كان الفن والخرافة قد ارتبطا عمليا من قرون فان اخضاع هذه العلاقة الارتباطية لمحاولات التفسير يعد حديا نسبيا، الا انه لايمكن تقليل اهمية الخرافة في عالم الفنان لانها تبقى في احيان كثيرة عنصرا بنائيا مكونا لرحلة الفنان في عالم التخيل، اي تبقى واحدة من الحلول الجمالية في ممارسة الفنان، وقد ابدع العديد من الفنانين التشكيليين من الذين اعجبوا بالدادائية ومن بعدها بالسريالية وانطلقوا منهما، لما وجدوا في هذه الاتجاهات من تمرد وتعبير عن ازمة ذاتية ملازمة تتفق ومشاعرهم الخاصة، فكان هدفهم من الممارسة الفنية الوصول الى منتج فني غريب برؤاه وعوالمه الخاصة، منتج تتحكم فيه الهفوات الخرقاء والاخطاء المفتعلة والاشكال المغلوطة المناقضة لللاواقع، ليحولها الفنان الى مادة جمالية، معتبرا اللاوعي والعالم الخرافي بكل استعارته الرمزية وتأليفاتها اللامنطقية اللاواقعية والغير متجانسة، والتي لاتمتلك اية علاقة بالادراك البصري للعالم الخارجي، مصدر اساسي للعمل الفني الذي اكتسب مفهوما مغايرا في مفهوم المدى الفضائي التشكيلي الذي كان متبعا في اللوحة المسندية . وان تتتبعنا العديد من الاتجاهات والاساليب المعاصرة التي انتجها العديد من الفنانين العالميين من اعمال فنية لاشكلية ،اثناء وخلال فترة الحربيين العالميتين الاولى والثانية، سيقودنا حكمنا الى ملاحظة هامة، هي بروز الصدفة والعفوية والنزوع الى حالات التصور نحو عوالم خرافية، على نحو يتعارض مع المفهوم الشكلي، وهذا البروز لم يتسم بالارادية، بل هو خليط من وقائع خرافية وجدناه في مدارس واتجاهات فنية متعددة منها على سبيل المثال، التعبيرية والتجريدية والسحرية والايهامية... الخ، كما وجدناه في الاتجاهات الحديثة التي افرزتها اتجاهات واساليب ما بعد الحداثة وعلى رأسها المفاهيمية، التي اعتمدت على رفض كل ما هو احساسي وذاتي، معتمدة الفكرة وما تتصف به من عفوية وتلقائية لاتعكس اي وضع عقلاني.
يقول سيجموند فرويد ان الفن هو الميدان الوحيد في حضارتنا الراهنة الذي لانزال نحتفظ فيه بالقدرة المطلقة للفكر، ففي الفن وحده يندفع الانسان تحت وطأة رغباته اللاشعورية لينتج ما يشبه اشباع هذه الرغبات.
الفن اذن من وجهة نظر فرويد نقيض للواقع، وواقع الفن اوهام، لكنها اوهام ترضي العقل الذي يريحه دائما ان يتصور اشياء او يتخلص منها بطرق متنوعة.
ان اللاشعور، ذلك المستودع لجميع الدوافع الرئيسية التي اطلق عليها فرويد اسم الغرائز، يتكلم في كل مكان ويعلمنا كيف نفك رموز اللسان في الحلم الذي هو احجية، وفي اشكال العصاب، حيث يمثل العرض دالا من الوجدان لمدلول الكبت، وفي الجنون تلك الكلمة التي ابت ان تعرفنا بذاتها، ذلك القول الخلو من كل ذات.
ان وصف فرويد للاحلام بانها مملكة اللامنطق والتحقيق المتفكر لامنية مكبوتة او التوفيق بين متطلبات ميل ممنوع والمقاومة التي تثيرها الرقابة النابعة من" الانا" واكتشاف اللاشعور بالوسيلة التي وضعها في مؤلفاته، كل ذلك خلب لب، استثار اهتمام وولع السرياليين للغور في هذا المجهول من الوجود الانساني الذي اصبح من وجهة نظرهم يمثل الحقيقة العارية للانسان، ومصدر الطاقة الحقيقي للابداع الفني. ولذا فان الرسم السوريالي حسب وجهة نظر كثير من النقاد، هو تطبيقات عامة لرموز خرافية تتعلق بالنواحي الجنسية المستندة على الفهم الفرويدي،
وفي الرسم بوجه التحديد، يجسد اللاشعور بنيته بتلك الرموز( الاشارات) الصامتة، فالاشارة بالفهوم اللغوي عند" دي ساوسو" متّكونة من اتحاد المعنى والصورة السمعية، وعلى هذا الاساس يمكن تحليل مجموعة العلاقات الرمزية التي تكسو لوحة ما، وذلك بالاعتماد على علم العلاقات الذي يقودنا الى تعيين محاور العلاقات وتفصيلاتها من اجل الوصول الى مفهوم البنية، ونقصد الترابط الداخلي بين الوحدات المتشعبة التي تشكل منظومة مرئية( صورية) لغرض الوصول الى فهم مقارب لاي عمل فني، حيث ان وعي المشاهد يعمل على ان يتشكل لنفسه منظومة مدركات متكونة من تلك العلاقات المنطقية واللامنطقية التي تترابط بين الحدود المتواجدة لرموز العمل الفني.
اللجوء الى الخرافة عند الفنان يمثل استحضار لما هو غائب وحنين وتوق الى تمثل حالات موحية، يعيد من ان محاولات بعض النقاد البنيوين وعلى سبيل المثال" رولان بارت" بتطبيق مبادىء النقد اللغوي البنيوي على تحليل الصورة، خاصة في ميدان الدعاية، حيث الرسالة اللغوية في هذه اللوحات تشكل ميدانا خصبا لتطبيقات التحليل النفسي، لكن التطبيقات في هذا المجال مازالت محدودة ومقصورة على مجال معين في فن الرسم. وهنا سوف نحاول القاء بعض الضوء على الاعمال الفنية لاحد شيوخ الفن السوريالي، والذي وصفت اعماله من قبل كبار النقد الفني وعلى مدى عصور متعاقبة بانها اعمال تنتسب لعالم الخرافة ، وهي ثمار واضحة لطاقة اللاوعي، حيث الاشكال والالوان ذات التمازج الغريب ذو الطبيعة الكيميائية، والتي تركت تأثيراتها على مخيلة كثير من الفنانين.
ولقد حاولت مدرسة التحليل النفسي ان توجد في لوحاته، حقل جديد لتطبيقاتها، تلك اللوحات ذات الميزة الفنية الغريبة، والتي تحمل رائحة ولون الجحيم والخطيئة.
ان اعمال " جيروم بوش 1450- 1516" هي شهادة حقيقية لخوف هذه البشرية تحت ظل السلطة الكهنوتية المتنكرة بسوادها القاتم، فمن هو " جيروم يوش" ؟ انه رسام فلمنكي منحدر من عائلة رسامين مقيمة في
" شيرتوكينفو" ومن ذلك المكان تم اختيار اسمه المنتحل. كان عضوا في جمعية مريم العذراء الدينية. ويرتبط اسمه اليوم بحوالي ثلاثين لوحة وكثير من الرسوم التخطيطية. لذا فأن التسلسل التاريخي لاعماله يعتمد بشكل خاص على المعايير الاسلوبية. واسلوبه يبدو على الفور وكأنه ذاتي جدا بافتراض انه كان ذو معرفة كبيرة بعظام الرسم الفلمنكي، خصوصا الفنان" بورتس". وكثير من خصائص فنه يؤكد على الاعتقاد بانه غير بعيد عن اسلوب الرسم المنمنم والمنقش الدقيق ذي الدرجات الحسية الوافرة والمتضمن على مجموعة غزيرة من مشاهد الشيطنة والغرابة( حيوانات خرافية قريبة من الاشكال الهامشية لخطوطات الرسم في القرن الرابع والخامس عشر).
لقد اتاح اكتشاف اعمال " بوش" في حوالي القرن التاسع عشر، الفرصة لظهور الكثير من الكتابات النقدية. ان الرموز الغامضة التي تملأ اللوحة تلفت النظر كتكوينات كيميائية تقترب بدلالاتها من الادب وفن السير التاريخية للقديسين الشعبيين، ومن التراث المسرحي والادب المجازي.. الخ. فما يكتنف اعماله من غموض وابهام، مرده انه سعى الى تصوير ما يعتمل في دخيلة وجداته، نافذا ببصره الى الاعماق الدفينة للانسان التي تكتنز بالرغبات المكبوتة، مثلما نفذ اليها فرويد بعده بأربعة قرون.
كما ان موضوع الخرافة والجنون يستولي على القسم الاكبر من اعماله، وخصوصا لوحته المشهورة(من الخطيئة الى الموت) التي كانت ثمرة لمناخ ذلك العصر الذي عانى من الازمات الروحية. ويضع العديد من النقاد الفنيين" بوش" بين المدافعين عن الارثدوكسية، او بين الملحدين، وتشير اعماله الاولى( االخطايا السبعة الرئيسية) و( المشعوذ) و( عصاب المجانين) او تلك التي تنحو منحا اخلاقيا نقديا، وخصوصا الاعمال الكبيرة كـ" حديقة الافراح" و" عربة العلف" و" يوم الحساب الاخير" و" اغراء القديس انطونيو" ولوحته الشهيرة" الشارد" تشير جميعا الى حس نادر في التأليف، حيث تسفر رؤياه الفنطازية الزاخرة عن كائنات غرائبية متنوعة ( حيوانية، نباتية، اشكال بشرية غير طبيعية) كدست بالتجاور عبر مخيلة الفنان غير المحدودة، وعبر حسه الروائي المتدفق، مشاهد جهنمية وشيطانية بتفاصيل شهوانية عنيفة. وفي اعماله الاخيرة يضع النقاد اللوحات التي تتبنى النظر الانجيلي عن عذابات السيد المسيح كلوحة" تاج الشوك" مثلا بانها تؤدي جميعا الى مستو متميز من التلوينية الداكنة، حيث تنكشف فيها رؤوس جانبية كاريكاتيرية حادة. ان عالم الفنان" بوش" قابع تحت سلطان الجحيم ببوابته الكبيرة المفتوحة، عالم خاضع لديكتاتورية الشيطان بحيواناته ونباتاته الملعونة، عالم محكوم برعب الموت والنهاية الحتمية لهذا الوجود.
ان مضمون لوحته" يوم الحساب الاخير" يتكرر من دون انقطاع حتى في اللوحات الاخيرة التي يعالج فيها موضوعات مغايرة.
ان معظم لوحاته تصور الجحيم مقابلا للفردوس، او الحياة الزاخرة مقابل تهديد الفناء، كون نصفه مشّوه متفكك مهيمن عليه من قبل الشيطان حيث الاحساس المضطرم بالخطيئة.
ان السورياليين، بالاستناد الى دراسات فرويدية، يقترحون ارتباط لوحات" بوش" بالاحلام الخرافية واحلام اليقظة وهلوسات الوعي الباطني، معطوفة على تلك الثقافة الواسعة. اما المؤرخون الاكثر ميلا الى العقلانية، فانهم يفترضون ان "بوش" كان عضوا في جمعية هرطقية تدعى" الاداميين" تنطلق من مكانة الانسان في ، لاحياة فيهاالكون، واستقلاليته في الوقت الذي لايمكن اعتباره مسؤولا كليا عن خطاياه.
ان لوحاته عبارة عن انمساخ رهيب للشر والكره، حيث النظام القلق للاشياء. ثمار هائلة تتفجر في وسط اجساد عارية يمر عبرها موكب مخلوقات قبيحة، وفي مسافة بعيدة يبرز وميض حريق يذّكر بلهيب الجحيم، هذا الوميض الذي يعكر صفاء المشاهد الطبيعية والمديات الزرق حيث تبحر الاسماك والزواحف الخيالية، وبدون شك فان فهم عالم" بوش" كان اكثر سهولة لمعاصريه، في حين اضحى بالنسبة لمعاصرينا اكثر صعوبة، حيث الضرورة اضعف لتجعلهم يفسرون رموزه، او ينفذون لنوايا الفنان الخبيئة، مما عرقل التقييم الدقيق للقيم الفنية للوحاته. واذا كان عصرنا لاينطوي اليوم على ما يقابل المعنى الخفي للوحات" بوش" فنحن قادرون على ان نفهم بشكل تام عصره والعالم الذي انتج فيه روائعه التي تنم عن شعور ديني حاد، وعن صراع قاس بين الخير والشر، بين الله سبحانه وتعالى وبين الشيطان، وعن تلك الحسية القوية الغارقة في الملذات الجسدية للفلمنكيين وصوفيتهم على السواء. لم تكن الاخلاقيات الاباحية والحروب الكلامية سوى حفلات جدل وهجاء ضد الكهنة وضد الجماعات المتكاثرة على اطراف الدين.
فنان آخر اكثر معاصرة، هو الايطالي جيورجو كيريكو(1888ـ 1978) والذي كان من بين الفنانين الايطاليين الذين وقعوا على بيان الداد لسنة 1920.، اسس مع زميلة الفنان الايطالي المستقبلي كارلو كارّا ما عرف باسم " المدرسة الميتافيزيقية، وانجز قبل ظهور الحركة السريالية اعمل مهمة ذات طابع خيالي لا واقعي، اعتبرها النقاد بمثابة ضربا من الخرافة، وكان لها اثر كبير على تطور الفن السريالي. نلاحظ في اغلب منجزاته الفنية، ارتباط مباشر بالتصوير الغيبي، تتخلله ايهامية، مستعينا بالمنظور العلوي والاضواء والظلال الهلسية. ومع اعماله التي تأثر بها جيل كبير من الفنانين السرياليين امثال ماغريت، دالي، تاغي، دلفو، ميرو، ماسون، متى، وعشرات غيرهم، ننتقل من نموذج العالم الخارجي، المرئي، الى النموذج المنبثق عن العالم الداخلي الذي يحمل الهلوسات والخرافات، والغيبيات، فقد عزل هذا الفنان هذه العوالم عن محيطها الطبيعي كما تعودنا ان نراها، ووضعها داخل اطر جديدة اكثر تخيلا لتوحي بغرابة الاشياء وزلتها وفراغها وهي تعكس عوالم ذات طابع حلمي مصدرها التقابل اللاعقلاني مليئة بالخوف والقلق، كما الحال بلوحته النموذج التي اطلق عليها اسم" نشيد الحب" حيث يجمع الفنان بين رأس تمثال يوناني وكف جراح وطابة وقاطرة، وضعت كلها وسط ابنية ذات قناطر توحي بالفراغ، وتعبر عن تداعيات قد تكون على علاقة بهواجس الفنان الغيبية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*موسى الخميسي ؛ كاتب وفنان تشكيلي يعمل ويعيش في ايطاليا

نشرت في وجهة نظر
الأربعاء, 03 أيار 2017 19:18

مدن حدودية

لنتصور لعبة تنس بدون شبكة وخطوط، حينها تزول الحواجز وتختفي الحدود وندخل بفوضى لا طائل حتىللحكم كي يتخذ قرارات صائبة، إذاً هي ضرورية لقيام نظام وقواعد، كذلك الأمر عند الحدود التي تمتد بين الدول، لها منافع تنظيمية جمّة وعلينا عدم تحميلها مسؤولية التفريق بين البلدان (وليس الشعوب) لأن من أوجدها إنما كان يبغي السيطرة والأشراف على سلوك مواطنون يختلفون أو حتى يتناقضون. تقول بعض الأبحاث والدراسات أننا يمكن أن نكون في قمة أبداعنا حينما لا تتوافر لنا حرية مطلقة أي عندما نواجه قيوداً وحدوداً بالحياة، قامت أحدى الدراسات بالمقارنة بين مجموعتي متطوعين، أعطي لأحدهما مواد بشكل مطلق لأجل عمل نموذج فني، في وقت حُدد الثاني ببعض المواد، فكان الأبداع من الفريق الثاني أكثر والعمل كان أجمل، هذا يعني أن القيود قد تدفعنا للأبداع والتميز أكثر. الفنانون الذين كانوا يعانون من أجل الحصول على تمويلاً لأعمالهم قد أبدعوا أكثر من الذين كانت المساحة مفتوحة أمامهم حيث كان عليهم التفوق ومواجهة العوائق والتغلب عليها بأمكانيات محددة. لو نعود للاعب التنس نرى أنه يبدع أكثر ويضرب الكرة الصفراء بشكل أدق حينما تقيده حدود الشبكة.
لكن السؤال فيما لو نصبت شبكة (بشكل مجازي) بوسط مدينة، هل ستؤدي العمل التنظيمي نفسه أم أنها ستكون حاجزاً وعنصراً غير مرغوب فيه؟
× × ×
كان تسلسلي في الإختبار السابع من بين عشرة مرشحين في الإمتحان التنافسي لنيل أحد ثلاث كراسي لإيفاد هام (سوفت وير) البدالات الأكترونية في شركة تومسون الفرنسية في منتصف الثمانينات، وكان ضمن الست الأوائل أربع مهندسات. جاءت تعليمات وزارة المواصلات تشترط أن الثلاث الأوائل من الذكور هم المرشحين بأعتبار أن البنات تمتعن بإيفادات طوال فترة خدمة الذكور العسكرية فاصبحتُ ضمن الثلاث الأوائل، قام مسؤول الإيفادات بالوزارة بغير سابق أنذار بظم أحد المهندسين وقال بأنه سيكون على الإحتياط، ثم وبقدرة قادر صدر أمر أداري بنقلي من مركز صيانة البدالات الحضرية إلى مركز صيانة البدالات بحجة إفتقار المركز للكادر الهندسي الذكوري وأن معظم مهماتهم خارج بغداد!
كانت الامور قد ترتبت ولا سبيل لتغييرها، جميع الزملاء لاحظوا الغبن ووجدوا أن في أنتقالي ليس خسارة الإيفاد فقط بل بالعمل خارج بغداد كلما دعت الضرورة وهو يعني عدم الأستقرار، لكني وجدتها فرصة المرونة بالدوام والسفر وأستكشاف قرى وقصبات العراق من شماله الى جنوبه وهو ما سيشبع فضولي وكان خلال أيفاداتنا تخدمنا سيارة ستيشن حديثة درنا بها من عقرة شمال العراق إلى الفاو جنوبه ومن بدرة وجصان شرقه حتى أقصى غربه حيث مدينة القائم الحدودية التي كان لي فيها بحكم حاجة القضاء لخدمات بدالة كفوءة علاقات واسعه ولي مع أهلها جولات في البراري وعلى الحدود. المعروف عن أهل الرمادي (الدليم) أنهم شديدوا الفطنة والفراسة الأمر الذي ساعدهم لأستدلال طريق الصحراء في جولاتهم بجمع الكمأ والعودة بسهولة بمجرد النظر للسماء ولبعض الشواخص كالوديان والتلال التي أطلقوا عليها بعض التسميات الغريبة ومشابهتها بأعضاء جسم المرأة.
في أحد زياراتي وبينما كنت أتجول بسيارة الدائرة رأيتُ شيخاً يبيع (القمر الدين)، كان يجلس قرب عارضة الحدود (المغلقة حينها) بين العراق وسورية، حينما أقبلتُ عليه حمل الرجل على عجل بضاعته وأخفاها ظناً منه أنني جهة رقابية حكومية ستحاسبه لترويجه بضاعة سورية، حينها سألتُ رفاقي كيف بالبضاعة السورية تصلهم وأن ما بين النظامين عداء أشد مما بينهما وبين إسرائيل، قالوا أن الأمر بين مدينتي القائم وألبو كمال يختلف وعلاقة التصاهر والقربى بينهما تتحدى النظامين القمعيين وأكدوا بأن بين الناس عبر الحدود تقوم بأستمرار مبادلات تجارية بالخفاء، حين ترجلنا سيراً على الأقدام بمحاذاة نهر الفرات لاح لي من بين مزارع الجت بيوتات من بعيد قالوا لي بأنني الآن قريب جداً من الأراضي السورية، فأقفلت مسرعاً. تمتد نفس المناطق الزراعية المتاخمة لنهر الفرات في القائم العراقية وألبو كمال السورية ويزرع الطرفان نفس المحاصيل، وهي متداخلة كثيراً كما في (رفح) بين غزة ومصر حيث تسكنها نفس العشائر وأن خط حدود قد سُحب على المسطرة عنوةً فقسمها لنصفين.
(رفح) مدينة واحدة ولما أراد الإنكليز فصل مستعمراتهم وتحديدها كان عليهم رسم خط مستقيم من خليج العقبة حتى البحر المتوسط، وأختلفوا مع الأتراك بأتجاه زاوية المستقيم. العداء بينهما دفع الإثنين لمحاولة كسب أراضٍ على حساب مصلحة الآخر فأتفقا على وضع خط مستقيم بزاوية محددة، حينما تم رسمه على الأرض شق مدينة رفح وكان حينها لا سبيل للعودة من جديد، ولأن الأثنان لا يهمهما شأن المدينة بشيء فقد أخذ به بحيث فصل حتى البيوتات المتجاورة.
× × ×
من الملفت للنظر حقاً أنك تلمس بشكل مباشر الفرق بين مستوى أية دولتين من خلال المدن الحدودية بينها، حيث الفرق في أسعار المواد والتناقض بالخدمات العامة والبنى التحتية، ويجد التجار وبعض المتحايلين بعملية الأنتقال بين طرفي مدينة حدودية الفرصة لترويج بضاعة أو النصب والأحتيال مستفيدين من أختلاف القوانين وقيمة العملات علىمسافة عشرات الأمتار فقط.
أمثلة كثيرة في العالم، في أميركا الجنوبية وفي كوريا، تجد دائماً أن السياسة تفرق أكثر مما تجمع حتى بين أفراد المدينة الواحدة، لكن شتان بين هذه الصور المحزنة وبين ما نراه اليوم في أوربا، الحدود لم تعد ذات أهمية والتنقل صار أسهل مما بين محافظتين ببلد عربي، كازينوا وبيت ومكتبة... تقسمهم حدود لا تهم سوى ساعي البريد.
تاريخ أوربا الحديث يحدثنا عن شطر ألمانيا وللسياسة بالطبع دور بذلك، فبعد خسارة ألمانيا النازية الحرب العالمية الثانية وتقسيمها لألمانيا شرقية (الديمقراطية) التي كان الأتحاد السوفيتي قد أجتاح أراضيها وغربية أحتلتها كل من بريطانيا وفرنسا وأميركا، فوقعت العاصمة الألمانية (برلين) داخل حدود الجزء الشرقي وتمتعت بوضع خاص بأن قُسمت هي الأخرى لجانب شرقي هو برلين الشرقية وأعتبر عاصمة لألمانيا الشرقية وغربي فصل بجدار دام 45 عاماً حتى سقوطه التاريخي في عام تسعين، خلال هذه الفترة كانت ألمانيا الغربية (الأتحادية) تقول بأن الوضع مؤقت وأن العاصمة (بون) التي أتخذتها عاصمة هي بديلاً مؤقتاً، قبل السقوط كان يميز شطري برلين أختلاف مستوى المعيشة وصفة التفاؤل بالجانب الغربي وبعكسه بالشرقي المظلم الذي حدثتنا عنه الرسومات التي غزت متن الجدار الشرقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
× من البلدات الحدودية التي تكون أسوأ مما نتخيل، بلدة (تاجيليك) وهي بين بورما وتايلند وهي منطقة مكتظة تضم سوقا بأكشاك صغيرة تمتد في جميع الاتجاهات لتعرض كافة السلع الممنوعة بطرف والمسموحة بالطرف الآخر.
× مدينة (واجاه) الحدودية بين الهند وباكستان، يتحرك جنود من الدولتين وهم يرفعون أقدامهم بغضب تفصلهم عن بعض عدة أمتار، وهذه مراسم تقليدية متفق عليها بين البلدين يعتقد أنها تساعد (بتخفيف) التوتر بين البلدين وتمنع أندلاع عنف حقيقي على الحدود.
× شتان بين حدود الولايات المتحدة وكندا شمالاً وتلك التي بينها وبين المكسيك جنوباً، ففي الوقت الذي تخضع فيه مدينة (داربي) بالجنوب بتقسيم (تعسفي) من قبل الأمريكان تجد أن خطاً وهمياً يمتد وسط مدينة (ستانستيد) مع كندا ليؤلف حدوداً لم تقسم شوارع المدينة فحسب وإنما مكتبتها العامة أيضاً، المثير بالأمر أن كتباً تحكي لك قوانين البلد وإلى الأمام منها أخرى تتكلم عن قوانين البلد الآخر!
× في مدينة حدودية مشتركة بين ألمانيا وهولندا تقوم منشآت معمل لإنتاج البيوت الجاهزة للمدينة بالجانب الألماني، يقوم المعمل بتشييد الدور بالجانب الهولندي للمدينة، وهو أمام هيئة الضرائب الألمانية لا يتحمل ضرائب كبيرة لأن أنتاجه يذهب للتصدير في وقت لا تستطع الحكومة الهولندية تحميل مشاريعه على أراضيها ضريبة لأن مواده مستوردة وبالتالي يفترض أن تكون مدفوعة الضريبة ببلدها ألمانيا، بهذا تهربت الشركة من دفع ضرائب كبيرة للطرفين.

نشرت في وجهة نظر
الجمعة, 31 آذار/مارس 2017 22:11

كيف نتربى على تذوّق الجمال؟

كتاب يتناول تغيّير المفاهيم وتطوّر القيم الجمالية
صدرَ عن دار الثقافة والإعلام بالشارقة كتاب جديد يحمل عنوان "التربية الجمالية في الفكر المعاصر- سِراج المنهاج والخيال الوهّاج"للناقد التشكيلي العراقي موسى الخميسي وهو في الأصل بحث شارك فيه بمسابقة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي عام 2016 وفاز بالجائزة الثانية.
يتألف هذا الكتاب من مقدمة وستة فصول إضافة إلى ثبتْ بالمصادر والمراجع العربية والإيطالية التي أغنت البحث وأثرتْ خِطابه الفكري والجمالي. تبدو الآراء الواردة في المقدمة وكأنها الخلاصة التي خلا منها هذا البحث الذي يتمحور تحديدًا على "مناهج التربية الفنية في المدارس والمعاهد ودورها في خلق فنان تشكيلي مميز في الوطن العربي".
يستهل الخميسي مقدمته بالقول إنّ الفن شكلٌ من أشكال النشاط الاجتماعي الذي لا يهدف إلى تغيّير الطبيعة حسب، وإنما يسعى إلى تغيير الإنسان، وتطوير ذائقته الفنية، وتشذيب رؤيته الجمالية. فالفن من وجهة نظره "طريق للمعرفة" التي لا تتحقّق من دون مشاركة الآخرين فلاغرابة أن يؤكد، مرارًا وتكرارًا، على ضرورة التوحّد بين ذات الفنّان وذوات الآخرين على اعتبار "أن الفنّ يتشكّل في وجدان المبدع، ويحيا في وجدان المتلقي"(ص15). يركِّز الخميسي على أهمية الخيال ويعتبره قوة رئيسة من قوى الطبيعة الإنسانية التي تفتح آفاقًا جديدة لم يألفها الإنسان من قبل فمن بين ثمرات الفن المتعددة المتعة والدهشة والانبهار وهي في مجملها تجعل الحياة أخفُّ وطأة على الكائن البشري.ينوّه الباحث إلى أنّ الفن تعويض عن انعدام التوازن في الواقع، وكلّما ازاداد الواقع اضطرابًا كلّما تضاعفت الحاجة إلى الفن لاستعادة التوازن بين الإنسان ومحيطه الخارجي.ثمة آراء أخرى تحفل بها هذه المقدمة لكنها باتت في حُكم المسلّمات من بينها أنّ الفن منحاز للحق والخير والجمال، وأنه لم يعد تقليدًا أعمى للطبيعة، أو أنه يطهِّر النفس البشرية، ويهذِّب السلوك الإنساني وما إلى ذلك.
أكدّ الخميسي في الفصل الأول من الكتاب بأنه ليس هناك معيار ثابت لمفهوميّ الجَمال والقُبح، فما تراه جميلاً قد يراه الآخر قبيحًاويسوق أمثلة كثيرة على ثنائية الجمال والقبح التي تثير الدهشة حقًا، فعلى الرغم من استقرار العديد من القيم الإغريقية للجمالإلاّ أن الناس المنضوين في الحركاتالهامشية مثل الهيبز والبانك والكلوشار وغيرها بدأوا يسعون للقُبح المُستفِّز كنوع منالتمرد على القيم الرأسمالية المهيمنة فصاروا يعمدون إلى غرز الدبابيس في الأنف واللسان والشفاه والحواجب، كما وشَموا غالبية مناطق الجسد الظاهرة منها والمخفيّة، هذا إضافة إلى ارتدائهم الملابس الرثّة المُهلهلة. وفي عصر النهضة كانت المرأة الإيطالية تنتف حاجبيها كليًا، كما في لوحة الموناليزا، بينما تكتفي غالبية النساء في مختلف أرجاء العالم بالحفِّ والتزجيج. وفي السياق ذاته يَعتبر السُكّان الأصليون في أستراليا الأنفَ المُفطلح جميلاً بينما يرى مُعظم الناس في الأنف الصغير ميزة جمالية يسعون لتحقيقها بعمليات تجميلية باهضة الأثمان. يرى الباحث أن ظهور الديانة الإسلامية في القرن السابع الميلادي قد أثرّ تأثيرًا جذريًا في تطوّر الفنون والنظريات الجمالية على الشعوب المجاورة لمركز الخلافة الإسلامية آنذاك. ويعتقد بأن جوهر الدين الإسلامي لا يتعارض مع القيم الجمالية الأمر الذي أفضى إلى إزدهار الخط العربي، والزخرفة، والنقش،والموسيقى، والعمارة وسواها من المظاهر الفنية والعمرانية على مدى قرون طويلة. يزدان هذا الفصل بآراء مهمة لفلاسفة ومفكرين كبار ، قدماء ومحدثين، أمثال سقراط، إفلاطون، وأرسطو، إمبيرتو إيكو وبنديتو كروتشه وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعا.
يناقش الخميسي في فصل "التذوّق الفني" مفاهيم عديدة تتمحور حول إدراك الأعمال الفنية والاستمتاع بها. فثمة أعمال جميلة لكنها ليست فنيّة، وهناك أعمال قبيحة لكنها تنطوي على مُسحة فنية جميلة. ويورد مثالاً مهمًا في هذا الصدد مفاده أن الفن يمكن أن نلمسه في التناغم الهندسي الموجود في الأواني البابلية والفرعونية والأتروسكية والإغريقيةكما يمكن أن نلمسهفي غياب هذا التناغم في الفن البدائي. وبغية تذوّق أي عمل فني قديم أو حديث لابد من تأمله والاستغراق فيه، والنفاذ إلى أعماقه، وإجراء نوع من التواصل الوجداني معه، فالتأمل العميق كما يذهب الناقد البريطاني روجر فراي "هو تمرين روحي ذو أهمية متميزة"(ص42).
يُعتبر فصل "التربية الجمالية والطفل" من الفصول المهمة في الكتاب لأنّ الباحث يتتبّع فيه الإنسان في مختلف مراحلة العمرية التي تبدأ بالمرحلة الجنينيّة، ورياض الأطفال، مرورًا بالمرحلة الابتدائية والمتوسطة، ولا تنتهي في المرحلتين الثانوية والجامعية، وإنما تستمر مع الإنسان الذي ينفعل ويتفاعل دائمًا مع العمل الفني بوصفه مُتلقيًا إيجابيًا يطوِّر من قدراته الفنية طالما بقيّ على قيد الحياة. وبما أنّ الجنين يستجيب للموسيقى الهادئة وهو في رحم أمه فما بالكَ إذا خرج للنور وبدأ يُخربش على الأرض أو يرسم على الجدران.ينتقد الباحث عالمنا العربي الذي يُغرِّب الطفل عن واقعه الاجتماعي ولا يوجِّه عنايته إلى الأعمال الفنية التراثية أو الشعبية لسهولة النهل من المصادر الغربية، كما يعيب على المدارس العربية التي تسمّي الحصص الفنية ترفيهيّة بينما يُطلق عليها الغرب "الفن والتصورات" ويدّرسون فيها الفن بدءًا من رسوم الكهوف حتى آخر المدارس والتيارات الفنية المعاصرة دون أن يغفلوا تاريخ الفن، وأصول النقد الفني وكل ما ينمّي الذائقة الجمالية عند الإنسان.
يُركِّز الخميسي في فصل "الفن والطفل" على دور المربّين والمربيّات الذين توصلوا إلى نتائج مُذهلة من خلال دراساتهم التي أثبتت أن الأطفال الرُضّع يعبِّرون عن إعجابهم بالأشكال والألوانمن خلال مدة التحديق، وهم يفضِّلون الألوان المُبهجة كالأحمر والأزرق والأصفر على الألوان المعتمة والرمادية، ويتذوّقون الأشكال بعد سنتين من الولادة. أما الأعمال الفنية التي يستمتعون بها فإنها تستقر في المنطقة المحصورة ما بين الوعي واللاوعي التي تُلهِم المبدعين منهم لاحقًا. يدرس الباحث أوجه التشابه بين رسوم الأطفال والفن المعاصر ويتوصل إلى أن الطرفين ينطلقان في الخيال الجامح بلا قيود، ويُعبرّان عن العواطف والأحاسيس بحرية تامة.
أوفى الباحث حق المُتحف ودوره العميق في التربية الجمالية فقد شبّه المتحف بـ "كنزٍ مقدّس" أو بـ "معبد للثقافة والفنون" وبإمكان المتلقي أن ينهل منه ما يشاء من الفنون البصرية المتعددة، فهو منجم لذاكرات تاريخية وفنية واجتماعية لذلك لا تخلو المناهج الدراسية لكل المراحل من زيارات سنوية مُنظّمة لهذه المتاحف وغالبًا ما تعقبها دروس مكثفة عن عصر النهضة والفن المعاصر بكل مدارسه المعروفة كالانطباعية والواقعية والسريالية والمستقبلية.
يختم الخميسي بحثه في كيفية قراءة العمل الفني ولا يجد ضيرًا في تفسيره مُستلِفًا من بول فاليري مقولته الذائعة "لا ينبغي أبدًا الاعتذار عن الكلام في الرسم"(ص115) فكل عمل قولي أو بصري "يفسِّر إمكانيات خالقه، ولكنه يفسر أيضًا رأي المتلقي"(ص117). بكلمات أخر إذا أراد المتلقي أن يلج العمل الفني، ويغوص في شبكة علاقاته الداخلية العميقة، فعليه أن يتحول إلى تلميذ، ليس بالمعنى الأكاديمي كما يذهب الباحث، وإنما أن يكون لكل تلميذ قراءته الخاصة به، وتفسيره المختلف والمغاير لتفسيرات الآخرين. لا يمجِّد الخميسي في هذا الكتاب الفنان الخالق فقط، وإنما يصطّف إلى جانب المتلقي الذي يفهم العمل، ويتذوقه، ويستمتع بلذّته الفنية.

لندن

نشرت في وجهة نظر
السبت, 25 آذار/مارس 2017 19:33

الطقــوس والأخلاقـيــات

لست أعرف سببا للهجوم المستمر الذي يشنه بعض الأخوة على طقوسنا الدينية، فطالما نقرأ كتابات تتهم رجال الدين بالأهتمام بالطقوس وعدم اهتمامهم بنشر التعاليم اللاهوتية، وهؤلاء الأخوة يعلمون ان الدين دون طقوس ليس سوى أفكار جامدة لا معنى لها، فلا دين من دون عبادة، والعبادة تتطلب طقوسا وإجراءات، وهي الإجراءات التي توجبها الفرائض التي يؤديها الفرد المؤمن ليبقى على تواصل روحي مع خالقه. وبغير الطقوس لايمكن ان تقيم رابطة مستمرة ودائمة بينك وبين الخالق. فالرشاما والبراخا والتعميد كلها طقوس واجبة، وعمل اللوفاني والقماشي والرهمي هي طقوس تميزنا عن غيرنا. وكل اجراءآتنا في الأعياد والزواج وتكريس رجال الدين هي طقوس، حتى التسبيح الى الخالق والدعاء اليه هي طقوس ايضا.

والطقوس هذه عند تأديتها تجعل المؤمن الحقيقي (وليس المتدين الزائف) يعيش جوا من الرهبة والخشوع والقداسة يشعر خلاله بالسلام الداخلي والأمتلاء الروحي، ويفيض قلبه بالسعادة والطمأنينة فيمتليء محبة ورحمة ويصبح اكثر قربا من خالقه، وحينذاك يبتعد عن الشرور والمعاصي ويميل الى طريق الفضيلة والصلاح.

فأين الضرر والخطأ في ذلك؟ وكيف يمكننا تطبيق مبادئ العقيدة وفرائض الدين ووصايا الرب من دون تلك الأجراءات؟
وهنا ارجو ان لايفهمني البعض خطأ فيظن اني ادعو الناس لقضاء حياتهم بالعبادة، انما العبادة لها وقت محدد مثلما هنالك وقت للعمل وللدراسة وللأسرة وللراحة، وغير ذلك من أمور الحياة.

واذا ما استثنينا الطقوس فلكل دين جانبان، هما المعتقد والأخلاقيات. المشكلة الكبيرة عندنا كصابئة هي الأهتمام الكلي والكبير بالمعتقد، أي بالجوانب اللاهوتية، مع تجاهل كبير لمسألة الأخلاقيات (الوصايا، النواهي، المحرمات)، وهي في رأيي الشخصي الجانب الرئيسي والمهم لجميع الديانات. ذلك ان العالم كله لايمكن إصلاحه ولايمكن درء الشرور والظلم فيه الا من خلال اصلاح الأنسان وردعه عن فعل الشرور وحثه للسير في الطريق القويم، وهي الغاية الكبرى من نشوء الأديان. الا ان ذلك يتطلب وجود ولو بذرة صغيرة من الإيمان في قلب كل انسان، فهذا شيء مهم، فمن غير ايمان لايوجد خوف، وبالتالي لايوجد رادع من السير في طريق الرذيلة.

ان العمل الحقيقي الذي يتوجب ان يقوم به الجميع، خصوصا الآباء ورجال الدين، هو التركيز على الجوانب الأخلاقية التي أتت بها ديانتنا السمحاء، الحث على حفظ الوصايا وتطبيقها الفعلي في الحياة، ففيها الكثير من الدعوات الى المحبة والمساعدة والمسامحة والأخاء والتواضع والبذل والتضحية والعدل والإحسان والأحترام ... الى غير ذلك. وفيها من النهي عن ارتكاب الآثام والشرور، الكثير، فالديانة المندائية تدعو للأبتعاد عن الأحقاد والحسد والنميمة والخداع والغش والنفاق والتعالي... الخ. اما المحرمات فهي كثيرة ومعروفة للجميع الا ان المؤسف في الأمر هو عدم الألتزام بتطبيقها (الأبتعاد عنها) فمعظم تلك المحرمات أصبحت سائدة في مجتمعنا مع الأسف (بدل ان تكون معدومة)، اما الكذب والُسكر والسحر والربا وغيرها من الأفعال والتصرفات فحَدّث ولا حَرج.

ان سبب شيوع تلك الأفعال بين الكبار والصغار هو عدم الأهتمام بما جاءت به كتبنا الدينية من تعاليم ودروس أخلاقية عميقة. مع ان هذه التعاليم هي السبيل الوحيد لأصلاح الفرد ومن ثم المجتمع كله، فكثيرا مانسمع من مثقفينا دعوات للتركيز على القضايا التي تخص العقيدة فحسب، فراح البعض يكثر من الكتابة والشرح عن قضايا مثل، ماذا يحدث بعد الموت وأين تذهب النفس وماذا يحصل للروح والجسد، وكيف يعاقب الخاطئ في الآخرة... الخ، متناسين ان الجيل الحاضر يعيش الأن في كنف ارقى المجتمعات، وهو غارق في عصر العلم والتكنلوجيا والسرعة والتقدم المذهل الذي شمل كل شيء، وهم (شبابنا) يفضلون ان يواكبوا كل جديد في هذا العالم وان ينشغلوا بالتحصيل العلمي والثقافي بدل انشغالهم بمعتقدات يعتبرونها خيالية وغيبية يرددها أهلهم على مسامعهم عنوة، طالبين منهم حفظها ليكونوا أبناء صالحين!!

تعليم النشئ شيئا عن العقيدة، ليس خطأ، بل هو امر مهم، الا ان الخطأ في الأمر هو التركيز الكبير على هذه الأمور وكأننا نريد ان نجعل منهم رجال دين او اساتذة لاهوت. في حين نتجاهل التوجيه والأرشاد والتعليم بما جاءت به ديانتنا من وصايا تخص اخلاقيات الأنسان واعماله وسلوكياته، وهو الأمر الأهم، بل ان ديانتنا تُحذّر من تجاهل تلك الوصايا. وماأحوجنا اليوم كطائفة الى اتباع تلك التعاليم بعدما آلت اليه علاقاتنا من التفكك والضعف وارتخاء اواصر القربى، وماوصل اليه الأمر بين بعض الأفراد وربما العوائل أيضا من تناحر وشقاقات وخصومات وتعيير وتعديات بسبب عدم الأحترام والتعالي وفقدان الصدق والزيف في العلاقات والضغينة والتفرقة وطغيان المصالح الشخصية والعائلية وسيادة روح التعصب الأعمى والعنصرية البغيضة، وغير ذلك الكثير. وما انسلاخ بعض الشباب والشابات وتوجههم الى ديانات أخرى الا بسبب ذلك كله.

فكيف يتم اصلاح ذلك؟
ان الأصلاح لايتم من خلال الشعارات التي يرددها البعض، ولا بتجميل الواقع المزري ولا بتغييب الحقائق المرة. فعلاقاتنا اليوم هي في اسوأ حالاتها، وهي السبب الحقيقي لتدهور طائفتنا، والخطر الذي يهدد وجودها، اضافة الى خطر التشتت المريع. وان القادم أسوأ في مايخص تدهور العلاقات وانحلالها، بعد موت المحبة الحقيقية والوداعة والطيبة التي كانت تملأ القلوب.

الا ان اخطر ما في الأمر هو ان يرث الأبناء من الأباء تلك الأخلاقيات ومشاعر البغضى تجاه الاخر فتنتقل تلك الصراعات وذلك التناحر الى الأبناء، وهو مانلمسه الان في كل مكان مع الأسف.
اذن لا حل لتلك السلوكيات والمشاكل، ولا وسيلة لزرع المحبة والإلفة والتسامح وحب الآخر الا بالرجوع الى وصايا الرب (وهي من صلب كتبنا) وتطبيقها في حياتنا العملية من خلال التدرب اليومي عليها.

وهنا اقترح على كل رجل دين ومسؤول ومثقف – رجالا ونساء- ان يبدأوا بتنظيم محاضرات وندوات وامسيات ولقاءات وإقامة مخيمات من اجل طرح وشرح تلك الوصايا والنواهي والأرشادات وبيان أهميتها وتدريب الشباب على حفظها لأتخاذها نهجا في حياتهم، وان يقوم الأهالي بخطوات جادة وسريعة في هذا المجال فدورهم هو الأكبر والأهم في الحفاظ على ابنائهم. وليكن افتخار الناس مستقبلا بما يحملونه من اخلاق فاضلة، بدل افتخارهم الآن بالقوة والغلبة والجاه والزينة الباطلة.

نشرت في وجهة نظر
الجمعة, 17 آذار/مارس 2017 21:35

وداعاً شارع النهر

إذآ، هو الطريق الذي يمتد من المدرسه المستنصريه حتى جسر الاحرار والذي تصر أمانة بغداد على تسميته شارع المستنصر تيمنآ بالخليفه العباسي المستنصر بالله، أما الناس فمصممه على تسميته شارع النهر، كما أن تسمية (سوق) أصبحت أصح منه لشارع بعد أن تم غلقه أواسط الثمانينات أمام السيارات وأعماره ليكون سنتر ومعلم مميز لبغداد كحال سوق الصفافير والسراي والمتنبي وغيرها. وقد حافظ الشارع على زبائنه ورواده ونكهة بضائعه وأصحابها ومشهد المتبضعين الأجانب الذي أمتاز به عن بقية الأسواق، ثم أصبح بشكل بنهاية الثمانينات أقل بريقاً بسبب منافسات شرسة من أسواق رئيسية كالمنصور والكرادة والكاظمية وأسواق ثانوية كالبياع والأعظمية والشعب وفلسطين وغيرها، هذه الأسواق البديلة هي التي أصبحت تسهر الليالي بمطاعمها ومقاهيها التي خلا منها الشارع.
بداية 2003 ، أي قبل الغزو الأمريكي بأسابيع كانت رائحة الحرب تهب على العراق حيث أكملت شركة برازيلية فتح ثغرات بالساتر العملاق الذي أنشأه الأشقاء الكويتيون على الحدود، وفي الوقت الذي أكملت ألة الحرب الاميركية أستعداداتها العسكرية الضخمه هناك، كان العراقيون بالجهة المقابلة قد أنهوا صبغ (الحديد السكراب) من مخلفات الحروب السابقة (كأسلحة) فتاكه لتخويف الأعداء.
جميع صاغة شارع النهر لم يتفاجئ ببيان بوش الأبن قبل الهجوم بيومين، لملم (الحلال) وأخفاه بطريقته، أعجبتني طريقة أحد الربع حيث وضع الذهب بقاصه صغيرة وخيطها بيديه لحيم (ولدنك) وحفر بالحديقه ولحمها بشيش البتلو على وجهها ثم دفنها، قال على من يبغي سرقتها يحتاج لآلة لحيم ومولدة عملاقة وساعات من العمل المضني وضح النهار، عندها والكلام له... (بالعافيه عليه)! وأضاف... (هاي إذا كنا طيبين)! الجميع ترك القاصات مفتوحه تجنبآ من تفجيرها لو حصل أجتياح كما في أيام الغوغاء عام 1991 بالجنوب.
بعد الغزو وسقوط النظام وهروب وأختفاء رجاله وتدمير بقايا آلته الصدءة، أستخدمت بعض أموال العراق المحجوزه بالبنوك الأمريكية كعقود أعمار (ترقيع) ورواتب بالدولار. وفي الوقت الذي تمتع البلد بأمان نسبي أول الامر عندما أنشغل الاميركان بتهيئة قواعد ليشغلها جيشهم وأنشغال الأحزاب والميليشيات والقوى الأخرى وهي كثيرة بتثبيت موطأ قدم لها بمناطق نفوذها، كان العراقيون العامة قد شغلهم هوس المسواك وتجديد وأعمار بيوتهم وأثاثهم، فأستورد البلد كل شيء من الابره للسيارة، جديداً كان أم مستعملاً، من بينها شراء الذهب.
وهكذا صارت حاله غير مسبوقه علتعويض ما خسرته العائلة العراقية أيام الحصار، وكان الطلب على الذهب شيء غير مسبوق بتاريخ السوق، وصار الطلب أكثر من العرض وراح التجار يستوردون دون قيود من الامارات وتركيا وشرق آسيا، حتى الذهب الكسر الأردني لتنطبق القاعده (كل مصيوغ مبيوع) وفتح بكل شارع وبكل دربونه صائغ، حتى أبو الغاز وأبو الفلافل فتح له ولاقرباءه محل، صار الزبون يتوسل لكي يشتري بأسرع ما يمكن وبأي سعر وأية أجور، حتى أن الفاترينة (أم ربع كيلو) غدى فيها أربعة كيلوات أو أكثر وصار صاحبها يمشي بشارع النهر وبجيبه الدولارات... ( دفاتر)!
الغريب بدأت تظهر قواعد جديده لم نألفها بحسابات السوق وأستبدلت طرق حساب ومقايضة الذهب بين التجار وألغيت الفرقية وأجور القطعة وصار يحسب بالغرام وطبقت قواعد السوق بأسطنبول ودبي، ولم يصمد (العرف) التجاري الذي توارثناه (للأسف الشديد)، وأوجد التجار الجدد أساليب جديده حتى عند تحويل الورق الى ذهب أو بالعكس، وصارت محلات البيع وتجار الجملة الجدد يحيط بهم الحمايات.
لم يكن بمستطع بقيتنا الباقيه المحافظه على ما توارثناه من أباءنا من أصول المهنة، وصار عددهم يزداد وعددنا يقل وأصبح هذا الأمر الجديد واقعآ.
راحت مغازاته الجميله (الافراح وبوتيك شفيق والمقص الذهبي وعالم الاطفال...) وأحتلت الأكشاك العشوائية كافة المساحات المتاحة، وأغلقت مطاعمه المميزه (الشموع الذهبيه والخلخال) وفتحت عربات الأكل المتجولة، حتى سافراته بنات العوائل لم يعد لهن مكاناً...
برحيل أهله وهجرهم (مكرهين ) له، وبغياب متبضعيه وأختفاء معالمه، لفظ الشارع الذي كان اسمه (شارع النهر) آخر أنفاسه.

نشرت في وجهة نظر
الثلاثاء, 07 آذار/مارس 2017 19:11

من هذه : إمرأة مندائية

كيف عرفت ??
جمال النظرة ، بشاشة الوجه ، خفة الدم ، واسعة العينين ،
كحيلة الجفنين ، رقيقة البشرة .
زدها وصفا صادقا !!!
حسنة السلوك ، صادقة التصرفات ، ملتزمة و بعنف ببيتها ، محبة وبقوة
لأطفالها ، محبة للإستقرار والهدوء العائلي ، تخطط لأرفع وأرقى مستقبل
لأبنائها .
طيبة النفس ، لذيذة المعشر ، لا تسئ ، تكره الإساة ، تحب لغيرها كما تحب
لنفسها ، تبتعد عن النفاق و الشغب و تبغض الفتنة و الغيبة ، تعبر و بكل صدق
عن حبها ، لا تجامل في كلامها ، ما في داخلها على لسانها ، متمكنة بكسب
حب و صداقة وثقة وإطمئنان نساء المجتمع الآخر إقتحمت و بشجاعة
الحضارة و التطور العلمي الحديث .
عاشت المرأة المندائية كجزء مهم
من المرأة العالمية ، وعاشت و عاشت .
صحة و عافية للجميع

لندن

نشرت في وجهة نظر
الجمعة, 03 آذار/مارس 2017 23:43

رحلات الصد... ما رد

يلفتُ نظري سلوك حيوان أسير تقوم منظمات حماية البيئة والحفاظ على الحياة البرية بإطلاقه نحو بيئته الأصلية، غابةٍ أو أحراش وما شابه، حيث أول ما يقوم به هو أستطلاع ما يحوط به بسرعة، تائه لا يعرف كيف يتصرف، بعد حين يبدأ التعوّد ويبحث عن مأوى وعن مصدر طعام، أي أنه يقوم بالتأقلم مع المحيط من حوله. لو نُطلق نحن البشر في بمكان غريب لا ندري ما يحيط بنا ولا نعرف إلى أين تتجه الطرق أمامنا، أول ما سنفعله أن نترقب ونستطلع ما حولنا لغاية ما تصبح لدينا فكرة، ثم وبدافع الفضول وحب المعرفة نستمر بأستبيان الأماكن الأبعد، نتعرف أكثر لنشعر بأمان وطُمأنينة أكثر. إذاً هو سلوك فطري ممزوج بفضول وحب أستطلاع من جهة، ولديمومة الحياة بالبحث عن مستلزماتها من ناحية أخرى، هي أمور يجاهد الأحياء في أستبيانها.
من هذه المقدمة، لنتخيل أنفسنا في زمان ومكان محددين، القرن الخامس عشر وبأوربا بالتحديد، الشغل الشاغل للناس، ملوك وأمراء، مستكشفين ومجازفين وعامّة ناس، البحث وأستبيان أطراف العالم من حولهم، فلا كروية الأرض قد أثبتت بعد، ولا هم يعرفون ما خلف البحار المحيطة بهم، كل ما يعرفوه أن الشرق يمتد إلى الهند والصين وكأنها حافات العالم، وأن الشمال يغوص ببحر من الجليد مترامي الأطراف يصعب الغور فيه، وليس هناك في جنوب الشواطئ الأفريقية غير صحراء ولا شيء غير كثبان من رمال تطمس بها القوافل، والمحيط الأطلنطي يمتد جهة الغرب بلا نهاية.
كل الإتجاهات والدروب كانت توحي بأنها تصد مستكشفيها ولا تردهم. أنقسم العالم حينذاك، بين من يأخذ برئي الكنيسة بأن الأرض مستوية وما نعرفه هي حدود العالم وعلينا التسليم بذلك، وبين رافض لها ومقتنع بوجود سر لم تصله يد المستكشفين الشجعان بعد، وهو بحاجة لإثباتات عملية غير تلك النظريات التي جاء بها الإيطالي (غاليلو غاليلي) مكتوبة على ورق سرعان ما أحرقته الكنيسة لطمس أي أجتهاد يصل بالعالم لنتيجة قد تكون مخالفة لكلامها، بقي الكل يتساءل ويلح في البحث عن جواب، جواب واحد محدد... (إلى أين تمتد الأرض من حولنا، وهل لها حافة أو هاوية أو لبحارها جدار، أم أنها تذهبُ بنا إلى ما لا نهاية، وهل يا تُرى يسكنها أقوام أخرى من البشر لم نتعرف عليهم بعد؟).
أسئلة كثيرة لم يستطِع أحد الإتيان بإجابة قاطعة لها، فمَن ذهب في عمق الصحراء الأفريقية أبتلعته رمالها، ومن تحدى ثلوج الشمال دفنته متجمداً، ومن ركب البحر أنقطعت أخباره وأختفت آثاره. لم يعُد من المغامرين العدد الكافي ليروي لنا تفاصيل ما حصل في بحثه عن جواب، ومن عاد إدراجه، كان قد خانته جرأته في الغور أكثر في الأعماق. كان الملوك يتلهفون لكشف الحقيقة، وصارت حدود العالم المترامية الأطراف تُشعرهم بأنهم في سجن كبير ما لم يعرفون نهاياته مهما تكن بعيدة، الجميع منقسم حول القناعة بكروية الأرض ولا أحد يعلم مدى حجم الأرض وكيف هي والى أين تمتد؟ فمولوا أي وسيلة يمكنها الظفر بإجابة فيما لو مخر الإنسان بعباب بحارها ودخل في مجاهلها دون أن تلفه منية، وهل لعاقل أن يقتنع بأن من يبحر بإتجاه الغرب يمكن أن يعود لدياره من الشرق؟ أي هراء هذا الذي يتبادله العقلاء، الأيام تمر والتاريخ لا يسجل أي تقدم يُذكر.
كانت خارطة العالم ترسم على أرض مستوية متكونة من ثلاث قارات مجهولة الأطراف، ومحيطين أطلسي مغلق من الشمال وهندي مغلق من الجنوب، وهو ما كان معتمد حتى القرن الثالث عشر دون نقاش، لا وجود للأمريكتين وأستراليا، ولا حتى لشرق قارة آسيا أو جنوب قارة أفريقيا. المحيط الأطلنطي هائجاً كئيباً مليء بمكامن الرُّعُب والمجهول ومادة دسمة للأساطير بغرق قارات وبلع سفن. كان على الربابنة أن يحسبون التموين لو جازفوا وأبحروا فيه شهوراً بلا هدى ثم قرروا العودة أدراجهم، هذا لو بقوا أحياءاً، كان الغالبية على يقين بأن سفن المجازفون ستصل حافة الأرض فتهوي في هوةٍ ليس لها قرار!
× × ×
التوابل، هي كما يقولون لو فُقدت من على المائدة فقد الطعام نكهته، وهو أمر مهم في أيامنا هذه، لكن في السابق كان لها فائدة أساسية أخرى، حفظ اللحوم فترات أطول، فبغياب وسائل حفظها التي نعرفها اليوم كالتجميد والتعليب والتفريغ وغيرها، ولولاها لا يمكن أن نأكل لحم الجمل بأوربا ولا لحم وعل الرنة القطبي بالجزيرة العربية. تتبيل لحم الضّان يحفظها لفترة أطول ويمنحها النكهة لتـُثير الشهية أكثر، وهو أمر بالنسبة للمائدة الأوربية هام جداً.
كل أنتاج التوابل (الفلفل الأسود* والقرفة وجوزة الطيب والزنجبيل وغيرها) وخبرة زراعتها وجَنيها وتجفيفها وتهيئتها وتصنيفها يتم بالهند، والأنسجة الحريرية الفاخرة الناعمة الملمس تُنسج في الصين بأسعار رخيصة، يقوم التجار الأوربيين بشرائها من التجار العرب أو أستيرادها خلال (طريق الحرير)، وهما وَسيلتي إيصالها لأوربا في ذلك الزمان لا ثالث لهما، فطريق البحر الذي يبدأ من موانئ غرب الهند (كلكتا وكراجي ومومباي) يحتكره العرب* حيث ينقلون بسفنهم التوابل والشاي إلى شواطئ الجزيرة العربية أو من خلال البحر الأحمر لمصر وعن طريق البحر المتوسط تُوَزّع لأوربا والجزر البريطانية. أما طريق الحرير فكان أبطأ وباهظ الثمن ـ لأنه برّي ـ ولا يتسع لطلب المتزايد على ثروات الهند والصين، كما أن خضوع قوافله لمزاج حكام المناطق ولغزوات قطاع الطرق، مهد الفرصة للتجار العرب بإحتكار* السوق أمام المستورد الأوربي الذي كان بحقيقة الأمر هو من يدفع المغامرين لإيجاد طُرق بديلة وكان لا يتوانى بإستخدام حتى الدين للحصول على مواطئ قدم له داخل المدن المنتشرة ببلاد العرب وبلاد فارس، فتبنّى التجار الأوربيون حملات تبشيرية خططوا لها وقالوا أنه يقابل المد الإسلامي الذي يبشر به التجار العرب.
إذاً كان التمويل لرحلات الإستكشاف، ظاهره الدين حُب المعرفة، لكن باطنه أقتصادي بحت... حُب للتوابل!
× × ×
أولى محاولات البحث عن طريق بديل للهند، هي من قِبل تجار (جنوا) بإيطاليا بالعام 1455 وقد بائت بالفشل لتكون أولى رحلات (الصد ما رد)، بعد ذلك وصل مغامران بإبحارهما بالمحيط الأطلسي جنوباً باتجاه خط الإستواء ليصلا جزر (فيرد) هي اليوم (جمهورية الرأس الأخضر) ليعودا ويصفا كيف وصلا للمجهول في رحلة رُعب. عام 1488 أستطاع بحار برتغالي يدعى (دياز) من الإبحار جنوب بحر العرب بموازاة الجروف الشرقية لأفريقيا، ووصف بعض التجمعات البشرية عند مصاب الأنهار، ولما أستقبلته عواصف هوجاء وهيجان بحر، عاد إدراجه ليقول بأن ثمة دلائل تُشير إلى نهايةٍ ما للبر الأفريقي، لكنه أضاف بأن ثمة سنون جبلية أسماها (صخرة الشيطان) قد بدت له بين الضباب من بعيد وكأنها تنبهه بضرورة التقهقر والعودة، فسمّى نقطة الأفق تلك بـ (رأس العواصف). رفض ملك البرتغال هذه التسمية كونها ستُخيف البحارة وبالتالي لم يتسنَ إيجاد متطوعين لرحلات تالية، كما أنه سيخسر دعم الشركات وتمويلها لتلك (المغامرات)، وعليه فقد سمى النهاية المفترضة لليابسة من قارة أفريقيا بـ (رأس الرجاء الصالح) للتشجيع على الإستمرار بإستكشاف ما يمكن، قائلاً بأن الأبواب باتت مشرعة عن طريق اللأطلسي للهند وهي بأنتظار من يفتحها، وأسدى شرف رحلة في عام 1497 بانت بوادرها بأن تكون تاريخية للملاح المخضرم (فاسكو دي جاما) وأخوه (باولو دي جاما) ممولة من شركة (فلورنتين) مكونة من أربع سفن أثنتين بقيادتهما وأخريتين للتموين، تنطلق من لشبونة بإتجاه خليج (غينيا) فجزر (ماديرا) فرأس (ناو) ثم رأس (بوجادرو)، وهذا الرأس يوصف سابقاٌ بأنه نهاية العالم وأن ما بعده أرض شياطين مشؤومة على من يقترب منها. أستمرا الرجلان وطاقمهما بالإبحار بلا خوف ولا تردد غير مكترثين بما جابههم من عواصف وأعاصير حتى أضحت سفنهم الأربع تتقدم من سن صخري خلال طقس قاسي وضباب، حين أشرقت الشمس عليهم كانت سفنهم تدور حول شبه الجزيرة سعتها 75 كلم مربع، فيتبين لهم بأنه فعلاً (رأس الرجاء الصالح) وليجدوا أمتداد لا منتهِمن البحر ولقاء حميم بين مياه الأطلسي الباردة والهندي الدافئة.
كان المحيط الهندي بهذه اللحظة يبدو كمن فتح لهم ذراعيه ليدعوهم لتكملة المسيرة حيث الفردوس المنشود، الهند والصين، فبدا لهم طريق الشرق سالك، ليشمّون من بعيد عبير روائح توابله ويلمسون نعومة حريره الذي ستنقله سفنهم دون اللجوء لإحتكار* التجار العرب. تنفس الأخوين (دي جاما) الصعداء وراحا يتبختران بسفنهما بمحاذاة شواطئ أفريقيا الشرقية ليرسماها على الورق، فهي فرصتهما بأن يخلدهما التاريخ، وبإكمالهما رسم خارطة أفريقيا التي عصيت على الرحالة وعلى الجغرافيين ووصلا لأول مرة بالتاريخ لمصب نهر (الزامبيزي) ونجحا بعرض تجارتهما على السكان المحليين هناك والحصول على بهارات هندية.
وهكذا أنعكس المَثـَل العربي القائل... (مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ)، ليصيح... (فوائدُ قومٍ عند قومٍ مصائبُ)، فرأس الرجاء الصالح أصبح حقيقة بدل رأس الشيطان الذي باركه التجار العرب في السابق للحفاظ على تجارتهم، ولينقلب عليهم الدهر حيث أهملت تجارتهم وهُجرت موانئهم ومدنهم وأسدل الستار عن مغامرة خاضها العالم لإستكشاف طريق بحري يربط أوربا بالهند وظل التساؤل واللغط حول كروية الأرض لبعد حين.
كانت (حفنة الفلفل الأسود) التي أحضرها الأخوين عند عودتهما للديار، أول بضاعة تصل عن طريق البحر لأوربا من دون لمسة عربية، وهو يعني نجاح التاجر الأوربي بالوصول عن طريق البحر للهند والعودة سالماً ليثبت للعالم بأنه لا وجود (لدرب الصد ما رد).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
× فوبيا الأستكشاف في وقتها: في العام 1486 حصل الإيطالي (كريستوفر كولمبس) الإذن من ملك أسبانيا بالإبحار غرباً لشق المحيط الأطلنطي، ونجح بمغامرة فريدة بالوصول إلى كوبا (أحد جزر البحر الكاريبي) ظناً منه بأنه وصل شرق آسيا، ولم يتوقع حينها أن أمامه قارة عظيمة، فسماها جزر الهند الغربية وأقفل عائداً يحمل البشرى وبعض الذهب مما وجده على مصاب الأنهار هناك، هذا الذهب هو ما دفع الأسبان لغزوها لاحقاً.
× لا تعني كلمة (إحتكار) هنا حالة جشع التاجر العربي، وإنما هي وسيلة مشروعة للحفاظ على مصادر رزقه والدفاع عنها في مقابل أية منافسة شريفة أخرى.
× الفلفل الأسود (ليس له علاقة بالفلفل المتعارف) هو ثمرة على شكل عناقيد ناعمة حُمر اللون لأشجار تزرع بكثرة في الهند، تُجفف فتصبح سوداء ثم تطحن، تشكل تجارتها 22% من تجارة التوابل الهندية، له القابلية ـ بالإضافة لنكهته ـ على حفظ اللحوم ومنعها من التفسخ لفترة من الزمن.

نشرت في وجهة نظر
السبت, 25 شباط/فبراير 2017 00:38

بكاء الشجرة المقدسة

بكاء الشجرة المقدسة
ان من اهم الملاحظات في بنية الثقافة الشعبية لاي مجتمع تكمن في معرفته الفلكلورية الرمزية ، التي يمتزج فيها الخيالي بالاسطوري والايدلوجي بالذاتي ( اي العاطفي ) فتتكون لديه الكتلة التاريخية خاضعة خضوعا لاشعوريا لهذه او لتلك الثقافة الشعبية ، ان من اهم تلك المفاهيم هي التي تستمد نظامها المعرفي من الدين الشعبي ، فنرى ان التدين يختلف عن التدين النخبوي الذي يعتمد اعتمادا كليا صارما على ثقافة النعي ( النحيب ) المؤسس للخطاب الديني المتمثل بالنظام الاجتهادي الفقهي لكل دين وعقيدة والذي تخالطه الصور الرمزية والخيال الاسطوري ، هناك فرق بين التدين الشعبي ( الجماهيري ) والتدين النخبوي ( الرسمي ) لان التدين الشعبي يخلط بين المقدس والدنيوي على قاعدة التداخل بين النص الديني والمعتقدات والواقع ، فيكون هذا التدين اكثر الاشياء قسمة بين دهماء المجتمع الذين يحتاجون الى مداعبات الخيال كما يتسامون ويتعالون عن قهر الواقع وقمعه ، يصف الفيلسوف ( جيلز ) ، التدين الشعبي بأنه دين الفقراء بقوله : " من هم غير المستقرين ومغتربين ، وحيث ما يحتاجونه من التدين هو الاندماج والتماثل او الهروب ، وذوقهم يميل الى النشوة والاثارة ، ومن ثم فأن الانخراط بالنسبة لهم هو بمثابة محاولة لنسيان الواقع الاجتماعي المرير السابق او اللاحق" . ان من الضروري معرفة السياق التاريخي للتدين الشعبي فمن خلال المسيرة التاريخية نلاحظ ان هذا التدين نتاج ظروف سياسية واقتصادية وسايكولوجية، تعتنقه جماعات معينة من المجتمع دون غيرها ، لاسيما ان الجماعات التي تمثل هذا التدين هي جماعات مهمشة ( فاقدة لهويتها ) تجد فيه ما يعيد لها توازنها من خلال تمثلها وتماهيها لنظام الرأسمال الرمزي اللاشعوري ، الذي يعتبر نظام الانظمة في تنظيم حياة هذه الجماعات ، التي تستمد نظامها وديمومتها من الخارج .
يشير بهذا الصدد السيد محمد حافظ الى هذه المسألة فيقول : " ان تأثيرات الرأسمال الرمزي المرتبط بالتدين الشعبي لا تكمن تاريخيأ في فعاليته الأدائية فحسب ، وانما كذلك في وظائفه الكامنة ، تحقيق التوازن المستعاد في الجماعة اكتشاف معنى ما للعالم الرمزي ، تأكيد الهوية ، القدرة على التلاؤم مع متغيرات العصر والمكان ، القابلية لجدلية الانغلاق والانفتاح والمقاومة والاستيعاب ، اعادة تضامن الجماعة بعد الشتات ، تشكل مقاولات شمولية لتجربة اعضائها وتوارث شحنة اعتقادية عبر اللاوعي الجمعي تقيها من الضربات الاتية من مصادر الشر والطغيان " .
ان الدافع الحقيقي وراء كل هذا هو انتشار ( حكاية الشجرة الباكية ) على مقتل الامام الحسين في كربلاء في واقعة الطف ، عندما ذبح تحتها اكثر من قربان ، والغريب في الامر ان مجرد انتشار هذه الحكاية في المنطقة التي تقطنها الطبقة الفقيرة من المجتمع التي تملك إمكانية تصديق كل ما هو فراغي واسطوري حول هذه الشجرة الى شجرة مباركة ( مقدسة ) يقصدها الناس من كل صوب ومكان لطلب البركة منها وشفاء المرضى ، وحل مشاكل هؤلاء الناس الامر الذي جعل اهل هذه الشجرة يغلفونها ويسيجونها ، وربما يعدون جدولا لاوقات زيارة هذه الشجرة ليتباركوا فيها ، ولكن لماذا تظهر هذه الحكاية في المناطق الشعبية بالذات ؟ لماذا يستمر الإيمان بالنزعة الارواحية ؟ التي تصور الاشياء المادية كالشجر ، مسكونة بالارواح ، ولها القدرة على إيذاء الآخرين حسب تعبير تايلور .
يبدو ان الذهن الانساني وبشكل أخص الذهن الشعبي مسكون ب (مكبوت ألاصل ألاسطوري للوعي الانساني) الذي كان يصفه كارل غوستاف يونج : (بأنه ذهن وريث للانماط الأصلية الاولى كالأنماط البدائية التي كانت تعيش في فزع مستمر من اهوال الطبيعة مقدسة هذه الطبيعة لاعتقادها بأنها تحتوي على قوى روحية تؤثر بها فأله هذه الطبيعة وانشأ له رموزأ مقدسة يعبدها بين الحين والاخر اسمها ( الطوطم ) ) ، كما جاء ذكرها في كتاب ( اصل الدين ) للفيلسوف الوجودي الفرنسي جون بول سارتر وزوجته سيمون دي بوفار .
ان هذه الظاهرة ليست بجديدة على الذهن الانساني ، بل انها تمثل ( عودة المكبوت الإسطوري ) لصورها وتجلياتها وأثارها ، لان الذهن الانساني معجون بعبادة الاشياء واروحتها فلا نستغرب مثل هذه الحكاية او غيرها من الحكايات الشعبية ، ولكن ما يثير الاستغراب فعلا والتساؤل هو ان كثير من وسائل الاعلام ، والعديد من القنوات الفضائية العربية الجديدة وقنوات الافلام المُسيرة ، تروج لمثل هذه الحكايات الاسطورية متجاهلة سياقاتها التاريخية والاسطورية واللاهوتية لغاية في ذاتها ، والى تبني الفكر الرجعي المتخلف والعودة به الى الصدارة من جديد ، ولتخدير المجتمعات باسم التدين الشعبي الاسطوري ، محتفظة بالنظرة المقدسة الواحدة لها فقط ، متجاوزة التفسير العلمي والمنطقي والتاريخي المتحكم بظهور هذه الحكايات ، والأغرب من كل هذا صمت الشريحة المثقفة عن نقد هذه الظاهرة والبحث في اساسياتها الاسطورية .
اننا لا نقف امام ماهية هذه الظاهرة ، بقدر ما نبحث في الظروف التاريخية ، التي تعجل بظهورها كالظروف السياسية ، والاقتصادية والاجتماعية وطبيعة المرحلة الراهنة ، فنلاحظ ان المجتمع العربي خصوصأ يكاد يتشابه في ظهور مثل هكذا حكايات ( الخارق ) و ( المدهش ) و ( الغريب ) و ( الغيبي ) ، مثيلة ظهور الالقاب ، لان نشأة السياسة ( السلطوية ) والاقتصادية واحدة ، وبالتالي ينتج توحد هذه الظروف خطابات متشابهه .
وقد بحث الدكتور صادق جلال العظم في كتابه ( نقد الفكر الديني ) ظاهرة بكاء مريم العذراء دمأ بعد هزيمة العرب الكبرى في حرب حزيران 1967م ما يسمى ب ( نكسة حزيران ) ، اذ يصف العظم هذا المشهد من خلال تزاحم الناس للتبرك بها ، بل ان التمثال أشفى الاعمى ، وجعل المقعد يمشي ، وبهذا الحادث أمن المجتمع ايمانأ عفويأ بالارادة الالهية التي حتمت هذه الهزيمة ، وان الإله يمد بعون غيبي ( ميتافيزيقي ) ، مثل مفاتيح الجنة التي كانت توزع على الجنود ابان الحرب العراقية - الايرانية 1980 م ، وهكذا لم يتوقف الامر عند هذا الحد فحسب بل ان الرئيس المصري الراحل ( جمال عبد الناصر ) 1971م ، نفسه برر فشله في حرب 1967م هذا بالقضاء الإلهي وهذا هو منطق الطغاة في كل زمان ومكان ، وهذا يعني ان الساسة من مصلحتهم ان تستمر هذه الرؤى وان يستمر الجهل بين عامة المجتمع ، لان هذا يخلصهم من تحمل المسؤولية ، ويبعدهم عن تحديث المجتمعات العربية او مجتمعاتهم ، وتحويلها ثوريأ من خلال نقد بنيته الاسطورية والتقليدية وابصارهم لطريق الصواب .
وقد برزت حكاية مماثلة عندما كنت في سوريا وكان وقت اعدام طاغية العراق صدام حسين ، وقد شاع بان صورته ظهرت في وجه القمر وهي دامعة ، وهذه الحكاية شائعة جدا في سورية ، وهكذا نرى ان هناك من يقف خلف هذه الحكايات لترويجها ونشرها والعمل على إدماجها داخل الخطاب الديني ، وداخل كل مناسبة ، والترويج لها ، لتكتسب مشروعيتها داخل المجتمع وتصديقها بعد ان كانت اكذوبة .
ان انتشار مثل هذه الحكايات يعني ظهور طبقة تفرض سيطرتها وتسلطها على رؤوس هؤلاء المساكين ، لان فكر هذه الطبقة هو السائد ، وافكار الطبقة السائدة هي افكار الطبقة المسيطرة المستبِدة، على حد تعبير( كارل ماركس ) ، كما سيطرت النظرة الغيبية بعد انتكاسة 1967م ، وهي تحاول الان ان تسيطر لان ليس من مصلحة اية قوة سياسية أو حزبية او دينية تحديث المجتمع ونشر الفكر العقلاني التنويري على كافة اصعدته ، خصوصا الان في العراق ، وألا ، لماذا لم ينتقد هذه الظاهرة اي حزب ؟ او اي جهة دينية ؟ ولا اي مثقف ؟ ، بل تحدث بعض منهم بصدقية وبدفاع مستميت عن افكارهم واستبعادهم نزول الإنسان على سطح القمر في ستينيات القرن الماضي ، وان الانسان لم تطأ قدمه عليه ابداً ، وان الافلام التي اظهرت ذلك ماهي إلا افلام مفبركة والتي عرضت من خلال شاشات التلفاز ، اخذت من على سطح الارض في صحراء نيفادا الامريكية ، هذه هي العقلية العربية الناضجة ، لان هؤلاء لا يعنيهم ولا يشغلهم تحديث المجتمع وتطويره وتفجير بناه التقليدية ، فيبقى المجتمع محجوبأ ومغلقا باكثر من حجاب ، طالما ان اساسه لم ينتقد ونقد الاسطورة والفكر العفوي والإيمان الساذج المحكوم بمرجعية لاهوتية متخلفة ، شرط لابد من ممارسته كما يدرك المجتمع حقيقة وجوده ودوره في احداث التغيير المطلوب .
لذا من الضروري ان نفهم موقع قداسة الشجرة في ادبيات الاسطورة والدين ، حتى نرى كيف ان هناك تناقضأ لتقديس الشجرة المباركة لما تحمله هذه الشجرة من مكانة داخل الطبيعة وداخل الانسان .
كتب الاستاذ خليل احمد خليل في كتابه ( مضمون الاسطورة في الفكر العربي ) عن تاريخية الشجرة ، فأن المسألة ليست إلا عودة المكبوت الاسطوري من جديد ، بعد توفر له ظروف العودة فيقول (( للشجرة قيمة خاصة في المجتمع البدائي والزراعي ، والطبيعة تكون مثقلة بقيمة اسطورية او دينية ، فالطبيعة اسطوريأ ليست هذه الطبيعة العادية ، بل اكثر من ذلك ، والشجرة ليست شجرة عادية فحسب ، انها شجرة الكون ، شجرة القداسة التي ترمز تارة الى الحياة وتارة الى الحكمة والخلود ، والشجرة مقدسة في الاسطورة ، لانها تجسد التجربة الدائمة لتجرد العالم وانبعاثه )) .
اما في الاسطورة العربية فتعطي للشجرة دورأ تبشيريأ صريحأ ، تقول الاسطورة : ( من عجائب هذا البحر ان فيه جزيرة فيها شجرة تثمر مثل اللوز ، وله قشرة ، فاذا كسرت خرج منه ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها لفظ الجلالة ، كما تعطي الشجرة دور الملاذ القدسي الناطق : ( فلما سمع زكريا ان ابنه يحيى قتل وحشف بالقوم انطلق هاربأ في الارض حتى دخل بستانا عند بيت المقدس فيه الاشجار ، فنادته شجرة : يانبي الله الي ههنا ، فلما أتاها أنفتقت له الشجرة ، ودخل زكريا في وسطها ، فحمته من بطش الاعداء ) ، وهكذا هي الحكايات التي تاخذ الطابع الاسطوري المُمنهج .
المصادر : بالاعتماد على بعض المنتديات العربية

المانيا - فالد كيرش

نشرت في وجهة نظر
الأحد, 05 شباط/فبراير 2017 19:48

سيرة حياة الباحثة ناجية المراني

للعرب في الجاهلية خنساءٌ واحدة ولدتْ في شبه الجزيرة العربية ، لم يجرأ التاريخ ويفصح عن ديانة
الخنساء، ولم يَجرأ التاريخ ويقول أن الخنساء كانت مُشركة ،، لكن التاريخ رأف بها وقال أنها كانت على ديانة توحيدية ،لكن التارخ لم يُفصح و لم يعرف من هي تلك الديانة التوحيدية، .
.
المسحيةُ لم تزل ْ بعدُ تطأ قدمها ارض الجزيرة العربية يوم ولدت الخنساء ، والدعوة الاسلامية لم تزل بعدُ تطلق دعوتها
الدينية ، وأنّ اليهودية بعيدة عن مواطن سكناها ، اذاً على اية ديانة توحيدية تلك كانت الخنساءُ عليها .
الخنساء تربت في بيت عز وشرف ومهابة فهي اخت شاعر العربية المطلق ، شاعر السلم والتآخي زهير بن ابي سلمى ، ولها أختٌ اكبر منها اسمها سُلمى ، والخنساء ام الشهداء ( الاولاد الاربعة )اضافة الى استشهاد زوجها
في معارك قبلية طاحنة . ء
وما أشبه اليوم ُ بالامس فبعد اقل من 1500 سنة ولدتْ خنساءٌ ثانية اسمها (ناجية غافل المراني) ولدت في بيت عز وشرف وفي ذات البقعة
الجغرافية التي ولدتْ عليها الخنساء ، وعلى تخوم شبه الجزيرة العربية وتحديدا في ميسان (العمارة الحديثة) سنة 1918للميلاد ، لقد وجدت ناجية أن هناك
قصصا وحوادث وقعت لافراد مجتمعها وطائفتها جعلت منها إمراة شكيمة تتمتع بنظرة ثاقبة وحس مرهف ، حيث أصغت لكل ما كانت
تسمع من تلك القصص فامتد نظرُها بعيدا بعيدا تخطى عمرها الذي لا يزال يافعا .ء
فمن قصص عمتها فجر المولودة سنة 1870 والتي ترملت في زواجها مبكرا بعد ان ترك زوجها ابنا واحدا اسمه حنظل واخت له فقط،
وكيف كانت ناجية تصغي الى قصص عمتها فجر بعد أن بدات مشوار بحثها عن ابنها الشاب الذي لم يرجع مع الجنود العائدين من الحرب
العالمية الاولى مع سريته وفصيله العسكري وكيف كانت فجر قد قابلت الملوك وقُواد الجيش بحثا عن ابنها المفقود ولم تستطع العثور عليه فعادت
الامُّ مكسورةَ الخاطرِ مهشمةَ القوى ضعيفة مستسلمة ، وهنا جاء دور ناجية لتصور حادثة عمتها فجر في ابيات شعرية وهي لما تزل
شابة يافعة
ْهرعتْ ما بين خوفٍ وحنيــــن
علّه بين الرجال العائديـــــــــــن
هرعت تسألُ كلَ الواقفيـــــــــــــن

أسمرٌ ،شهمٌ ، ومقدامٌ أصيــــــــــل
هو ذا رقم السرايا والفصيــــــــــــــل

حنظل يعرفه كل ّالرفــــــــــــــــــــــــاق
كان يهوى الموتَ من اجل العــــــــــــــراق

وانقضتْ كل الليالي والسنيــــــــــــــــــــــــــن
لم تزل تهتف قد عاد الجنود الغائبيـــــــــــــــــين
ابني المفقود حنظل سيعـــــــــــــــــــــــــــــــــــود

تربت ناجية في احضان ال مران ، اصحاب التاريخ في المهابة والصنعة (الصياغة) والدرجات الكهنوتية ، لكن ناجية قررت ايضا
التعلم فاكملت الابتدائية في ميسان واكملت دار المعلمات في بغداد سنة 1935 اي بعد ان اصبح عمرها سبع عشرة سنة ،وقبلها قد
توفي والدها في العمارة وهي لم تبلغ سن الرشد .ء
انخرطت في سلك التعليم بين مدن وقصبات الجنوب وبغداد بين معلمة ومديرة مدرسة ولمدة سبعٍ وعشرين سنة وخلالها كانت ايضا
طالبة في الاعدادية الجعفرية المسائية / الفرع الادبي وحازت على معدل 85 في المائة وهو معدل متميز في تلك السنوات
حققته في سنة 1949
وجاءت سنةُ القحط والحطام سنة 1963 فكوفئت ناجية بان احيلت على التقاعد حالها حال الكثيرين من ابناء الشعب لكنها وجدت
الفرصة في مواصلة التعلم كون ان هاجس العلم والمعرفة ظل يلازمها فحصلت على شهادة الباكالوريوس ادب انكيليزي بدرجة جيد
جدا من كلية الاداب بغداد سنة 1969وبعد ان اخذ الشيب يجد طريقه في مفرقيها فكان زملاؤها يسمونها بالعمة ناجية
قبل سفرها كان لي شرف اللقيا والاجتماع وزيارتها للبيت في مكتبتها الخاصة وعلى فترات متباعدة.
ثم التحقت بالجامعة الامريكية في بيروت عام 1970 وحصلت على درجة الماجستير ادب انكيليزي مقارن بدرجة جيد
جدا متميز ، ثم استكملت مشوارها التعليمي في ذات الجامعة الامريكية للحصول على درجة الدكتوراه في قسم اللغة العربية / قسم
الدراسات الشرقية وفي موضوع الادب العربي المقارن وانجزت شوطا مهما من دراستها ، لكن الحرب الاهلية اللبنانية الطاحنة
دمرت كل شيئ وحتى احلام هذه المراة المندائية القادمة من العراق فتركت اوراقها واحبارها واملها في استكمال درجتها وعادت هي الاخرى
الى العراق سنة 1975 ، وفي هذه السنة بدأت ناجية مراني بمشوار التاليف والترجمة فنشرت اول كتاب لها (مقارنة بين العربية
والانكليزية كلمات متناظرة ) 1978 ، ثم كتاب (الحب بين تراثين) ثم كتاب ( الشعراء العذريون) 1980 وكتاب هنا بدأ التاريخ
ثم كتاب (آثار عربية في حكايات
كانتربيري )1981، ومؤلف مهم وهو مصدر عند الصابئة المندائيين هو كتاب (مفاهيم صابئية مندائية ) 1982لا تخلو مكتبة مندائية
الا واحتوت على هذا المصدر ، ثم كتاب (كلمات عربية انكيليزية دخيلة) 1990
وكثيرة هي البحوث والمقالات والمحاضرات التي نشرت في المطبوعات العراقية والعربية وحتى الاجنبية

وهنا وجه التشابه بين الخنساء الاولى والخنساء الثانية ، امراتان الاولى في نبوغ الشعر والادب والمهابة والثانية في العلم
والمعرفة والبحث والمهابة وقليل من الشعر ، الاولى زهدت في حياتها وتركت ملذات الدنيا ، والثانية هي الاخرى كانت سيرة حياتها كذلك
الثانية عُرفت بديانتها التوحيدية المعروفة لكن الاولى لا يزال الحكم في ديانتها مخفيٌ في بطون التاريخ وربما ياتي اليوم ليفصحَ عنها
وكثيرة غيرها هي المتشابهات

وبعد ان سافر الصحب ُوالاهلُ والخلان صمدتْ ناجية بين جدران مكتبتها وفي مسكنها المتواضع في بغداد وظلت وحيدة الا القليل
من البعض ، لكن السنين اناخت عليها فوجدت نفسها وحيدة في وسط الشارع تحمل حقيبتها الوحيدة وربما تكون تلك الكتب القليلة الاحبُّ لقلبها في داخل تلك الحقيبة ، فارتحلت مولية وجهها نحو سوريا الجارة الكريمة ولم تدم اقامتها طويلا ،
حيث لم تتعد اربع سنين من وجودها في سوريا فاغمضت عينيها في غربتها ووحدتها لا الاهل ، لا الخلان ، لا العراق الكبير ، ذهبتْ
بعيدا لا رجعة اخرى
لكن الماساة كل الماساة انه لم يجرِ خلف نعشها الا القليل بعد ان ضيعَ وشتتَ الزمنُ الجميعَ في كل مناطق ارض الله الواسعة
ومن خلال بحثنا عن سيرة حياتها في الاستعداد لاحتفاليتها التابينية ساعدني الاخ الاستاذ أمير حسن مشكورا بتزويدي لآخر مقطوعة
شعرية قد كتبتها الراحلة وقبل اشهر معدودة من رحيلها اعطتها الى الاستاذ امير حيث كان في زيارة اليها في سوريا في هذه المقطوعة تصور حال
غربتها ومأساتها ، تحاكي سائلها وتجيبه ، أنا هنا كل شيئ مطبق ، راقدة ساكنة ، كتابي مركون في زوايا الغرفة ، والقلم قد جف
وتاه معها في بلاد الغربة ، وتقول : أما صحبي ورفاق طفولتي ومن وجدتُ فيهم النخوةَ والعز والدفئ فهم قد ذهبوا بعيدا عِبرَ الحدود
البعيدة ، باقيةٌ أنا أناشدُ طيفَهم بلهفة وشوق وتحسرْ ، أعددُ تلكَ السنين الخوالي وتلك العهودِ الامينة وما أجملها لدى من يحفظ العهد

(المأساة)

أيها السائلُ عنــــــــــي أنا أحيا في ركــــــــــــــــــودِ
فكتابي في ســـــــــــكون ٍ ويراعي في جمـــــــــــــود
وصحابي ، أهـــــــــل ودي سكنوا عبر الــــــــــــــــحدود
وأنا أحيا بشـــــــــــــــوق ٍ ذاكرا طيب العهــــــــــــــــــــــود

يرحمك الخالق الازلي ايتها الكريمة الشكيمة الخنساء الثانية ولا ندري ان كانت في طائفتنا سوف تأتي خنساء ثالثة ، ربما

ألقيتُ هذه المقالة عن سيرة حياة الفقيدة ناجية مراني
في الحفل التابيني الاربعيني الذي اقيم في مدينة ستوكهولم

آب /2011
ستوكهولم

نشرت في وجهة نظر