صحيفة العالم:في عام 1928 شرعت أمانة العاصمة في بغداد في إعداد برنامج موسيقي لتسلية الجمهور البغدادي في الحدائق العامة، بأن يقوم الجوق الموسيقي الذي تشكل حديثا بعزف مقطوعات موسيقية مسلية للجمهور في هذه الحديقة او تلك
مثل هذه الصورة لم تكن موجودة من قبل، حيث لم تكن هناك حدائق عامة كثيرة في بغداد. وفي العهد العثماني قبل مطلع القرن العشرين ومابعده حتى عشرينيات القرن المنصرم كان البغداديون يصنعون مناسباتهم وأعيادهم وافراحهم بوسائلهم وأماكنهم الخاصة ويبحثون هنا وهناك عن متنفس يهربون اليه من محلاتهم الضيقة
فمثلا ساحة الميدان القريبة من باب المعظم وقلعة السراي وهي مدخل شارع الرشيد من جهة الأعظمية، كانت تشهد ايام العهد العثماني احتفالات في الأعياد حيث يهرع الناس اليها لمشاهدة رقصات واغاني العبيد (الزنوج) وهي رقصات واغان اشتهروا بها، مثل أغاني الهيوا والطنبورة.
فيما كان أهالي بغداد في ذلك الوقت يشاهدون ايضا سباقات الخيل (المنطرد) في باب المعظم أو يذهبون أيضا في مناسبات الأعياد والترفيه الى البساتين المحيطة ببغداد أو منطقة الأعظمية الشهيرة ببساتينها ومزاراتها أو الى منطقة المدائن (طاق كسرى) للتسلية
ولكن بعد عام 1924 أنشأت أمانة العاصمة في بغداد عدة حدائق عامة منها الحديقة العامة في الباب الشرقي التي أقيم عليها بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 نصب الحرية للفنان العراقي جواد سليم. ثم انشات أمانة بغداد حديقة عامة في جانب الكرخ أطلق عليها فيما بعد حديقة الزوراء واخرى مماثلة في باب المعظم
ولم يكن في بغداد جوق موسيقي آنذاك، سوى الجوق الموسيقى للجيش العراقي الذي مضى على تشكيله عامان(الجوق كلمة تركية تعني الفرقة)، ولكي يستفاد من هذا الجوق في المناسبات والأعياد وافقت وزارة الدفاع العراقية على طلب امانة العاصمة بأن يقوم هذا الجوق بالعزف للجمهور البغدادي وأداء الألحان والأنغام الشعبية السائدة آنذاك في الأمسيات بالحدائق العامة
وعندها أعلنت امانة العاصمة للجمهور البغدادي انها قررت ابتداء من 31 ديسمبر عام 1928 وبالاتفاق مع موسيقى الجيش بالعزف في ايام السبت من كل اسبوع في حدائق الأمانة، وأن يكون العزف أيضا يوم الاثنين في حديقة الباب الشرقي. فكان هذا الاعلان بشرى أفرحت الجمهور البغدادي المتشوق لوسائل اللهو والترفيه
وقد حصل انفتاح على اللهو والملاهي والموسيقى ووسائل الترفيه في بغداد بعد عام 1908، ذلك العام الذي اعلن فيه الدستور العثماني عن اعطاء الحريات النسبية للمجتمعات والجماعات الدينية والقومية التي كانت تحت الحكم العثماني، ورفعت قيودا كثيرة كانت مفروضة على الصحافة والأنشطة الاجتماعية. فظهرت الملاهي والمراقص والجوقات الموسيقية، وتحول العديد من المقاهي الى ملاه ليلية (تياترو) وخصوصا بعد الاحتلال البريطاني الذي سمح بالكثير مما كان محظورا أيام العثمانيين، وصار البغداديون متلهفين لحضور تلك الليالي الحافلة بالرقص والغناء والموسيقى، وكثرت الراقصات اللواتي راح الكثير من البغداديين يتزاحمون عليهن وعلى حضور عروضهن بعد أن كانت حفلات الرقص يؤديها غلمان (ذكور) يتجملون وهم يلبسون ملابس النساء ويتشبهون بهن مثلما كان الحال في حفلات الرقص في مقهى عزاوي ومقهى سبع في الميدان
وكان لليهود دور في اشاعة الموسيقى والغناء، فأغلب عازفي (الجالغي البغدادي) المرافقين لقراء المقام العراقي. وهو الغناءالبغدادي العريق واللون الشائع آنذاك كان معظمهم من اليهود
وكانت هناك موجة طاغية من اللهو والترفيه كمايقول المؤرخ ـ فخري الزبيدي ـ حيث راحت بعض مقاهي بغداد تتحول الى ملاه في الليل، حتى أن شاعر العراق معروف الرصافي بعد ان عاد من أسطنبول عام 1909 وجد انتشار اللهو والملاهي في بغداد فانتقد الحال في قصيدته الشهيرة (بغداد بعد الدستور) ومطلعها
أرى بغداد تسبح في الملاهي
وتعبث بالأوامر والنواهي
وقد نشرت صحيفة الرقيب البغدادية تلك القصيدة في 14 تشرين عام 1909، وعقبت عليها بالقول
أما المراقص وتحشد الناس فيها وتهافتهم عليها فحدث ولاحرج، حتى ان اوسع محل منها وهو قهوة الشط الذي يسع 700 شخص كان بعض الناس يدفع رسم الدخولية ويدخل ثم يعود على الفور لعدم وجود محل يجلس فيه
ويقول المؤرخ عباس بغدادي كانت الملاهي تتجمع في منطقة الميدان التي اصبحت مركز اللهو والمتعة فيما بعد، فهناك أوتيل الهلال وفيه (بدرية السواس وفرقتها)، لهذا سمي أوتيل بدرية السواس، وهناك ملهى نزهة البدوروقهوة عزاوي.
وقد كانت الراقصة بديعة عطش من احلى الراقصات اللواتي قدمن الى بغداد، وهي التي قال فيها الشاعر محمد مهدي الجواهري قصيدته الغزلية الشهيرة التي مطلعها
'هزي بنصفك وأتركي نصفا
لاتحذري لقوامك القصفا
أبديعة ولأنت مقبلة
تستجمعين اللطف والظرفا'
وكانت الراقصات والمغنيات ـ كما يقول بغدادي ـ يجلسن على الكراسي بصف واحد في آخر المسرح وأمامهن الموسيقيون في الصف الأول، وكان من اشهر المغنيات والراقصات أنذاك
رحلو، وسلطانة يوسف، وصديقة الملاية، وبدرية أم انور...
وجليلة العراقية أم سامي، وخديجة علي...
وسليمة مردخاي الإيرانية (سليمة باشا) التي كانت الحاكم بأمره في ليالي بغداد في زمانها، وكانت تضع على سيارتها علما خاصا بها وتقرض علية القوم الأموال، كذلك بدرية السواس، وبديعة عطش التي مر ذكرها، وفريدة علي وجميلة دنكر وحسيبة ألماز وغيرهن
وعلى جدار مسرح الملهى كانت توضع لوحة كبيرة كتب عليها (طلب البستات ممنوع) والبستات هي الأغاني الخفيفة البغدادية الشهيرة التي تعقب أدوار غناء المقام العراقي، فما أن ينتهي المغني من أداء مقام حتى يعقبه بالبستة البغدادية. وسبب منع طلبات البستات هو شدة الطلب وحصول المشاجرات والعراك بين الطلاب من رواد الملهى لدرجة الضرب وسقوط القتلى والجرحى في التنافس على طلب البستات، فالذي يتأخر طلبه أو يتم تفضيل طلب آخر عليه يعتبر ذلك إهانة وتقليلا من شأنه وشأن شواربه! وهي إهانة لايغسلها إلا الدم، فيلعلع الرصاص وتبرق الخناجر في ليل الملهى . ولا تنتهي الليلة إلا بقتيل او قتيلين!!
أما أجرة الدخول للملهى فكانت اربع عانات (العانةأربعة فلوس)، وبعد أنتهاء فصل الغناء والرقص يبدأ عادة فصل هزلي يقدمه هزليو ذاك الزمن أمثال جعفر أغا لقلق زادة وهو شارلي شابلن البغدادي في ذاك الزمن واسمه الحقيقي كامل عبد المهدي من اهالي كربلاء، بالاشتراك مع حسقيل أبو البالطوات وهو يهودي هزلي، مختص بالترويج والدعاية آنذاك. وكلاهما ماتا بائسين لاأحد لهما بعد أن كانا يضحكان بغداد كل ليلة.