• Default
  • Title
  • Date
  • نعيم عربي ساجت
    المزيد
    استيقظت من النوم على اثر هزة خفيفة لرأسي ، وصوت امي
  • مؤسسة الذاكرة المندائية
    المزيد
    the Foundation for the Preservation and Riviving of Mandaean Memory
  • عبد الحميد الشيخ دخيل
    المزيد
    كان التجمع في شارع ابي نؤاس عصرا وكما اتذكر مساء
  • همام عبد الغني
    المزيد
      تواصلت رحلتنا , متنقلين بين قرى كردستان , التي كانت آمنة
الأحد, 23 شباط/فبراير 2014

أيام لا تٌنسى -العودة من كردستان

  همام عبد الغني
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

 

تواصلت رحلتنا , متنقلين بين قرى كردستان , التي كانت آمنة تماماً , حيث لا وجود لأية سلطة حكومية . كنا نبيت ليالينا ضيوفاً على الفلاحين الأكراد , الذين كانوا يستقبلوننا بالترحاب , خصوصاً حين يعرفون أننا شيوعيون , وحين سألت عن هذه الظاهرة , علمت ان هذا الأرتياح والترحاب , راجع الى طريقة واسلوب رفاقنا في التعامل مع الفلاحين , من حيث الأحترام وعدم معاملتهم باستعلاء وخشونة , أو مطالبتهم بما يرهقهم او يزعجهم, كما تفعل بعض فصائل البيشمركَة الأخرى . والحقيقة ان الفلاحين الأكراد, وبتوجيه من قيادة الثورة الكردية , قد هيأوا أماكن خاصة , وأفرشة وأغطية , لاستقبال المقاتلين وإيوائهم, أثناء مرورهم في تلك القرى, حتى يصلوا الى مقراتهم الثابتة ,أو لتأدية واجباتهم المكلفون بها ...وخلال رحلتنا هذه , كثيراً ما تعترضنا أنهار صغيرة , ولكنها سريعة الجريان , يسميها الأكراد " روبار " , وهي تنبع , غالباً , من المرتفعات الجبلية وتجري نحو الوديان , ولهذا تكون سريعة الجريان وصافية وباردة , لأنها تمرٌَ بين الصخور , فلا تحمل أتربةً , وهي كما يقول احد شعرائنا الشعبيين الكبار , الذي غاب اسمه عني مع الأسف :

الماي شال تراب لو مر بالتراب       ولو جرا بين الصخر يحله ويطيب

أحنه مثل الماي صفانه العذاب       ولو شرب من ماينه معلعل يطيب

كما علمنا رفاقنا الأكراد , ان علينا ان نرتدي " جوارب " أثناء عبور الروبار , لكي نستطيع الثبات فوق الصخور , لأنها , اي الصخور , أشبه بالصابون نعومةً ولزوجة , ولهذا تنزلق الأرجل الحافية فوقها.

قبل نهاية الرحلة , مررنا بقرية " كاني ماسي " , وهي قرية كبيرة نسبياً وجميلة ومعروفة ... قبل وصولنا اليها بمسافة بعيدة , لفتَت انتباهنا بقعة ناصعة البياض , كانها الثلج الذي لم تطأه الأقدام , أو القطن النظيف , وحين اقتربنا منها , وجدنا المئات من طيور البط الأبيض الداجن , تسبح في مياه بحيرة واسعة , وحين سألنا عن عائديتها , قيل انها تعود لأهالي القرية , كما شرحوا لنا , ان هذه الطيور تخرج عند الصباح من دور اصحابها مجموعات , وتتوجه جميعاً الى البحيرة , فتشكل تلك البقعة البيضاء للناظر اليها من بعيد , ومع اقتراب المساء , تغادر تلك الطيور البحيرة , وتتجه كل مجموعة الى دور اصحابها , دون ان تفقد طريقها , او تختلط ببعضها ...

بتنا ليلتنا موزعين بين بيوت الفلاحين , وغادرنا في الصباح الباكر, وكانت وجهتنا هذه المرة , الى قرية ناوچلكان , حيث مقرنا الأخير , وهي على مقربة من ناحية كًلاله . كان الشارع الجبلي واسعاً نسبياً , يسمح بمرور سيارة فيه , وبينما كنا منهمكين بالمسير , سمعنا صوت حصان مصلح خلفنا , يركض خبباً , تنحينا الى جانب الجبل , وكنت قريباً منه , فتوقف قائلاً " دير بالك يا رفيق فلان , لو كنت قد سقطتَ في الوادي , سيقال ان مصلح رماه متعمداً " , فقلت " الحقيقة هذا هو شعوري الآن " فراح يخفف شعوري هذا بكلمات اعتزاز رفاقية !!

واخيراً وصلنا الى قرية ناوچلكان , وقد استغرقت رحلتنا من قره داغ اليها , قرابة شهر , وبالتأكيد , ان المسافة لا تحتاج لكل هذا الوقت , لكن الرحلة كانت للتجول في القرى وتفقد بعض المنظمات الفلاحية هناك . كان المقر في ناوچلكان واسعاً , وهو مقر ثابت للمجموعة , وعلى مقربة من هذه القرية , كانت هناك قرية اسمها ناوبردان , كان فيها مقر ثابت لرفاقنا في ل . م . وهذه قواعد آمنة ,وهي مقرات سياسية أكثر منها قتالية , لأنها في اقصى الشمال ....كانت الأرزاق هنا من تجهيزات الثورة الكردية , باعتبار كل هذه الفصائل والمجموعات هي اجزاء من قوى الثورة الكردية ...

ان ما لفتَ انتباهي , طوال الخمسة أشهر التي امضيتها في كردستان , ان الرفاق في هذا التنظيم ,لم يطرحوا اي موضوع سياسي او فكري للمناقشة وللأستفادة من وقت الفراغ وانضاج اية فكرة أو مشروع سياسي , أو تاريخي يخص الحركة , أو اي موضوع ثقافي آخر , خصوصاً , اننا لم نمارس اي عمل قتالي , اذا استثنينا , الأيام القليلة , خلال الأنسحاب من منطقة قره داغ . وكي لا اظلمهم , لا ادري , إن كانت جميع المقرات السياسية تعيش نفس الحالة , أم ان هذا الركود الفكري , يخص هذه المجموعة فقط ...     

حين وصلنا الى ناوچلكان , كان قد مضى على وصولنا الى كردستان قرابة شهرين ...التقيت في المقر بالرفيق سامي الفيلي , وهو من رفاقنا في سجن نگرة السلمان , شاب طويل القامة مفتول العضلات , أبيض البشرة , بشاربين اشقرين كثين , كان يمارس رياضة كمال الأجسام في السجن , وكان ذا اخلاق ومعنويات عالية , وعلمت بكل أسف , بعد عودتنا , انه استشهد في عملية تسمم دبرتها مخابرات النظام ضد الجماعة .... وتعرفت هناك على شاب من اهالي العمارة اسمه خضير عباس محمد العريبي , وهو حفيد الأقطاعي المعروف محمد العريبي , وعلمت انه كان جندياً في احدى التشكيلات العسكرية في كردستان , وحين وقع انقلاب 17 تموز 1968 , التحق بقوات الأنصار , وهو شاب اسمر طويل القامة , خفيف الدم , وذو اخلاق عالية , وقد التقيته بعد ذلك , في معتقل قصر النهاية بعد اشهر , ولا ادري كيف ومتى نزل من الجبل ومتى إعتُقل , ولم تتح لي الفرصة لأسأله عن ذلك , لأنه كان في قاعة أخرى ... استمرت حياتنا رتيبة , ليس فيها ما يستحق الذكر ...لكننا بدأنا نشعر , أن خلافاً بدأ يدب بين مصلح الجلالي والمناضل ابراهيم علاوي , واضنه صراعاً شخصياً حول زعامة المجموعة , حيث ان ابراهيم يشعر انه الأكفأ , بيد ان مصلح يريد فرض قيادته كأمر واقع . وقد اتصل بنا الطرفان , في محاولة لآسترضائنا وانحيازنا لأحدهما , بيد أننا كنا قد حسمنا أمرنا برفض العمل مع أيٍ من الجانبين , إذ اننا لم نعد مقتنعَين , بأن هذا التشكيل يمثل حزباً شيوعياً . وقد أبلغناهم ذلك بوضوح وصراحة ....زرنا ناحية گلالة مرة واحدة , رغم انها كانت قريبة من مقرنا , لمجرد الأطلاع , وهي مدينة عامرة ومزدحمة , وفيها الكثير من الأجانب من جنسيات مختلفة , ربما كان أغلبهم مراسلين صحفيين , أو وفوداً اجنبية . لم نسأل عن ذلك , لأن مثل هذا السؤال قد يثير لنا بعض المتاعب التي نحن في غنى عنها ...

في ظهيرة أحد الأيام , كنت ممتداً في فراشي , واضعاً الغطاء على وجهي , في محاولة لنومة القيلولة , حين سمعت المقاتلين يستقبلون ويرحبون بأحد الرفاق القادمين من بغداد , ووسط الترحاب والسؤال عن الأمور في بغداد , سمعت هذا الرفيق يقول " ان وضعنا , ويقصد التنظيم , بخير , طالما ان فلان , وكان يقصدني , لم يعتقل , فإن العمل يستمر والتنظيم يستمر " , عندها رفعت الغطاء عن وجهي ونهضت , لأجد الرفيق المناضل كريم جبار , وهو اصغر مناضل في سجن نگرة السلمان , اذ كان عمره آنذاك لا يتجاوز العشرين عاماً , وكان مناضلاً رائعاً أميناً ومنضبطاً , بعد ان تبادلنا السلام , قلت , أنا هنا يا كريم , ومحجوز حتى اشعارٍ آخر , ومعي الرفيق عاصم الخفاجي وكان يعرفه كذلك ...بعد أيام من وصوله , شعرت انه قريب منا كظلنا , لا يفارقنا أبداً , وفسرت ذلك بالمعرفة والعلاقة الرفاقية من أيام السجن , إلا انه شرح لي تصرفه ذاك بعد ان عدنا الى بغداد , حيث عاد هو الآخر بعد عودتنا بأيام , إذ زارني في الدار , ليشرح لي لماذا كان لصيقاً بنا الى هذه الدرجة , حيث قال " بعد أيام من وصولي , أبلغني احدهم , بأن همام وعاصم , كثيراً ما يقومان بمشية قرب النهر او في الغابة , سنعطيك سلاحاً , أطلق عليهما النار , وسنقول , بأنهما حاولا الهرب فقتلناهما !!! , فأجبته مستغرباً , أنا أقتل فلان وفلان ؟ لماذا ؟ وماذا أقول للناس ؟ وماذا اقول للحزب ؟ وماذا أقول لنفسي وللتاريخ ؟ , هل هما خائنان ؟ حاكموهما أمامنا , واذا أُدينا سأُنفذ اعدامهما بيدي . فأجابني , أترك الموضوع وانساه " وواصل الرفيق كريم قائلاً , ومن ساعتها قررت ان أكون حارساً لكما , ولن تغيبا عن نظري ساعة واحدة , خشية ان يغدروا بكما . وقررت ان أتركهم واعود ولكن ليس قبل ان تغادرا قبلي . سالته , لماذا لم تخبرنا آنذاك , لنتخذ بعض الحيطة على الأقل ؟ قال خشيت ان تتوتر الأمور , وبهذا يكون لديهم المبرر لتنفيذ هذه الجريمة , لكنني قررت ان احرسكما , وان لا تغيبا عن عيني , وهذا هو سبب التصاقي بكما تماماً , شكرته وحاولت ان اعزز ثقته بالحركة والفكر الشيوعي , لأن هذا الذي حاول تلك المحاولة الخسيسة , لا يمثل الحزب ولا الفكر , وأكدتُ له ان هذا التصرف كان تصرفاً فردياً من احدهم , فلو كانت عندهم هذه النية , كمنظمة , كان بإمكانهم تنفيذها بشكل من الأشكال ...

استمر وجودنا معهم في ناوچلكان , ثلاثة أشهر , لم يحصل خلالها ما يستحق الذكر , عدا تصاعد الخلافات , والتي لم تصل حد المواجهة خلال وجودنا ...وفي نهاية كانون الأول 1969 , أبلغونا بالسماح لنا بالعودة الى بغداد , كما اشعرونا أنهم كانوا يخشون قيامنا بانشقاق ضدهم اذا عدنا ...وفي صباح اليوم الثاني غادرنا المقر برفقة احد الرفاق الأكراد , وهو شاب لطيف المعشر رشيق الحركة , جميل الخلق والخُلق , كما جهزونا بحيوان (بغل )لمساعدة الرفيق عاصم عند الحاجة , سرنا طوال اليوم , حيث وصلنا احدى القرى , قال دليلنا , اننا قريبون من الشارع العام , طريق سليمانية -بنجوين , لكننا يجب ان نمضي الليل هنا , لأننا يجب ان نكون في الطريق في الصباح الباكر , وهكذا امضينا ليلتنا الأخيرة في هذه القرية التي لا أعرف اسمها ...

ومع عصافير الصباح ونشاطها وسقسقتها , نهضنا , لنغادر القرية , لم يستغرق طريقنا أكثر من ساعة , حتى وصلنا للطريق العام , كما لم يطل انتظارنا اكثر من ذلك , أذ وصلت سيارة حمل "لوري " , أوقفها دليلنا وتحدث مع السائق , راجياً منه إيصالنا الى مرآب سيارات سليمانية - بغداد , وتجنب السيطرات , ودعنا مرافقنا الشجاع . وقد أوصلنا السائق الى سيارات بغداد , وودعنا هناك ....كان طريق عودتنا سهلاً , فلم تواجهنا اية مصاعب كما كان طريق مجيئنا قبل خمسة أشهر , لنصل الى بغداد عصر نفس اليوم ....

والحقيقة , اننا لم نعش حياة الأنصار الحقيقة التي كنا نتخيلها , خلال هذه الشهور الخمسة , لا كمقاتلين ولا كسياسيين نمارس مهامنا التي نذرنا أعمارنا لها ...ومع ذلك فهي تجربة غنية في كل جوانبها الأيجابية والسلبية , وكانت هذه الأخيرة هي السائدة مع الأسف .    

 

الدخول للتعليق