طباعة هذه الصفحة
الخميس, 06 نيسان/أبريل 2017

الشهيد الخالـــــد صائب ضمــد منصــــور

  طالب عاشور الگيلاني
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

لم يصدف أن عرفت من بين جميع معارفي شخصية جمعت الرقة والصلابة، الإهتمام والإهمال، الفقر والغنى، الصبر والغضب، مثلما جمعت بشخص الشهيد الخالد صائب ضمد منصور، الشاب النحيل الذي رافقت وجهه الطفولي البسمة والنظارات الطبية منذ طفولته، إنتقاه إتحاد الطلبة العام وهو في الصف الرابع العام ليقود مدرسته، وكان يتمتع بطاقة تنظيمية لا تتناسب مع عمره ذو السبعة عشر ربيعاً، منظم التفكير عذب الكلام، تشعر وأنت تكلمه بثقة عالية بالنفس، هادئ الطبع، كريم، مقدام لا يرهب مواجهة الصعاب، كلف بقيادة التنظيم الطلابي في قضاء الشطرة بمحافظة الناصرية، قبل أن يبلغ الثامنة عشر، فنجح بامتياز.
كان خفيف الظل مرحاً، يملأ حضوره المكان الذي يتواجد فيه فرحاً وحبوراً، حسن الإصغاء، فأن تحدث كان حديثه مقتضباً، يتنقل بتركيز بين كلمات منتقاة بعناية فائقة، منذ طفولته تمكن منه التهاب اللوزتين، بحيث تحول إلى مرض مزمنٍ قرر الأطباء إستئصالهما، بعملية صعبة، فصار صائب أكثر ضعفاً وشحوباً، أقل مقاومة للمرض.
كان رغم مرضه مجتهدا ومثابرا متفوقا، يحبه مدرسوه، يستغربون عمق ثقافته ووعيه، صوته جهوري، وخطه يمتاز بجمالية قل نظيرها، قبل أن يرى أصدقاؤه أو معارفه صورته يسمعون صوته، أو يرون كتابته، فيظنون أنها لرجل في الأربعينات من العمر، تزداد دهشتهم عندما يرونه شابا ظريفا ضئيل الجسم، شاحب البشرة، بابتسامة ساحرة.
كان صديقي ورفيقي الأول، والأهم، بعد أن قضيت فترة طويلة لا صديق لي سواه، كان هو صديقي الوحيد. كانت لقاءاتنا لا تفصلها فترات بلا لقاءات يوميةً، وربما يشملها الليل إلى أن ترهقنا الدراسة فنبيت في بيتنا أو بيتهم، ولكن فراقنا بدأت فتراته تتزايد عندما تخرجنا من الإعدادية لننفصل في جامعتين مختلفتين، أنا في جامعة بغداد وهو في جامعة البصرة، كنت أشتاق إليه ولا أطيق البعد عنه، نتراسل فنتفق أن أحضر جامعته، فيستقبلني ويعرفني على رفاقه، ونمضي أوقات نسرقها من العمر، الذي رغم قساوته كان نضالنا فيه قد جمله، فخلق منه عمراً مزدوجاً، نتمتع بكل وقعة قدم في شوارع بغداد أو البصرة، نردد أغاني الحزب، فتمتزج بقهقهاتنا ونحن راجعون إلى سكنه في غرفة متواضعة، عند عائلة من أقاربه، في عشار البصرة، يتقاسمها هو وأبناء عمه الشهيد الخالد فائز ناصر منصور, والأستاذ عماد ناصر منصور أطال الله بعمره المديد.
في تلك المرحلة 75 - 76 كان صائب قد وصل بنضاله الدؤوب إلى المرحلة الرابعة بكلية الهندسة، قسم الكهرباء وتعمقت علاقته وروابطه بالحزب وبات في موقع مهم لا يقدر معه إلا أن يربط مصيره بمصير حزبه، وفي تلك الفترة عانى الحزب وبسبب تجربة الجبهة الوطنية، من خروقات من حليفه (حزب البعث) الذي عمل على كشف هيكل الحزب التنظيمي لغرض إبادة كوادره، فقد تمكن من زج عناصر مخابراتية وأمنية متقدمة، إخترقت تنظيم الحزب وكشفت الكثير من كوادره.
أنتقل صائب للعيش مع أولاد عمه في بغداد، محلة قنبر علي، ولما كانوا هم ذاتهم مطاردين، تحول عند بيت خالته أم مفيد، إستقبله البيت الكبير وفتح سكانه الطيبون قلوبهم للقائد الصغير الجسم، الكبير الهمة، ليعوض لهم عن إبنهم إحسان الذي سافر للدراسة في إنكلترا، وكان أبن خالته الدكتور الراحل سلام نصري على قيد الحياة ولكنه كان في إنكلترا، هرباً من المجازر الدموية التي بدأت تندلع في محافظات العراق، برعاية النظام الفاشي، إحتضنه هذا البيت الشريف وحماه ولكن التنظيم يستوجب وجوده، ولا يستغني عن نشاطه، وكان قد خطط لإخراجه على نفقة الحزب الى خارج العراق، وكان جوازه ينتظره للانطلاق به إلى شمال الوطن، ولكن مكيدة دبرت له بمكالمة هاتفية تدعوه إلى اجتماع عاجل، ليلقى القبض عليه مع إبن عمه فائز، عام 1980، بعد أن ألقي القبض على أخيهم الأصغر زهير في محله في سوق السراي، والذي كان يحتفظ لهم فيه بحقيبة منشورات حزبية.
فُقد أثرهم، وفي دهاليز النظام المعتمة، غاب صائب وفائز وزهير، ولم يتمكن أحد حتى من السؤال عنهم، بل أن دائرة الأمن كانت تستجوب أهلهم وتسألهم بخبث عنهم، وعندما يقولون لهم أنهم عندكم، في معتقلاتكم....ينكرون ويحلفون أغلظ الأيمان، بأنهم لا يعلمون عنهم شيئاً، وبعد زوال النظام الفاشي وفي عام 2005 راجع ذووهم مؤسسة الشهداء ليعلموا أنهم قد تم إعدامهم ودفنهم في مقبرة "محمد السكران"، على يد البندر وبقية أعوان النظام.
هل أنعيك يا أخي الحبيب في يومك الخالد أم أنعي نفسي التي رحل منها الكثير بفقدك؟ أتعلم يا صائب أن أمك ماتت وهي تتغنى بأحاديثك وأنت طفل صغير؟ أتذكر حينما كانت تسميك "المسعط"؟ لقد رحلت أمك يا صائب وهي تردد إسم وليدها الحبيب الذي حرموها منه وهو ما زال بعد شاباً لم يتجاوز عشرينات العمر.
البارحة جلست في قطار أقلني إلى العاصمة ستوكهولم، جلس قبالتي بنظارته الطبية النظيفة، وربطة عنقه الأنيقة، يحمل ذات الوجه المتعب، ذات العيون التي أنهكها السهر والألم وهو يحمل معاناة شعبه المبتلي بحكامه الفاسدين، نفس تسريحة شعره المجعد القصير المقلوبة إلى الأعلى، نفس ملامحه، يتطلع إلى الثلوج من نافذة القطار. عدت بشريط الذكرى الذي لا يريد أن ينمحي، إلى حديثه وهو يحدثني وأبني الأول على كتفي :- لا بد أن نصبر، لا أدري إلى متى، ربما كتب لنا أن نضحي، من أجل الطيبين من شعبنا!
- " قلت ساخراً:-
"إنتهى الطيبون يا صائب، ما عاد أحد يستحق تضحياتكم، حتى نحن!
- من قال اني اقصدكم؟
- من تقصد اذن؟
- هذا الذي تحمله على كتفك... وأشار إلى أبني.
إختلست النظر إليه لأستشف مدى جديته بالحديث، فشعّت أساريره بابتسامة عريضة، أقشعر لها بدني، وعرفت منها أنه جاد بما يقول... وكان هذا آخر ما دار بيننا وآخر مرة تحدثنا فيها.
نبهتني دمعة حارة نزلت بغير إرادتي، فمسحتها من تحت نظاراتي السميكة، فتنبه جاري، أو هكذا ظننت, فواساني بابتسامة جميلة تشبه إبتسامة صائب, وودعني لينزل في منطقة قبل ستوكهولم... وغاب بين الحشد لتتفاقم حيرتي بين ذكرى جميلة وحاضر مثل حلم, مر بسرعة، بين مصدق لهذا الشبه الكبير ومكذب نفسي، بأن ما رأيته مجرد شبه كبير بين رفيقي الأول، وشبيه له مر وإختفى...

ستوكهولم

الدخول للتعليق