في ذكرى فقيد الآثار العراقية الدكتور فوزي رشيد
التقيته أول مرة في منتصف السبعينات من القرن الماضي ، حينها لم أكن أتجاوز من العمر العاشرة .. كنت في زيارة للمتحف العراقي بصحبة والدي و أحد أصدقائه الحميمين الذي تربطه بالرجل صداقة قديمة . و نحن في بداية جولتنا جاءنا متودداً مرحباً بقامته المديدة معتليه وجهه ابتسامة طفولية جميلة تدخل قلب كل من يتلقاها دون أستأذان .. بعد كلمات الترحيب و المجاملة ثم بضع خطوات من جولة الشرح لبعض المعروضات أخذ يوجه كل توضيحاته عن القطع الأثرية لي دون والدي و رفيقه .. عندها بادرني السؤال (ها عمو عجبتك الآثار؟) ... فأجبته بسرعة صاحبها شيئاً من سذاجة الأطفال ... (لا.. كلها شغلات قديمة) ... عندها أطلق ضحكة مجلجلة لايزال صداها يرن في أذني جعلت والدي و صديقه ينتبهان .. ثم التفت الى والدي و بقايا الضحكة لاتزال مرتسمة على فمه قائلاً له بضع جمل لم تسعفني ذاكرتي الصغيرة حينها بالاحتفاظ سوى بالأخيرة منها .... (أكيد المحروس راح يشتغل بالآثار من يكبر) ... كانت نبوءة ، نعم كانت نبوءة ، لا أدري كيف خمنها هذا الرجل الذي لم أعرف أسمه أو وظيفته حتى تلك اللحظة ، و لم يدر بخلدي أو خلد والدي حينها أن دورة الزمن ستقول قولتها في مستقبل حياتي و توجهي العلمي ليصدق في توقعه .. ثم استأذننا الرجل للعودة لعمله متعللاً بكثرة مشاغله التي تتطلب تواجده الدائم في مكتبه ... غاب لكن صورته لم تغب عن مخيلتي لأسأل والدي عنه حال عودتنا البيت .... لأعرف فقط حينها أنه الدكتور فوزي رشيد ، مدير المتحف العراقي و المختص بالكتابات المسمارية ... كان طبيعياً أن يُنسى الرجل بعد هذا اللقاء و مع مرور أيام قلائل من حياة الصغر ... ليظهر مجدداً بعد بضع سنوات على شاشة التلفاز حين أستضافه الراحل (كامل الدباغ) في برنامجه المعروف تلك الأيام (العلم للجميع) ، ليتحدث من خلاله بأسهاب و على مدى حلقتين متتاليتين بأسلوب غاية في الروعة و البساطة يفهمها الصغير و الكبير عن الآثار العراقية ، ركز حديثه الجميل آنذاك على الكتابة المسمارية و اللغتين السومرية و الأكدية و تاريخهما.
بعدها انطبعت شخصية الدكتور فوزي رشيد في ذاكرتي رافضة مبارحتها .. فكنت طيلة السنوات التالية أتابع و أقرأ كل ما يكتب عنه في الجرائد و المجلات و جميع ما تطال يدي من مؤلفاته رغم حداثة سني في ذلك الوقت .. كما لو أن الرجل قد صاغ مستقبلي دون أن أدري أو أشعر ، كأن قدراً عجيباً قد جمعني بهذا الأنسان ...... ليقول القدر كلمته و تتحقق النبوءة القديمة فالتقيه خلال دراستي الجامعية في قسم الآثار/كلية الآداب و أنا في المرحلة الرابعة المنتهية حيث قام بتدريسنا مادة (آثار الخليج و الجزيرة العربية) ، كانت أحدى المواد الثقيلة الجامدة خلال تلك المرحلة ، لكنه جعلها بأسلوبه المبسط المحبب تدخل قلوب الطلاب قبل عقولهم ... و بذكائه و حدة بصره أستطاع تمييزي بسرعة رغم مرور تلك السنين و تغير هيئة ذلك الولد الصغير بطول قامته و كثافة شاربيه .... ليبادرني بعد انتهاء محاضرته الاولى بسؤال طريف أختصر فيه كل تلك السنين الفاصلة مع أول لقاء معه (بعدك حامد ما تحب الآثار؟) .. و خلال تلك السنة الدراسية توطدت علاقتي به بشكل كبير جداً و خاصة بعد تفوقي في مادته ، حيث حصلت فيها على درجة (أمتياز) ... كان دوماً يدخل قاعة الدرس و الابتسامة مرسومة على محياه و لا يغادرها ألا و تلك الابتسامة قد ازدادت اتساعاً ، كما كانت محاضرته تنتهي بشكل سريع بعيدة عن الملل و الروتين القاتل الذي كانت تعاني منه الدراسات الجامعية ، فكان يجعل الطلاب ينشدّون اليها بشكل أخاذ ، فتراه يتوسع بالمادة دون الخروج عن مضمونها و لايجعلها محصورة بالمنهج المقرر ، مع أعطائه العديد من الأمثلة كي تترسخ في الأذهان .. كما كان يستمع برحابة صدر و بساطة متناهية لأفكارالطلبة و آرائهم ، بل و يحفزهم على عدم الأقتناع مباشرة بما يقال أو التصديق بالرأي حتى و أن كان من الأستاذ أو المحاضر ، و أن الآثاري الناجح هو الذي يدقق في كل شاردة و واردة و لا يأخذ الأمور على علاتها ، و عليه دوماً أن يطرح كلمة (لماذا) ، لكنه بنفس الوقت لا يطرح التساؤل جزافاً و أنما وفق أسانيد تبرر عدم الاقتناع ، و ألا سيغدو النقاش من باب الجدل الأعمى الذي ليس له هدف أو غاية ... كان بشوش الوجه على الدوام ، محباً للنكتة و المواقف الطريفة ، و من الطرائف التي عرفناها عليه ، أنه حين يرى أحد الطلاب و قد أرتكب سلبية ما من السلبيات كان ينبهه بطريقة جميلة ، فيردد له عبارة (يوليوس قيصر) الشهيرة و خنجر قاتله يغور في جسده (حتى أنت يا بروتوس) .. كان يحب الطلاب بشكل لا يوصف حيث يطيب له كثيراً تصغير أسمائهم تحبباً و تقرباً لهم ليشعرهم دوماً بأبوته لهم .... لم أره ألا نادراً منزعجاً أو عليه بعضاً من علامات الغضب رغم المحاولات البائسة للأسف لبعض الطلبة و (المراهقين) من الأساتذة البائسين المنتسبين لحزب البعث المقبور لاستفزازه واصفين أفكاره بأنها ضرب من (الفنتازيا) ، كونه يتبع أسلوب جديد غير مطروق سابقاً في تفسير حوادث الماضي ، يعتمد فيه على المنطق العقلي و البديهية العلمية بشكل رئيسي يفوق الاعتماد على الدليل الأثري المادي كأداة رئيسية في اثبات الحقائق التاريخية ، و هو بذلك يعلن صراحة (التمرد و الثورة) على أساسيات علم الآثار . لكنه رغم ذلك كان يكتفي بالرد عليهم بابتسامة رائقة معللاً تلك الاستفزازات بأن لكل أنسان وجهة نظره الخاصة و من حق الآخرين رفضها أو القبول بها .... المرة الوحيدة التي بدا فيها منزعجاً لدرجة العصبية كانت بعد التخرج ، حين أخبرته برفض طلبي لأكمال دراستي العليا رغم تفوقي ، بسبب الماضي السياسي لعائلتي الذي أفتخر به و أتشرف و أعتبره وسام على صدري ... حينها أفصح لي الكثير من الأمور و عن كيفية تصادمه مع أزلام النظام المباد ، عندما أخذوا يوظفون كتاباته التي خص بها ملوك و أبطال العراق القديم و المآثر الرافدينية الخالدة بطريقة وسخة خبيثة لتمجيد الطاغية المقبور و مغامراته الحمقاء ، مما أعطى شعوراً لدى الكثير من الناس و المهتمين بشأن التاريخ أنه غدا أحد أعوان النظام و بوقاً من أبواقه .. و قد أدى ذلك فيما بعد الى عزله عن منصبه في أدارة المتحف العراقي ثم أبعاده كلياً عن عمله في هيئة الآثار و التراث في أواسط الثمانينات مع زميله في الدراسة و العمل أستاذي الآخر في دراسة الآثار د.عادل ناجي المختص بالأختام الأسطوانية ، بداعي عدم الحاجة اليهما كونهم فائضين عن الملاك الوظيفي !!!! لينتقلا للعمل التدريسي في كلية الآداب/جامعة بغداد (قسمي الآثار و التاريخ) .... وكان لكلماته أن خففت كثيراً من الم الغصة التي كنت أشعر بها حينذاك بسبب ذلك .. و بالمقابل نصحني بالعمل في الهيئة العامة للآثار و التراث لأثبت وجودي في مجال تخصصي الذي أحببته و تفوقت فيه .. و لازلت أذكر قوله (البلد لأهله و ليس لهؤلاء الجهلة ... مادمت تحب هذه المهنة ، صير شوكة في عيونهم ، و أفرض نفسك رغم أنوفهم) ... و هذا ما حدث بالفعل فيما بعد.
و بعد عملي كمنقب آثار في الهيئة العامة للآثار و التراث توطدت أواصر الصداقة بيننا ليضاف اليها زمالة العمل و المهنة ليرفع التكليف الذي كانت تفرضه العلاقة بين الأستاذ و تلميذه فبدأت أناديه كما يحب أن ينادى من قبل المقربين منه (أبو ميسون) كناية لأبنته الكبرى ، لأتعرف يوماً بعد يوم أكثر على شخيصته الرائعة و مدى بساطته و مودته للناس ، و حبه المتميز لطائفتنا و هذا سر محبته لي و تقربه ، و من أقواله التي لا أنساها (أنتم الصابئة أصل حضارة وادي الرافدين و أبنائها البررة الأوائل) .... كنت أزوره بين الفترة و الآخرى و متى ما سنحت الفرصة في الجامعة للاطمئنان عليه ، كذلك للمشورة العلمية التي يمنحها بكل سخاء و رحابة صدر .... و خلال عملي في محافظة نينوى للتنقيب في مدينة بلد/أسكي موصل خلال الأعوام 1995/1996 كان الدكتور فوزي يزورنا دوماً في مقر هيئة التنقيب لدى قدومه لهذه المحافظة للمشاركة في لجان مناقشة الرسائل الجامعية العليا لطلبة جامعة الموصل .. و كان حينها يحل ضيفاً عزيزاً على هيئتنا في مقرها المتواضع داخل مدينة نينوى الأثرية ، حيث لايطيب له السكن في الأجنحة المخصصة للأساتذة الموفودين في تلك الجامعة .. فكان يستأنس كثيراً للقاء الآثاريين و يعيش حياتهم المتعبة وطبيعة عملهم المضنى و يتابع بشغف و سعادة نقاشاتنا الدائمة حول نتائج عملنا اليومي ، كما و يعطي آراءه السديدة الجميلة بشأنها ، و أحياناً كان حتى يساعدنا في معالجة و ترميم بعض القطع الأثرية التي نكتشفها خلال التنقيبات ... و بالرغم من أبتسامته الدائمة على وجهه ألا أنه كان يخفي ورائها مسحة من الحزن يستطيع تمييزها من عرفه عن قرب على مدار تلك السنين ، كان السبب هو معاناته الأقتصادية كحال باقي أبناء الشعب العراقي خلال فترة الحصار اللعينة .. خاصة بعد أحالته الى التقاعد لبلوغه السن القانونية ، لذلك أخبرني بعزمه السفر الى ليبيا كحال الكثيرين من الأساتذة الجامعيين للتدريس هناك من أجل مردود أضافي يعينه و عائلته على صعوبة تلك الأيام ... فعلاً نفذ رغبته و سافر الى هناك ... حينها كنت أتابع أخبار غربته رغم الظروف الصعبة التي كانت تسرق الجميع لحياتهم خاصة مع طبيعة عملي الدائمة خارج بغداد من زوجته السيدة الفاضلة الاثارية (راجحة النعيمي) زميلتنا في الهيئة و المختصة في الخزف الأسلامي.
و تمر دوامة الزمن الثقيلة لألتقيه في منتصف شهر كانون الأول عام 1999 في العاصمة الأردنية عمان و لم يبقي لي لمغادرتها لمنفاي الأبدي في السويد سوى بضعة أيام بعد عام ثقيل متعب من الانتظار فيها ... كنت حينها ماراً بأحد فنادق (وسط البلد) لزيارة بعض الأصدقاء ... كان جالساً في باحة الفندق وحيداً شارد الذهن ... بدا متعباً مهموماً و أكبر من سنه بكثير . فوجئت برؤياه .. و ما كاد يراني حتى أسكتت المفاجئة لسانه هو كذلك ... عرف غايتي مباشرة و دون أن أقول أي كلمة كأنه أعتاد فهم أفكاري و لو عن بعد ... التقاني و عيونه يملأها الحزن كأنه عثر أخيراً على من غاب عنه منذ زمن .. ردد و هو يهز رأسه عبارة واحدة لازالت محفورة في ذاكرتي (حمودي المن راح يبقى العراق) .. عبارة قصيرة لكنه أختزل فيها الكثير مما كان يود قوله لتلك الأيام الصعبة التي سيراها شعبنا ، لقد قرأ المستقبل كما لو كان لوحاً مسمارياً فعرف ما سيحل بوطننا الجميل من خراب في قادم الزمن (وقد حصل) .. كان مرهقاً للغاية بعد سفرة برية طويلة قادماً من ليبيا ليقضي اجازة نصف العام الدراسية مع عائلته في العراق .. حدثني عن همومه هناك و متاعبه الصحية بعد أن أصابه الوهن و ضعف الجسد بسبب تقدمه في السن بعد كل تلك السنين من العمل ، فأصبح من الصعب عليه العيش بمفرده في تلك البلاد التي لا يربطه بها أي رابط مقارناً حالها مع وطننا الجميل بأيامه الجميلة الخوالي ..... أستمر لقائنا لأكثر من ثلاث ساعات أفرغ كل منا همومه للآخر .. ثم أستأذنته عن مضض بالمغادرة ، فلم يرغب حينذاك لأحدنا بترك صاحبه ، لكني كنت في ضيق من وقتي و علي أكمال و تصفية الكثير من الأمور قبل مغادرتي المدينة .. تمنى لي التوفيق و النجاح في مسعاي .. أحتضنني بشدة و كأنه أحس أن هذا اللقاء سيكون هو الأخير بيننا .. كنت أسمع حشرجة صدره ، حينها أحسست أن قلبه كان يجهش بالبكاء دون العيون ... لم يكن ذلك وداعاً بين أستاذاً و تلميذه أو بين أب و أبنه ، كان بحق وداعاً بين جيلين ... جيل خبر الدنيا و تجاربها فعرف أن جنان الأرض التي نقل ترحاله بينها لاتساوي بضع حبات رمل من الأرض التي تدعى الوطن و عشرة شعبها الطيب الصابر الحنون ... و جيل مازال في أوج ربيع الحياة تملؤه الحيوية و العزيمة للعمل باخلاص من أجل أن يرى بلده في طليعة بلدان العالم المتقدم ، لكن أضواء الغربة و بريقها المُبهر أغوته و أغشت عيونه التي أرهقها و أحجب رؤياها دخان الحروب و آلامها ، فسارع مهرولاً الى سرابها ، حالماً بوطن جديد يرى فيه بعضاً من الامان و شيئاً من الكرامة التي أفتقدها ، ليترك معشوقته أرض النهرين الخالدين فريسة للمتخلفين و الجهلة ليعيثوا فيها فساداً بعد تركها أهلها ومحبوها .
مضى كل منا في طريق قدره بعد ذلك اللقاء لتدور السنين بنا و بمن حولنا ، أبتلعتنا خلالها هموم الدنيا و متاعبها ، لأقرأ كحال الغرباء خبر رحيله الأليم في 26/3/2011 ، أخذت دموعي تتساقط بغزارة دونما شعور مع كل كلمة أقرأها لذلك الرحيل .. فالدكتور فوزي رشيد لم يكن بالنسبة لي أنساناً و صديقاً رائعاً أو أستاذاً فذاً ولا عالماً من الطراز الأول فحسب ، بل كان يمثل حقبة زمنية كاملة و جيلاً متميزاً من المفكرين و الباحثين يصعب أن لم يكن مستحيلاً على العراق في أوضاعه القاهرة الحالية أن يجود بمثله ... مع ذلك ربما كان أستاذي محظوظاً حيث لم يودع الدنيا غريباً مشرداً رغم معاناته و خاصة آخر أيام حياته ، ليحصل من الوطن و لو على بقعة صغيرة من الأرض احتضنت جثمانه ، ليثبت عراقية بلاد الرافدين الى جانب أجدادنا السومريين ... ليبقى الم الغربة و حرقتها يرافق من تظل عيونهم دوماً شاخصة نحو العراق و تربته الطاهرة ، و بالأخص أولئك المُبتلين بعشق تاريخها الخالد و آثارها العظيمة كحال كاتب هذه السطور.
وعلى الرغم من مرور تلك السنين فلا تزال كلمات و عبارات أستاذي الجميلة و نوادره اللطيفة خالدة في الذاكرة .. فالى اليوم كلما أرتكب حماقة من حماقات البشر حتى و أنا في هذه السن ، أشعر كأن صدى صوته يأتيني من عالم الغيب مصحوباً بصورة ابتسامته الطفولية الجميلة صائحاً .. (حتى أنت يا بروتوس).