حدثت ثورة الاستيطان المدني في وادي الرافدين عند منتصف الالف الرابع ق.م ، فمثلت تحولاً حضارياً هاماً في سلسلة التطور الاجتماعي ، أنتقل خلاله الانسان من الحياه القروية الى المدنية ، و تعتبر مدينة الوركاء أول من شهدت ذلك التحول الكبير الذي شمل فيما بعد باقي مدن سهل الرافدين الاخرى . و صاحب ذلك التطور تغير الكثير من النظم والمفاهيم والتقاليد السائدة الموروثة عن الحياة السابقة ، منها نظم إدارة تلك المجتمعات البشرية الجديدة ، فأخذ شكل تلك الادارات بالوضوح في نهاية الالف الرابع و مطلع الالف الثالث ق.م حيث تحولت التجمعات القروية القديمة الى دويلات صغيرة ، لكل منها حدودها وإدارتها الخاصة بها ومعبودها القومي وجيشها الحامي واقتصادها الخاص ، و كان للظروف الطبيعة القاسية التي عاشتها تلك المدن مثل أخطار الفيضانات المتكررة أو شحة الامطار وأتشار الاوبئة وأيضاً تعرضها الى الغزوات الخارجية ، وغيرها من الاسباب قد أوجبت قيام تلك الادارات لتجمع الجهود وتنسيقها وتوجيهها من أجل خدمة الجماعة ومجابهة تلك الظروف الطارئة فنشأت بذلك أولى الحكومات المعروفة آنذاك.
كان المعبد هو الموجه لدفة الحياة في تلك المدن في بداية تكوينها والمُخطط والمُنظم الاقتصادي لها حيث كان يشرف على تنظيم الزراعة وخطط الارواء وتنظيم التجارة والاشراف على المهن والحرف اليدوية في المشاغل وايضاً حل المشاكل والنزاعات التي قد تنشأ بين أبناء المدينة . لذلك كان الكاهن الأعلى والمسمى بالسومرية (أين) أي (السيد) هو الشخصية الأولى في تلك الحكومة الدينية ، علماً أن هذه الكلمة لازالت متداولة حتى وقتنا الحاضر (عين من الأعيان) ، وكان يجمع بين سلطتين ، السلطة الدينية باعتباره الكاهن الأعلى حيث يمارس دوره الكهنوتي في أجراء الطقوس الدينية الدورية داخل المعبد و خلال الأعياد والمناسبات الرسمية ، وبنفس الوقت يترأس سلطة أدارة مجريات الحياة داخل حدود مدينته وتنظيم حياة سكانها .... ولايُعرف فيما إذا كان ذلك الكاهن يتولى منصبه عن طريق الوراثة أم عن طريق الأنتخاب من قِبل بقية الكهنة او لتميزهُ عنهم بفارق العمر أو تدرجهُ الديني.
مع تطور الحياة و تعدد مسؤوليات الكاهن الاعلى الدنيوية و تشعبها صار من الصعب عليه الالتزام بواجباتهِ ، فحدث في حدود 2800 ق.م نوع من الانفصال بين سلطتيه الدينية و السياسية الادارية فاخذ كهنة آخرون يحلون محله للقيام بمهامه الدينية ليتفرغ هو بشكل أكبر لمهمة أدارة المدينة و رعاية شؤون سكانها ، لكنه ظل يحتفظ بصفتهِ الكهنوتية العليا في الاحتفالات الدينية خاصةً أعياد راُس السنة ، و سُميت هذه الشخصية الجديدة بالسومرية (أينسي) أي (الامير) .... أضافة الى سلطة المعبد الدينية والامير الحاكم وجد خلال تلك الفترة نوع من النظام الديموقراطي البدائي ، يتمثل بسلطة برلمانية تعتبر الأولى من نوعها في التاريخ ، فكانت كل مدينة تدار من قبل مجلسين الاول يضم الشيوخ وكبار السن (الحكماء) والثاني يضم الرجال القادرين على حمل السلاح (الشباب) .. اي أنهما يمثلان اهم عنصرين في المجتمع (الخبرة و القوة) . كان المجلسان يناقشان جميع القضايا العامة التي تخص المدينة ويتخذان القرارات المناسبة بشأنها بالأخص قرارات الحرب ، ثم يعطون توجيهاتهم الى الامير ليقوم بتنفيذها ..... وهناك عدة نصوص مسمارية توضح او تعطي اشارات عن عمل هذين المجلسين ، لعل أهمها النص المسمى (قصة كًلكًامش و حاكم أكًا) الذي يتطرق لواقعة تدور احداثها في مدينة الوركاء تتمحور تفاصيلها بأعلان حالة حرب مع مدينة (أكًا) ، و يصور النقاشات الحادة بين المجلسين لاًتخاذ قرار الحرب أم السلم ، الذي أنتهى في النهاية لصالح مجلس الشباب الذي كان يريد الحرب ، و بالفعل أعلنت وأعطيت الاوامر الى الامير (كًلكًامش) ليقود الجيش ضد المدينة المعادية ... لكن بنفس الوقت لم توضح تلك النصوص كم كان عدد أعضاء تلك المجالس أو طريقة اختيارهم لعضويتها .. و يرجح انهم كانوا ممثلين عن الأسر و العوائل التي كان يتكون منها مجتمع المدينة ، على اعتبار أن المدن في بدايات نشأتها لازلت تعتمد النظام العائلي القبلي الموروث عن الكيان القروي السابق في هيكل بنائها الاجتماعي.
وفي حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية مثل نشوب الحروب كما في المثال السابق أو الكوارث الطبيعية كان المجلسان يمنحان الامير صلاحيات أستثنائية مطلقة لحكم المدينة دون الرجوع اليهما لأخذ موافقتيهما ، لتمكينهِ من اتخاذ القرارات السريعة المناسبة خلال تلك الظروف على ان ُتسترجع هذه الصلاحيات بعد زوال مبررات منحها ليرجع الامير الي وضعهِ السابق بسلطته المُقيدة ... و قد سميت الشخصية الجديدة صاحبة السلطة الاستثنائية بالسومرية (لوكًال) و تعني الرجل العظيم أي الملك و بالأكدية (شار) ، وكانت هذه بداية ظهور الملكية بمعناها المعروف في وادي الرافدين وذلك في حدود 2600 ق.م . ثم حدث ان الملوك بمرور الزمن واستمرار حالات الطوارئ لفترات طويلة تعاظمت قوتهم العسكرية والسياسية لذلك اخذ الملك يحتفظ لنفسهِ بالصلاحيات الممنوحة له حتى بعد زوال ظروفها بل قام تدريجياً بتقليص نفوذ المجلسين ليجعلهما تابعين له مؤيدين لقراراته و طبيعة حكمه الجديد جاعلاً من وجودهما شكلياً .. هكذا تم تحول النظام السياسي من الديموقراطية الى الملكية التسلطية ، وقد ظلت بقايا ذلك النظام الديموقراطي حتى بعد سيادة الملكية متمثلة بمجالس المدن التي كانت تختص بالنظر في القضايا العامة التي يحيلها اليها الملك و غالباً ما تكون قضائية والتي استمرت الى آخر عهود وادي الرافدين.
كان لأستقرار الاوضاع السياسية فرصة لبعض الملوك المتعاظمة قوتهم أن يبسطوا نفذهم على بقية دويلات المدن الاخرى و توسيع رقعة سيطرتهم على الاراضي الزراعية و مصادر المياه ثم احتلال المزيد من الأقاليم لتأمين طرق المواصلات المؤدية الى مناطق المواد الخام في البلاد البعيدة لسد الاحتياجات المتنامية للدولة الجديدة وتقويتها اقتصادياً ، ليتم فيما بعد توحيد تلك الدويلات و الأقاليم في مملكة واحدة ذات سلطة مركزية موحدة امتدت سلطتها الى خارج حدود وادي الرافدين . كان (لوكال زاكيزي) ملك مدينة (اوما) 2380 ق.م اول من بدأ بهذا المخطط تلاه (سرجون الأكدي) 2371 ق.م ، الذي اسس أول امبراطورية في التاريخ تمتد من الخليج العربي (البحر السفلي) و حتى البحر المتوسط (البحر العلوي) ، ليتحول وخلفاؤهُ الى اباطرة يحكمون منطقة واسعة من الشرق الادنى القديم ، و قد رافق هذا التوسع السياسي ظهور مسميات و القاب جديدة تقلدها هؤلاء الملوك تبين مدى سطوتهم و عظم الرقعة الجغرافية التي غدت تحت نفوذهم مثل (ملك سومر و أكد) ، (ملك الجهات الاربعة) ، (ملك كل الملوك) . ليستمر بعدها هاجس التوسع الامبراطوري لدى جميع السلالات التي تعاقبت على حكم وادي الرافدين المتمثلة في (اور الثالثة) ، (حمورابي) ، (الآشورية) ، (الكلدية) . حتى انقلبت الاوضاع كلياً بسقوط بابل سنة 539 ق.م ليصبح وادي الرافدين جزء من املاك الامبراطورية الفارسية الأخمينية.
لقد أضاف الملوك وهم يتحولون الى السلطة المطلقة لذواتهم صفة القدسية ، معتمدين بذلك على الخلفية الدينية لمنصبهم (الكاهن الاعلى) . و تشير النصوص المسمارية الى ان الالهة ما خلقت البشر الا لخدمتها والاشراف على املاكها في الارض فتختار احدهم (الملك) ليكون ممثلاً لها ونائباً عنها في قيادة الناس ، فتسلمه شارات الملوكية من السماء دلالةً على ان الملك معين من قبل الالهة وله حقاً الاهياً لا يجوز لاحد المساس به سوى الالهة نفسها وبالتالي فان جميع الاوامر و التشريعات التي يصدرها انما تتم بوحي من الالهة لذا فهي واجبة التنفيذ .... وقد ساعد هذا الاعتقاد على بقاء الملوك في حكمهم فترات زمنية طويلة.
وبالرغم من هالة القدسية والتعظيم التي اضفتها المعتقدات العراقية القديمة على شخص الملك فأن ملوك وادي الرافدين لم يصلوا الى درجة التأليه كما هو الحال عند فراعنة وادي النيل ، حيث ان الملك بقى من البشر يحيى حياةً بشرية غير مخلدة ويمارس طقوسه الدينية كأنسان عادي ، كما تذكر النصوص الملكية الاعمال الدينية التي يقوم بها الملك ليكسب رضا الآلهة ، كذلك تصورهم المنحوتات والمسلات و هم يحملون على رؤوسهم سلة البناء دلالةً على مشاركتهم في بناء المعابد و المباني الدينية ، أو يظهرون في اخرى واقفين بهيئة الخشوع امام الالهة يقدمون لها القرابين . وللتاُكيد ايضاً على هذا الخضوع فقد كانت احدى مراسيم عيد راُس السنة المسمى (أكيتو) ان يقف الملك امام تمثال الاله القومي خالعاً جميع شاراته الملكية ليضعها امامه متعهداً له بالولاء و تنفيذ جميع رغباته ، عندها تعاد له الشارات مجدداً فيجدد عرشه سنة أخرى جديدة .... بأستثناء حالتين فقط ظهرت اشارات غير واضحة أو مؤكدة أختلف الباحثون في تفسيرها لأدعاء الملوك الالوهية أو هكذا يُعتقد ، الاولى كانت مع (نرام سن) الملك الرابع في السلالة الاكدية 2370_2211 ق.م الذي ظهر في مسلتهِ المعروفة باسم (مسلة النصر) ومنحوتات اخرى مرتدياً الخوذة المقرنة التي أقتصر أعتمارها على الآلهة دون غيرهم ، كما ان اسمه كان يكتب في النصوص الملكية مسبوقاً بعلامة النجمة التي توضع عادةً قبل أسماء الآلهة للدلالة عليها .. اما الحالة الثانية فكانت مع (شولكًي) الملك السومري الثاني في سلالة اور الثالثة 2113_2006 ق.م حيث ظهر أسمه في الكتابات ايضاً مسبوقاً بعلامة النجمة .. لكن يبقى هذين المثالين استثنائين و شاذين عن معتقدات وادي الرافدين و خطها الفلسفي العام.