طباعة هذه الصفحة
الإثنين, 25 آب/أغسطس 2014

عقدة الوطن

  حامد خيري الحيدر
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

قبل سنين بعيدة مضت كنت قد قرأت للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش كتاباً عنوانه (شيء عن الوطن) ، كان عبارة عن مجموعة مقالات كتبها الراحل بعد عام 1967 ، مضمونها كما يستدل من العنوان أحاديث احتضنتها الشجون ، عكست بكلمات بسيطة و قمة في التعبير ، لوعة الشاعر بمعاناة وطنه السليب ومحنة شعبه المقهور نتيجة الاحتلال البغيض ، بما فرضه من اغتراب و تهجير قسري ، أكثر ما يشد القارئ لها هو ذلك التمسك الأسطوري من قبل الشاعر بوطنه رغم ما أصابه من جراح أوصلته لحافة الفناء .... و بعد مرور كل تلك السنوات الطوال ، اخذت ذاكرتي المتعبة بفعل صقيع الغربة اللعين ، تستعيد رغماً عنها و تمسكاً بشيء من بقايا الماضي العديد من العبارات التي وردت في ذلك الكتاب ، حيث أخذت عقب كل تلك السنوات القاحلات الطوال من الغربة الخانقة أشعر بنفس ما كان قد أحس به الشاعر و ما عاناه من آلام خلال تلك الحقبة الصعبة ، بعد أن افترست وحشة غربتنا ربيع شبابنا و أجمل ايام عمرنا ، ناخرة أرضتها عظامنا شيئاً فشيئاً ، لنقضي ما تبقى لنا من ايام مبهمة في دوامة هذه الحياة محاصرين ، مقيدين ، بين أسوار تناقضاتها و تناقضاتنا على السواء ، بعين نرنو الى همومنا و ثقل أوزارها على اجسادنا المتهالكة في واقعنا الثقيل الذي فرض علينا ، و بالأخرى نحو مأساة وطننا و ما آل اليه حاله الكارثي الدامي المُبكي ، ليُمحى من ذاكرتنا أدنى أمل بنهاية محنته الأزلية و عودته الى سابق عهوده الماضية الزاهية ، كي يتسنى لنا و لو بعد حين التقهقر مُترنحين اليه .... هنا أتساءل باستغراب أو تعجب عن ماهية تلك العقدة المحيرة ؟ أعني بها عقدة التشبث بذلك الوطن الذي فاحت منه رائحة الموت و تملكته أشباح الهلاك ، لينثرنا عنه كما يُنثر الغبار عن تحفة قديمة مات أصحابها ، أو عن قطعة أثاث عتيقة بالية فقدت رونقها بفعل صخب الحداثة المُزيف ، سالباً منا كل شيء حتى انسانيتنا و كرامتنا ، بل و حتى شعورنا بأننا أحدى المخلوقات الحية الهائمة بغرائزها على سطح هذا الكوكب الدوار ... و عزوفنا بذات الوقت عن مراح غربتنا الفسيحة التي أصبحت كذبة ثقيلة سمجة ، ابتدعناها و لم يصدق زيفها أحد سوانا ، بعد أن أثبتت مسيرة الايام و تجاربها العقيمة بعدم وجود ما يربطنا بأرضها سوى الحذاء ، كما قال الاديب السوري الراحل (محمد الماغوط) ، رغم تطورها المجنون و بهرجة الوانها الساطعة المُبهرة ... هنا أقف عند عبارة واحدة ل(درويش) في كتابه قد تتضمن شيئاً من الاجابة و الايضاح عن سؤالنا المحيّر .. (نحن لم نختر هذا الوطن بل هو الذي اختارنا) .... يا له من اختيار!!! يا ترى هل كان هذا الوطن نعمة وهبت لنا لصفاء قلوبنا ، أم نقمة أنزلها القدرعلينا ليكشف ما بداخلنا من شرور ، فهل كنا نزلاء في ملجأ للأيتام ليتبنانا ذلك الوطن مُنعماً و مُتكرماً علينا بأبوته علينا ، مانحاً ايانا أسمه النبيل منّة كحال اللقطاء الباحثين عن نسب يستدل به حتى لو كان وضيع ، أم تراه قد أشترانا من سوق للنخاسة لنكون عبيداً له ما امتدت أعمارنا و طالت على مساحة الدهر .. و أياً كان ذلك الاختيار ، فأننا بالتأكيد قد دفعنا ثمنه دماً و دمعاً و غصةً في القلوب ، بعد أن سبقنا بذلك أسلافنا ، ثم ليبقى سُبة و لعنة للاحقين من بعدنا ... فيا ترى هل سينهض وطننا يوماً من رماده لنكون فخورين بعبوديته ؟ أم ترانا سنظل نجتر ذكرياتنا و حسراتنا على ماضٍ ولى و أنقضى ، هي كل ما تبقى لنا من ذلك الوطن المتهاوي المنشود.

الدخول للتعليق