• Default
  • Title
  • Date
الإثنين, 05 تشرين1/أكتوير 2015

الوجع العراقي

  موسى الخميسي
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

الانسان ينغمس في الحنين الى وطنه ،كلما ابتعد عنه، يصبح أكثر التصاقا به. وانا اعتبر نفسي نسيج وطني انساني وثقافي ممتدّ في شتات الغربة ، منذ اربعين عاما. يحضر العراق في أعمالي وحياتي اليومية كافة، الموزعة بين الرسم والكتابة والعلاقات . الواقع العراقي كان وما زال كارثياً، وهذه المفردة وغيرها من جاراتها قد لا تكفي ولا تفي الواقع المرير حقه. لا أعتقد أن النظرة التي حملتها كتاباتي ورسومي كانت تشاؤمية بمقدار ما كانت واقعية وصريحة. فالذي يحاول سرد كابوس ما، أو بعض تفاصيله، لا يكون متشائما، خصوصا إذا كان عمر الكابوس يقاس بالسنوات لا بالساعات. وقد تكون التطورات الأخيرة التي يعيشها بلدي، هي الأبشع والأعنف ، لكن بذورها أو ربما جذورها مغروسة في الماضي القريب. الكابوس يتمدد، إلا أنه موجود منذ سنوات. أما عن استيعاب كل هذا، فهذا هو التحدي الأزلي أمام المبدع . ليس سهلاً بالطبع ولكنه ممكن، في كل زمن وبعد كل كارثة. كل ما انجزه يظل على الدوام مغمسا برائحة العراق وهمومه ، فالغربة تزيد إحساس الانسان بوطنه . اشعر بالحزن العميق لما يحدث للعراقيين، مهما كان تصنيفهم وانتماءاتهم . "داعش" هجّر المسيحيين والإيزيديين والشبك وذبح مئات العراقيين الشيعة، وأعدم عراقيين سنّة رفضوا تنفيذ أوامره في الموصل. إنه يفتك بالجميع . ربما اللوحة التي ارسمها قادرة ان تكون نافذة ، كانت موصدة ولم استطع فتحها، لاطلّ منها إلى غرفة من غرف البيت العراقي الكبير. في الغربة الطويلة التي اعيش تفاصيلها، تعلمت الاصغاء إلى جدل السرديات المتناقضة والذاكرات المتخاصمة، ولا زلت للان اتهيب من الكتابة عن موضوع الطائفية الشائك، والتي أصبح حقيقة واقعة، لكنها تختفي في عدد كبير من النصوص الأدبية والاعمال الفنية ، التي انجزها عدد كبير من اصدقائي ومعارفي من الفنانين والادباء .
في البداية كانت كل حروفي والواني تبحث عن البيت والعلاقة بالمكان من خلال شخصيات، الرجل المرأة ، ثم تطورت القضية إلى ما هو أكثر بعد الهجرات الجماعية لابناء قومي الى خارج العراق ،كنت قد قررت قبلها ان لا أكتب عن شخصيات وأجواء مندائية، لكي لا يتم الربط مباشرة، ببساطة وكسل، بين ما اكتبه وارسمه وبين ديانة عائلتي الواضحة من الاسم، كما يفعل عدد كبير من العراقيين، للأسف. أذكر هذا لأوضح أن على الفنان ان لا يحصر نفسه في خانة ما. أن الحياة تستمر على رغم كل الصعوبات وسط هذه المعاناة العراقية التي يمكن أن تستدل على كوّة أمل؟ الحياة تستمر. صانعو الأمل هم العراقيون الذين يواصلون الحياة ويصنعونها كل يوم في قلب الجحيم . هم النخيل الذي يحاول أن يحرس البستان ويديمه، أو ما سيتبقى منه. وهم أشجار رمان عنيدة لأنهم يورقون ويزهرون في قلب الموت.
كل لوحة ارسمها تصور نهاية مفجعة يعيشها مندائيو ومسيحيو وايزيديو العراق بين القتل والتشريد، علما أن أهل العراق يعانون جميعاً من تسلط القتلة والإرهابيين فيه. كيف يمكن تفسير هذه المفارقة الرهيبة ؟
قد ينطلق موقف كهذا من عدد من الافتراضات الإشكالية. فأن يرسم المرء لوحة فنية تتمحور حول جماعة بعينها لا ينفي معاناة جماعات أخرى، ولا يحتكر المعاناة لهذه الجماعة فحسب، لأن العمل الفني كالنص الادبي وليست موسوعة أو مسحاً شاملا لمجتمع ما. أرى إلى كل لوحة من لوحاتي ، وكل كلمة اكتبها، بمثابة حكاية عراقية، شخصياتها الرئيسية عراقية، فانا ارى الانتقال من كتابة الكلمة الى الفرشاة، ماهو الا انتقال من الادبي الى البصري دون ان يعني ذلك انفصالهما . بغداد كانت سجناً كبيرا يمكن التجوّل فيه بحرية، والآن صارت سجونا متلاصقة تحرسها الميليشيات. سجان يحضن سجانا، وبأسوار كونكريتية عالية. اعتقد أن هذه الحال باتت تنطبق على معظم الدول التي اشتعلت فيها ثورات الربيع العربي . لقد أثبتت التجربة العربية أن الديموقراطية لا تليق ببلادنا التي اجتاحتها العصابات المتشددة بعيد إقصاء الديكتاتوريات. الا انني في احيان كثيرة ،اشعر بان وضع العراق يختلف لأنه نتاج غزو واحتلال عسكريين أعقب ديكتاتورية كارثية وحروبا طاحنة وحصارا اقتصاديا مدمّرا. وتم تفكيك الدولة وبناء نظام جديد ودولة مهلهلة تأسست فيها الطائفية، ثم شهد البلد حربا أهلية دموية والآن هو مهدد بالتفتّت والتقسيم المذّل.
نحن نتحدث كثيراً عن الثورات وقلما نتحدث عن الثورات المضادة التي شنتها وتشنّها الأنظمة والقوى الرجعية لتحجيم المدّ الثوري وتغيير اتجاهه وتشتيت زخمه. اللحظة الآنية هي بنت الماضي وهكذا يجب أن نقرأها. الطغاة والنظم الاستبدادية وسياساتها هي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. الأنظمة الاستبدادية هي التي تغوّلت أمنيا واقتصاديا وخنقت المجتمع، وهي التي خاضت الحروب وفتحت الباب أمام التدخّل الأجنبي، ومزّقت النسيج الاجتماعي. فهل يكون الديكتاتور الذي كان يقتل مئات الآلاف من أبناء شعبه ويقصف مدنه أكثر "رأفة" من عصابات تقطع الرؤوس؟ هذه الأسئلة تعيد إنتاج خطاب يحاول ترسيخ فكرة بسيطة: على المواطن أن يسكت ويقبل بالنظم الاستبدادية والطغيان، فالثورات لا تقود إلا إلى الخراب. ترى من المستفيد من ترسيخ هذا الخطاب؟
يخيّل إليّ أن علاقة المهاجر بوطنه ليست خطيّة بكل تأكيد، أي أنه لا يبتعد عنه بمرور الزمن، بل العكس. ولكن كيف ؟. فكّرت بالنجوم والكواكب ومداراتها. فقد قرأت أخيراً عن اكتشاف كواكب هائمة، لكنها أحيانا تدخل في مدار حول نجم ما وتستقر في حركتها. ربما يبدو بعض المهاجرين في مدار الوطن (مهما كان تعريفه ومهما كان متخيلا) وكأنهم يبتعدون بينما هم، في الحقيقة يقتربون. أجدني أقترب أكثر من نفسي ومن ذاكرتي العراقية كلما مر الزمن. لكنّ الأمر يعتمد، في النهاية، على تكوين الإنسان المعرفي ورغباته وهمومه. فهناك من ينقطع ويبتعد أو يجبر عليهما. أنا أتابع أخبار العراق في شكل يومي وأنا جزء من نسيجه الثقافي والإنساني الممتدّ الآن في الشتات، فليس غريبا أن أظل ارسم و أكتب عنه.
ثنائية الداخل والخارج تصبح في كثير من الأحيان تبسيطيّة واختزالية، وتستغل في اصطفافات معينة ذات أبعاد أو أهداف سياسية. لا شك في أن الظروف الحياتية التي يعيشها زملاؤنا في الداخل كارثية بكل المقاييس. إنها ظروف يصبح الإبداع بذاته فيها انتصارا. ولا شك في أن الوجود في الخارج والداخل، ولفترة طويلة يفرض، بمرور الزمن، شروطا وخيارات معينة ومقاربات مختلفة. لكنّ تضاريس الفن العراقي متنوعة وخرائطه معقدة. وليس بالحنين وحده يحيا فنانو الخارج كما يتصور البعض.
لم تسرقني الكتابة ، قد تأسرني لمدة معينة ، قبل أن تعيدني إلى واحة الرسم. كتبت عددا من المقالات والنصوص الثقافية في السنوات الماضية، جمعت بعضها في كتاب اصدرته باسم ( تحت ظلال السنديان الايطالي/ مقالات في الثقافة والفنون الايطالية). لست مع المفاضلة بين الأجناس، لا أعرف ما اذا كان الرسم بالضرورة أكثر قدرة على التعبير. فهناك كتابات عن هموم الوطن يتبلور فيها تاريخ بأكمله ، لكن يبقى الرسم، واحد من الادوات التي تمثل خلاصة المعرفة البشرية.

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014