• Default
  • Title
  • Date
الجمعة, 28 تموز/يوليو 2023

الإعدادية المركزية\ بغداد – صرح علمي عريق

  تحســين الناشئ
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)


من مذكرات طالب سابق

هذه المقالة هي تسجيل لمذكرات شخصية عن مشاهدة ومعايشة ذاتية للمكان والوقائع على مدى ثلاث سنوات.

من المؤسسات التعليمية المميزة في بغداد يبرز اِسم الإعدادية المركزية للبنين كواحدة من أعرق المدارس الثانوية ذات التخصص العلمي وأحد أهم روافد المسيرة التعليمية في العراق. وتعود أهميتها ومكانتها المرموقة الى تأريخها وكفاءة كادرها التدريسي ونوعية الطلبة الدارسين والنتائج العامة السنوية- نسبة النجاح- ، إضافة الى سجلها الحافل بتخريج أسماء بارزة في تأريخ العراق المعاصر. المبنى الحالي للمدرسة يقع في قلب بغداد، وهو بناء متين يعود تأريخ انشائه الى العام 1881 عهد الوالي عبد الرحمن باشا أحد الولاة العثمانيين، وهو البناء ذاته الذي اتخذ منه الأنجليز مقرا لحاكمهم العسكري البريطاني عند دخولهم بغداد عام 1917. هذه البناية تم تخُصيصها للأعدادية المركزية عام 1922 أي بعد تأسيسها بأربع سنوات، اِذ كان تأسيسها في العام 1918. وكان اسمها القديم المنقوش بخط جميل على واجهتها هو (المدرسة الثانوية) ثم اِستُبدل الى (الإعدادية المركزية) في العام 1938 بعد تحول نظامها الدراسي الى الأعدادي فقط بعد ان كانت مدرسة ثانوية، أي جامعة للمرحلتين المتوسطة والإعدادية. ولعل تسميتها (المركزية) يعود الى وقوعها في مركز بغداد. ويعتبر تأسيس هذه الأعدادية هو البداية الحقيقية لتأريخ التعليم الثانوي في العراق.

المدرسة تُخرّج نخبة من أعلام العراق

تخرج من الإعداية المركزية خلال العقود الماضية نخبة كبيرة من قادة المجتمع العراقي، منهم رجال علم وأدب وفن وسياسة... على سبيل المثال، تخرج منها الزعيم عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف، ناجي شوكت، محمـد احمد حسن البكر، عبد الرحمن البزاز، احمد مختار بابان، ناظم الطبقجلي، ناجي طالب، علي الوردي، طه باقر، عبد الجبار عبد اللـه، كمال السامرائي، حسين علي محفوظ، عبد الوهاب البياتي، جواد سليم، حافظ الدروبي، وغيرهم الكثير. زارها عبد السلام عارف عام 1965 وزارها احمد حسن البكر أوائل السبعينات. ولازالت المدرسة قائمة تؤدي دورها العلمي التربوي في تخريج طلبة أكفاء مؤهلين للمرحلة الجامعية. الدراسة في هذه الإعدادية كانت تشمل الأقسام الأدبية والعلمية، غير انها تحولت مطلع السبعينات الى التخصصات العلمية فقط. اما القبول فيها فكان مقتصرا على طلاب المتوسطة الغربية المعروفة القريبة منها، ثم صارت تقبل أيضا المتفوقين من مدارس أخرى فيما بعد.

تجربتي الشخصية مع هذه الإعدادية بدأت عند نهاية السبعينات، حيث استهليت دراستي فيها في الرابع العام في صف كان يضم حوالي 50 طالبا ينتمون الى مختلف المناطق والقوميات والأديان والطبقات الأجتماعية، بعض الطلبة كانوا من عوائل تصنف ضمن الطبقة المتوسطة او الفقيرة، وآخرون من طبقات ميسورة او ثرية ومنهم أبناء سفراء عراقيين او أبناء مسؤولين. الطلبة البسطاء كانوا من سكنة المناطق القريبة الى المدرسة، وهي مناطق شعبية قديمة فقيرة غالبية قاطنيها من فئة الكسبة والعمال وصغار الموظفين. اما أبناء العوائل الميسورة فكانوا ينتمون في الغالب لمناطق بغداد الراقية كالجادرية واليرموك والمنصور والحارثية والكرادة وزيونة وشارع فلسطين، وغيرها.

موقع المدرسة وطرازها المعماري

لا يعتبر الموقع الجغرافي للإعدادية المركزية موقعا مناسبا أو مثاليا لمدرسة اعدادية بهذا المستوى، اِذ لا يتوفر فيه مايتوجب توفره من شروط لمواقع المؤسسات التعليمية المتقدمة، فالمدرسة تقع في شارع ضيق من الشوارع الخلفية لساحة المأمون (الميدان) من جانب نهر دجلة، والمكان بشكل عام يفتقر الى الهدوء مثلما يفتقر الى فضاء مفتوح يفترض ان تشغله ساحات وحدائق ومواقف سيارات. غير ان المدرسة محاطة بمبان مهمة، اِذ يجاورها من جهة الشمال المبنى القديم لوزارة الدفاع، ومن الجنوب لها جدار مشترك مع جامع السليمانية (أنشأه الوالي العثماني سليمان باشا وسمي باِسمه)، وعلى مسافة قصيرة يقع مبنى القشلة (السراي العثماني) التراثي الجميل، وفي الجانب الخلفي للمدرسة يقع مبنى بيت الحكمة القائم على ضفة نهر دجلة والذي تحول لفترة الى محكمة الشعب (محكمة المهداوي) اِبان حكم الزعيم عبد الكريم قاسم. هذا ويقع بالقرب من المدرسة أيضا جامعا الأحمدية والمرادية الشهيران. وتقابل المدرسة مجموعة من الأزقة القديمة الضيقة المتعرجة التي تؤدي نهاياتها الى شارع الرشيد.

ان هذا الموقع بما يتضمنه من مؤسسات رسمية ومبان تراثية هو مهم من الناحية التأريخية ويمنح المدرسة أهمية خاصة، لكنه غير مناسب كموقع لأي صرح تعليمي خصوصا بعد ازدياد عدد سكان بغداد وتوسع الأسواق المحيطة بالمدرسة وتنامي حركة الناس والعجلات وزيادة نسبة الضوضاء. من ناحية أخرى لم يكن للمدرسة ساحات وحدائق مثلما يُفترض ان يكون عليه الحال لمؤسسة تعليمية مهمة قائمة في قلب العاصمة سوى وانها تضم أعدادا كبيرة من الطلبة يتجاوز كثيرا ماتضمه الإعداديات الأخرى، فمبنى الأعدادية المركزية في شكله العام عبارة عن مجمع من البنايات المتراصفة بطابقين، يتوسطها ساحة صغيرة نسبيا في قلب المدرسة رصفت بطبقة من الخرسانة، تلك الساحة الصغيرة الجرداء كانت بالكاد تكفي لممارسة لعبة كرة السلة، مع ان ممارسة الرياضة في تلك الساحة كان يثير ضجيجا وصخبا مزعجا يلقي بظلاله السلبية على المكان وعلى الصفوف الدراسية المحيطة بها، ولا توجد في المدرسة كلها حديقة او زرع او شجر او شيء اخضر مطلقا.

في فترة دراستنا فيها نهاية السبعينات كانت الإعدادية المركزية تضم بين قاعاتها الدراسية مختبرات للكيمياء والفيزياء والأحياء، إضافة الى مكتبة عامرة غير ان اغلب كتبها قديم. وفي الجانب الخلفي للمدرسة يوجد (مسرح) هو عبارة عن قاعة واسعة المساحة، كان يسمى (مسرح مس بيل) نسبة الى السيدة (جرترود بيل) سكرتيرة المندوب السامي البريطاني في العراق ومستشارة الحاكم العسكري الذي كان مقره مبنى الإعدادية ذاتها قبل تحوله الى مدرسة. وبالنسبة لنا كطلبة لم ندخل هذا المسرح سوى مرة واحدة خلال السنوات الثلاث التي قضيتها في هذه الإعدادية. الشئ الملفت للنظر في هذه المدرسة ان ادارتها آنذاك كانت لا تهتم للمناسبات الوطنية ولا القومية، فلا أتذكر اننا احتفلنا بمناسبة معينة عدا واحدة كانت عام 1979 واقتصر الأحتفال يومها على استعراض رياضي بسيط، وبسبب صغر مساحة الساحة الرئيسية للمدرسة وكثرة أعداد الطلبة فأن نصفهم كانوا يشهدون العرض الرياضي من على الشرفات العليا (الأروقة) المحيطة بصفوف الطابق الثاني. وكانت هي المرة الوحيدة أيضا التي يحضر فيها مدير المدرسة فعالية معينة بوجود الطلبة، وكان حضورا بائسا، فلم يبدر منه اي تفاعل على الأطلاق، لا مع الفعاليات الرياضية ولا مع الطلبة.

وبسبب ضيق المساحات الداخلية للمدرسة، كان الطلبة يقضون فترات الأستراحة داخل صفوفهم او قرب الصفوف خصوصا في فصل الشتاء، او خارج أسوار المدرسة ان كانت بوابتها الحديدية الكبيرة والثقيلة مفتوحة، اما اذا كانت البوابة مغلقة فيتعذر على الطلبة الخروج لعدم وجود منافذ أخرى تؤدي الى الخارج، كما ان أية محاولة لتسلق جدران المدرسة هو أمر ينطوي على كثير من المخاطرة بسبب وجود قضبان حديدية متينة مدببة كأنها رماح زرعت في أعلى الجدران، والظاهر انها وُضعت للحيلولة دون تسلل غرباء (لصوص) الى المدرسة، ورغم ذلك كان بعض الطلبة يغامرون في مناسبات عديدة بتسلق تلك الجدران لغرض الخروج. وقد شهدت شخصيا في أحد الأيام حادثة حصلت لطالب حاول تسلق السياج الخلفي للمدرسة وكاد ينجح لولا تعلق ثيابه بالرؤوس المدببة في اللحظات الأخيرة فبقي معلقا في الهواء أعلى السياج مقلوبا رأسا على عقب وقد مزقت القضبان ثيابه وكادت تمزق جسده أيضا، وكان يصرخ فزعا، طالبا النجدة من زملائه الذين سارعوا لأنقاذه لعجزه عن تحرير نفسه، فأنزلوه بصعوبة وهم يتهكمون منه للموقف الذي وضع نفسه فيه. اما الطالب المغامر فبدا مصدوما تماما.

في الأعوام الدراسية التي شهدتها، كنا نستغل الدروس الشاغرة بالخروج من المدرسة الى ساحة الميدان الشهيرة القريبة، لغرض التجوال او لشراء الطعام والحلويات والمرطبات، فساحة الميدان التي هي المدخل الجنوبي لشارعي الرشيد والجمهورية كانت آنذاك زاخرة بالمحال التجارية والمطاعم وباعة التحف القديمة واكشاك المكتبات ومحال التسجيلات الصوتية والمقاهي البغدادية ومحلات العصائر والحلويات... الى غير ذلك، والتي يقع معظمها على محيط الساحة وعند مدخل شارع الرشيد. الى جانب ذلك كانت الساحة تزخر بعدد كبير من الباعة المتجولين الذين يحتشدون هناك بعرباتهم وبضاعتهم البسيطة قادمين من الأحياء المحيطة بالمنطقة. وساحة الميدان كما هو معروف، كانت محطة رئيسية لباصات مصلحة نقل الركاب (باصات الأمانة) المنطلقة الى جهتي الرصافة والكرخ والعائدة اليها، فكانت تعج ليل نهار بعشرات الحافلات الحمراء التي تصل الى معظم مناطق بغداد بأجرة زهيدة.

الدراسة والهيئة التدريسية

لابد عند الحديث عن الإعدادية المركزية من ذكر شيء عن الكادر التدريسي المتميز والكبير الذي كان يؤدي دوره التعليمي فيها، فبعض مدرسي هذه الإعدادية أصبحوا أعلاما على مستوى مدارس بغداد، يذكرهم بالأعجاب الطلبة والمدرسون والمشرفون التربويون، ويعتز بهم ويفتخر من حالفه الحظ فتتلمذ على أيديهم. لا يكفي ان يكون المدرس متمكنا في تخصصه، حاذقا في أدائه، متفننا في تلقين المعلومات بطريقة ذكية سلسة، انما لابد له ايضا من امتلاك أسلوب تربوي في التعامل مع الطلبة، وأهم مظاهر الأسلوب التربوي السليم تتجلى من خلال الأهتمام والرعاية والتعامل مع الطلبة باِسلوب أبوي وتجنب الأساءة لهم. ولاشك ان التربوي الناجح يجتهد دوما وقدر الإمكان في خلق أجواء مناسبة لزرع روح المثابرة والتفوق والتفاؤل في نفوس طلبته ومتابعة مشاكلهم ومعرفة ما يعوق حياتهم الدراسية، فليست مهمة المعلم التعليم فقط، وعلى هذا الأساس اُطلق على المعلم اسم (المربي) لأنه يضطلع بمهمة تربية الأجيال.

في الإعدادية المركزية، موضوع حديثنا، امتلك بعض من كادرها التدريسي تلك المزايا والصفات، فكان من هو من هذا القبيل، محبوبا من طلبته، غير ان بعضهم الآخر لشديد الأسف لم يكن له ادنى مؤهل تربوي، فتراه قاسيا في أسلوبه، متعاليا في تعامله، لا يساعد ولا يسامح، ومدرس بهذه الصفات يكون كمن يضع حواجزا وجدرانا متينة بينه وبين الطلبة ينعدم أزاؤها التواصل السليم بين الطرفين، ومن الطبيعي في ظل أجواء كهذه ان تُخلق مشكلة نفسية كبيرة لدى الطالب الذي يبدأ لا شعوريا برفض تلك المـادة (الدرس) ويصبح كلاهما (المدرس والدرس) بمثابة كابوس على الطالب، الأمر الذي يؤدي بالنتيجة الى تراجعه او فشله.

وهنالك مسألة مهمة لابد من الأشارة اليها طالما كان حديثنا عن التعليم، وهي مسألة لا يلتفت اليها معظم المعنيين في هذا الأمر، تتمثل في الخطأ السائد في مدارسنا وهو اهتمام المدرسين والأداريين بالمتفوقين فقط واِهمالهم المتأخرين دراسيا، في حين ينبغي ان تكون المتابعة والأهتمام الحقيقي بالمتأخرين لمعرفة ظروفهم والمشاكل التي تعوق تقدمهم وأسباب تخلفهم الدراسي، مثلما يحصل من المتابعة في بلاد الغرب، فبتلك المتابعة والأهتمام والوقوف على أسباب التراجع يمكن انقاذ كثير من الطلبة من مستقبل أسود أو مجهول.

خلال تلك الفترة، نهاية السبعينات، كان للاعدادية المركزية كادر تدريسي كبير يضم نخبة من ذوي الكفاءة والخبرة في تخصصاتهم ولأغلبهم خدمة طويلة في هذه المدرسة، وكانوا يتشكلون على غرار الطلبة، من مختلف القوميات والأديان والطوائف، فيهم المسلم والمسيحي والصابئي، وفيهم العربي والكردي والتركماني، الى غير ذلك مما يتشكل به مجتمعنا العراقي. أما مدير هذه الإعدادية في أول دخولي لها فكان مديرا شديدا منعزلا ذا أسلوب متعال متزمت، أبوابه مغلقه دوما، لا يلتقي الطلبة مطلقا ولا يشارك في أية مناسبة، فلم نكن نحبه أبدا. وقد علمت فيما بعد ان ذلك المدير كان في الأصل عسكريا –ضابطا- ثم اُقصي من مهنته تلك لأسباب سياسية واُحيل لوظيفة مدنية، فأصبح بقدرة قادر مديرا لهذه الأعدادية العريقة.

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014