• Default
  • Title
  • Date
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013

من الذاكــرة أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن

  فائز الحيدر
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

الحلقة الأولـى

 

هذه فصول من ذكريات لا تنتهي ، كتبت بعد سنوات طويلة من الحدث ، وهي تحمل ذكريات ، ويوميات فيها دفئ التجربة ونبض الحياة ، وحماس وتداعيات تلك الأيام ، وصورا" عن أولئك الأبطال الذين تقدموا في العطاء الأنساني والجود بأقصى غاية الجود . وهذه الذكريات لأبطال حقيقيون عايشوا الصعوبات بساعاتها وأيامها وسنينها ، اولئك الذين حلموا بشمس عراقية في أرض الرافدين ، لا في المهاجر والمنافي البعيدة ، ان تجربة الكفاح المسلح في العراق غنية بالدروس والعبر ، وتتطلب الدراسة والتوثيق وما كتب عنها ليس بكاف ، وعبر المراحل التأريخية التي مرت بها.

ان الكتابة عن هذه التجربة ليس عملا" يسيرا" ، اذ لابد من المسؤولية والموضوعية ، والحكم التأريخي ، حيث سقت دماء الشهداء اديم ارض الوطن ، وتحت التراب أو في المهاجر البعيدة عن الجذر والمشتهى . لقد استشهد عدد من أبطال هذه الذكريات ، عسى ان تذكر هذه الذكريات لهم شيئا" من الجهد والتضحية والعرق والحلم والأمل الذي دفعهم الى السير في تلك الطرق وفي تلك الأحداث. وفي هذه اليوميات ، وللشهداء جميعا" نهدي هذه الذكريات .

في أواسط تشرين الأول / 1982 غادرنا عدن متوجهين الى دمشق ومنها بعد عدة أيام الى مدينة القامشلي الواقعة في الشمال الشرقي لسوريا .استمر بقائنا في هذه المدينة عدة أشهر أنتظارا" لوقت العبور المناسب تجمع شباب من مختلف الأعمار ، المهن ، والأحلام جاءوا من عدة بلدان من العالم، وألتقوا هنا في هذه المدينة . كل يحمل معه حقيبة سفر صغيرة تظم ملابس شتوية وأحذية رياضية تناسب الطرق الجبلية وادوات حلاقة وراديو صغير أحيانا" وصورا" شخصية للأهل والأحبة وهناك من يحمل بعض الأدوية وعلبة خياطة سفرية ، أضافة الى ما يحمله كل واحد من الهموم والأشجان . البعض منا دخل دورات تدريب عسكرية في جمهورية اليمن الديمقراطية أو في المخيمات الفلسطينية في لبنان والبعض الأخر قطع دراسته في اوربا أو ترك عمله أو عائلته ولا يعرف كيفية مسك البندقية ومبادئ القتال الأولية . لهولاء جرت تدريبات بسيطة  لبضعة أيام بضواحي مدينة القامشلي استعدادا" للسفر .

طالت فترة أنتظارنا أكثر من المتوقع بسبب تراكم الثلوج على قمم الجبال وحشود القوات العراقية والجحوش على طرق عبور الأنصار والظروف الأمنية على الحدود السورية التركية واحداث بشت آشان الدموية ، الجميع يعيش في بيت واحد بسيط مكون من عدة غرف وتتوفر فيه الخدمات اليومية ، لا يسمح لأي شخص  بالخروج والأختلاط مع آخرين الا بموافقة خاصة ، تسليتنا الوحيدة في هذا الدار الواقع على أطراف المدينة لا تتعدى عن اداء الخدمات اليومية ومتابعة المسلسلات العربية في التلفزيون العربي السوري ولعب الورق وقراءة الصحف على قلتها ، انصار يغادرون وآخرين قادمون من ارض الوطن يتحدثون لنا عن تجربتهم وبطولاتهم .

 

في بداية شهر آب / 1983 وقبل بضعة ايام من السفر وزعت الأسلحة على مجموعتنا ، علمنا عندئذ ان موعد تحركنا نحو الوطن قد أصبح قريب مما زاد من فرحنا ، الكل مشغول بالتهيئة  للرحلة الطويلة ، أختيار الملابس الكردية المناسبة ، تفكيك السلاح وتنظيفه بالزيت وملء مخازن العتاد ، ربط النطاق والعتاد على خصر النصير ، كيفية لبس البشتين على البطن .... الخ . ثم أخذنا نحسب الساعات بأتجاه ساعة الصفر لبدء الرحلة  .

 

في يوم الثاني عشر من شهر / آب / 1983 وفي ليلة حالكة الظلام ذات رؤية لا تتجاوزعدة امتار وبغياب القمر وهو الوقت الملائم لعبور الأنصار بأتجاه قرية المالكية السورية الحدودية مع تركيا متجهين نحو الوطن يرافقنا الدليل التركي المعروف من قبل الأنصارالشهيد ( صوفي ) (2)  وأحد رفاقه الأتراك . تحركت مفرزتنا المكونة من الأنصار خيري ، عايد ، ياسين ، أبو مازن ، ابو هلال ، كفاح ، ابو سوزان والنصيرة الوحيدة أم سوزان ورفيق آخر لا اتذكر اسمه .

توجيهات مشددة وتعليمات كثيرة ، المسيرة شاقة جدا" ، الطريق يستغرق على الأقل أسبوعين سيرا" على الأقدام وسط طرق جبلية وعرة ، لا يسمح بحمل أكثر من  كيلوغرامين من معلبات السمك واللحوم ورغيفين من الخبز والحاجات الشخصية البسيطة في حقيبة الظهر المصنوعة من القماش أضافة الى السلاح الشخصي المكون من بندقية كلاشنكوف وخمسة مخازن عتاد وقنبلتين يدوية وترك كل شئ غير مهم. كانت التوجيهات تشدد علينا السير بنسق واحد وخطوات مدروسة ، نزع الساعات اليدوية والخواتم الذهبية ، رفع بطاريات الراديو أن وجدت ، عدم التحدث مع أي نصير إلا في الحالات القصوى ، عدم التدخين ، وكل نصير يتبع النصير امامه ويعتبره دليلا" له ، اتباع تعليمات الدليل صوفي بحزم .

طريق مسير الأنصار بأتجاه الوطن يمر داخل الأراضي التركية وبين أبراج المراقبة الحدودية التركية والموزعة على طول الشريط الحدودي والتي لا يبعد أحدها عن الآخر سوى 200 متر في الغالب ، وهي أخطر مناطق العبور التي تواجه الأنصار ، وأتذكر هنا أن وفدا" صحفيا" من أحدى الصحف اليسارية الفرنسية جاء الى القامشلي يود التوجه الى العراق ،وقد حمل افراد الوفد على ظهورهم أجهزة تصوير ومعدات صحفية كبيرة لتغطية نشاط حركة الأنصار في الوطن ، دعيت من قبل الرفيق ابو محمود لتناول طعام العشاء معهم والاطلاع على طريقة عبور الحدود الخطرة وعند سماعهم الحديث بأن عملية عبور الحدود سيتم من بين ابراج المراقبة التركية علموا بخطورة الأمر  فتخلوا عن المهمة التي جاءوا من اجلها .

بدأت حركتنا من قرية المالكية بنسق جيد دون حدوث أي طارئ وألتزم الجميع بالتعليمات ، وفي الخطوات الأولى لتحركنا أنهال علينا الرصاص فجأة من ابراج المراقبة على خط سير المفرزة ، الرصاص يئز فوق الرؤوس كأنه معزوفة خرافية شيطانية وبعدها سلطت الأضواء الكاشفة ، أتخذ الجميع موضع الأنبطاح أرضا"وسط الأدغال ، وألتزم الجميع الهدوء التام وسط الرصاص الذي يمر فوق رؤوسنا وعلى بعد أقدام منا ، في تلك اللحظات تذكرت باني قرأت مرة رواية تقول "ان الرجل الحقيقي لا يخاف الطلقة التي يسمع صوتها حتى تصيبه" . واصلنا الهدوء والزحف على الأرض الرصاص الكثيف لا زال مستمر من ابراج المراقبة ، أنتظرنا عدة دقائق ونحن على هذا الحال ، لم تصل أي تعزيزات عسكرية ، ومن تجربة الأنصار في العبور لا يبدوا أننا وقعنا في كمين لرجال الحدود الأتراك حيث عادة ما يقوم الجندرمة الأتراك بأطلاق النار على أي مصدر لصوت يسمع وبشكل عشوائي لأنعدام الرؤية بسبب الظلام وتأدية للواجب العسكري المكلفين به دون ان يكون هناك هدف معين أو تحديد لمكان عبور مفارز الأنصار التي عادة ما تعبر الحدود في فترة غياب القمر وأشتداد الظلام ، وسبق وان أستشهد العديد من الأنصار وجرح آخرين بعد وقوعهم في كمائن لرجال الحدود الأتراك عند محاولاتهم دخول الأراضي التركية، كما ان  مفارز أخرى عادت الى داخل الأراضي السورية مع عدد من الجرحى لنفس السبب .

أصاب الجميع الأرتباك ولا نعرف ماهي الخطوة التالية  فهي التجربة الأولى للمفرزة  !! ننتظر التعليمات من الدليل صوفي .....بعد دقائق خفت حدة النيران ، الدليل التركي صوفي يطلب مواصلة السير السريع والأبتعاد عن المنطقة  تفاديا" لتحديد موقعنا ، الجميع يندفع نحو الأمام في نسق واحد وليس أمامه غير شبح رفيقه في المقدمة ، وكل واحد منا يسأل نفسه هل تجاوزنا مرحلة الخطر أم لا ، عشرات الأسئلة تدور في البال وتحتاج الى جواب ووسط هذا الأرتباك الذي ازدحم بالتفكير والظلام ، دخلت قدمي اليمنى بين صخرتين كبيرتين لم أتمكن من رؤيتهما عن بعد بسبب شدة الظلام وأصبحت مشلول الحركة كليا" ولم أستطع من تحرير قدمي رغم المحاولات العديدة ، الموقف حرج للغاية ، رشقات من رصاص الأسلحة الرشاشة لا زالت تمر فوق رؤوسنا وعلى خط سير المفرزة بين فترة وأخرى . 

يا له من حظ تعيس ونحن في بداية الطريق ، ما العمل الأن ! حاولت بطرق عديدة تحرير قدمي دون جدوى ، لا زالت رشقات الرصاص وأزيزها تمر فوق رؤوسنا ، حملّت نفسي ما حدث ؟ كان عليّ الأنتباه الى هاتين الصخرتين الكبيرتين ؟ كيف دخلت قدمي بهذه السهولة ولا استطيع أخراجها الأن ؟  زوجتي النصيرة أم سوزان  بجانبي تساعدني وفي عيونها الحيرة والأرتباك وهي تحاول عمل شئ ما ونحن في هذا المكان الخطر ، ابتعد عنا بعض رفاق المفرزة ، ووصل الخبر الى الدليل صوفي وتوجه ألينا . 

ـ  ما الذي يحدث هنا ؟ هيا اسرعوا قليلا" .

ـ  رفيق صوفي لا أستطيع الحركة ... أحتاج الى المساعدة ، يا لسوء الحظ هذه الليلة ، عاد صوفي الى الأمام وهو ينظر أليّ محتارا" وطلب من مساعده قيادة المفرزة نيابة عنه ومواصلة السير وعاد ثانية بأتجاهي وسأل :

ـ  ماذا حدث يا رفيق أبو سوزان ؟  

ـ  لقد علقت قدمي بين الصخرتين ولا أستطيع تحريرها !

ـ  بسرعة يا رفاق ليس أمامنا من خيـار أتركـوا أبو سـوزان في مكانه وسوف نعود أليه حالما يتوقف أطلاق النار ونطمئن للوضع ... لا أستطيع التضحية بالمفرزة من أجـل نصير واحد فقط ، لنواصل السير اننا في موقع خطر وعلينا تجاوز التلال التي تشاهدونها أمامنا في أقل من ساعتين حتى نصل الى نقطة أستراحتنا الأولى ، رفضت النصيرة أم سوزان والنصير عايـد مواصة السير مصّين على تقديم المساعدة جهد الأمكان. 

 ـ  رفيق صوفي لا نستطيع تركه هنا وبهذا الحال ربما يقتل لنحاول مساعدته . 

 ـ  حسنا" حاولا ما أستطعتم ولكن بصمت وأنتم ملاصقين للأرض ، لا ترفعوا رؤوسكم عاليا" سننتظركم عن بعد وسوف نوفر لكم الحماية  كونوا حذرين .

ـ   نعم يا رفيق صوفي سنحاول .... ولكن أنتظرونا عن قرب .. ربما نفقد أثركم لا تبتعدوا عنا كثيرا" . 

وبخطة ذكية وهدوء وبعد عدة محاولات أستطاعت يد النصير عايـد وسط العتمة أن تفتح قيطان الحذاء الجبلي وأخراج قدمي منه ومن ثم أخراج الحذاء من بين الصخرتين لأعاود لبسه من جديد وبسرعة ...  وبدت على وجه الرفيق عايـد علامات الأرتياح والرضا وهو يقول :

ـ  الحمد لله نجحت الفكرة لنحاول اللحاق ببقية المفرزة ... وثم بادر بقوله أنها البداية يا رفيق أبو سوزان وأمامنا الكثير من المتاعب في الطريق فعلينا الصبر والتحمل .

ـ  شكرا" رفيق عايد على المساعدة بالفعل أنها البداية وأمامنا الكثير وعلينا التحمل ، هيا بنا نسرع فعلينا الأن الألتحاق برفاق المفرزة بأسرع وقت . كان عائد أصغر نصير في المفرزة ، لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره ، رياضي وأكثر نشاطا" وحركة من أي نصير آخر في المفرزة وخاصة نحن الذين تجاوزنا الثلاثين من العمر لطيف المعشر ، مرح ، هادئ لدرجة كبيرة ، ذو أخلاق عالية . عارضت عائلته في البداية ألتحاقه بفصائل الأنصار لصغر سنه وقلة تجربته الحياتية وأعدام أثنين من أخوته من قبل النظام الدكتاتوري وفضلت أن يكمل دراسته بعد ان حصل على زمالة دراسية في أحدى الدول الأشتراكية، ولكنه أصر أصرار الرجال على مواصلة الرحلة الشاقة وخوض التجربة الجديدة مع رفاقه وأنتقاما" لأخوته الشهداء . 

بعد ساعات من السير وفي خط مسير المفرزة وعند خطوط انابيب النفط العراقي عبر تركيا والمحروس بشكل جيد من قبل القوات التركية أغرق المزارعون أراضيهم الزراعية أستعدادا" لزراعتها في الموسم القادم وغرق معها طريق سير الأنصار الوحيد المار وسط هذه المزارع بالمياه واصبح الطريق موحلا" والسير فيه مستحيلا" وهذا لم يكن في الحسبان ، نزعنا أحذيتنا الجبلية وجواريبنا ورفعنا الشراويل الى ما فوق الركبة ، حقيبة الظهر تشدنا الى الخلف وكأنها صخرة اسطورية . بدأنا السير حفاة وسط الأوحال لمسافة تقدر بنصف كيلومتر حاملين أحذيتنا حول رقابنا وسط نباح الكلاب ومشاهدة المزارعين للمفرزة ، وغالبا" ما يكون هؤلاء المزارعين من المتعاونين مع المخابرات التركية وهذا الأمر زاد من قلقنا . تم تجاوز هذه المرحلة بصعوبة وبسلام ، معظم الرفاق أنهكهم التعب ، لكن الحماس والإصرار على مواصلة السير منحهم القوة للتغلب على التعب ، خصوصا" وأن المكان الذي سنجتازه بعد قليل هو الشارع الدولي المرتفع والموازي لأنابيب النفط والذي يعتبر من اخطر الأماكن في مسيرة تلك الليلة بعد دخول الحدود  وعادة ما تسير عليه دوريات الجيش التركي في اوقات منتظمة ، جلسنا على جانب الطريق وسط العتمة نراقب الشارع لفترة طويلة للتأكد من عدم وجود دوريات عسكرية او كمائن في احد زواياه ، الجميع مشغول بتنظيف اقدامه من الوحل ولبس جواريبه وحذائه وهم يصغون بانتباه وترقب في وضع الانبطاح مع حمولتهم والأنفاس تتسارع والعيون مفتوحة في هذا الظلام ، ليس هناك من ضوء سوى الضوء الباهت الذي كان يأتي من الربية البعيدة المشرفة على ذلك الجزء من الشارع الدولي المحاذ لأنابيب النفط .. الكل ينتظر نتيجة الاستطلاع الذي يقوم به صوفي ورفيقه وبدورهم ينتظرون  مرور سيارة الدورية للتأكد من خلو الشارع من الكمائن . لم يمض وقت طويل حتى علا في الأفق ضياء سيارة الدورية التي وقفت لفترة وجيزة ثم واصلت طريقها . حينها تبين بعدها  للمستطلعين أن الطريق أصبحت آمنة .

 جاء الإيعاز من الدليل  للمجموعة ببدء الصعود إلى الشارع والعبور بخفة وهدوء ، في دقائق تم عبورنا الى الجانب الثاني وواصلنا المسيرة ، وعلينا في هذه المرة عبور الجسر الذي يقع على أحد الأنهار التي لا يبعد كثيرا" عنا وعادة ما تكون هناك كمائن للجيش التركي على جانبي هذا الجسر ، بعد اٍستطلاع الجسر لفترة زمنية من كافة الجهات اعطيت الأوامر بعبوره بسرعة واتخاذ مواقع على الضفة الأخرى من النهر ثم واصلنا السير الى الأمام حتى واجهنا عن بعد صوت محرك أحدى السيارات فأخذنا مواقع القتال وكان كل ظننا انها دورية عسكرية للجيش التركي وصلها خبر تواجدنا في المنطقة ولكن عند اقترابها تبين انها تراكتور زراعي يحمل العديد من المزارعين ، خرج لهم الدليل صوفي وتكلم معهم بعيدا" عن مواقعنا وأستطلع منهم عن سلامة الطريق القادمين منه  وان كانت هناك كمائن للجيش التركي في الطريق ام لا .

بعد مسيرة الليل بكامله بطرق وعرة وجبلية ثم الى سهل مفتوح، وصلنا قبل شروق الشمس الى نهر الخابور متأخرين عن الموعد المخطط له بساعتين بسبب المشاكل التي واجهتنا في بداية الطريق وعلينا عبوره على الكلك المصنع محليا" والذي لا يخلوا من الخطورة خاصة وقت ارتفاع مناسيب النهر وسرعة تياره ، لقد تم تأمين مكانا" ملائما" لتهيئة وتركيب الكلك . كان الجميع قد أنهمكوا بنفخ الإطارات بأنفاسهم المتعبة ، ربطت الإطارات إلى بعضها بالحبال بشكل جيد وبسرعة ، أخذ ذلك منا ساعة ونصف من العمل الدؤوب حتى أصبح الكلك جاهزا" لعبور النهر . وكالمعتاد يجب وضع الحمولة على الكلك ويصعد الأنصار تباعا" وعلى وجبات حسب حجم الكلك وتحمله وهم يواصلون الجذف بالأيدي للمساعدة في حركته نحو الطرف الثاني للنهر بأسرع وقت . 

تم عبورنا الى الضفة الأخرى من النهر بسرعة وعلى ثلاث وجبات ، الشمس سبق وأشرقت قبل أكثر من ساعة وهذا يضعنا في موقع خطير جدا" ومكشوف أمام دوريات السمتيات التركية التي عادة ما تجوب المنطقة بعد شروق الشمس .

بعد مسيرة اكثر من ساعة في طرق جبلية معقدة كان في أنتظارنا رفاق الطريق من الأنصار بموقعهم داخل الأراضي التركية ومهمتهم استقبال الأنصار الجدد القادمين من سوريا وقيادة مفارزهم الى مواقع الأنصار المتقدمة والتي تبعد مسيرة عدة أيام أخرى سيرا" على الأقدام .  

هذه هي محطتنا الأولى المسماة محطة ( ابو حربي ) وهي احدى محطات الطريق التابعة للحزب لأسقبال القادمين الجدد وسبق وان تغير أسم المفرزة من مفرزة النقل إلى مفرزة الطريق بسبب تنوع  المهام وأصبح لدى مفرزة الطريق مقر شبه دائم في أحدى ممرات سفح جبل گلي كورتك التركي ، وهو عبارة عن شكفته ( مغارة ) بسيطة لا تسع لأكثر من عشرة افراد . والكثير من الأنصار يتذكرون تلك المحطة الجميلة التي تقع في سفح الجبل وكيف كان يجري استقبالهم وفي بعض الأحيان تجري حفلات ترفيهية بسيطة لهم. وبعد يوم أو يومين من الاستراحة يتم مرافقتهم من بعض رفاق المحطة نفسها وإرسالهم إلى قواعد الأنصار من خلال المرور بموقع كيشان ومقر الفوج الثالث للأنصار ومن ثم قاطع بهدينان والقواطع الأخرى .

لا يمكن تصور فرحتنا ونحن نلتقي بمن يستطيع أن يتكلم معنا من الرفاق ويجيب على أسئلتنا . سمعنا صوت الرفاق أبو وسن وتبعه صوت أبو أفكار وأبو آذار ، بعدها شاهدنا أبو هدى ورفاق آخرين . لا يمكن وصف مشاعرنا في تلك اللحظات الرائعة ونحن نرى هؤلاء الأبطال وهم يعيشون في هذه المحطة الجبلية النائية وخطورتها لأشهر طويلة ، وبسرعة تمت تهيئة بطانيات للجلوس وعملوا الشاي ، ووضعوا أمامنا خبزاً وشوربة عدس وهو طعام الأنصار المفضل والمتوفر في مثل هذه المواقع ... صحيح كنا نشعر بعطش وجوع وتعب ، لكن وجود أشخاص يمكن التفاهم معهم شيء كبير بالنسبة لنا في مثل تلك الظروف . وعرفنا فيما بعد أن المجموعة الموجودة في تلك المحطة تسكن في خيمة نصبت في مكان مموه بشكل جيد .

 بعد كل هذا الجهد والأنهاك  لليلة الماضية وتناول الخبز والشوربة والشاي صباحا" كان بأنتظارنا اللحم المشوي لبزن ( 3 ) صغير لوجبة الغذاء أعده الأنصار في هذا الموقع الجبلي المعزول والخالي من اي حياة ولا تسكنه غير الحيوانات المتوحشة ، سحب احد الأنصار في الموقع مديته من حزامه وبدأ يدلكها بلحاء شجرة الجوز وبصخرة قريبة منها ، ساعده آخرين على نحره وعلق على غصن شجرة بجانب عين الماء ، وبسبب الجوع تم تقطيعه بسرعة وتوزيعه على الرفاق لكل واحد كمية من اللحم يشويها بطريقته الخاصة . تحركت مجموعة من الرفاق لجمع الحطب وإشعال النار استعدادا" لشوي اللحم ، لا يوجد حل آخر سوى الشواء على طريقة البيشمرگة (7) ، لا وجود لاساليب التحضر في وسط الجبال  ، تعلمنا كيف نستعمل قطع أغصان الأشجار الغضة وإزالة الأوراق منها لجعلها بمثابة شيش طويل لغرز اللحم ، كانت وجبة دسمة أمدتنا  بكثير من الراحة والطاقة تبعها عدة أقداح من الشاي الزنكين وتمددت اجساد عدد من الرفاق على الارض بعد تعب عملية الاكل ودسامة الغذاء وثقل الهضم. 

 في هذا الموقع كهوف عديدة منتشرة على جوانب الجبال اضافة الى العديد من الكبرات المصنوعة من سيقان واغصان الاشجار وهي اماكن نوم واستراحة الأنصار وهم في طريقهم لمواقع الأنصار في العمق العراقي .. وبعد ذلك جاء أحد رفاق الموقع  ليقول ....

 

ـ  رفاق امامكم مسيرة طويلة وشاقة وسط طبيعة قاسية وقلة في المياه عليكم أخذ قسطا" كبيرا" من النوم والراحة والتزود بالأكل والماء من الأن وستغادرون في الرابعة عصر يوم غد لتواصلوا المسيرة طول الليل وعلى ضوء القمر . قضينا طوال اليوم نقوم بالواجبات الأنصارية ، النزول الى النهر وجمع المياه ، تحضير الخبز وخبزه بالتنور لليوم الثاني ، تنظيف السلاح وتزيته ، تنظيم الحراسات اليومية والليلية ، التأكد ان كل شئ على ما يرام للمشوار القادم . ويعد العشاء دخلنا في نوم عميق حتى صباح اليوم التالي لنواصل رحلتنا الصعبة نحو الوطن .

يتبع في الحلقة الثانية

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014