طباعة هذه الصفحة
الخميس, 21 تشرين2/نوفمبر 2013

نشوء و تطور المعتقدات الدينية و أصل فكرة التوحيد

  حامد خيري الحيدر
تقييم هذا الموضوع
(4 عدد الأصوات)

القسم الأول

 

 

ظهرت الأفكار الدينية  أي الأعتقاد بوجود قوة أو قوى خارقة غير منظورة في عوالم ماوراء الطبيعة تسيطر على مقدرات الكون ، منذ فترة مبكرة من ظهور الأنسان على الأرض1 ، ثم رافقت تطوره الجسماني و العقلي طيلة مسيرته التاريخية اللاحقة  . فبعد أن أخذت بوادر تفكيره العقلي بالنضوج و التأمل لمحيطه و بيئته القاسية فلم يجد نفسه إلا وحيداً ضعيفاً أمام جبروت الطبيعة الهائل . فقد كانت حالة الضعف الجسماني الذي يمتاز بها الأنسان مقارنة مع الكائنات الحية الأخرى التي تشاركه بيئته و التي وجد نفسه عاجزاً عن مقارعتها و التغلب عليها دعته أن يبحث عن قوى غيبية ذات أمكانات غير محدودة تعينه وتزيد من أمكاناته لمواجهة تلك البيئة القاسية و تعظم من قدراته على أستمرارية و تطوير جنسه البشري الجديد (و هذا الشئ ظل يلازم تفكير الأنسان حتى يومنا هذا) . وهنا كانت البداية الأولى لهذه المعتقدات الغيبية . و با لرغم من التباين النسبي و طول الفترة التي أستغرقها تطور و نضوج تلك المعتقدات  بين مناطق العالم المختلفة ألا أنها كانت متشابهة في أطارها العام ، و سيكون التركيز هنا على وادي الرافدين كونها أقدم بقعة حضارية في العالم القديم و أيضاً أن ماسيتم ذكره عنها يشبه بشكلٍ أو بآخر المراكز الحضارية الأخرى في الشرق الأدنى القديم  و وادي السند و من ثم الحضارات اللاحقة في بلادي اليونان و الرومان ، مع ذكر بعض الأشارات و التشابهات .

من خلال تتبع تطور المعتقدات الدينية يمكن القول أنها مرت بمرحلتين أساسيتين هما :

السحر 

وهو عبارة عن مجموعة من الطقوس و الممارسات يعتقد الأنسان من خلالها أنه يستطيع السيطرة على القوى الطبيعية و الأخرى المنافسة له في بيئته و أخضاعها لأرادته . ولعل من أقدم و أوضح الأمثلة على ذلك الطقوس الجنائزية التي مارسها أنسان (النيادرتال) خلال عمليات دفن موتاه . فقد كشفت  التنقيبات الأثرية في كهف (شانيدار) في شمال العراق حيث عاش ذلك الأنسان هناك قبل حوالي  45 الف سنة أنه كان يُسجي موتاه في قبورهم بطريقة تشبه وضع الجنين في رحم الأم معتقداً بذلك أمكانية عودتهم للحياة مرة أخرى .  ومن الأمثلة الأخرى ما كان يفعله الأنسان الحديث (الهوموسيبينس)2 الذي ظهر قبل حوالي 25 الف سنة ، كان يرسم صور الحيوانات التي يروم صيدها على جدران الكهوف و المغاور التي سكنها لجعلها قريبة منه و تحت نظره لغرض السيطرة عليها و بالتالي يتمكن من صيدها . كما كان هذا الأنسان أيضاً يصبغ جثث موتاه باللون الأحمر لأعطائها علامة من علامات الحياة لنفس غاية سلفه (النيادرتال) . 

الديانة

لقد بدأت المراحل الأولى لمفهوم الديانة في  الفترة التي رافقت أستقرار الأنسان في قرى سكنية بعد أكتشافه الزراعة و أنتقاله من طور (جمع القوت) الى طور (أنتاج القوت) في مطلع الألف التاسع ق.م ، وما صاحب ذلك من تطور فكري أقنعه بعقم فكرته الأولى (السحر) وفشله الذريع في أخضاع القوى الطبيعية لمقدراته ، فبدأ فكرته الثانية و المتمثلة بالتخضع و التقرب لتلك القوى لتمنحه متعطفة ً قواها و طاقتها ، و التي كان الأنسان حينذاك  في أمس الحاجة لها في حياته الزراعية الجديدة .

 لقد تصور الأنسان في بداية تبنيه فكرة الديانة القوى الطبيعية بهيئة آلهة تسيطر على بيئته و بالتالي على أقداره و مجريات حياته و معيشثه . و نظراً لتعدد تلك القوى المحيطة بالأنسان مثل ... الهواء ، الماء ، الشمس ، القمر ، الأرض ... الخ فقد تعددت بالمقابل الآلهة التي تمتلك تلك القوى ، فأصبح لكل منها ألاهها الخاص بها . حتى المرأة في بداية تبلور الفكر الديني أحيطت بها هالة من القدسية بأعتبارها العنصر الولود (منبع الحياة) . و قد تم العثور في العديد من مواقع العصر الحجري الحديث في وادي الرافدين و هضبة الأناضول و غرب أيران على دمى أنثوية بولغ في أبراز أثدائها و أعضائها التناسلية ، عرفت لدى الآثاريين و عموم الباحثين بأسم (الآلهة الأم) . و بالمقابل ظهرت أيضاً ممارسة تقديس العنصر الذكري بأعتباره الطرف الثاني من عملية الخصب . و أيضاً عثر من نفس الفترة و المناطق التي سبق ذكرها على دمى لحيوانات مقرّنة مثل الثيران و الوعول (رموز الخصب) داخل بعض البيوت و المزارات البدائية ، كما عثر أيضاً داخل عدد من قبور النساء على نماذج تجريدية للعضو الذكري معمولة من الحجر أو الطين و خاصة مناطق سامراء . و يمكن أعتبار هاتين الممارستين البدايات الأولى لفلسفة الخصب و آلهتها لدى الأنسان . و من الممارسات الدينية التي يجدر ذكرها و التي ظهرت خلال هذه الفترة و المناطق أيضاً ، تلك الرقصات الطقوسية التي تتمثل بهز شعور النسوة بطريقة مماثلة لرقصات فتيات الغجر ، كانت الغاية منها طلب أستسقاء الأمطار عند أنحسارها ، حيث أن الزراعة البدائية كانت بطبيعتها زراعة ديمية ، و أنقطاع الأمطار يعني حلول القحط و المجاعة لسكان المنطقة . و هذا ما توضحهه الرسوم و النقوش على الأواني والفخارية من هذه الفترة و التي صورت تلك الرقصات و الى جانبها أشكال محورة لعقارب (رمز الجفاف) .

المعبد

لقد كان ظهور المعبد أنتقالة و طفرة كبيرة في تطور الفكر الديني ، حيث اصبح بمثابة مؤسسة تدير و تنظم  و توحد المعتقدات و الأفكار الدينية بشقيها الفكري أو الأعتقادي وذلك بتوجيه عقول الناس نحو فكر محدد الأطار واضح المعالم ، وطقوسي أجرائي و المتمثل بالشعائر و المراسيم المترجمة لذلك الفكر و المعتقد ، بعد أن كانت مجرد أفكار محدودة تمارس بشكل عفوي وعشوائي و شخصي من قبل الناس كل حسب درجة تفكيره و مستواه الأقتصادي ، مما ساعد على أنتشار تلك المعتقدات و نظوجها تدريجياً تبعاً لتطور الحياة و أفكار سكانها . و يمكننا أن نحدد فترة العصر الحجري المعدني حوالي 5000 ق.م بأنها كانت الفترة التي ظهرت فيها البدايت الأولى للمعابد . حيث كشفت التنقيبات الأثرية لهذا العصر وتحديداً في الدور المعروف بأسم (حلف)3 وفي موقع قرية (ألأربجية) قرب الموصل عن أبنية دائرية كبيرة مشيدة في وسط القرية قطرها حوالي سبعة أمتار لها مدخل طويل بأسلوب يشبه بيوت (الأسكيمو) سُميت من قبل الآثاريين بأسم (ثولوس) . عثر داخلها على العديد من دمى المعبودات المختلفة الأشكال  و التي كانت موضوعة بشكل مرتب و منظم على دكاك من الطين و الى جانبها بقايا عظام حيوانات و آثار رماد أمامها مما يشير الى هذه الأبنية كانت مخصصة للتعبد ولتقديم القرابين و النذور لمعبودات معينة . و الملفت للنظر أن هذه المعابد البدائية كانت تشبه الى حد بعيد القبور اليونانية في منطقة (مايسيني) و لنفس الفترة الزمنية . لقد أدى أنشاء المعبد الى ظهور الشخص القائم و المُنظم و المدير لهذه المؤسسة فظهرت وظيفة (السادن) أو (الكاهن) و التي من المرجح أنه كان يتولاها كبير أو زعيم القرية الذي تولى سلطتين أدارية و دينية ، وكانت هذه هي البدايات الأولى لأرتباط الدين بالسلطة السياسية . وما يرجح هذه الفكرة أن الملوك و الأمراء في الفترات اللاحقة  ظلوا يحتفظون بمكانتهم الدينية أضافة لسلطتهم الحاكمة و بدرجات متفاوتة و أحياناً بشكل رمزي فقط . و قد شهدت الفترات اللاحقة تطور و أنتشار ملحوظ في بناء و تشييد المعابد وتغير في تصاميم بنائها حتى أخذت شكلها العام الذي أستمر طيلة الفترات التاريخية اللاحقة . و الذي تميز بأحتوائه على خلوة الأله و دكة القرابين و الفناء الوسطي و موقع المدخل الرئيسي المواجه لخلوة الأله ، و أيضاً أتجاه زوايا البناء الى الجهات الرئيسية الأربعة . وذلك منذ فترة دور (العُبيد) 4500 ق.م 4 مروراً بفترة عصر الوركاء 3500 ق.م و الذي ظهرت فيه البدايات الأولى لتشييد الزقورات و المتمثلة بتشييد المعابد على دكاك عالية ، من  المرجح أن الغاية منها هو لدرء أخطار الفيظانات المنتشرة أنذاك في جنوب وادي الرافدين ، ثم أضفيّ على شكلها وتصميمها نوع من الصبغة الدينية الفلسفية . لقد كان المعبد أضافة الى كونه مؤسسة دينية بالدرجة الأساس إلا أنه كان لها بذات الوقت طابع ثقافي و سياسي و أقتصادي و كان له الدور الرئيسي في أدارة المدينة و تنظيم أقتصادياتها . وقد كانت فترة عصر الوركاء التي شهدت  ثورة الأستيطان المدني عند منتصف الألف الرابع ق.م الطفرة الكبيرة في تطور المفاهيم الفكرية للأنسان و التي توجت بأبتكار أقدم وسيلة للتدوين لتكون أنعطافة كبيرة في تاريخ الأنسانية تمت داخل غرف المعابد ، كان الغرض منها تدوين وارداتها الأقتصادية . لقد ظهرت نتائج هذا الأبتكار واضحة في عصر فجر السلالات في مطلع الألف الثالث ق.م عندما أصبح التدوين يعبر عن افكار الناس الدينية و الأدبية و العلمية  فكتبت الكثير من النصوص التي ألقت الضوء على تلك الأفكار . و عندها تم تكوين فكرة مفصلة عن المعتقدات الدينية  من خلال تلك النصوص و التي أستمرت الى آخر عهود وادي الرافدين ، خاصة بعد أن أصبح المعبد السند القوي و الداعم للسلطة السياسية الحاكمة التي أصبحت تعتمد على المعتقدات الدينية في تثبيت سلطة الملك أو الأمير و نظامه الحاكم .

تأثير المعتقدات الدينية القديمة

لقد أصبحت الأفكار الدينية بعد الألف الثالث ق.م أي بعد تكوين المجتمعات المدنية من أهم العوامل المؤثرة في سير حياة الشعوب القديمة و أسلوب تطور حضاراتها . وغدت تحدد الأطار العام لسلوك الأنسان و الخلفية المؤثرة في حياته الأجتماعية  والأقتصادية وتوجه عاداته وتقاليده و أعرافه وقوانينه التي شرعها فيما بعد . وكان تغلغل هذا الأفكار في حياة الناس قد تجسدت بشكل واضح في الآثار الفنية و الأدبية والعمرانية التي خلفوها ، فكانت التصاميم لبيوت العامة والقصور فيها صبغة دينية من خلال مشابهتها لتصاميم المعابد و المزارات . و كانت الملهمة أيضاً للنحاتين و الفنانين لأبراز أبداعهم الفني عند تجميل واجهاتها الأبنية  بمنحوتات و رسوم تمثل الآلهة و أساطيرها و الطقوس الدينية  المتعلقة بها . وفي الجانب الأدبي نجد المعتقدات الدينية كانت العمود الفقري في بناء النصوص الأدبية ، سواءً في الفكرة و المضمون أم في العبرة النهائية لتلك النصوص . و ماينطبق في العمارة والأدب نجده أيضاً في باقي العلوم و الفنون الأخرى ، حيث تذكر النصوص الكتابية أنها أتت بوحي من الآلهة . لكن كان أهم تأثير للفكر الديني هو عند تداخله بالفكر السياسي وذلك لدعم المصالح السياسية التي أخذت بالتعاظمم لدى الطبقات المُترفة و المُسيطرة على مجريات حياة تلك المجتمعات ، خاصة بعد النمو الأقتصادي الكبير للمدن و تقسيم المجتمع الى طبقات أجتماعية متفاوتة المستوى . وذلك بعد صورت المعتقدات الدينية أن الآلهة قد خلقت البشر ليقوموا بدلاً عنها بأعمار وزراعة الأرض وخدمة مصالحها فيها ، وأختارت أحدهم (الملك أو الأمير) ليكون ممثلاً و نائباً عنها في أدارة شؤونها على الأرض ، و بذلك فقد أصبح له حق ألهي بأعتباره معين من قبل الألهة و بالتالي فأن جميع الأوامر و التشريعات التي يصدرها  تكون واجبة التنفيذ لأنها تمت بوحي من الآلهة . بينما نجد المعتقدات الدينية في وادي النيل قد صورت الفرعون على أنه أحد الآلهة وجبت عبادته و تقديسه من قبل عموم المجتمع .

 

يتبع في القسم الثاني

 

الهوامش

1....يُعتقد أن الأنسان قد ظهر قبل حوالي أربعة ملايين سنة ، و هي الفترة التي حدثت فيها طفرته الوراثية التي حددت هيئته العامة الجديدة التي ميزته عن سائر المملكة الحيوانية. 

2....سلسلة التطور البشري.....1)الأنسان البدائي/هومونيد... وعاش قبل 4 مليون سنة حتى 1,750 مليون سنة ....2)الأنسان القادر أو المتمكن/هوموهابيلس...و عاش قبل 1,750 مليون سنة حتى 150 ألف سنة....3) الأنسان القرد المنتصب القامة/هوموأيركتس ....وعاش قبل 150 ألف سنة وحتى 120 ألف سنة....4) أنسان النيادرتال.... وعاش قبل 120 ألف سنة حتى 25 ألف سنة..... 5)الأنسان الحديث أو العاقل/هومو سيبينس.... وعاش منذ 25 ألف سنة وحتى الآن .

3....دور (حلف) ، نسبة الى تل (حلف) الأثري الذي يقع على نهر الخابور عند الحدود السورية التركية . 

4....دور (العُبيد) ، نسبة الى تل (العُبيد) الأثري الذي يقع الى الشمال من مدينة (أور) الأثرية .

 

 

 

نشوء و تطور المعتقدات الدينية و أصل فكرة التوحيد

القسم الثاني و الأخير

حامد خيري الحيدر

 

 

المميزات و الصفات العامة للآلهة

أخذت المعتقدات الدينية بالنضوج و الوضوح منذ مطلع الألف الثالث ق.م ، كما أخذت مميزاتها بالثبات بالرغم من بعض الأختلافات و التباينات البسيطة ، وظلت محافظة في جوهرها طيلة الفترات اللاحقة . و التي بينت أهم الصفات و الميزات للألهة التي وردت في تلك المعتقدات  و التي يمكن أجمالها :

التجسيد ..... و هو تجسيد القوى الطبيعية و الأشياء المؤثرة في حياة الأنسان و معيشته في هيئة آلهة ، لكل من هذه القوى إلاهها الخاص و المؤثر و المسيطر عليها . كما كان لكل من هذه الألهه صفات خاصة و مسؤوليات معينة في الكون ، و كان لها رمز و شكل معين في المنحوتات و الكتابات .

التعددية ..... نتيجة تعدد تلك الظواهر تعددت بالمقابل الألهة الممثلة لها ، و التي أخذت بالأزدياد  بمرور الوقت حتى أصبح للأنسان عدد هائل منها ، حيث أصبح لأبسط الوسائل المستخدمة من قبل الأنسان في حياته إلاهها الخاص بها مثل الفأس و المحراث و غيرها . و أتخذ كل إله من هذه الألهه مدينة معينة لتكون مقراً له و مركزاً رئيسياً لعبادته و ليكون الأله الحامي لها و لشعبها و الراعي لمصالحها و المدافع القوي عنها.

التشبيه ..... و يُقصد به أن الآلهة شبيهة بالبشر في هيئتها العامة و حياتها و حواسها و علاقتها الأجتماعية ، لكنها تتميز عنه أضافة الى طاقتها الخارقة بصفة الخلود . و قد ظهرت الآلهة في المنحوتات و صور الأختام الأسطوانية بهيئة بشر يضعون على رؤوسهم التيجان المقرنة . و هنا تتشابه الى حدٍ بعيدالمعتقدات الدينية في وادي الرافدين و بلادي اليونان و الرومان ، و التي ظهرت الآلهة في منحوتاتهم و هي تعتمر أكاليل أو تيجان الزيتون . بينما تختلف في هذا الجانب عن وادي النيل حيث تظهر الآلهة بهيئه حيوانية أو هيئة بشرية حيوانية مُركبة و لا يتقارب معها في هذا الأمر ألا شيء بسيط من معتقدات وادي السند . و يُعتقد أن السبب في ذلك هو التأثير الكبير للفكر (الطوطمي)1 على تلك المعتقدات و الموروثة من فترة العصر الحجري الحديث . و من الدلائل القوية على ذلك هو أسلوب الكتابة في وادي النيل و المُتمثلة بالخط (الهيروغليفي) معظمه عبارة عن رموز حيوانية . بينما كان الفكر في وادي الرافدين أكثر رقياً و تطوراً مُعطياً أهمية أكثر و دور أكبر للأنسان و مجتمعه .

 التفضيل ..... بالرغم من وجود هذا العدد الكبير من الآلهه إلا أنهم لم يكونوا بنفس القوة أو الأهمية في حياة الناس الذين كانوا يفضلون إلاهاً على آخر حسب أهمية و قوة ذلك الأله و مدى تأثيره على حياتهم ، وكان هذا التفضيل يتباين من منطقة لأخرى ومن مدينة لثانية ، حيث كان مركز المدينة السياسي هو الذي يحدد أهمية و قوة إلاهها . وكان الأعتقاد هو أن الصراع بين المدن هو تمثيل لصراع بين آلهتها الحامية نفسها . وكان يذكر دوما في النصوص التاريخية عند أنتصار مدينة على أخرى في الحرب أن إلاهها غلب إله تلك المدينة و أخضعه لسلطته .

مجلس الآلهة ..... صورت المعتقدات الدينية القديمة على أن الآلهة كانت تعيش في السماء في مجتمع تحكمه قوانين و نظم وظوابط ، و بهيئة مجلس كبير يقف على رأسه زعيم الآلهة يساعده عدد كبير منها . وكان هذا المجلس هو الذي يحدد واجبات و سلوك و مصائر البشر . و بالمقابل كان هناك آلهه مقرها العالم السفلي  للسيطرة على الموتى من البشر و  المعاقبين من الآلهة الأخرى  يساعدهم في ذلك عدد كبير من الحراس . وهذا العالم له تسميات أخرى مثل (عالم الضلام) أو (عالم اللاعودة) .

التوحيد

أن المقصود بالتوحيد هو جمع القوى الألهية و المتمثلة بالقوى الطبيعية والحياتية بعد أن كانت موزعة على عدد كبير من الألهة كل منها مختص بقوة معينة ، في شخص أله واحد ذو قوة و بطش وسيطرة ليس لها حدود على كافة أرجاء الكون .

أن التمعن في صفات وممزيات الآلهة لنجد أن فكرة التوحيد كانت نتيجة منطقية لتطور الفكر الديني خاصة بعد أن وظف الدين لدعم الأفكار و الطموحات السياسية . وكما سبق أن لكل مدينة إله حامي مقدس من قبل سكانها ، وأن صراع المدن فيما بينها و الذي كان بالأساس حول مصادر المياه أو توسيع رقعة الأراضي الزراعية يتم تصويره على أنه في الحقيقة صراع بين آلهتها الحامية في السماء ، يظهر جلياً بين الناس و على رأسهم ممثلي تلك الآلهة على الأرض أي الملوك و الأمراء . وفي حالة تغلب  مدينة على أخرى فأن إله المدينة المنتصرة قد غلب إله الثانية و كسب قوته وطاقته الألهية و حل محله في ترتيب أهميته الألوهية ... وهكذا فأن أية مدينة كانت تفرد سيطرتهاعلى بقية المدن الأخرى يعني أن إلاهها قد أنتصر على خصومه من الألهة الأخرى و تزعم مجلسهم . و يبدوا هذا واضحاً في أسطورة الخليقة البابلية  ، و التي كتبت خلال القرن الثامن أو السابع عشر ق.م أي بعد أن فرضت مدينة (بابل) سيطرتها على وادي الرافدين وضمت كل مدنه تحت نفوذها ، فكتبت هذه السطورة لتعظم مدينة (بابل) من خلال تمجيد إلاهها القومي (مردوخ) الذي أختير زعيماً لمجلس الألهة بعد أن وهبته كل صفاتها وقوتها .... وقد صورت المنحوتات الأله (مردوخ) بشكل مخلوق مُركب غريب الشكل ، له رأس تنين وقرون ثور و لسان ثعبان و حراشف سمكة و ذنب عقرب والأقدام الأمامية لأسد و الخلفية لنسر ... والتي هي رموز لألهة أخرى أضيفت الى هيئه مردوخ دلالة على أكتساب قوى بقية الألهة وتفرده بزعامة مجلسها . ولتأكيد هذه الفرضية فقد أعيد  كتابة نفس الأسطورة السابقة بنفس تفاصيلها تقريباً بعد فترة و ذلك عند أنقلاب ميزان القوى في وادي الرافدين و ظهور مدينة (آشور) كقوة عظمى في منطقة الشرق الأدنى القديم و سيطرتها على معظم أرجاء تلك المنطقة ، و لكنها كتبت بأسم الأله (آشور) هذه المرة ، و الذي تولى زعامة الألهة وفرضَ سيطرته عليها . 

وبالرغم من فكرة السيطرة و الزعامة الألهية إلا أن المعتقدات الدينية في وادي الرافدين لم تصل الى درجة التوحيد الكامل كما هو معروف لدينا بل كانت فقط البداية و الأساس حيث ظل الناس يأمنون و يحترمون بقية الآلهة الأخرى و أن تذبذبت أهميتها وتقلصت مكانتها  ونفذوها من فترة لأخرى حسب تقلب الأوضاع السياسية ، وظلت لها قدسيتها و مكانتها الأعتبارية ، و ظل الناس يأمون معابدها و مزاراتها التي بقيت قائمة و محترمة لم تمس بسوء . و بناء على ماتقدم يمكننا القول أن فكرة الزعامة الألهية هي أساس فكرة التوحيد و كانت لغرض سياسي بحت الغاية منه أعطاء الأهمية السياسية و الأقتصادية لمدينة أو منطقة معينة على حساب المدن و المناطق الأخرى من خلال رفع شأن إلاهها القومي و تظخيم قوته . كما صورت سيطرة تلك المدينة على الأخريات بشكل طابع مقدس كونه حدث بوحي من الألهه و أرادة مجلسها في السماء .

أن الثورة الحقيقية في فكرة التوحيد ظهرت في وادي النيل و تحديداً في زمن الفرعون (أمنوفس الرابع) الملقب ب(أخناتون) و يعني (المُخلص للأله آتون) والذي حكم خلال القرن الثالث عشر ق.م . وكان هذا الفرعون متأثراً بشكل كبير بثقافة وادي الرافدين من خلال علاقته المتينة ب(الكشيين)2 الذين حكموا وادي الرافدين في هذه الفترة التي شهدت تقارباً كبيراً بين هاتين الحضارتين . أن ما أقدم عليه هذا الفرعون هو نفس أسلوب مدينة (بابل) لكنه تجاوزها لدرجة الألغاء التام لبقية الألهة  المصرية  ، وجعل من الأله (آتون) أو (قرص الشمس) وهو الأله الحامي لمدينة (طيبة) التي أتخذها عاصمة له إلاهاً أوحد منفرد له جميع القوى و الطاقات الخارقة التي تتحكم بمصير الكون ، كما وقام بهدم جميع معابد الآلهة الأخرى و التنكيل بكهنتها وتحريم عبادتها . وبالتالي الغى الدور السياسي لتلك المدن و جعله مقتصراً بعاصمته (طيبة) لغرض تثبيت موقعها السياسي في وادي النيل و العالم القديم . وكان من الطبيعي أن لا يكتب النجاح لفكرة التوحيد التي طرحها (أمنوفس الرابع) و التي كانت بمثابة ثورة في الفكر الديني القديم ، أو الأستمرار بها لفترة طويلة  بسبب المعارضة الشديدة التي جابهتها من قبل حكام و أمراء المدن الأخرى و كهنة معابدها بعد أن ضربت مصالحهم الأقتصادية من خلال تهميش دور مدنهم سياسياً ، حيث تمكنوا فيما بعد من القضاء عليها وقتل صاحبها الفرعون (أمنوفس  الرابع) . و بالرغم من القضاء على هذه الثورة الدينية إلا أنها تركت تأثيراً كبيراً وصدىً واسعاً لدى الطبقات المسحوقة و المضطهدة من الشعب و بضمنهم (الساميين) الذين كانوا قد أستوطنوا وادي النيل منذ القرن التاسع عشر ق.م  أيام حكم أجدادهم (الهكسوس)3 ، وكان هؤلاء قد لاقوا الكثير من الظلم و الأضطهاد بعد القضاء على حكم أسلافهم ، و غدوا يعيشون بحالة من الفقر و العَوز عند سفوح الجبال و الصحاري و أطراف المدن . وهؤلاء تبنوا فيما بعد فكرة و مفهوم تلك الثورة الدينية بما يتلائم و مظلوميتهم و معاناتهم ، فقاموا بأعادة صياغة فكرتها بأسلوب فلسفي جديد أكثر تقبلاً من قبل عموم الناس ، مع أضافة الكثير من الآداب و الأعراف الآجتماعية و التقاليد الدينية و الأساطير من المناطق الأخرى وخاصة وادي الرافدين ، و بشكل ورؤية مختلفة تتلائم وفكرهم الديني الجديد . 

وهكذا كانت البداية في الديانات اللاحقة بنوعيها (السماوي) و (الأرضي) ملاذاً للمُعدمين البسطاء و المقهورين و المظلومين ، والذين أعتنقوا أفكارها آملين منها أن تمنحمهم شيئاً من المساواة الأجتماعية المفقودة في مجتمعاتهم ، وأن يستعيدوا من خلالها شيئاً من أنسانيتهم و كرامتهم المسلوبة .... وكما قال (كارل كاركس)..... (الدين زفرة المخلوقات المعذبة).

  

الهوامش

 1... الطوطمية... رابطة روحية قوية بين أنسان أو جماعة مع كائن حي قد يكون حيوان أو طائر أو نبات ، ليكون رمزاً و مُلهماً لهم .

2... الكشيون...من الأقوام التي أستوطنت جبال زاكروس ، سموا بهذا الأسم نسبة الى إلاههم القومي (كشو) . تمكنوا من السيطرة على وادي الرافدين بعد سقوط مدينة (بابل) على يد (الحثيين) عام 1595ق.م ولمدة قاربت الأربعة قرون . أبرز مدنهم العاصمة (دوركوريكالزو) المعروفة بأسم (عقرقوف) و التي تقع غرب بغداد .

3... الهكسوس... ويعني الأسم باللغة المصرية القديمة (أصحاب الخيل) . وهم من الأقوام السامية التي أستوطنت بلاد الشام . تكمنوا في القرن التاسع عشر ق.م  من أحتلال وادي النيل و أسقاط السلالة الرابعة عشر في عهد المملكة الوسطى . و أسسوا ثلاث سلالات حاكمة هي الخامسة و السادسة و السابعة عشر . أستمرت سيطرتهم لمدة قاربت الثلاث قرون ، حتى تمكن الفرعون المصري (أحمُس) من القضاء على حكمهم و أسس السلالة الثامنة عشر التي كانت بداية المملكة الحديثة في وادي النيل .

 

الدخول للتعليق