• Default
  • Title
  • Date
الثلاثاء, 19 كانون2/يناير 2016 20:28

زهرون عمارة صائغ الملوك السلاطين

الكثير من الشخصيات العراقية هي عبارة عن مشروع روائي متاح للجميع ،ومايمنحك حبكة السرد في الولوج
الىمفردات حياتهم هي كمية الذهول الذي يحيطك حين تتناول العطاء الذي قدموه والجهد المبذول باالخالص لمنتجهم
مهما كان نوعه وتعددت روافده ،والسؤال االكبر واالكثر اثارة كيف استطاعوا ان يحافظوا على قمم سيادتهم
لالنجاز حتى آخر اللحظات من سني اعمارهم، رحلوا لكنهم احياء اكثر من االحياء انفسهم، ناموا ولم يموتوا واحالمهم
تردد الى يومنا هذا ما قاله المتنبي العظيم: انام ملء جفوني عن شواردها.....ويسهرالخلق جّراها ويختصم
نعم شواردهم وشذراتهم تبوح لنا وعلى مر الزمان حكايات تكاد تكون اسطورية لسالطين كبار في مجال ابداعاتهم،
ليجبرواالقاصي والداني والنخبوي والبسيط والملك والعامة بالحديث عنهم.
زهرون المال خضر عمارة والملقب بـ )زهرون عمارة( صائغ الملوك والسالطين والشخصيات الكبيرة سواء في
العراق او في العالم العربي واوروبا وتركيا، لتجد مقتنياته مقرا مهيبا لها في متحف اللوفر وغيره من المتاحف
االوروبية ،وتفاخرت بفنه العديد من الصحف االجنبية والعربية، كيف تدخل عالم هذا الرجل من غير مساند وداعم من
عائلة هذا الرجل؟ خاصة وان جميع االخبار تشير الى ان اغلب ابناء هذه العائلة المندائية قد هاجرت العراق لكن
الصدفة وحدها تقودنا الى احد احفاد زهرون في محل صغير يقع في احدى مناطق بغداد من خالل قطعة صغيرة كتب
عليها سبتي زهرون، لنعرف منه ان جده زهرون ولد في جنوب العراق ألب يدعى المال خضر وسمي بالمال رغم ديانته
المندائية لورعه وتقواه وقبره موجود االن في منطقة الزبير ويزار من قبل اهل البصرة ،لكن والكالم للحفيد حسام
سبتي زهرون ان جده زهرون سكن مدينة العمارة وعاش فيها طيلة ايام حياته ووافاه االجل فيها وقبره موجود فيها
وكذلك بيته ،لذلك تجد اسم )عمارة( طغى حتى على اسم والده ليصبح لقبا لجميع افراد عائلته ، ومن ذرية واحفاد
المال خضر والد زهرون عالم الفيزياء واول رئيس لجامعة بغداد عبد الجبار عبدهللا وغيرهم من الشخصيات.
يدعي الموت هربا منالسلطان
وعن االسباب التي جعلت من الناس ان تلقبه بصائغ الملوك يقول حفيده حسام بعد ان ذاع صيته في البالد لعمله
المتميز في عالم الصياغة ،كثر عليه الطلب من الداخل وبالتحديد من الوالة العثمانيين، وفي سبيل ارضاء سلطانهم
قاموا بتكليفه بعمل منحوتات وحلي وخواتم للسلطان ، وان من اهم الشخصيات التي كلف بصياغة اعمال لها هو
السلطان عبد الحميد الثاني بتكليف من الوالي العثماني في العراق ،مبينا انه عمل له في البداية آركيلة من الفضة
وشمعدانا ودالالً من الفضة، واواني للحلويات، وسماور من الفضة وقناني ماء الورد، وبعد ذلك توالت عليه
الطلبات من قبل حريم السلطان لغرض ان يصنع لهن الحلي والمجوهرات ، فضال عن الوالة العثمانيين في اغلب البلدان
العربية، ولكثرة الطلبات عليه سواء من السلطان او الوالة وحتى الشخصيات العامة المهمة في الدولة كان يعمل تحت
يده الكثير من الصاغة الكبار من اقربائه ، وهذا ماجعل السلطان عبد الحميد يرسل بطلبه لغرض االقامة في قصره
وتنفيذ مايريد وهذا مادعاه الى ان يوصل رسالة من خالل االقرباء بانه قد توفي حتى اليذهب الى هناك، متحاشيا
العمل مع السلطان مبررا ذلك بانه سيقيده ويحد من موهبته الفنية فضال عن كونه له مسؤوليات كثيرة فقد كان مختار
الطائفة الصابئية وممثلها في الدوائر الرسمية ويرعى مصالحها وبيته مفتوح للجميع لحل مشاكلهم ، وهو رب اسرة
مكونة من ثالث زوجات مع االطفال واالخوان واالخوات واالقارب، فضال عن تفرغه للصياغة وهذا ماجعله يترك فكرة
السفر
بعد االحتالل االنكليزي للعراق اصبح زهرون صائغ الملوك واالمراء والساسة الكبار سواء من داخل العراق او
خارجه كما يبين حسام ومنهم الملك فيصل االول والملك غازي والجنرال مود، ومن خالل تكليفه من جميع هؤالء صاغ
للملكة اليزابيث والملك ادور عدة تحف وهدايا فضية تتباهى بها المتاحف االوروبية الى يومنا هذا ، ويضيف الحفيد ان
زهرون صاغ لوزير الحربية البريطاني ونستون تشرشل علبة سيكار من الفضة بتكليف من الجنرال مود ،وقد رسم
على وجهها صورة تشرشل رافعا يده وفي الوجه االسفل صورة المدمرة البريطانية فكتوريا ،وكذلك صاغ عدة تحف
فضية لفاروق ملك مصر ، ويعد زهرون اول من ادخل االلوان او ماتسمى بالمينا الى العراق بواسطة فرن الصياغة
الذي قام باستيراده من الهند، مضيفا ان زهرون شارك في عدة معارض خارج العراق وبدعوات من تلك الدول مثل
فرنسا وبريطانيا وتركيا وايران والعديد من الدول االوروبية، وله تحف فنية محفوظة في تلك الدول
لؤلؤ امراء البحرين
اعمال زهرون االن تعرض في المزادات العالمية الكبرى كأية اعمال فنية ذات قيمة كبيرة، وعمله يعرف من قبل
الخبراء في هذه المهنة من بين االف االعمال لبصمته الخاصة في العمل، واوضح حسام ان اغلب امراء وملوك الخليج
في ذلك الوقت كان صائغهم االول زهرون ، بل انهم حين ينوون الزواج وخاصة من امراء البحرين كانوا يأتون باللؤلؤ
بكميات كبيرة ويعطونها لزهرون من غير عد او وزن ويطلبون منه ان يعمل لهم قالدة او اقراطا واساور من اللؤلؤ
ويروي حفيده ان والده اخبره انه في احد االيام جاءه احد عماله الذي رزق بمولودة وطلب منه ان يصنع اقراطا لطفلته
من لؤلؤ احد امراء البحرين فقام بتوبيخه وطلب منه ان يستأذن من االمير في طلب ذلك النه صاحب المادة ،وحين جاء
االمير لتسلم مصوغاته روى له زهرون تلك الحادثة ،اندهش االمير وقال له يازهرون المال مالك ونحن نثق بك ثقة
عمياء فلماذا حرمته من هذا الطلب البسيط، وقام باهداء العامل مايريد من اللؤلؤ الفائض، وهذا دليل امانته التي
اشتهر بها ، مبينا ان زهرون كان اليتكلم اثناء العمل بينما شقيقه هرمز كان كثير الحديث وصاحب نكتة ، لذا تجد في
نهاية النهار ان انتاج زهرون من التحف اضعاف ماينتجه هرمز وبقية الصاغة من العائلة
ورث المهنة بعد زهرون اوالده حسني وسبتي والكثير من افراد العائلة مثل )اسمر( و)ناجي( وغيرهما ،و حسني
مثال نال شهرة واسعة واشترك في احد المعارض التي اقيمت في باريس والعديد من الدول االوروبية واالسيوية وقام
بصياغة العديد من التحف لسياسيين كبار في حكومات قاسم وعارف وحتى شعارالبنك المركزي العراقي قام بصياغته ،
وكذلك بالنسبة لولده سبتي الذي دخل الى محله في الثمانينيات من القرن الماضي كما يقول حفيد زهرون الممثل
المصري نور الشريف وزوجته بوسي وابنتهما مي التي هي مخرجة االن وصاغ لهم والدي خاتما للممثل ولزوجته
اقراطا والبنته قالدة، ومن الشخصيات االخرى التي صاغ لها والدي الممثل العالمي انطوني كوين حيث صاغله ميدالية
وسوارا في سبعينيات القرن الماضي، اما بالنسبة له فقد صاغ للعديد من الشخصيات السياسية ،فمثال صاغ لجون بايدن
بتكليف من مسؤول عراقي رفيع المستوى مسلة حمورابي وكذلك للسيد عمار الحكيم ايضا مسلة حمورابي بحسب
قوله..
شارك بصياغة اول الدساتير
الحديث عن السير زهرون كما يحلو ان يخاطبه ملوك وامراء اوروبا يطول ، الن الرجل مسك اكثر من تفاحة ذهبية
بيد واحدة، وحين تشاهد المطرقة والسندان اللتين كان يستخدمهما زهرون بعمله تذكر قول نيتشه ليست االعالي هي
التي تخيف بل هي االعماق ،بالتاكيد ولكنها تخيف باهميتها فكلما اوغلت بتاريخ اي مبدع او رائد في اي نوع من
االبداع تجد مايخيف ويدهش من حيث االهمية ، فزهرون عمارة فضال عن كونه صائغ الملوك واألمراء والمشاهير فهو
رسام ونحات ويجيد التحدث باربع لغات وهي العربية واالنكليزية والتركية والفارسية باالضافة الى اللغة المندائية ،
وهو من مثل طائفته في صياغة اول دستور للدولة العراقية وينتسب اليه العديد من العلماء واالدباء والفنانين،
ومايحضرنا منهم والكالم لحفيده ابن اخيه الشاعر والصائغ عباس والد الشاعرة لميعة عباس عمارة ،ومن نسله ايضا
الشاعرعبد الرزاق عبد الواحد ، والفنانة سهام السبتي، واحد احفاده عالم الرياضيات و مدير البنك المركزي في السويد
وغيرهم من اعالم الفكروالعلم واالدب والفن
من السومريين الى زهرون
وختاما نستطيع القول وحسب ماتشير اليه جميع الدراسات ان فن الصياغة اختصت به طائفتان فقط وهما اليهود
والصابئة، وهو موروث سومري ومايؤكد ذلك هو اكتشاف القبور الملكية في أور التي ادهشت المستكشفين والمنقبين
من خالل الحلي والمجوهرات التي عثروا عليها في تلك المقابر واآلثار، والصياغة هي فن قائم بذاته ومعناها اعطاء
المعادن النفيسة قيمة جمالية من خالل االشكال والزخرفة ونوعية العمل ، وجميع الدالئل التاريخية تشير الى ان اشهر
الصاغة ليس في العراق فقط وانما في العالم هم الصابئة ويتربع على عرش هذا الفن هو الصائغ الراحل زهرون
المالخضرعمارة، الذي لم توثق حتى ذاكرة حفيده تاريخ والدته ويوم وفاته ، لكنه الى يومنا باق كفنان كبير تروي
تحفه الفنية الرائعة لمسات االبداع لهذا السومري الكبير
أال يستحق زهرون الذي حفر بأنامله أجمل التحف الفنية، التفاتة من قبل القائمين على الفن نصبا يخلده في
وسط مدينته العمارة؟

اسباب انحسار اعداد الصابئة المندائيين عبر الزمن

كثيرا ما يتساءل الصابئة المندائيون عن سبب قلة عددهم مع كونهم اتباع اقدم ديانة معروفة ، ولعلها كانت الوحيدة السائدة على مدى قرون طويلة من الزمن على الاقل في تلك الرقعة الجغرافية التي كانت تسمى (الهلال الخصيب) ، ولكونها الديانة القديمة والوحيدة في زمن كان يخلو من اي معتقد توحيدي ، فهذا يعني ان معظم الشعوب القريبة والمحيطة كانت تنتمي ربما الى ذات الفكر والعقيدة التي يؤمن بها الصابئة المندائيون ، وهذا يقودنا الى الاعتقاد ان أعداد الصابئة كان كبيرا جدا ..

ان الصابئة رغم عمق وجودهم الزمني ورغم المحن والنكبات المستمرة التي طالتهم وألمّت بهم ، استطاعوا ان يجتازوا تلك المراحل الطويلة والمريرة من التاريخ ليطرقوا ابواب زمننا الحاضر بثقة ، حاملين معهم ارثهم الروحي الكبير . فكيف استطاعوا النفاذ بجلدهم من قسوة التاريخ وظلم البشر وهم يعبرون ممرات الزمن المهلكة ، فبقيت منهم بقية ، لو لم يكونوا في الاصل جموعا كبيرة العدد . لقد بقي الصابئة وهم الاقدم في حين انقرضت وتلاشت العديد من الاديان والطوائف واصحاب العقائد ممن هم احدث نشوءا .

من المحتمل ان الصابئة المندائيون كانوا كثيري العدد في زمن ما ، الى الحد الذي يمكن وصفه بأنهم كان – اغلبية – بين من يحيطهم من شعوب وطوائف ، لكنهم اغلبية مسالمة لا أطماع لهم ولا يبغون سوى تلبية نداء السماء في ان تكون حياتهم حياة قداسة وتعبد حتى بلوغ مرضاة الخالق والظفر بحياة النعيم الابدية في عالم النور . الا ان هذه الأغلبية دفعت ثمن بقائها من حياة ابنائها شيئا فشيئا حتى اوشكت على الزوال والانقراض ، فما هي الأسباب التي جعلت تلك الاغلبية تتحول الى اقلية ، ولماذا لاتزال هذه الاقلية تراوح في مكانها من ناحية العدد ، وكيف سيكون حالها ووضعها بعد قرن من الزمن مثلا ؟؟ هل ستضمحل وتزول، ام ان القلة الباقية من اتباع هذه الديانة ستحافظ على نفسها وعلى معتقدها رغم عنف الزمن وستستمر في الوجود مثلما استمر اسلافها من قبل ؟

ان البحث في أسباب مشكلة ما ، لا يعني بالضرورة حلها ، انما قد يؤدي ذلك البحث الى الحد من استفحال تلك المشكلة وتناميها .
ولعل الاسباب الرئيسية لأنحسار اعداد الصابئة المندائيين تنحصر بالآتي :

اولا . مشكلة الانسلاخ عن الديانة المندائية والانتماء الى اديان اخرى .

الانسلاخ عن الديانة الأم والانتماء الى اديان اخرى رغبة او قسرا هي واحدة من المشاكل الكبرى التي واجهت وتواجه مسيرة الديانة المندائية عبر تاريخها الطويل وهي مشكلة يصعب التحكم بنتائجها على المدى البعيد ، خصوصا في ظل وضع الصابئة الحالي بعد تجزأتهم الى مجموعات صغيرة ضعيفة متباعدة ومتناثرة هنا وهناك في بلدان العالم ، وحيث مغريات العالم المعاصر والانفتاح الكبير على الاديان الاخرى ، والروابط الاجتماعية الآخذة بالضعف والانحلال ، كل ذلك يدق ناقوس الخطر في هذا المجال بقوة مجلجلة .

ولا شك ان الاديان الثلاثة الكبرى قد احتوت او جذبت اليها حين نشأتها اعدادا كبيرة من الصابئة المندائيين ، وانجذاب الصابئة الى تلك الاديان ربما جاء تماشيا مع توجه جموع غفيرة من البشر صوب تلك الاديان الجديدة بسبب سطوتها الاولى القوية وتأثيرها على افكارهم وعواطفهم ، فآمنوا بها لأتخاذها مُنقذا ومَنفذا للخروج من نير العبودية والقهر الاجتماعي ، وبسبب ماوعدت به تلك الاديان من المساواة بين البشر ولزعمها السعي لأزالة الفوارق الطبقية واعانة الضعيف والفقير وغير ذلك من الوعود ..

هذا من ناحية الانتماء الى تلك الاديان عن رغبة وقبول حقيقي ، اما من ناحية الخروج عن الديانة الام (المندائية) واعتناق ديانة اخرى قسرا او اغراء او ترغيبا عن طريق المبشرين بتلك الاديان فهو امر عانى منه الصابئة المندائيون كثيرا وخسروا جرائه العديد من ابنائهم – اتباعهم – خصوصا عند مجئ الاسلام وبعد فتح العراق وبلاد الشام ، ومعلوم للجميع كيف عامل اصحاب الدين الجديد اتباع الديانات الاخرى وخصوصا الصغيرة منها ، وكيف واجه المندائيون العنف والاضطهادات بكل اشكالها ، والحديث في هذا المجال يطول ...

اما في العصر الراهن فأن وسائل الترهيب التي يستخدمها المتطرفون لأكراه الصابئة المندائيين على ترك ديانتهم والانضواء تحت لواء ديانة اخرى ، كانت هي ذاتها الوسائل التي استخدمت من قبل ولكن على نطاق ضيق ، مستغلين ظروف الحروب والفوضى وغياب القانون وضعف الطرف الاخر . ان وسائل الاكراه والترهيب تلك ارغمت العديد من الافراد على ترك العقيدة المندائية وقطع كل صلة تربطهم بها ، في حين لقي البعض الاخر حتفه حين ابى الرضوخ لمطالب المتطرفين .
ان النتيجة الحتمية لخروج الافراد والجماعات نهائيا من مجموعتهم الدينية ستؤدي الى تقليص العدد الكلي للمجموعة ، ناهيك عن تلك الاعداد التي يتم تصفيتها .

ثانيا . تحريم دخول (انتماء) الغرباء الى الديانة المندائية

ان المجموعات البشرية الصغيرة منها والكبيرة تزداد اعدادها مع الزمن بنسب طبيعية ومعروفة مالم تلم بها كوارث كبرى تحد من نموها السكاني . ويزداد سكان العالم بنسبة تتراوح بين 4ر1 % و6ر1% سنويا . ويعتبر المختصون ان الزيادة السنوية لنفوس اي بلد تنتج من حساب (عدد الولادات + عدد الوافدين) مطروحا منها (عدد الوفيات + عدد المهاجرين) وهذا الامر ينطبق على حالة المجتمع المفتوح ، اي الذي يستقبل الوافدين ( كلمة الوافدين هنا تعني كل شخص راغب بالانتماء الصميمي الى ذلك المجتمع) قلنا ان تلك النسب والنتائج تنطبق على المجتمعات المفتوحة ، اما في حالة المجتمع المندائي – موضوع هذه الدراسة – والذي هو من نوع المجتمعات المغلقة فلا تنطبق عليه تلك النتائج والنسب .

فالديانة المندائية ديانة غير تبشيرية بحسب التعاليم التي توارثها الابناء عن ابائهم واسلافهم ، وبهذا تم تحريم قبول ودخول اي افراد من اي جنس او عرق او دين الى هذه الديانة او الاختلاط بأفرادها او مصاهرتهم ، وهذا الامر جعل الشعب المندائي يراوح مكانه من ناحية العدد ، فليس هنالك من اعداد اضافية جديدة تنضم اليه لتزيده عددا كما هو الحال مع اتباع الاديان الاخرى التي تنمو اعدادها بسرعة كبيرة نتيجة استقطابها وقبولها جموعا بشرية من كل جنس ولون وبشكل دائم. واصبحت مسألة زيادة اعداد الصابئة مقتصرة على امر تزاوجهم وتناسلهم فيما بينهم ليس الا.
اذن في الحالة المندائية هنالك مهاجرون (خارجون منها) وليس هنالك وافدين (منضمين اليها)، فمن المؤكد والحالة هذه ان يكون العدد الإجمالي في حالة انحسار مع الزمن بدل ان يكون في حالة تزايد ونمو . والديانة المندائية هنا مثلها مثل بحيرة مغلقة لايغذيها اي مصدر مياه ، فما تلبث والحالة هذه ان تنضب مياهها وتزول .

ثالثا . العزوبية (العزوف عن الزواج) والزواج المتأخر

في مجتمعاتنا العربية قد تكون الظروف الاقتصادية المتردية والبطالة والغلاء ، سببا في عزوف الشباب عن الزواج .. فالعائق المادي سبب مهم اضافة الى اسباب اخرى كالانشغال بالحياة العسكرية او الدراسة او السفر او المرض اوغير ذلك .. وقد يكون لمتطلبات الزواج (التحضيرات والمستلزمات) العديدة والباهضة التكاليف التي تشترطها الفتاة وذويها ، والمغالاة في المهور ، دور مهم في دفع الشباب الى الغاء فكرة الزواج او تأجيله الى زمن آخر قد لايأتي. او قد يأتي الزواج في وقت متاخر بالنسبة الى عمر الزوج او الزوجة مما يؤدي الى تحديد النسل حتما وبالتالي الى انحسار عدد افراد المجتمع .

ومن الاسباب المهمة التي ادت وتؤدي الى قلة الزواجات عند الصابئة ، هي الانغلاق وتحريم الأقتران بأفراد من ديانات اخرى ، فهذا يؤدي الى تحديد الخيارات، وبالتالي قد لايجد الفتى ضالته المنشودة ، اي شريكة الحياة المناسبة ، فيفضل حياة العزوبية على حياة اخرى قد يعتبرها مجهولة العواقب فيتجنبها مرغما. وقد دفع الصابئة المندائيون ثمن هذا الانغلاق غاليا وفي كافة النواحي ، وهو انغلاق فرضته وصايا الدين ولامجال للحيلولة دونه .

كذلك فان مشكلة التشتت وتباعد المجموعات السكانية المندائية وانعزالها عن بعضها ، وعدم التقاء تلك المجموعات او اختلاطها واندماجها ، يمكن اعتباره سببا مهما من اسباب عدم الاقتران وبالتالي عدم تكوين أُسر جديدة .

كما أن المحن المتواصلة بكل اشكالها التي تمر بها مجتمعاتنا ومرارة واقعنا المتردي والنظر الى المستقبل بتشاؤم ، كل ذلك يؤدي الى اصابة الشباب باليأس والاحباط وقد يدفعهم الى التمرد على الواقع او الى الهجرة الفردية الى خارج اوطانهم ومن ثم ضياع العمر في خضم هذا العالم الواسع دون ان تتاح لهم فرصة الزواج .

رابعا . الكوارث والحروب والتصفيات والامراض الوراثية

لاشك ان طائفة الصابئة المندائيون كانت تخسر في كل حقبة من الحقب القاسية التي مرت بها اعدادا كبيرة من ابنائها كضحايا، نتيجة القتل والتغييب والتشريد وتغيير الديانة بالاكراه ، وغير ذلك من وسائل الاستئصال ، حتى لم يبقَ منها اليوم الا اعداد بسيطة .
لقد واجه الصابئة المندائيون القدماء محنا وضيقات كبيرة ادت الى تفتتهم الى مجموعات صغيرة متناثرة تعيش في الخفاء هنا وهناك في الاماكن المنعزلة والنائية ، وقد طال القتل والملاحقات في العصور الماضية حتى رجال الدين وكل من له صلة بالسلك الكهنوتي فعمت الفوضى حياتهم وانزوى منهم من انزوى خارج حركة المجتمع واختفى البعض الاخر او غير عقيدته بالاكراه، وبسبب تعرض الصابئة لتلك المحن المتواصلة فأن اعدادهم تضاءلت كثيرا مع الزمن ، ولازالت غير قابلة على النمو .

من جهة اخرى فأن الحروب والكوارث الطبيعية والصحية التي ألمّت بالمجتمع العراقي قد طالت المجتمع المندائي ايضا فهو جزء من ذلك المجتمع الكبير ، فما حصل من مجاعات وفيضانات وانتشار للأوبئة والامراض وما نتج من موت وقتل نتيجة للحروب وللأحتلالات المتواصلة لأرض العراق منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، كل ذلك لاشك ادى الى خسارة لايستهان بها لجزء من الشعب المندائي القليل العدد أصلا .

كما لايُخفى على الجميع أن البيئة التي سكنها المندائيون طوال تاريخهم وحتى منتصف القرن العشرين (وربما بعدها بعقدين) كانت بيئة متواضعة تفتقر للخدمات الصحية ولشروط الحياة السليمة والطبيعية (كان سكان تلك البيئة يشربون المياه من الانهار والترع) فكان انتشار الاوبئة والامراض الخطرة سائدا ومتواصلا ، وفي ظل ضعف الخدمات الطبية وضعف الجانب المادي للأهالي إضافة الى الجهل وقلة الوعي والإهمال فأن الأصابات بالامراض المختلفة كانت تفتك بالناس بأستمرار . وفي الكثير من الأحيان كانت الأسر المندائية تفقد العديد من ابنائها وهم في سن مبكرة .

كما ان مسألة تحريم اقتران الصابئة (ذكورا واناثا) بأفراد غرباء (من ديانات أخرى) ادى الى انغلاق ابناء الطائفة على بعضهم واصبحت الزواجات محصورة في حدود مجموعتهم الصغيرة، فصار ما يعرف بزواج الاقارب هو السائد ، ومثل هذا النوع من الزواج كما هو معلوم يؤدي في اغلب الأحيان الى ظهور صفات جينية ضارة وغير مرغوبة (بعض تلك الصفات قد لا تبدو ظاهرة الا على المدى البعيد) ، ونتيجة لذلك ربما يكون الصابئة ورثوا عن اسلافهم الامراض المزمنة والخطيرة كالسرطان والسكري والضغط وغيرها من الامراض التي تؤدي الى حدوث وفيات مبكرة ، وهذا يؤدي الى زيادة في المعدل العام للوفيات وبالتالي انخفاض في اعداد الصابئة .

نتيجـة

الاسباب التي ادت الى انحسار اعداد الصابئة المندائيين عبر الزمن اغلبها ذاتي ، اي نابع من داخل تكوين هذه الديانة ونمط مجتمعها وتعاليمها .. وهذه الاسباب لا زالت قائمة ، ولازالت تمتلك نفس تأثيراتها السابقة ، اي الحد من تنامي عدد أفراد هذه الطائفة ، وسيبقى هذا العدد في حالة انكماش طالما بقيت الاسباب . لهذا فلا غرابة في ان تكون ديانة الصابئة المندائيين هي الاصغر من ناحية عدد الاتباع بين الاديان القائمة اليوم في العالم .

حلول وافكار لمعالجة المشكلة

اولا . العمل على ازالة العوائق التي تحد من الزواج .
ثانيـا . التشجيع على زيادة النسل – الانجاب .
ثالثـا . توجيه الفتيان والشباب وتوعيتهم اجتماعيا ودينيا للحد من انفلاتهم الى الاديان الاخرى.
رابعا . بناء علاقات متينة مع قادة واتباع الديانات الاخرى للحد من الاضطهادات والتصفيات .
خامسا . التوعية الصحية المستمرة للحد من الاصابة بالامراض الخطرة .

...................................................................................

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 18 كانون2/يناير 2016 17:22

ما بين بغداد ورواندا طريق واحد

 

شعرتُ وانا انظر الى نداف الثلج المتساقط من عباب السماء بلمعان عينيّ.. شيء ما يأخذني يقودني نحو الافق البعيد حيث الفراغ الكوني ليصل بي الى ما اختاره خيالي، صورة مبعثرة لوطن احيائه مازالت في اطلال ذاكرتي.. امشي ازقة بغداد مدينتي ابحث عن اهلي واصدقائي.. ارتطم بوجوهٍ فارقتها منذ زمن ،احدّق فيها ،احاول رسم صورة كاملة لكيانها ويضيع عليّ رسمها متماهية عني منحسرة في ضباب خيالي.. خنخنة صوت المذيع الهولندي تسقطني من فوقي، واعود ابحث عن كياني وارى اربعة اوصال فيّ . يد تلطم على الصدر، واخرى احتمت تحت خيمة في العراء ،وجزء ثالث يسعى لخلق كيان غير كياني، ولم يبق لي سوى جزء قادني نحو الهجرة التي سوف أذوب فيها بعد سنين ويذوب ذكري كقطعة الثلج.
تأخذني حيرتي، الوج داخل الصالة، ابحث عن مخرج لأفكاري؛ ثم الوذ هارباً من البيت ..
عاصفة الثلج تضرب وجهي ، ندافه يتسارع سقوطه على ثيابي، يكسوني بياضاً يعود بي الى ايام مدينة السليمانية .. ابحث فيها عن امرأة عجوز كردية تسكن طريق المارة من الطلاب، تصيح بصوت متهدجٍ " اهلاً وسهلاً عرب" كانت ترحب بكل المارِّين لا فرق بيننا فنحن ابناء وطن واحد.
سَرَحْتُ بخيالي وانا اقف مكاني عند باب الدار ..جاء بالصدفة جاري الأفريقي بسيارته، بعد ان ركنها قال لي: يبدو ان الثلج قد راق لك يا صاحبي ؟
قلت له: نعم انه يُذكرني بأشياء كثيرة عشتها في بلدي، ابحث فيه عن بياض القلوب، عساني أجدها اليوم في وطني..
ابتسم لي وقال: لقد بحثت هذا قبلك في رواندا بلدي .. بعد ان مات اكثر من مليون رواندي!! وتحديداً من قبيلة الهوتو قتلهم ابناء وطنهم من قبائل التوتسي. والسبب الاستعمار والجيران ...
- قلت له كيف؟
- قال: دخَلَنا البلجيكيون مستعمرين بلادنا ، فتشوا عن تأريخنا كي يفرقوننا اثنياً؛ فلم يجدوا سوى معيار واحداً لتفريقنا وهو قياس انوفنا!!
طافت على وجهي ابتسامة استنكرت فيها ما سمعته، انظر الى وجهه وعرض انفه .. توقف عن الكلام، رفع يده واخذ يزيح الثلج المتساقط على كتفه واردف: من كان ذو انف عريض هذا من قبيلة الهوتو الأكثرية المزارعة، ومن كان ذو انف مستقيم وقصير فهذا من قبيلة التوتسي الرعاة وهم الاقلية.. اخرجوا لنا هويّات وجوازات على هذا الأساس حمَلَت اسم قبائلنا، وكأننا شعبان بعدما كنّا شعب واحد، متصاهرين متحابين حتى كاد الفرق يختفي فيما يبننا. فأنا من الهوتو وزوجي من التوتسي.. زمَّ فمه واخرج زفيرا من انفه العريض وهو يهز رأسه ، كادت الحسرة تبتلعه لكنه عاود القول:
- كبرت دائرة الخلاف بيننا برعاية الاستعمار والجار؛ شُقت وحدتنا، وحدث الذي حدث. .. توقفت دائرة الذبح بيننا؛ لكن الاهداف الخبيثة لن تتوقف، فالأصابع الخفية مازالت تُحرِك دمى القتل.. انها اصابع لأيدي طويلة تطلق الخبث ولما يشتد القتال ويكثر الموتى والمهجرين تغسل يدها وتصبح ايادي لصنع الخير!! .. سكت عن الكلام وراح يصوب عينيه نحو وجهي وكأنه يقول لي أفهمتَ ما اعني ؟ هزّ يده مستنكراً ثم قال: نحن في عالم مجنون يا جاري.. تأكدْ ان الحرب ستعود في رواندا! كل المعطيات تدل على هذا والمسالة وقت لا غير؛ فالبلد يغلي والمنتفعون كثروا والفساد والجهل مستشري في البلاد وإرادة عموم الشعب مختفية..
- واين الأمريكان عنكم ؟
- قال : حاول الاوربيون والامريكيون ترضية اطراف النزاع لحفظ ماء وجههم بعد المذبحة، جلبوا لنا الديمقراطية عبثاً. انها ديمقراطية فاشلة كالمعلبات الفاسدة ..صنعوها ثوباً لنا لكنها في الحقيقة كانت خرقاً بالية لا تكسو جسداً . توقف عن الكلام واطبق راحتي كفه واخذ يفرك بهما من شدة البرد ثم رفع يده ، ربتَ على كتفي وقال : فكرْ في نفسك واطفالك وانجو ...
- كيف وهناك في بغداد اهلي ..
- انا كذلك هناك في رواندا اهلي.. يبدو لي ان قدرنا واحد وطريقنا واحد ..اعذرني البرد شديد سأدخل بيتي .
دخل منعماً بدفء بيته وافكاره التي أوصلته الى نتيجة اختارها وارتاح باله.. وبقيت في حيرة افكاري.. اتساءل في سري أأجاري الوضع اكيّف حالي كما قالها جاري، واذوب في غربتي كقطعة الثلج واختفي ويختفي ذِكري؟ أم اصرخ بوجه السماء وبوجه اهل بلدي اقول لهم كفاكم .. ادعوهم الحذر كي لا يضيع الوطن.

11-1-2016

 

نشرت في قصة
الإثنين, 18 كانون2/يناير 2016 21:22

مجاديف ضائعة

بثبات شق المركب المصنوع من حزم القصب عباب البحر، رغم شدة الريح وقسوتها وتلاطم الأمواج فيما بينها، تارة تعلوا لتغدوا كأنها جبل أشم رافعة إياه برجاله السبعة كما لو أنها تريد قذفه بعيداً حيث النجوم وبريقها الأزلي، لتنخفض به تارة أخرى متحولة الى هوّة سحيقة كأنها تهّم بابتلاعه.. ولم يكن ليضاهي غضبة الطبيعة هذه سوى قوة وهمّة تلك السواعد السُمر الصُلبة التي تحرك مجاديف المركب..... (أقوى يا رجال (سومر)، أضربوا بمجاديفكم أقوى، دعوا البحر يرى قسوة سواعدكم وشّدة بأسكم.. دعوه يرى أي رجال هم أولئك الذين تربوا تحت ضلال النخيل وارتشفوا مياه الفرات مع حليب أمهاتهم)..... هكذا صاح (أوندالو) بينما هو ممسكاً الدفة ببحارته الأشداء المنهمكين في التجديف، غير مبالين برشقات الماء العنيفة المتطايرة التي أنقعت أجسادهم وسطح المركب.. كان كل همّهم أن تمّر هذه العاصفة الهوجاء كسابقاتها اللواتي تجرأن على امتحان قوة أرادتهم..... وكما أعتاد من خبر أهوال البحور وفك احجية أمزجتها المتقلبة شيئاً فشيئاً وكما بدأت دون سابق انذار، ما لبثت العاصفة أن بددتها أنفاس البحر، كأنها لم تكن سوى زفرة غضب على من امتطوا عليائه متحدين ثورته، ليعود منكسراً خائباً أمام قوة صبرهم وعزيمتهم.
تهادى المركب على صفحة المياه الزرقاء الساكنة التي أعلنت أن البحر قد حان وقت قيلولته ليأخذ معها قسطاً من الراحة والخمول، فهّدأ من روع أمواجه وعواصفه قبل ان يعاود ممارسة هوايته المفضلة بمشاكسة راكبيه.... ولم يكن ليكسر هذا الهدوء سوى صيحات النوارس البيضاء المحلقة حول المركب، مستغلة ذلك الصفو لتأخذ باستعراض مهارتها في الطيران، كأنها تحوم بحثاً عن وطن نست صورته في مخيلتها، فصارت تبحث عنه بين الرياح وبين البحار علّها تعثر عليه، بعد أن غدا عنواناً للتائهين وحلماً للضائعين الذين نسوا ملامح أرضهم.
استغل الرجال روقان البحر ليريحوا اجسادهم ويزيلوا بعض ما لحق بها من تعب وارهاق، قبل ان يعاودوا التجديف مجدداً في صراعهم الذي بدا من دون نهاية مع البحر الذي أفقدهم طريق الوطن، لتصبح أمواجه ملاذهم ومنفاهم، منذ أن غدوا يبحرون في دوامة مغلقة من الضياع، كلما سلكوا طريقاً جديداً آملين بالخلاص والنجاة، لم يجدوا نفسهم فيما بعد إلا وهم يرجعون لبدايتهم المحيّرة، بعد أن حَجبت عنهم العتمة بغفلة من غرائب ونقائض زمن غادر قناديل الكون، ليفقدوا معها خيوطه الواهية التي تدلهم الى شطآن (أريدو).
أستل (لوبوماش) نايه العتيق الذي لا يفارق نطاقه، ليبدأ عزفه الشجي الحزين الذي تلاعب بخيالات رفاقه، مسافراً بهم الى عالم ساحر جميل مُسكتاً أنينه إياهم، مثيراً لواعج قلوبهم الباكية بفراق الأحبة والوطن، وكأن تلك القصبة النحيلة المجلوبة من أهوار سومر قد احتضنت كل تلك الشجون، فتحدثت عما يجول بين ثنايا صدورهم العامرة بالحنين.. لم تكن تلك أنغام في حقيقتها بل آهات بثتها روحه المتعبة التواقة لرؤيا (أريدو) وشوقه الأبدي لخط شاطئها الساحر.. (أيه يا (أريدو)، أما زلت تذكرين أبنائك؟ ألا يزال في قلبك العامر بالخير مكان لهم؟ حتى متى تظلين كحال هذا الناي لا تعرفين سوى الأنين؟).... (هل ما زلتم يا رفاق تذكرون شاطئ مدينتنا؟).
وكأن ذلك التساؤل كان بالانتظار، ليثير لوعة (أنشوسو) الشاعر المرهف بأشعاره الهائمة بين الحب ومعاناة الغربة، الذي أعتاد تهدئة هموم رفاقه، فيعقب على أحاديثهم بمقطوعات من شعره المتخم بالألم والذكريات، لتصاحب ما يجود به ناي صاحبه (لوبوماش) من أنين، بتناغم فطري يسيل عذوبة وشجن..
أمواج بلا عدد تضرب جدار السفينة
زوابع الظلام سرقتنا من صخب المدينة
أيامك يا (أريدو) تمضي كزبد البحر
حين تلامس بهدوء الارض الحزينة
رد (أتوريا) وهو ممدد على ظهره واضعاً راحتيه تحت رأسه جاعلاً منهما وسادة طرية، ملقياً بصره الى السماء كما أعتاد أن يفعل في وقت راحته حينما كان يعمل في حقول سومر (لقد ضلّت الشمس طريقها الى مدينتنا، فأصبحت مرافئها ظلماء لا يمكن الاسترشاد اليها، وأيام أهلها غدت مالحةً أشد صبراً من مياه البحر، بعد أن أصاب القحط والسَبخ أرضها ليهجروها رغم عشقهم لها).. ثم اردف.. (هل تصدقون يا رفاق.. كلما مرّ شيطان نسيان (أريدو) على ذاكرتي، يدغدغ لساني مذاق حلاوة ليس له مثيل ليعيد لتلك الذاكرة المتعبة صوابها... لابد أنها حلاوة تمر نخلات جدي التي زرعها أمام داره... كنت صغيراً لكني لا زلت أذكر جيداً كيف زرع فسائلها بيديه الحانيتين وكيف سقاها.. كأنه كان يرويها بدموعه وليس من مياه الفرات.. لتغدو تلك النخلات مع مرور الأيام علامة يُستَدل بها بيته، حتى أصبح الناس يسموه بيت النخيل... يا له من حنون.. كان يقول.. النخلة أحدى بركات الآلهة، وحلاوة تمرها من طيبة هذه الأرض وعذوبة مياهها)... (لقد صدق جدي كل الصدق.. فعلاً أن بحور الدنيا وأراضيها لا تساوي جرة نبيذ معتق من ذلك التمر).
صرخات جراحنا بين البحور تبعثرت
أهاتنا كبرت وأرواحنا بالصبر تصدعت
رغم قسوة ضحكات وازدراء الشامتين
لكن ضمائرنا العامرة بالأمل أبداً ما تغيرت
ومن مكمنه في مؤخرة المركب مُمسكاً بدفته، رد (أوندالو) على رفاقه بهدوء (حتماً أنها ستظل تذكرنا.. مؤكد أنها ستذكرنا... هل سمعتم عن أم نست وتنكرت لأبنائها؟).... رغم امتهانه ركوب البحار ألا أنه كان يخاف ويكره السفر.. في كل أبحار له كان صدره يعتصر، مراوداً إياه هاجساً غريباً خفي بأن سفرته هذه ستكون الأخيرة، ولن يكون بعدها من رجوع الى معشوقته (أريدو)... لقد تولد لديه هذا الاحساس منذ أن غادرهم أباه يوماً دون أن يعود.. لازال يذكر جثته الضخمة التي كانت مع عشقه لسومر كل ما ورثه عنه.. لم يعرف حينها الى أين غادرهم أو أين أتجه بسفره.. كل ما عرفه آنذاك (أنه مسافر من أجل سومر).... بهدوء مرر راحته على صدره العاري مُستشعراً دفئ حنين والده، حين أحتضنه ذلك اليوم لدى وداعه الاخير له وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة جميلة لا تتناسب مع ضخامته، لم يقل حينها كلمة واحدة لكنه ظل محدقاً في وجه طويلاً قبل أن يفارقه، ليقرأ في عينيه الحادتين اللامعتين تلك الوصية الخالدة التي كان يود قولها دون أن ينطق بكلماتها، بأن يظل عاشقاً وفياً لبلاده الخيّرة، وأن لا ينساها حتى وأن لاقاه يوماً ألم وجفاء وجحود منها... (خسأت الغربة أن توهمت يوماً بأنها تستطيع أن تنسينا سومر.. تظل بلادنا رغم ما أصابها وأصابنا أقرب الينا من جلودنا).
هو نفسه ثوبي القديم المُرقع ما غَيره النسيان
لا زال يكسوا عظام من ضيعه غدر الزمان
بدا أسمالاً باهتة لكنه ظل يحتضن صبراً وصمود
وخيوطه غدت أوتاراً تتغنى بحلم يعيشه الانسان
(مالنا نراك شارداً بفكرك يا (سوموكي) لم يفارقك داء السرحان حتى وأنت تصارع الموج بمجدافك.. من ذا الذي سرق فكرك وسلبك عقلك حتى جعل منك هائماً تعيش عوالم أخر؟).. قال (أتوريا) مخاطباً رفيقه الشارد بهَّمٍ لا يعلم به سوى قلبه المتعب.. ليرد بصوت مبحوح كاره للكلام (لابد أن زوجتي الحبيبة قد ولدت الان.. ولدت تلك الطفلة الجميلة التي تمنيانها.. طفلة نرى فيها فرحة الحياة التي فارقت بلادنا وضاعت بين دهماء هذا الزمن اللعين.. كنا قد اتفقنا أن نسميها (لامينا).. تخيلناها كملائكة السماء، جبينها مضيء كلمعان القمر، وعيونها سوداء كليل ساكن يلهم قلوب العاشقين، وضحكتها نسمة عذبة تنعش حياتنا وتغسلها من الهموم... لقد ضللنا نحلم بتلك الضحكة الجميلة وهي تطرب آذاننا، حتى جعلنا صدى ترديدها علامة القرب من (أريدو) وأرضها الحزينة).
هنيئاً لك يا أبنتي فراقي ودنيا المتعبين
سامحيني أن بعدت عنك أسوة بالحالمين
دمعي يناجي أمنياتي بأن تجمعنا الاقدار
فالربيع لابد أن يرطب يوماً حياة البائسين
(أن لك أملاً تركته في (أريدو) يا (سوموكي)، ربما طفلتك الموعودة تشعرك بأيام قادمة أجمل، لكن ماذا بشأن من أضاع نشوة الأمل وفقد كرامة العيش).... من مكانهما في مقدمة المركب رد كلاً من (آنوزير) وشقيقه التوأم (أونري)، الأخوين الحالمين بالسفر منذ صباهما سعياً لعالم آخر جديد خال من الموت والحروب، متنقلين بترحالهم من مكان لأخر من مشرق الارض لمغربها بحثاً عن أرض يشعرون معها بنسمة الأمان، ويشمّون فيها شيئاً من عبق الانسانية التي افتقدوها في (أريدو)... لتنتهي بهم الرحلة بفشل سعيهم للوصول لذلك الفردوس المفقود الذي لا يوجد سوى في مخيلة السراب، عندها فقط قررا الرجوع الى الوطن حتى وأن كان مجرد خرائب متهاوية، كي يبكوا على أطلالها المقدسة المقتادة على النحيب، فكان الضياع وسط الامواج مصيرهم... (لا يمكن أن تدوم الظلمة الى الأبد.. أن الأفلاك دائمة الدوران، ومن المؤكد أن فجراً جديداً لامع الضياء سينير أيامنا ليبعث فينا الحياة مرة أخرى).
حتى متى نبقى ضائعين بين البحور الهائمة؟
أنظل نحلم بوطنٍ مرسوم على الوجوه الباسمة؟
أنقضي أيامنا باحثين عن معنى الانعتاق؟
أنظل نترقب فجراً جديداً ينير أيامنا القادمة؟
ما أن أنتهى (أنشوسو) من ترديد مقاطع أشعاره التي كوت قلوب رفاقه حتى أخذت أمواج البحر تعلو مجدداً، منذرة الرجال بأن وقت راحتهم قد أنتهى وأنهم على موعد مع نزال جديد ضد غريمهم اللدود... حتى النوارس المحلقة خضعت لتهديد الطبيعة ففضلت أن تطير بعيداً، تاركة ساحة الصراع لمن هم أهل لها.... (هيا يا رفاق.. لم تعرف سواعدنا يوماً الراحة ولا أجسادنا الخدر.. لقد كتب لنا ظلم الأقدار أن نظل نبحث عن وطننا المفقود بين دروب البحار الغاضبة... سنأخذ طريقاً آخر لعل فيه النجاة من ضياعنا)... أخذ كل مكانه المعتاد خلف مجدافه، لتواصل تلك المجاديف ضرباتها بنفس الرتابة والنسق، بلا أدنى أمل في الخلاص.. بتوجيه وتحفيز من ربانهم (أوندالو) الذي كان كقائد فرقة موسيقية يدير وينسق العزف على آلات أعضائها.... فجأة توقف (سوموكي) عن التجديف دون الآخرين، موجهاً أذنه باتجاه الأفق كأنه يريد أستراق السمع لصوت يتردد بهدوء قادم من هناك.. ثم نهض بسرعة رافعاً يده للأعلى كي يتوقف رفاقه.. صرخ بعلو صوته المبحوح... (أنها (لامينا)، أنصتوا معي.. أني اسمع ضحكتها تأتي من عند الأفق).. سكون مُطبق خيّم على المركب.. الجميع ينصت.. الكل يتأمل.. ينتظر حلم العودة... همهمات الرجال تتعالى شيئاً فشيئاً.. صاح (لوباماش).... (نعم أنها تأتي من هناك.. أني أسمعها بوضوح).. أعقبه (أتوريا) والآخرون واحداً تلو الآخر.. (نعم .. أنها (لامينا).. ما أرق وأجمل تلك الضحكة... أخيراً لاحت نسمات الوطن)... توالت صيحات الفرح الممتزجة بضحكات النصر.. دمعات الفرح بللت وجوه رفاق الغربة والسفر البعيد...... صاح (اوندالو) بالجميع.. (هلموا الى مجاديفكم يا رفقة الدرب، لقد اقتربت ساعة اللقاء.. أن لنا وطناً ينتظر)..... (أقوى.. أقوى.. أقوى)... ضربت سواعد الرجال المفتولة القوية بمجاديفها الثقيلة مياه البحر المبهورة ببأسهم، ليسيروا بمركبهم نحو الأفق، حيث الوطن المنشود، حيث تصدح (لامينا) هناك بضحكاتها الساحرة.
**************************************************************
*(أريدو)... مدينة سومرية شهيرة، تسمى بقاياها الآن (تلول أبو شهرين)، تقع الى الجنوب الغربي من مدينة (أور) الأثرية بمسافة حوالي سبعة أميال، كان لها ساحل كبير يطل على (هور) واسع يشرف على البحر (الخليج العربي).... ولهذه المدينة مكانتها الرمزية وقدسيتها الدينية باعتبارها الأقدم في بلاد سومر استناداً الى قوائم الملوك السومريين... وكان إلهها الراعي هو (أينكي) لدى السومريين الذي يقابله (أيا) لدى الأكديين، وهو سيد الأرض والمياه العذبة... لقد أثبتت التنقيبات التي أجرتها مؤسسة الآثار العراقية في المدينة بين عامي 1946 و1949، صحة ما ذهبت اليه قوائم أولئك الملوك، بأن المدينة كانت تمثل أول استيطان للشعب السومري في جنوب وادي الرافدين، حيث يرجع تاريخ الاستيطان فيها الى حوالي 5000 سنة ق.م.. وقد ظلت المدينة مأهولة حتى حوالي 600 ق.م.

نشرت في قصة
الإثنين, 18 كانون2/يناير 2016 21:02

عَزفٌ مُنفرِدٌ على الناي

جميلة هي الهدايا، والأجمل أن تجوب الأزقة، والمنعطفات؛ بحثا عما يليق بمن نويتَ له الإهداء؛ تعبيرا عن حب لا تعادله الهدايا؛ وإن وازنت كل كنوز الكون، وما أجمل أن تكون أنتَ المُهدى له، والهدايا لها أصناف، كما أن لها مختلف الألوان، وشتى العطور، كل حسب الأنامل التي امتدت بها إليك، والمناسبة التي سيقت بها، عيد ميلاد، نجاح في الدراسة أو تخرج منها، أخرى من عاشق ولهان تعطرت بما تحت الجوانح يخفي من لواعج الشوق؛ وتلك إما أن يشهدها الأولاد والأحفاد حين يأذن الدهر باللقاء الطويل؛ أوعلى حائط المبكى تُعلَّق؛ إن دار دورة عكس دورة الأفلاك، الزمان، وليس من سلوى يومها سوى الإنصات إلى لحن طوال العمر يُبكيك، وجذوة تحت الرماد تُحرِق الكون إن قبَّلتْها الريح

هرج، مرج اجتاح قاعة الاحتفالات، كرنفال كبير أخلى أروقة الجامعة وقاعات درسها من شاغليها، كما هو الأمر كل عام، وفي نفس ذا التوقيت، موسم انتهاء العام الجامعي، والراقصون فيه، الطائرون بلا ريش؛ هم طلبة السنة الأخيرة إذ بتخرجهم يودعون عالما، وفي عالم جديد آخر يدخلون، يودعون القهر، والسعي الحثيث، وسهر الليالي ليصطفوا في طوابير الباحثين عن فرص التوظيف المنتظرين، وما وعدوا به شريك الغد إن تحققت الأحلام؛ فتلتقي قلوب أنهكها الانتظار، وألعاب التخفي، والكر والفر، والغميضة خلف الأستار؛ لكن الغد المجهول غير شاغلهم هذا اليوم، الساعة حاسمة، ولها وقع خاص، حفل التخرج، باقات الزهور، علب الهدايا، مناطيد تحوم في الفضاء، موسيقا تهتز لها الأرداف، تنافسٌ محمومٌ على أبهى وأجمل الأزياء، صبايا وصبية بعمر الزهور بدايات نيسان، هي الحلقات الأولى للحياة

عدَّل قامته على كرسيه المتحرك خلف طاولة مستديرة عليها التف الزملاء من هيئة التدريس، من كل التخصصات، قبالته استرخى غير مبال بما حوله، مُجترَّا همومه في فقد شريكة الحياة، وتحمله منفردا مسؤولية الأولاد، وما أضمرَ من هَمٍّ؛ زميله في نفس القسم، الدكتور شاكر، أبو زيد؛ يبادله ابتسامة قاتمة تُفصح عن أسرار حفظاها في بلد ليس لهم فيه سوى لغة بها يخاطبان القوم، وعلومها وآدابها يُدرِّسان، طلبة وطالبات يلجون قاعة الأساتذة اليوم بلا قيود ولا استئذان، أحاديث ناعمة شفيفة لم يُسمح بها معهم غير اليوم، عدسات توثق تلك اللحظات؛ جماعية وعلى انفراد، أطباق شهية من الحلوى والمأكولات الشائعة هناك، عرسا جميلا كان للجميع ما عدا أولئك الذين يتابعون من على الشاشات أنباء وطن تقاسمته الطوائف، والمحتل، ومن طالته يده من دول الجوار، وطن جفَّت مياهه، وفي أجوائه تعكر الهواء، وفي كل وادٍ على الأرض تفرقت العباد

مدَّد الكراس أمامه، ذلك الذي لم يفارقه حتى يغزوه سلطان النوم؛ فيرقد معه تحت الوسادة، يعيدها للمرة الألف، تلك القصيدة، القصيدة الأولى التي بها أكرمه شيطان الشعر، شيطان الحب، أوَليس للحب شيطان كما للشعر؟ وأي حب يقتحم عرينك بعد أن تعديت من المحطات الخمسين، وفوق المفارق قد لاحت أرصفة بيضاء، أي حب ذلك الذي تفجر في قاعة الدرس؟ وذلك طبعا محذور هنا وغير متفق عليه؛ وهل يلتزم الحب بما أبرم من خلف ظهره من الاتفاقات؟ قوانين وأعراف تحرم هذا، وما بينهما من فوارق السن، وابن البلاد أحق بالحب من ( البرَّاني ) ، وأشياء أخرى تخصه ولم يُفصح عنها إلا لبعض المقربين؛ وهو الغريب الناجي برأسه من بطش السلطان، طالبة من بلد السواحل والصحارى والهضاب، وأستاذ من بلد آخر؛ ليس مسموحا لهما الانفراد وإن تعلق ذلك بالدرس، أو كان بائنا بينهما فارق السن، عازبا كان، أم مُكبَّلا بقيد ثقيل؛ لكنه كان؛ هو الحب

على الغلاف خط زميله شاكر ( قصَّة مجنونَيْن ) وكان رأيه أن يكون ( قصَّة مِسكينَيْن ) لا بل هو الجنون بعينه أن تخاصم التوازن لحظة تلتقي عيناك بمن لم يكن عندك في الحسبان، توازن حري بك أن تكون عليه ساعة ينعقد الحديث بذكر الذي ازداد نبضك يوم التقيت، واحمر وجهك، وخانتك رِجلاك، أليس هو الجنون بأنفه يوم تنسى أن بينك والتي تضاجع عقدا من ورق مختوما بختم قاض، ومحكمة للشرع؟ أن تهذي بالشعر على قصاصات تحت الوسادة تخفيها، وخلق الله من حولك في نوم عميق يغطون، نصف الجنون، أو ثلثه؛ أن تعلم كل العلم بأن الطريق إلى من تهوى مسدودٌ، مسدود؛ فتُمني النفس، وتقنع الحبيب بأن لولا العوارض ما تجشم الفرات هول المسالك، كي يلتقي دجلة بعد العناء والجهد الجهيد

أربعة كانت، عددتَ ما فيها من فصول، وشهور، وأيام بساعاتها واللحظات، وهاهي اليوم قد ختمت ختمها الموعود، الكل راقص مستبشر، إلاَّ أنت أيها المسكين، إلاَّ مسكينة مثلك أخفت نفسها بين الزميلات هاربة من هول ساعة الوداع، وقد يكون الوداع هذا هو الأخير
الزملاء منشغلون بتوقيع المذكرات للطلاب، تقليب علب الهدايا، باقات ورد وما خُطَّ عليها، وأنت برأسك مضروب حد النخاع، كمن عزيزا فارق دون أن يدري أن عودة بعده أم أنه أبدي ذلك الفراق، واحدا تلو الآخر انصرف الزملاء، كل حامل ما تلقاه من طلبته المتخرجين؛ ولم يعِ صاحبنا أنه الوحيد الذي ظل مفترشا ديوان شعره حالما بأن تكون ( آسيا ) هي التي ستحظى بما سوف يُخط على صفحته الأولى؛ بل سيكون لها هو الإهداء الوحيد، وهل في الكون - يا هذا - كله، غيرها؛ من يستحق أن تُهدي له ما نزفتَ من قلبك حتى جفَّت العروق؟ وهي التي لها كل حرف كتبتَ، وعلى صفحاته ما زالت آثار لما تقطر من مقلتيك، ألم تتربع في حبها على عرش لا يملك مثله ملوك الأرض، ولا السلاطين؟ ألم يكُ خالدا غير فانٍ أبدا؛ عرش الحب؟ أفق من حلمك، غادِرْ كما غادر الذين قبلك؛ ففي الصحارى إلا عليلا لا يحيا الحب، ذاوي العود، وما له بين الغرباء من ظل، وليس له ملاذ

رعشة لذيذة في كيانه دبّت، من حلم لم يتمنَّ أن منه يستفيق فجأة استفاق، خطوات مُرتبِك قطعت أنياب قلبه، يعرفها حقا، يسمع أنفاسها، يصغي إلى دقات قلب الذي يخطو تلك الخطوات؛ بل تنسَّم القادم عن بُعدٍ، وما منه تضوَّع من عطر يذيب النفوس، كاد من ضلعيه يقفز بيت الداء، أضراسه اصطكت، ودارت به الأرض، أم أنه الدوار؟
على الباب ترنَّحتْ، لم تتلفت كما كانت من قبل حين تسترق اللحظات كي خلسة تلتقيه، بعيدا عن عيون الرقباء، والزميلات الحاسدات، أو من سلَّطتهن الإدارة كي يتابعن ما تقوم به من تحركات، وما يدور بينها وبين ذلك الأستاذ، اليوم قد حطمت جدران ذلك السجن الرهيب بلا خوف، ولا استحياء، مثل طير أطلقوه في الجنائن ليطرب الكون بأعذب الألحان، بأحضانه ارتمتْ تُطلق النشيج، وفوق كرَّاسه تسكب العبرات، بين ضلوعها أخفتْ صراخا لو أطلقته لاهتز بكل أركانه الكون؛ أهكذا يكون وداع المجانين؟ أم أن موعدا آخر للقاء قد تتكرم به - على غير عادتها - الأقدار؟

نشرت في قصة

المعلومات الاحصائية تمثل اداة مهمة تتناول مختلف جوانب الحياة وتغطي مساحات واسعة من النشاط اليومي للافراد والمؤسسات ، ويلجأ لها باحثون في الشؤون الاقتصادية ، الاجتماعية ،العلمية وحتى الامنية ، لدراستها وتحليلها ووضع الحلول لها لمعرفة مدى تأثيرهاعلى السلوك البشري سواء اكان سلبا ام ايجابا ، لذلك نرى ان الدول المتقدمة تولي هذا الجانب اهتماما كبيرا ، فلها مؤسساتها المعتمدة والمتخصصة والتي يديرها اناس اكفاء بمختلف الاختصاصات وتستعمل الوسائل التقنية الحديثة والمبرمجة .
والان بعد ان تشتتنا في مختلف بقاع العالم ما احوجنا الى مشروع للزمن القادم يعتمد الاسلوب العلمي
ويعتمد توحيد جهود المنظمات والمؤسسات المندائية العاملة على الساحة المندائية والتي إن تقاطعت اساليب عملها فإنها تتوحد بهدفها ألا وهو الانسان المندائي اينما وحيثما كان ، وهذا ما نراه واضحا
عندما طرح اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر مشروع الاحصاء السكاني والذي هوبمثابة توجيه العمل لخدمة مصلحة الفرد المندائي ، فبالاحصاء السكاني تسهل عملية الاتصال بالحكومات والمنظمات العالمية والتي تتطلب دراية معلوماتية دقيقة وسريعة توضع باليد حين الطلب ، وتوفير المساعدة السريعة لاهلنا في دول الانتظار، واحصاء اعداد المندائيين وإن كانوا في الصين او افريقيا، ووضع جداول بمختلف النشاطات الفنية والادبية والعلمية ، إنه الاساس لكتابة التأريخ .
وهنا يجدر بنا القول ، اننا حينما نتحدث حاليا عن الماضي نسرد ما كتب عنا الاخرون ، فلو كان الاولون على دراية بأن أجيال ستأتي بعدهم تسألهم عن الماضي لربما حفظوه لنا، ولكنهم ترفّعوا عن مغريات العالم المادي ، مع العلم ان بعض جوانب هذا العالم تكون وسيلة لحفظ التواصل بالعالم الروحاني وديمومته كما في الديانة الموسوية والعقائد الاخرى المنتشرة انذاك ، والتي حفظ كتّابها ومؤرخوها انسابهم ( وهو اشبه بالاحصاء السكاني ) وايضا ما مرت بهم من احداث ، والذي استمر على مدار العصور ليومنا هذا.
لنضع نصب اعيننا انجاح عملية الاحصاء السكاني، فهي بداية لكتابة تأريخنا بأنفسنا وهي الوسيلة
الناجعة لضمان المستقبل وذلك بحفظ الحاضر ، الاساس المهم للديمومة المندائية ، هدف الجميع .

نشرت في كلمة الأتحاد
الأحد, 17 كانون2/يناير 2016 12:02

النهر

النهــــر – قصيـدة
للشاعر سميع داود

لكَ المـاءُ منطلـقـا بالغـنـاء
يســافر في كل جـذر نمــا
فـــي الظــلام الكثيــف
وفي كل غصنٍ ســــما
رغـم ريــح الخـريـف
يسافر في ورق التوت
فـي ســـعـف النخـــل
أو فــي التويجــاتِ
يوقــظ فـي الســـر
ســــحـر الخلايـــا
وتـــوق الخـلايـــا
ويبــدأ رحلتـه في الخفــــاء
لك المـاءُ .. انجيلك المتفـردُ
ينشــئ فيــك الهــوى
والجمال البهي ، يرتل فيك الرغابا
يعمـد عشــق الصبـايــا
وتاريـخ اهـوائـهــن
ويلمسُ ماءَ الوجوهِ
التي لا ترى غيرَ ماءِ الوجوه انتسابا
اتحلــم بالزهــــر
والضــــوء
والاغنيــات
وتبتكــر الـوجــدَ
في لحظة المـوتِ
ســـر المنـاعــــةِ
في زمنٍ خائـرِ الخطــوات

.........................................................

نشرت في شعر
السبت, 16 كانون2/يناير 2016 22:41

حقوق الملكية الموسيقية

تنظم القوانين حق المُلكية، ومنها الملكية الفكرية ، أي أنه يحمي المفكرين من سرقة المنتوج الفكري الذي ينتجوه من قبل آخرين . وحق الملكية الفكرية ، كأية ملكية اخرى مثل الأموال والودائع والعقار الخ . يخضع لقوانين الأرث ، أي أن الأعمال الفكرية يرثها ورثة المالك إثر موته . لكن حق الملكية الفكرية الموروث – بخلاف أنواع الملكية الاخرى – لا يدوم إلى الأبد ، إذ تحدد أغلب القوانين سقفاً لذلك . مثلاً تسمح القوانين الأوروبية بحق الملكية الفكرية لمدة 70 سنة بعد الوفاة ، يصبح بعدها العمل الذي أنتجه المتوفي كنزاً مشاعاً للبشرية وفي خدمتها (فيما عدا حالة خاصة تتعلق بحقوق براءات الابتكار والاختراع ، فشأنها مختلف بسبب قصر مدة الحماية).
مناسبة حديثي عن هذا الأمر هو نشر المكتبة الوطنية المجرية عملين علميين كتبهما الموسيقار المجري الأشهر بيلا بارتوك كدراسات عن الموسيقى الشعبية ، وكان الوصول إلى هذين العملين مقتصراً على الباحثين . عنوان الأول سيرة ذاتية - كتابات عن الموسيقى، والثاني عن الاغنية الشعبية المجرية . إذ انتفت الحماية على أعماله اعتباراً من الأول من كانون الثاني الجاري ، بعد انقضاء فترة 70 سنة منذ وفاته في العام 1945، فما عاد ورثته يقررون نشر أم عدم نشر هذه الأعمال ، ولن يكون بوسعهم المطالبة بأي مقابل لقاء نشر الآخرين هذه الأعمال أو استعمالها في قاعات الموسيقى مثلاً . ولهذا الاجراء جانبه السلبي، إذ تفقد عنده كبار دور النشر حماسها لطبع أعمال المؤلفين. لكن حالة بارتوك مختلفة ، إذ هناك نية لطبع كل أعمال بارتوك في طبعة كاملة مشتركة مجرية – ألمانية العام المقبل . ونشر أعمال بارتوك النظرية في غاية الأهمية ، إذ نجد فيها نظرة قومية تتعارض تماماً مع التمييز العرقي ونقاوة الدم والشوفينية ، نظرة قومية صحية للتاثير المتبادل بين مختلف الأعراق والأقوام . فهو يرى أن الصراعات القومية بين الشعوب في اوروبا انما يؤججها السياسيون والحكام ، أما الشعوب نفسها ، أي من يؤلف ويغني ويؤدي الموسيقى الشعبية ، فهي بعيدة عن الشوفينية التي أسهمت في قيام حربين عالميتين مدمرتين.
×××××××××
ديفرتيمنتو (1939)


https://www.youtube.com/watch?v=h6cevpiaA5Y


خماسي بيانو في دو الكبير


https://www.youtube.com/watch?v=QpT0CvuDCQI


للأطفال، 84 مقطوعة قصيرة للبيانو، تستند إلى الأغاني والألحان الشعبية وعادة ما تستعمل لغرض تعليم الأطفال العزف على البيانو (مع مجموعته ميكروكوزموس):


https://www.youtube.com/watch?v=d8HGOJlycqk

 

الإثنين, 11 كانون2/يناير 2016 07:04

ماذا لو

ماذا لو زرعْنا الحُبَّ في حدائق الناسْ

وسقيناها من فيض الإحساسْ

الشرابَ السرمديَّ المسحورْ؟

ماذا لو جمعنا النورْ

ونحن في طريقنا للقاء شمس الصباح

ووضعناه في صناديق بريد شارع البشرْ؟

ماذا لو صنعنا من الكلمات الجميلة المنمقة

دمىً رائعةً تنامُ وادعة جنب وسائد الأطفالْ؟

ماذا لو قطّرنا المحالْ

وصنعنا منه إكسيرَ الحياة

ماذا لو تراهنا مع الأمل أن نلتقي يوماً بشارع الرشيدْ

لنشربَ القهوة َجالسين على تخوت المقاهي التي لا وجود لها

إلا في مُخيّلة الحالمين بعالمٍ قد ماتْ

ماذا لو جلسنا على حافّة الفراتْ

على بساط الريح والشوق وما سطّرَهُ الرواةْ

يوماً بأن سندبادْ

أقنعنا بأن أولَ الرحلة يبدأ من بغدادْ

وينتهي عند مدائن الأحلامْ

أقنَعَنا بأن كُلَّ عامْ

أولُه أوسطُه آخرُهُ

يبدأ من) مها عيونُها رصافةٌ وجسرْ(

يبدأ من )هوىً يجلِبْنَه( على ضفافِ نهرْ

يرحلْن به إلى تخومِ عالمِ البردِ والصقيعْ

ماذا لو توقفَ الشتاءُ لحظةً وأفسحَ المجالَ للربيعْ

يأتي به أحفادُ سندبادْ

محملاً بالياسِ والنارنجِ ولهفةِ الأجدادْ

من المدينة التي كان اسمُها بغدادْ

كي يزرعَ الحُبَّ والدِفء في حدائق الناسْ

من كل الأجناسْ

ماذا لو؟

أوكلاند أول العام 2016

نشرت في وجهة نظر
الخميس, 07 كانون2/يناير 2016 22:37

لكلِّ مسعىً خيّرٍ شكر وتقدير

تحت هذا الشعار أعلن مكتب سكرتارية اتحاد الجمعيات المندائية في دول المهجرعن أسماء الوجبة الأولى من المُكرَّمي ، باعتبارهم القدوات الحسنة و الكواكب الخيّرة من أبناء الطائفة الغيارى على الساحة الهولندية ؛ لينالوا عن جدارة واستحقاق ( درع اتحاد الجمعيات المندائية )، إذ تميزوا بعطائهم الثر وخدماتهم الجليلة للطائفة المندائية ، ولعبوا دوراً واضحاً في نشاطات الاتحاد من خلال دوراته ومؤتمراته المنعقدة تباعاً. والتكريم هو إحدى الوسائل المهمة في تقديم الاحترام والثناء والتقدير لفعل الخير والصلاح ، وتثمين ما قُدِّم من جهد مميز ، ومال سخي ، وكلمة طيبة .
دوافع التكريم كما هو معروف عنها التفوق في مجالات إنسانية ، فنية ، أدبية ، علمية ، رياضية ، عسكرية ، إبداعية ، ومنها الاعتبارية . إن جائزة نوبل للسلام ، جائزة الأوسكار للفنون ، جائزة نوبل للآداب ، الجائزة الخاصة بحقوق الإنسان ، الجوائز الرياضية ، جائزة اليونسكو لحرية الصحافة ، وجائزة الريبو للإبداع والمخترعين .. وغيرها ، منذ أن دخلت حياتنا العامة والثقافية خاصة ؛ بات لا غنى عنها ، وتقوم كل جائزة تكريم سواء كانت مدالية، أو درعا ، أو وساما ، أو نوط شجاعة؛ بناء على الأهداف المعلنة التي أُنشئت من أجلها كونها تمنح شعورا جميلا ورائعا لدى الشخص المُميَّز حقُّه في التكريم ؛ لكن هناك أولويات في كل مجال ، وعلى حيثيات مواصلة الجهد والتميز .
إن الاهتمام الجدي بالأوضاع المصيرية التي تعاني منها الطائفة اليوم ، وما يتطلبه من عمل تعبوي ؛ هومقياس التكريم الحقيقي إذ ينصب على انتشال ثُلَّة من أبناء جلدتنا العالقين ، الذين يعانون الأمرين من ضنك العيش في بلدان الانتظار. إن لأيدي الخير بركة وحكمة ، لكن استخدامها في وقتها ومحلها وبشكل أصوب هو الأجدر، بحيث لا تكون نابعة عن مزايا أو نوايا أخرى غير معلنة للملأ ، يمكن التعبيرعنها بحالة واحدة تلبي الطموح الحقيقي وتحت يافطة الطائفة المعروفة "المندائية أولاً" وليس وفق أي اعتبار آخر .
إن الأهم في التصرف هو اختيارالإنسان هدفاَ وغاية نبيلة وليس تفضيل الحجر ، لأن الإنسان بيده صنع كل شيء ، الهدم أو البناء الشامخ ، و أن نضع في حساباتنا كل صغيرة وكبيرة ، حسب الصيغة المناسبة مع المواصفات الدقيقة في الاعتبار ، عن طريق لجانٍ مقتدرة ذات خبرة واسعة ودراية في تبعات التقييم ، سواء كانت لحالة معينة أو لوضع لبنة جديدة تأتي عن طريق العمل أو الاختيار الحر المبني على أساس الحرص ثم الحرص السليم والمطلوب في المرحلة الراهنة ، وليس العكس تماماً .
إن التكريم نشأ في سبيل تحقيق أهداف اجتماعية وإنسانية نبيلة ، والاعتراف الضمني بالفضل الجميل لصاحبه ، والحق إمَّا في الاحتفاظ به أو منحه إلى أي من المؤسسات الخيرية أو إلى الأفراد كيفما يشاء صاحبه؛ أو يروم ثقافة الرفض بناء على مبرِّر واضح . وإن المُكرَّم باعتباره القدوة المختارة مثال يُحتذى به بتواضعه وبساطته وطيبته المعهودة ، وبهذه السلوكية يكمن سر نجاحه في هذا الاختيار .
وجائزة الدرع المندائية الممنوحة لمن يستحقها أداة تحفيز للأفراد في إدارة الجمعيات اوالمؤسسات المدنية العاملة وغيرها ؛ باتباع نفس السلوك في تقديم كل جهد مثمر بهمة عالية وتفانٍ منقطع النظير ، ولا ننسَ أن من أولويات التكريم أن يكون للشباب المثابر دور فاعل وقيمة في هذا المجال ، كونهم درع الطائفة الحقيقي في المستقبل ؛ لكن تبقى المسؤولية الأصعب في كيفية إرضاء الجميع لتقبل واقع التكريم ، وهذا يرجع إلى مدى تقبُّل واستيعاب الفكرة ، وحسب الضوابط التي بموجبها ينال المرشح شرف درع التكريم .

نشرت في كلمة الأتحاد

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014