• Default
  • Title
  • Date

(تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء)
لأبي الحسن الهلال بن المحسن الصابي

يعتبر كتاب الوزراء للصابي ككل الكتب النادرة العاكسة لفترة النضوج الفكري في الثقافة الأسلامية، حيث يشتمل على حلقة خاصة مهمة من التاريخ، تدعو الى ان يحرص المؤلف على مراجعتها، فنجد قيه آثاراً تاريخية نادرة، وحقائق تدعو الى العظة والاعتبار، توضح ماكانت عليه الحال في خلافة المقتدر وما سبقها. والأهم من ذلك ان الأثر المدون يظهر الماهمة العراقية بشقها الصابئي، الماكث جليلاً حتى اليوم في طبقات الخصوصية الثقافية العراقية، حينما اسهم في ارتقاء الفكر والنتاج الحضاري الأسلامي، دون حساسية دينية او طائفية او نحلية، كما يراد ان يسوق ويروج له اليوم ، وكيف كان التسامح والتعايش سائداً، حينما تداعى الى ان يسمو النتاج الفكري الى مصاف لم تطأه حضارة البتة، وأن تصبح بغداد بالمسلم وأخيه من الملل الأخرى سرة الدنيا وقوة الزمان على امتداد العصور. لقد طبع الكتاب سنة 1904 ميلادية ونفذت طبعته الأولى من الأسواق منذ زمن طويل، وكانت الطبعة الأولى حافلة بالأخطاء والغموض، الى ان تمت الاستعانة بمخطوطة الأزهر، التي لايوجد غيرها في مصر، فحققه عبد الستار احمد فراج وطبع للمرة الثانية من قبل دار احياء الكتب العربية سنة 1958 وقد نفذت الطبعة الثانية في حينها ايضاً.

ويتبين لقارئ هذا الكتاب الأنظمة التي كانت تسير عليها الدولة العباسية وأنواع الرقي في الدوايين، والدقة في نظام المراسيم واثباتها والتوقيع عليها، وحفظها في ملفات، وما كان كان يتبع في أمور المخاطبات والمكاتبات الصادرة والورادة. كما يرى الحقائق التاريخة المريرة القاسية ، والجزاء الإلهي العادل الذي يحل بأصحابه على ما قدمت اياديهم، وكيف كانت تحاك المؤامرات والدسائس ، وكيف كانت النساء الجواري يتدخلن في تغيير الحكم وتبديله لمصلحة مادية ذاتية او رغبة في الانتقام، وما كان ينفق في سبيل الوصول الى المناصب مع ماكان يعقب ذلك من مصادرات وما يحل من ويلات. كل ذلك ورد اشبه بالقصص الفنية الرائعة بل كما قيل الحقيقة ابدع من الخيال. ان الحقائق المروية في هذا الكتاب والمصادر الحسنة والسيئة تقوم المعوج وتهدي الضال وتشجع المخلص المستقيم على ان يستمر في سلوكه سواء السبيل.
المؤلف *
هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حبّون الصابئ الحراني مؤلف كتاب الوزراء ولد سنة 359 وتوفي سنة 448 هـ.
من أسرة نبغت في العلم والأدب والتاريخ والطب ، وكانت لهم قدم عند الحاكمين. فجده الأكبر إبراهيم بن زهرون كان طبيبا مشهورا، مات سنة 309 هـ (( عيون الأنباء )) الجزء الأول .
وهلال بن إبراهيم بن زهرون أبوالحسين والد جد المؤلف كان أيضا طبيبا (( اخبار العلماء )) وله ذكر في تاريخ ابن العبري ص 290 .
وثابت بن ابراهيم بن زهرون ابو الحسن ، وهو عم جد المؤلف كان من أشهر الأطباء، وتروى عنه النوادر البارعة في فنه، ولد سنة 283 وتوفي سنة 365 ، او سنة 369 هـ وروى بعض أخباره هلال بن المحسن ، ووالده المحسن . أنظر (( عيون الأنباء )) الجزء الأول و (( أخبار العلماء )) .
أما جده أبو إسحاق إبراهيم بن هلال فإنه كان أديبا كاتبا شاعرا، تقلد ديوان الرسائل وله مؤلفات ، ولد سنة 313 وتوفي سنة 384 هـ وقد عرض عليه عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الوزارة إن أسلم ، فامتنع ، ومع هذا فقد كان يصوم شهر رمضان مع المسلمين ، ويحفظ القرآن أحسن حفظ ، وكان يستعمله في رسائله. وقد أثنى الشعراء على رسائله حتى قيل :

أصبحت مشتاقاً حليـف صبابـــــةٍ برسائل الصابــــي أبي اسحق
صوب البلاغة والحلاوة والحِجَى ذوب البراعة سلوةِ العشـاق
طوراً كما رقَّ النسيـــمُ وتـــــارةً يحكى لنا الأطواق في الأعناق

والمحسّن والد المؤلف كان اديبا وكان يلقب صاحب الشامة ، ونقل ياقوت عن خطه في معجم الادباء (( انظر ترجمة أبي الفرج الأصفهاني علي بن الحسين )) .
وابن المؤلف غرس النعمة محمد بن هلال له عدة مؤلفات، ولد سنة 416 وتوفى سنة 480 .
هذا من ناحية اباء المؤلف. أما أخواله فإنهم ذرية ثابت بن قرة الصابئ الطبيب العالم الفيلسوف (( انظر ترجمته مثلا في ابن خلكان )) وأغلب ذرية ثابت بن قرة أطباء ومؤلفون ، والخطأ يقع من بعض المؤرخين ، فيذكرون أن ثابت بن سنان ابن ثابت بن قرة هو خال هلال بن المحسن ، ذكر ذلك في عيون الأنباء في ترجمة ثابت ، كما ذكره القفطي في كتابه أخبار العلماء ، وابن العبري في تاريخه ، لكن الحقيقة أن ثابت بن سنان هو خال ابراهيم بن هلال الصابئ جد هلال بن المحسن ابن ابراهيم ، ففي معجم الأدباء في ترجمة ثابت بن سنان يقول ياقوت: " وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ يرثى خاله أبا الحسن ثابت بن سنان بن ثابت ابن قرة .. " وهذا وعمر ابراهيم بن هلال من 313 ـ 384 يتناسب مع كونه ابن أخت ثابت بن سنان المولود في أواخر القرن الثالث 295 تقريبا والمتوفى سنة 365 أو 366 هـ . هذا وثابت بن سنان له كتاب في التاريخ ، وكتاب في أخبار الشام ومصر.
وكان هلال بن المحسن أديبا فاضلا أخذ عن أبي على بن الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي صاحب المؤلفات في علوم العربية المتوفى سنة 377 هـ ما أخذ عن أبي الحسن علي بن عيسى الرماني المولود ينة 296 والذي كان من كبار النحويين ومتقنا للغة والفقه وغيرهما وتوفى سنة 384 هـ ومعنى هذا ان هلالاً تلقى العلم على اشهر العلماء وهو صغير ، مما يدل على مكانة أهله وسمو مركزهم.
وكنية هلال في أغلب تراجمه هي أبو الحسن ، جاء ذلك مثلا في معجم الأدباء وابن خلان ونزهة الألباب في ترجمته في كل منها. وقد ذكر في النقل عنه في موضع آخر أنه أبو الحسين ، انظر مثلا معجم الأدباء في ترجمة أحمد بن محمد بن الفضل بن الخزاز ، وانظر معجم البلدان جـ 1 ص 382 (( انطاكية )) و جـ 2 ص 272 (( حساس )) لهذا قد تكون له كنيتان أو أن إحدى الكنيتين تحريف من النساخ. وقد ناب هلال عن جده في تولي ديوان الإنشاء، كما تولى الكتابة لفخر الملك محمد بن خلف.

مؤلفاته
1 ـ الوزراء أو أخبار الوزراء أو تحفة الأمراء
2 ـ غرر البلاغة في الرسائل ، وهذا الكتاب توجد منه نسخة بدار الكتب. وذكر الاستاذ ميخائيل عواد أن هناك نسخة منه موجودة في خزانة المكتب العلمي الملوكي في بطرسبرغ.
3 ـ رسوم دار الخلافة . وتوجد منه نسخة بدار لتب مصورة عن نسخة بمكتبة الأزهر. ويقول الأستاذ ميخيائيل عواد انه فرغ من تحقيقه والتعليق عليه وأعده للنشر.
4 ـ كتاب في التاريخ اشتمل على الاحداث التاريخية من سنة 360 هـ الى سنة 337 هـ ولا يوجد منه إلا قطعة صغيرة نشرها آمد روز ملحقة بكتابه تحفة الأمراء وهي تشمل على حوادث سنة 389 الى سنة 393 هـ.
5 ـ كتاب بغداد ، وسماه الصفدي كتاب أخبار بغداد ، نقل عنه ياقوت في معجم البلدان جـ 2 ص 255 (( الحريم )) : وقرأت في كتاب بغداد تصنيف هلال ابن المحسن الصابي .. وفي جـ 2 ص 542 (( الداهرية )) وقال ابن الصابي في كتاب بغداد وفي جـ 2 ص 565 (( درتا )) وذكر الصابي في كتاب بغداد وفي جـ 4 ص 123 (( قصر ابن هبيرة )) وقال هلال بن المحسن في كتاب بغداد .
6 ـ الأعيان والأماثل أو الأماثل والأعيان
ففي ابن خلكان في ترجمة ابن الفرات علي بن محمد : الأعيان والأماثل . وفي الفهرست سماه كتاب الأعيان والأماثل.
وفي ابن خلكان ف ترجمة هلال بن المحسن : رأيت له تصنيفا جمع فيه حكايات مستملحة وأخبارا نادرة وسماه كتاب الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والاحسان. ومثل ذلك في شذرات الذهب في ترجمة هلال حوادث سنة 448 هـ ومعجم الادباء في ترجمته. وقد ذهب بعضهم الى ان كتاب الاماثل والاعيان هو كتاب الوزراء ، لأن معجم الأدباء وابن خلكان نقلا قصة في الاماثل والاعيان ، توجد في كتاب الوزراء بنصها. لكن وصف ابن خلكان لتاب الاماثل يدل على انه مجلد واحد ، يدل على ذلك ان ياقوت في معجم الادباء، في ترجمة أبي الفرج الاصفهاني علي بن الحسين يقول : " حدث الرئيس أبو الحسن هلال بن المحسن بن ابراهيم بن هلال الصابي في الكتاب الذي ألفه في أخبار الوزير المهلبي .." فكأن أخبار بعض الوزراء كانت من الكثرة بحيث صارت كتبا قائمة بنفسها . والوزراء الذين تناولهم الصابي لا يكفي في ذكرهم مجلد واحد ، وهذا واضح من القسم الذي في ايدينا.
وهذه كتب اربعة عدها الصفدي في الوفي بالوفيات نقلها آمد روز في مقدمة طبعة سنة 1904 مضافة الى الكتب الأخرى التي ذكرها وذكرناها :
(1) كتاب رسالة انشأها عن الملوك والوزراء تقارب رسائل جده أبي اسحاق (2) كتاب مآثر أهله (3) كتاب الـكُـتّـاب (4) كتاب السياسة

ثروته وسبب تأليفه التاريخ ولقبه

يذكر ابن الجوزي في المنظم جـ 8 ص 101 في ترجمة الحسن بن الحسين أبيعلي الرخجي الذي كان وزيرا لشرف الدولة والمتوفى سنة 430 هـ ما يأتي :
كان فخر الملك قد أقواما مالا ، ولحن بأسمائهم ـ أي جعل لها رموزا ـ وكنى عن القابهم ، فكان فيها : عند الكوسج اللحياني عشرون ألف دينار. وعند بُسـرةٍ بقمعها ثلاثون ألف دينار . فلم يعرف الحسن بن الحسين الرخجي من هذان فدخل عليه رجل كان يتطايب لفخر الملك ويأنس به ـ وكان يلقبه الكوسج اللحياني لكثافة الشعر في أحد عارضيه وخفته في الآخر ، فدخل على الرخجي متظلما من جار له ، متقربا اليه بخدمة فخر الملك ، فقال : يا مولانا انه كان يطلعني فخر الملك على أسراره ، ويلقبني بالكوسج اللحياني. فقال الرخجي لأصحابه : لا تفارقوه إلا بعشرين ألف دينار. وتهدده بالعقوبة ، فحملها بختومها ، ثم تفكر الرخجي في قول فخر الملك : عند بسرة بقمعها . فقال هو الصابئ . فأحضر هلال بن المحسن ، وخابه سراً. وكان هلال أحد كتاب فخر الملك ، فلم ينكر. فقال له الرخجي : قم أيها الرئيس آمنا ، ولا تظهر هذا الحديث لأحد ، وانفق المال على نفسك وولدك . ثم حضر ابن الصابئ علي أبي سعد بن عبد الرحيم في وزارته. فقال له : قد عرفت ُ مادار بينك وبين الرخجي ، وأنت تعلم حاجتي الى حبة واحدة ، وتأولي على من لا معاملة بيني وبينه ، ولا يسبقني الرخجي الى مكرمة ، وما كنت لأنكب مثلك ، والصواب ان تشتغل بتاريخ أخبار الناس. فاشتغل ابن الصابئ من ذلك الوقت بتاريخه الذي ذيله على تاريخ ثابت بن سنان فاستخدمه الملوك ، فلم يحتج الى انفاق شيء من المال ، وخلف ولده ابا الحسن غرس النعمة وخلف له املاكا نفيسة على نهر عيسى ، وانفق مقتصدا في النفقة وعمر الاملاك ، ولم يطلع احدا من أولاده على ذلك. وظن أولاده أن تركته تقارب الألف دينار، فوجدوا له تذكرة تشتمل على دفائن في داره ، فحفروها فكانت اثني عشر ألف دينار ، وكان ما خلفه من القماش وغيره لا يبلغ خمسن دينارا . وأنفق أولاده التركة في أسرع زمان.

مصادر الكتاب والمقتبسون

أتيحت للصابي في تأليف كتابه أمور جعلته ثقة فيما يروي ، وأول ذلك صفته الرسمية في الدولة التي أظفرته بالوثائق الرسمية. ففي صفحة 15 يقول : " ووجدت عملا يشتمل علىذكر أحمد بن محمد لطائي وما ضمنه من الأعمال .. " وفي ص 166 يقول : " ووجدت ثبتاً بما كان أبو الحسن بن الفرات يخاطب به السيدة والأمراء وأولاد الخلفاء والولاة والكبراء ..." وفي ص 245 يقول : " وقع بيدي ثبت أخرج من ديوان المغرب في أيام الراضي بما أخذخ المحسن بن علي بن محمد بن الفرات من الخطوط ممن قبض عليه وصادره في ايام وزارتهم الثالثة ..." ولا غرابة في أن يتمكن من الاطلاع على الوثائق السمية ، فقد اشترك في أرقى المناصب وعمره لم يتجاوز العشرين ، ويدل على ذلك ما يقوله في ص 170 : " وعهدي وأنا أوقع في قصص المتظلمين في أيام صمصام الدولة عن أبي إسحاق جدي في ديوان الإنشاء الى قضاة الحضرة ..." ومعلوم ان جده توفى سنة 384 وأن هلالا المؤلف ولد سنة 359 وصمصام الدولة تولى الملك سنة 372 وقتل سنة 388 هـ.
والأمر الثاني الذي وثقه اطلاعه على تاريخ ثابت بن سنان خال جده وقد أرخ ثابت من أواخر القرن الثالث الهجري الى سنة 360 هـ ، وهي فترة عاصرها ، أو لقى معاصيرها .
والأمر الثالث ما رواه او نقله عن القاضي التنوخي أبي علي المحسن مؤلف نشوار المحاضرة ، والفرج بعد لشدة ، والمستجاد من فعلات الاجواد . والتنوخي ولد سنة 327 وتوفى سنة 384 هـ والاخبار التي رواها شافه أغلب معاصريها.
يضاف الى هذا أنه اطلع على كاب الوزراء والكتاب للجهشياري ، وكتاب الوزراء للصولي ، ومع هذا لم يعجبه الصولي في تأليفه حيث يقول عنه : لكنه ملأه بالحشو الزائد ، وكسفه بشعره البارد . وعلى الرغم من تسخيفه للصولي نقل عنه خبرين . وإلى جانب هذا تلقى عن طريق الرواية والسند أخبارا من أناس اتصلوا بالدوايين ، وخالطوا الحاكمين ، وتجد ذلك منبثا في أغلب الكتاب.
أما الناقلون عن كتاب الوزراء للصابي فأهمهم ياقوت الحمي صاحب معجم الأدباء ومعجم البلدان وأغلب نصوصه من الأقسام الضائعة من الكتاب ، وقد اشار آمد روز الى ان الصفدي نقل عنه في كتابه الوافي والوفيات، كما نبه ميخائيل عواد الى نصوص منقولة ، وفي خطط المقريزي ، وصبح الأعشى ، وبدائع البدائه ، والنجوم الزاهرة ، والاذكياء لابن الجوزي. ونبه الدكتور مصطفى جواد الى نصوص منقولة ، توجد في معجم الالقاب وتاريخ ابن النجار.
ومن بديع اقواله :
" ان الله تعالى خلق الحيوانات كلها على اختلاف الفِـطَـر والأوضاع، وتبايُـن الصوَّر والأنواع ، خلقا ً واحدا في الاشخاص والأشباح ، والأفـئـدة والأرواح ، ثم خص الانسان من بينها بالعقل الذي ارشده الى معرفته ، وما أراده له من عبادته ، وأوجب له من الطاعة وشكر المنة مزيدا حاضرا ، وثوابا منتظرا ، وأوجب عليه عن المخالفة وكفر النعمة انتقاما عاجلا، وعذابا آجلا : ? ليهلك من هلك عن بينة ٍ ويحيي من حىَّ عن بينة ٍ وإنَّ الله لسميع عليم ? . وجعل عطاء الإفضال أكثر، وعطاء العقل أقل ، لأن مادة الإفضال غزيرة ، ومادة العقل عزيزة .
وقد اخـتُـلـف في كيفية العقل ، فقال قوم : نور من الله مقتبس ، وقال آخرون : خلقٌ مـُستخلص ، واستشهدوا بالحديث الذي ترويه العامة من ان الله تعالى قال للعقل وقد خلقه : أقـبِـلْ . فأَقبَـلَ . وأدبرْ ، فأدبرَ . فما فعل ذاك قال : وعزتي وجلالي وعظمتي ما خلقت خلقا أحسن منك ، بك آخذ وبك أعطي . وقال اهل الكلام : هو معارف يجمعها الله تعالى في قلب عبده إذا أخذه بالتكليف يُحِسِّـن له بها الحسن ويقبـّح القبيح . وإنما سمي عقلا لأنه يَـعـقِـلُ عن القبيح ، أي يحبس كعقال الناقة الذي يمنعها أن تسرح . وليس تكليف العقلاء كتكيلف الجهلاء ، ولا آلة الفريقين في الأفعال متوازية ، ولا مؤاخذتهما بالأعمال متساوية ، ولذلك قال الله تعالى: ? إنما يخشى الله من عباده العلماء ? ، ولو أُوخذ الجاهلون ما يؤاخذ العالمون لان ذلك جورا ً في القضاء ، وحيفا ً في الجزاء ، لأن الله تعالى كلف كل نفس بحسب قوتها ، وأخذها بما جعله في قُدرتها . ولو أن أحدا ً غلط غلطا جاهلا بحكمه ، وأخطأ خطأ خارجا عن علمه ، لما تعَّـين عليه حكمٌ ، ولا تعلق به حدّ . وعلى ذاك ، فمتى كان علم الانسان أكثر من عقله كان حتفه في علمه ، أو عقله أكثر من علمه أمكنه به جبر عجزه واتمام نقصه ؛ وما دبَّـر العقل شيئا إلا أقام أوَدَه وعدل ميــده (1) ، ولا دخل الجهل أمرا إلا حل نظامه وأحال التئامه.
فقد ثبت أن الفضل فرعٌ أصله العقل . ثم تدعو الحاجة مع وجود هذا الاصل الى بان يُـعلي اساسه ، ويسقي غراسه ، من أدب يقتبس ، وعلم يكتسب ، ورياضة تُـصـلح ، وتوفيق يَـلحق ، فاذا التقى من ذينك فرع وأصل ، واقترن أدب وعقل ، اجتمع بهما قـُــَوى العقل ، ولمع بيينهما نور الحزم ، وأمكن رافع البناء أن يرتقي ذروته ، وغارس الغرس ان يجني ثمرته ..."
هوامش:
* (له ترجمة في ابن خلكن ومعجم الادباء ونزهة الالباب والنجوم الزاهرة جـ 5 ص 60 حوادث سنة 448 وشذرات الذهب جـ 3 والمنتظم جـ 8 حوادث سنة 448.)
(1) الأود : العوج . والميد : الميل

نشرت في تاريخ
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 12:14

من الذاكــرة أيام صعبـة بإتجـاه الوطـن

الحلقة الأولـى

 

هذه فصول من ذكريات لا تنتهي ، كتبت بعد سنوات طويلة من الحدث ، وهي تحمل ذكريات ، ويوميات فيها دفئ التجربة ونبض الحياة ، وحماس وتداعيات تلك الأيام ، وصورا" عن أولئك الأبطال الذين تقدموا في العطاء الأنساني والجود بأقصى غاية الجود . وهذه الذكريات لأبطال حقيقيون عايشوا الصعوبات بساعاتها وأيامها وسنينها ، اولئك الذين حلموا بشمس عراقية في أرض الرافدين ، لا في المهاجر والمنافي البعيدة ، ان تجربة الكفاح المسلح في العراق غنية بالدروس والعبر ، وتتطلب الدراسة والتوثيق وما كتب عنها ليس بكاف ، وعبر المراحل التأريخية التي مرت بها.

ان الكتابة عن هذه التجربة ليس عملا" يسيرا" ، اذ لابد من المسؤولية والموضوعية ، والحكم التأريخي ، حيث سقت دماء الشهداء اديم ارض الوطن ، وتحت التراب أو في المهاجر البعيدة عن الجذر والمشتهى . لقد استشهد عدد من أبطال هذه الذكريات ، عسى ان تذكر هذه الذكريات لهم شيئا" من الجهد والتضحية والعرق والحلم والأمل الذي دفعهم الى السير في تلك الطرق وفي تلك الأحداث. وفي هذه اليوميات ، وللشهداء جميعا" نهدي هذه الذكريات .

في أواسط تشرين الأول / 1982 غادرنا عدن متوجهين الى دمشق ومنها بعد عدة أيام الى مدينة القامشلي الواقعة في الشمال الشرقي لسوريا .استمر بقائنا في هذه المدينة عدة أشهر أنتظارا" لوقت العبور المناسب تجمع شباب من مختلف الأعمار ، المهن ، والأحلام جاءوا من عدة بلدان من العالم، وألتقوا هنا في هذه المدينة . كل يحمل معه حقيبة سفر صغيرة تظم ملابس شتوية وأحذية رياضية تناسب الطرق الجبلية وادوات حلاقة وراديو صغير أحيانا" وصورا" شخصية للأهل والأحبة وهناك من يحمل بعض الأدوية وعلبة خياطة سفرية ، أضافة الى ما يحمله كل واحد من الهموم والأشجان . البعض منا دخل دورات تدريب عسكرية في جمهورية اليمن الديمقراطية أو في المخيمات الفلسطينية في لبنان والبعض الأخر قطع دراسته في اوربا أو ترك عمله أو عائلته ولا يعرف كيفية مسك البندقية ومبادئ القتال الأولية . لهولاء جرت تدريبات بسيطة  لبضعة أيام بضواحي مدينة القامشلي استعدادا" للسفر .

طالت فترة أنتظارنا أكثر من المتوقع بسبب تراكم الثلوج على قمم الجبال وحشود القوات العراقية والجحوش على طرق عبور الأنصار والظروف الأمنية على الحدود السورية التركية واحداث بشت آشان الدموية ، الجميع يعيش في بيت واحد بسيط مكون من عدة غرف وتتوفر فيه الخدمات اليومية ، لا يسمح لأي شخص  بالخروج والأختلاط مع آخرين الا بموافقة خاصة ، تسليتنا الوحيدة في هذا الدار الواقع على أطراف المدينة لا تتعدى عن اداء الخدمات اليومية ومتابعة المسلسلات العربية في التلفزيون العربي السوري ولعب الورق وقراءة الصحف على قلتها ، انصار يغادرون وآخرين قادمون من ارض الوطن يتحدثون لنا عن تجربتهم وبطولاتهم .

 

في بداية شهر آب / 1983 وقبل بضعة ايام من السفر وزعت الأسلحة على مجموعتنا ، علمنا عندئذ ان موعد تحركنا نحو الوطن قد أصبح قريب مما زاد من فرحنا ، الكل مشغول بالتهيئة  للرحلة الطويلة ، أختيار الملابس الكردية المناسبة ، تفكيك السلاح وتنظيفه بالزيت وملء مخازن العتاد ، ربط النطاق والعتاد على خصر النصير ، كيفية لبس البشتين على البطن .... الخ . ثم أخذنا نحسب الساعات بأتجاه ساعة الصفر لبدء الرحلة  .

 

في يوم الثاني عشر من شهر / آب / 1983 وفي ليلة حالكة الظلام ذات رؤية لا تتجاوزعدة امتار وبغياب القمر وهو الوقت الملائم لعبور الأنصار بأتجاه قرية المالكية السورية الحدودية مع تركيا متجهين نحو الوطن يرافقنا الدليل التركي المعروف من قبل الأنصارالشهيد ( صوفي ) (2)  وأحد رفاقه الأتراك . تحركت مفرزتنا المكونة من الأنصار خيري ، عايد ، ياسين ، أبو مازن ، ابو هلال ، كفاح ، ابو سوزان والنصيرة الوحيدة أم سوزان ورفيق آخر لا اتذكر اسمه .

توجيهات مشددة وتعليمات كثيرة ، المسيرة شاقة جدا" ، الطريق يستغرق على الأقل أسبوعين سيرا" على الأقدام وسط طرق جبلية وعرة ، لا يسمح بحمل أكثر من  كيلوغرامين من معلبات السمك واللحوم ورغيفين من الخبز والحاجات الشخصية البسيطة في حقيبة الظهر المصنوعة من القماش أضافة الى السلاح الشخصي المكون من بندقية كلاشنكوف وخمسة مخازن عتاد وقنبلتين يدوية وترك كل شئ غير مهم. كانت التوجيهات تشدد علينا السير بنسق واحد وخطوات مدروسة ، نزع الساعات اليدوية والخواتم الذهبية ، رفع بطاريات الراديو أن وجدت ، عدم التحدث مع أي نصير إلا في الحالات القصوى ، عدم التدخين ، وكل نصير يتبع النصير امامه ويعتبره دليلا" له ، اتباع تعليمات الدليل صوفي بحزم .

طريق مسير الأنصار بأتجاه الوطن يمر داخل الأراضي التركية وبين أبراج المراقبة الحدودية التركية والموزعة على طول الشريط الحدودي والتي لا يبعد أحدها عن الآخر سوى 200 متر في الغالب ، وهي أخطر مناطق العبور التي تواجه الأنصار ، وأتذكر هنا أن وفدا" صحفيا" من أحدى الصحف اليسارية الفرنسية جاء الى القامشلي يود التوجه الى العراق ،وقد حمل افراد الوفد على ظهورهم أجهزة تصوير ومعدات صحفية كبيرة لتغطية نشاط حركة الأنصار في الوطن ، دعيت من قبل الرفيق ابو محمود لتناول طعام العشاء معهم والاطلاع على طريقة عبور الحدود الخطرة وعند سماعهم الحديث بأن عملية عبور الحدود سيتم من بين ابراج المراقبة التركية علموا بخطورة الأمر  فتخلوا عن المهمة التي جاءوا من اجلها .

بدأت حركتنا من قرية المالكية بنسق جيد دون حدوث أي طارئ وألتزم الجميع بالتعليمات ، وفي الخطوات الأولى لتحركنا أنهال علينا الرصاص فجأة من ابراج المراقبة على خط سير المفرزة ، الرصاص يئز فوق الرؤوس كأنه معزوفة خرافية شيطانية وبعدها سلطت الأضواء الكاشفة ، أتخذ الجميع موضع الأنبطاح أرضا"وسط الأدغال ، وألتزم الجميع الهدوء التام وسط الرصاص الذي يمر فوق رؤوسنا وعلى بعد أقدام منا ، في تلك اللحظات تذكرت باني قرأت مرة رواية تقول "ان الرجل الحقيقي لا يخاف الطلقة التي يسمع صوتها حتى تصيبه" . واصلنا الهدوء والزحف على الأرض الرصاص الكثيف لا زال مستمر من ابراج المراقبة ، أنتظرنا عدة دقائق ونحن على هذا الحال ، لم تصل أي تعزيزات عسكرية ، ومن تجربة الأنصار في العبور لا يبدوا أننا وقعنا في كمين لرجال الحدود الأتراك حيث عادة ما يقوم الجندرمة الأتراك بأطلاق النار على أي مصدر لصوت يسمع وبشكل عشوائي لأنعدام الرؤية بسبب الظلام وتأدية للواجب العسكري المكلفين به دون ان يكون هناك هدف معين أو تحديد لمكان عبور مفارز الأنصار التي عادة ما تعبر الحدود في فترة غياب القمر وأشتداد الظلام ، وسبق وان أستشهد العديد من الأنصار وجرح آخرين بعد وقوعهم في كمائن لرجال الحدود الأتراك عند محاولاتهم دخول الأراضي التركية، كما ان  مفارز أخرى عادت الى داخل الأراضي السورية مع عدد من الجرحى لنفس السبب .

أصاب الجميع الأرتباك ولا نعرف ماهي الخطوة التالية  فهي التجربة الأولى للمفرزة  !! ننتظر التعليمات من الدليل صوفي .....بعد دقائق خفت حدة النيران ، الدليل التركي صوفي يطلب مواصلة السير السريع والأبتعاد عن المنطقة  تفاديا" لتحديد موقعنا ، الجميع يندفع نحو الأمام في نسق واحد وليس أمامه غير شبح رفيقه في المقدمة ، وكل واحد منا يسأل نفسه هل تجاوزنا مرحلة الخطر أم لا ، عشرات الأسئلة تدور في البال وتحتاج الى جواب ووسط هذا الأرتباك الذي ازدحم بالتفكير والظلام ، دخلت قدمي اليمنى بين صخرتين كبيرتين لم أتمكن من رؤيتهما عن بعد بسبب شدة الظلام وأصبحت مشلول الحركة كليا" ولم أستطع من تحرير قدمي رغم المحاولات العديدة ، الموقف حرج للغاية ، رشقات من رصاص الأسلحة الرشاشة لا زالت تمر فوق رؤوسنا وعلى خط سير المفرزة بين فترة وأخرى . 

يا له من حظ تعيس ونحن في بداية الطريق ، ما العمل الأن ! حاولت بطرق عديدة تحرير قدمي دون جدوى ، لا زالت رشقات الرصاص وأزيزها تمر فوق رؤوسنا ، حملّت نفسي ما حدث ؟ كان عليّ الأنتباه الى هاتين الصخرتين الكبيرتين ؟ كيف دخلت قدمي بهذه السهولة ولا استطيع أخراجها الأن ؟  زوجتي النصيرة أم سوزان  بجانبي تساعدني وفي عيونها الحيرة والأرتباك وهي تحاول عمل شئ ما ونحن في هذا المكان الخطر ، ابتعد عنا بعض رفاق المفرزة ، ووصل الخبر الى الدليل صوفي وتوجه ألينا . 

ـ  ما الذي يحدث هنا ؟ هيا اسرعوا قليلا" .

ـ  رفيق صوفي لا أستطيع الحركة ... أحتاج الى المساعدة ، يا لسوء الحظ هذه الليلة ، عاد صوفي الى الأمام وهو ينظر أليّ محتارا" وطلب من مساعده قيادة المفرزة نيابة عنه ومواصلة السير وعاد ثانية بأتجاهي وسأل :

ـ  ماذا حدث يا رفيق أبو سوزان ؟  

ـ  لقد علقت قدمي بين الصخرتين ولا أستطيع تحريرها !

ـ  بسرعة يا رفاق ليس أمامنا من خيـار أتركـوا أبو سـوزان في مكانه وسوف نعود أليه حالما يتوقف أطلاق النار ونطمئن للوضع ... لا أستطيع التضحية بالمفرزة من أجـل نصير واحد فقط ، لنواصل السير اننا في موقع خطر وعلينا تجاوز التلال التي تشاهدونها أمامنا في أقل من ساعتين حتى نصل الى نقطة أستراحتنا الأولى ، رفضت النصيرة أم سوزان والنصير عايـد مواصة السير مصّين على تقديم المساعدة جهد الأمكان. 

 ـ  رفيق صوفي لا نستطيع تركه هنا وبهذا الحال ربما يقتل لنحاول مساعدته . 

 ـ  حسنا" حاولا ما أستطعتم ولكن بصمت وأنتم ملاصقين للأرض ، لا ترفعوا رؤوسكم عاليا" سننتظركم عن بعد وسوف نوفر لكم الحماية  كونوا حذرين .

ـ   نعم يا رفيق صوفي سنحاول .... ولكن أنتظرونا عن قرب .. ربما نفقد أثركم لا تبتعدوا عنا كثيرا" . 

وبخطة ذكية وهدوء وبعد عدة محاولات أستطاعت يد النصير عايـد وسط العتمة أن تفتح قيطان الحذاء الجبلي وأخراج قدمي منه ومن ثم أخراج الحذاء من بين الصخرتين لأعاود لبسه من جديد وبسرعة ...  وبدت على وجه الرفيق عايـد علامات الأرتياح والرضا وهو يقول :

ـ  الحمد لله نجحت الفكرة لنحاول اللحاق ببقية المفرزة ... وثم بادر بقوله أنها البداية يا رفيق أبو سوزان وأمامنا الكثير من المتاعب في الطريق فعلينا الصبر والتحمل .

ـ  شكرا" رفيق عايد على المساعدة بالفعل أنها البداية وأمامنا الكثير وعلينا التحمل ، هيا بنا نسرع فعلينا الأن الألتحاق برفاق المفرزة بأسرع وقت . كان عائد أصغر نصير في المفرزة ، لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره ، رياضي وأكثر نشاطا" وحركة من أي نصير آخر في المفرزة وخاصة نحن الذين تجاوزنا الثلاثين من العمر لطيف المعشر ، مرح ، هادئ لدرجة كبيرة ، ذو أخلاق عالية . عارضت عائلته في البداية ألتحاقه بفصائل الأنصار لصغر سنه وقلة تجربته الحياتية وأعدام أثنين من أخوته من قبل النظام الدكتاتوري وفضلت أن يكمل دراسته بعد ان حصل على زمالة دراسية في أحدى الدول الأشتراكية، ولكنه أصر أصرار الرجال على مواصلة الرحلة الشاقة وخوض التجربة الجديدة مع رفاقه وأنتقاما" لأخوته الشهداء . 

بعد ساعات من السير وفي خط مسير المفرزة وعند خطوط انابيب النفط العراقي عبر تركيا والمحروس بشكل جيد من قبل القوات التركية أغرق المزارعون أراضيهم الزراعية أستعدادا" لزراعتها في الموسم القادم وغرق معها طريق سير الأنصار الوحيد المار وسط هذه المزارع بالمياه واصبح الطريق موحلا" والسير فيه مستحيلا" وهذا لم يكن في الحسبان ، نزعنا أحذيتنا الجبلية وجواريبنا ورفعنا الشراويل الى ما فوق الركبة ، حقيبة الظهر تشدنا الى الخلف وكأنها صخرة اسطورية . بدأنا السير حفاة وسط الأوحال لمسافة تقدر بنصف كيلومتر حاملين أحذيتنا حول رقابنا وسط نباح الكلاب ومشاهدة المزارعين للمفرزة ، وغالبا" ما يكون هؤلاء المزارعين من المتعاونين مع المخابرات التركية وهذا الأمر زاد من قلقنا . تم تجاوز هذه المرحلة بصعوبة وبسلام ، معظم الرفاق أنهكهم التعب ، لكن الحماس والإصرار على مواصلة السير منحهم القوة للتغلب على التعب ، خصوصا" وأن المكان الذي سنجتازه بعد قليل هو الشارع الدولي المرتفع والموازي لأنابيب النفط والذي يعتبر من اخطر الأماكن في مسيرة تلك الليلة بعد دخول الحدود  وعادة ما تسير عليه دوريات الجيش التركي في اوقات منتظمة ، جلسنا على جانب الطريق وسط العتمة نراقب الشارع لفترة طويلة للتأكد من عدم وجود دوريات عسكرية او كمائن في احد زواياه ، الجميع مشغول بتنظيف اقدامه من الوحل ولبس جواريبه وحذائه وهم يصغون بانتباه وترقب في وضع الانبطاح مع حمولتهم والأنفاس تتسارع والعيون مفتوحة في هذا الظلام ، ليس هناك من ضوء سوى الضوء الباهت الذي كان يأتي من الربية البعيدة المشرفة على ذلك الجزء من الشارع الدولي المحاذ لأنابيب النفط .. الكل ينتظر نتيجة الاستطلاع الذي يقوم به صوفي ورفيقه وبدورهم ينتظرون  مرور سيارة الدورية للتأكد من خلو الشارع من الكمائن . لم يمض وقت طويل حتى علا في الأفق ضياء سيارة الدورية التي وقفت لفترة وجيزة ثم واصلت طريقها . حينها تبين بعدها  للمستطلعين أن الطريق أصبحت آمنة .

 جاء الإيعاز من الدليل  للمجموعة ببدء الصعود إلى الشارع والعبور بخفة وهدوء ، في دقائق تم عبورنا الى الجانب الثاني وواصلنا المسيرة ، وعلينا في هذه المرة عبور الجسر الذي يقع على أحد الأنهار التي لا يبعد كثيرا" عنا وعادة ما تكون هناك كمائن للجيش التركي على جانبي هذا الجسر ، بعد اٍستطلاع الجسر لفترة زمنية من كافة الجهات اعطيت الأوامر بعبوره بسرعة واتخاذ مواقع على الضفة الأخرى من النهر ثم واصلنا السير الى الأمام حتى واجهنا عن بعد صوت محرك أحدى السيارات فأخذنا مواقع القتال وكان كل ظننا انها دورية عسكرية للجيش التركي وصلها خبر تواجدنا في المنطقة ولكن عند اقترابها تبين انها تراكتور زراعي يحمل العديد من المزارعين ، خرج لهم الدليل صوفي وتكلم معهم بعيدا" عن مواقعنا وأستطلع منهم عن سلامة الطريق القادمين منه  وان كانت هناك كمائن للجيش التركي في الطريق ام لا .

بعد مسيرة الليل بكامله بطرق وعرة وجبلية ثم الى سهل مفتوح، وصلنا قبل شروق الشمس الى نهر الخابور متأخرين عن الموعد المخطط له بساعتين بسبب المشاكل التي واجهتنا في بداية الطريق وعلينا عبوره على الكلك المصنع محليا" والذي لا يخلوا من الخطورة خاصة وقت ارتفاع مناسيب النهر وسرعة تياره ، لقد تم تأمين مكانا" ملائما" لتهيئة وتركيب الكلك . كان الجميع قد أنهمكوا بنفخ الإطارات بأنفاسهم المتعبة ، ربطت الإطارات إلى بعضها بالحبال بشكل جيد وبسرعة ، أخذ ذلك منا ساعة ونصف من العمل الدؤوب حتى أصبح الكلك جاهزا" لعبور النهر . وكالمعتاد يجب وضع الحمولة على الكلك ويصعد الأنصار تباعا" وعلى وجبات حسب حجم الكلك وتحمله وهم يواصلون الجذف بالأيدي للمساعدة في حركته نحو الطرف الثاني للنهر بأسرع وقت . 

تم عبورنا الى الضفة الأخرى من النهر بسرعة وعلى ثلاث وجبات ، الشمس سبق وأشرقت قبل أكثر من ساعة وهذا يضعنا في موقع خطير جدا" ومكشوف أمام دوريات السمتيات التركية التي عادة ما تجوب المنطقة بعد شروق الشمس .

بعد مسيرة اكثر من ساعة في طرق جبلية معقدة كان في أنتظارنا رفاق الطريق من الأنصار بموقعهم داخل الأراضي التركية ومهمتهم استقبال الأنصار الجدد القادمين من سوريا وقيادة مفارزهم الى مواقع الأنصار المتقدمة والتي تبعد مسيرة عدة أيام أخرى سيرا" على الأقدام .  

هذه هي محطتنا الأولى المسماة محطة ( ابو حربي ) وهي احدى محطات الطريق التابعة للحزب لأسقبال القادمين الجدد وسبق وان تغير أسم المفرزة من مفرزة النقل إلى مفرزة الطريق بسبب تنوع  المهام وأصبح لدى مفرزة الطريق مقر شبه دائم في أحدى ممرات سفح جبل گلي كورتك التركي ، وهو عبارة عن شكفته ( مغارة ) بسيطة لا تسع لأكثر من عشرة افراد . والكثير من الأنصار يتذكرون تلك المحطة الجميلة التي تقع في سفح الجبل وكيف كان يجري استقبالهم وفي بعض الأحيان تجري حفلات ترفيهية بسيطة لهم. وبعد يوم أو يومين من الاستراحة يتم مرافقتهم من بعض رفاق المحطة نفسها وإرسالهم إلى قواعد الأنصار من خلال المرور بموقع كيشان ومقر الفوج الثالث للأنصار ومن ثم قاطع بهدينان والقواطع الأخرى .

لا يمكن تصور فرحتنا ونحن نلتقي بمن يستطيع أن يتكلم معنا من الرفاق ويجيب على أسئلتنا . سمعنا صوت الرفاق أبو وسن وتبعه صوت أبو أفكار وأبو آذار ، بعدها شاهدنا أبو هدى ورفاق آخرين . لا يمكن وصف مشاعرنا في تلك اللحظات الرائعة ونحن نرى هؤلاء الأبطال وهم يعيشون في هذه المحطة الجبلية النائية وخطورتها لأشهر طويلة ، وبسرعة تمت تهيئة بطانيات للجلوس وعملوا الشاي ، ووضعوا أمامنا خبزاً وشوربة عدس وهو طعام الأنصار المفضل والمتوفر في مثل هذه المواقع ... صحيح كنا نشعر بعطش وجوع وتعب ، لكن وجود أشخاص يمكن التفاهم معهم شيء كبير بالنسبة لنا في مثل تلك الظروف . وعرفنا فيما بعد أن المجموعة الموجودة في تلك المحطة تسكن في خيمة نصبت في مكان مموه بشكل جيد .

 بعد كل هذا الجهد والأنهاك  لليلة الماضية وتناول الخبز والشوربة والشاي صباحا" كان بأنتظارنا اللحم المشوي لبزن ( 3 ) صغير لوجبة الغذاء أعده الأنصار في هذا الموقع الجبلي المعزول والخالي من اي حياة ولا تسكنه غير الحيوانات المتوحشة ، سحب احد الأنصار في الموقع مديته من حزامه وبدأ يدلكها بلحاء شجرة الجوز وبصخرة قريبة منها ، ساعده آخرين على نحره وعلق على غصن شجرة بجانب عين الماء ، وبسبب الجوع تم تقطيعه بسرعة وتوزيعه على الرفاق لكل واحد كمية من اللحم يشويها بطريقته الخاصة . تحركت مجموعة من الرفاق لجمع الحطب وإشعال النار استعدادا" لشوي اللحم ، لا يوجد حل آخر سوى الشواء على طريقة البيشمرگة (7) ، لا وجود لاساليب التحضر في وسط الجبال  ، تعلمنا كيف نستعمل قطع أغصان الأشجار الغضة وإزالة الأوراق منها لجعلها بمثابة شيش طويل لغرز اللحم ، كانت وجبة دسمة أمدتنا  بكثير من الراحة والطاقة تبعها عدة أقداح من الشاي الزنكين وتمددت اجساد عدد من الرفاق على الارض بعد تعب عملية الاكل ودسامة الغذاء وثقل الهضم. 

 في هذا الموقع كهوف عديدة منتشرة على جوانب الجبال اضافة الى العديد من الكبرات المصنوعة من سيقان واغصان الاشجار وهي اماكن نوم واستراحة الأنصار وهم في طريقهم لمواقع الأنصار في العمق العراقي .. وبعد ذلك جاء أحد رفاق الموقع  ليقول ....

 

ـ  رفاق امامكم مسيرة طويلة وشاقة وسط طبيعة قاسية وقلة في المياه عليكم أخذ قسطا" كبيرا" من النوم والراحة والتزود بالأكل والماء من الأن وستغادرون في الرابعة عصر يوم غد لتواصلوا المسيرة طول الليل وعلى ضوء القمر . قضينا طوال اليوم نقوم بالواجبات الأنصارية ، النزول الى النهر وجمع المياه ، تحضير الخبز وخبزه بالتنور لليوم الثاني ، تنظيف السلاح وتزيته ، تنظيم الحراسات اليومية والليلية ، التأكد ان كل شئ على ما يرام للمشوار القادم . ويعد العشاء دخلنا في نوم عميق حتى صباح اليوم التالي لنواصل رحلتنا الصعبة نحو الوطن .

يتبع في الحلقة الثانية

نشرت في وجهة نظر

أعادني الخبر المنشور على الرابط أدنــــــاه الى ذكرى والدي الذي جاءوا اليه في ظهيرة أحد الأيام وهو في سوق الصاغة ( سوق الصيادلة ) في مدينة البصرة عام 1981 بحقيبة من الذهب المسروق أيام الحرب العراقية الأيرانية ، يقدّر محتواها بأكثر من 25 كيلو من المصوغات التي سرقت من بيوت الأبرياء أثناء غزو القوات المسلحة للنظام العراقي آنذاك للأراضي الأيرانية و دخولهم الى مدن أيرانية عديدة منها مدينة ( المحمــّرة) ! و رفضه لشراء تلك الكمية بأبخس الأثمان ( خمسة آلاف دينار عراقي .. أو حتى بنصف هذا المبلغ ! ) ، طالباً من حامليها و سارقيها ، وهما أثنان من ضباط القوات الخاصة آنذاك، بأعادة حلال الناس الى أهلـــه ، لأنه مال حرام ، ولا نعمة ، ولا حق ، لمن يقتنيه أو يشتريه ومهما كانت الأحوال ومهما كانت التبريرات .. !! 

 أقول أعادني هذا الخبر الى تلك الذكرى وحكاية الوالد وأمانته التي تحدثتُ عنها في مقالة نشرت قبل سنوات قلائل تحت عنوان ( أبو جبار .. أبو تحسين ، نبض الأمانة والوطنية الصادقة ) والتي نشرت في مواقع ألكترونية عديدة .. 

 لقد كان الكثير من المندائيين وما أحاط بهم من ظروف تاريخية وأجتماعية معقدة ، وغيرها من الموروث الديني والوطني الذي تربوا عليه ، أكثر أمانة و صدقاً في التعامل مع ما يحيط بهم من متغيرات أجتماعية وأقتصادية وسياسية .. وكانوا الأكثر من بين الأقوام الذين يسجل لهم تأريخ العراق الحديث نصاعة ونقاءً وأخلاصاً في سجل نضالهم الوطني والمهني وعلاقاتهم الأنسانية المتواضعة مع الجميع رغم التمييز والقهر الذين تعرضوا اليه حتى يومنا هذا ، ولأنهم حقاً سكان العراق الأوائل و ورثة هذا التأريخ العريق الممتد لآلاف السنين ، فإنهم لم ينصاعوا يوماً ما الى أمر خيانة أو تواطئ أو سرقة لكل ما في خزائن الوطن من تراث و كنوز وأموال عامة أو حتى خاصة ، وتسجــّل لهم دوائر التحقيقات بشكل عام في داخل الوطن وخارجه كل هذا التأريخ المجيد الذين عرفوا به وعاشوا معه ! 

 انــــــه الوطن .. انهـــــا الأمانــــــــة، بكل المعانـــــي الأصيلــــــة !

نشرت في وجهة نظر
الأربعاء, 10 نيسان/أبريل 2013 17:39

انتفاضة الشعوب الحية

ان المتابع لحركة تاريخ ثورات وانتفاضات الشعوب العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي سوف يلاحظ بدون عناء البحث في بطون كتب التاريخ بان هذه الثورات التي اشعل فتيلها الفقراء والمثقفين والعسكر من ابناء الطبقة الوسطى لم تدم طويلا حتى استحوذ عليها وحصد ثمارها الأنتهازيين والوصوليين والنفعيين والطفيليين الذين بين ليلة وضحاها صعدوا على اكتاف الطبقات المسحوقة واعادوا بالمسيرة القهقري الى المربع الأول بهيئة وغطاء شمولي جديد لأستعباد شعوبهم مجددا" . ان الدروس والعبر المستقاة تشير الى اهمية و ضرورة الحفاظ على زخم الثورة وديمومتها لتحقيق كامل اهدافها في ترسيخ نظام العدالة الاجتماعية و الديمقراطية واطلاق الحريات بكافة اشكالها واعادة الكرامة الأنسانية التي كانت الاسباب الرئيسية في اشتعال فتيلها .

 

 

لقد مضى على استقلال البلدان العربية بحدود الستة عقود لم تستطع كل الأنظمة السياسية التي تقلدت دفة الحكم فيها من نقل مجتمعاتها نقلة نوعية على كل المستويات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ) لتبعية تلك الأنظمة بشكل او باخر الى النظام الرأسمالي العالمي والتزامها الحرفي بالوصفة الجاهزة للبنك الدولي وبايدولوجية الفكر الليبرالي الجديد الذي ربط ربطا قسريا بين الحرية السياسية والحرية الأقتصادية .

 

 

لم تلتزم جميع الانظمة العربية السائرة في ركب النظام الرأسمالي المتوحش بكامل الوصفة الجاهزة لقائدة الفكر الليبرالي الجديد والرأسمالية العالمية امريكا ، فقد التزمت هذه الحكومات فقط بتطبيق جزءا" من الوصفة وبما لايؤثر على كراسي حكمها حتى وان يؤدي تطبيقها في مجتمعاتها الى ارتفاع نسبة الفقر والبطالة والجهل والامية وازدياد مديونية الدولة للبنك الدولي وتدني مستوى التعليم والصحة والخدمات الاخرى وغلاء المعيشة حيث قامت بتحرير اقتصادياتها وفتح اسواقها على مصراعيها للرأسمال العالمي والبضائع المستوردة لتقضي على صناعتها الوطنية وتحولها الى دول استهلاكية من الطراز الأول ، اما بالنسبة لتطبيق الجزء الثاني من الوصفة المتمثل بالحرية السياسية فان بعض الحكام العرب غظ الطرف عنها والبعض الاخر قام باصلاحات سياسية شكلية وانتخابات مزورة لاعطاء الشرعية لانظمتهم الفاسدة التي اكل عليها الدهر وشرب.

 

 

ظلت امريكا منذ احدث ايلول 2001 تلوح للانظمة العربية بالعصى الغليظة بين حين واخر فحررت عقليتها السياسية المتجبرة مشروع شرق اوسط كبير وبعد معارضة شديدة استبدل الى مشروع شرق اوسط جديد لتبديل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة باكملها وبما يتلائم مع مصالحها ومصالح الاخطبوط الكارتل العالمي واعطوا لانفسهم كامل الحق للتدخل في مصير الشعوب بحجة مقاومة الأرهاب و الدفاع عن حقوق الأنسان والحريات التي كانوا غاضين النظر عنها طيلة العقود الماضية لا بل بالعكس كان لهم الدور الكبير في خلق العديد من الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة والعالم .

 

ان هدف المشروع الذي تريد تطبيقه امريكا في المنطقة هو لابعاد شبح الثورات الوطنية والديمقراطية الحقيقية عن الدول العربية باعادة رسم خارطتها ، بتجزئتها الى دويلات صغيرة ضعيفة على اساس قومي او ديني او طائفي تمهيدا لخلق ارضية وبنى تحية لصراع مستقبلي قومي، ديني، طائفي ، لتحرف نظر الشعوب عن مخططاتها الشريرة باشغالها بحروب طاحنة ، هذا المشروع الذي بدأت ملامحة واضحة في خطة بايدن المعلنة في العراق و كذلك هو الحال في اليمن والسودان ولبنان وتباعا في كل الدول العربية التي فيها ازمة دولة و مجتمع حيث تتماهى سلطة الدولة مع سلطة الاحزاب القومية اواللبرالية او مع سلطة القبلية او الطائفة ، ففي مصر ازمة دولة وازمة مجتمع بين الاقباط المسيحيين والاخوان المسلمين وفي السودان ازمة دولة تعتمد الشريعة الأسلامية و ازمة دارفور وانفصال الجنوب وفي اليمن ازمة دولة وازمة القبائل المتصارعة و الشيعة الزيدية والجنوب الذي في طريقه للانفصال وفي المغرب ازمة البوليساريو وفي الجزائر ازمة القوى الاسلامية المتشددة والمتطرفة وفي دول الخليج ازمة انظمة حكم قبلية تعود في بعضها الى القرون الوسطى وازمة الشيعة البعيدين عن الحكم والمهمشين فيها لعقود طويلة وفي لبنان المنقسمة على نفسها .

 

ان كل الدول العربية تعاني من ازمة دولة و مجتمع مع اختلاف شكلها و نسبتها بين دولة واخرى وان اوضاعها السياسية والاقتصادية و الاجتماعية تنذر بالانفجار بين يوم واخر ، ان امريكا بتأييدها لثورة تونس ومصر ومن يليها في المستقبل القريب تلعب دور الحمل الوديع الان لانها تعرف جيدا قبل غيرها بان الانظمة العربية المتهرئة المدعومة والمسندة من قبلها طيلة الفترة الماضية قد استنفذت كل اسباب وجودها و بقائها لذا ترى من الضروري ان تسبق الاحداث باعلانها التأييد لهاتين الانتفاضتين الباسلتين، ليس ايمانا" منها بالتغيير الجذري للنظام وانما لأستبدالها بانظمة اخرى لاتختلف كثيرا في جوهرها عن سابقاتها الا من حيث الشكل لكي تستمر ماكنة انظام الرأسمالي العالمي تطحن الشعوب المقهورة والمظلومة .

 

على الشعبين التونسي والمصري البطلين وقواه السياسية اليقضة والحذر بقراءة تاريخ الأنتفاضات جيدا واستيعاب دروسها البليغة في اسباب نكوصها وتراجعها والحذر كل الحذر لكي لاتضيع الفرصة التأريخية لتستعيد الشعوب المضطهدة زمام الحكم بيدها وحريتها كاملة وكرامتها الأنسانية التي مسختها الأنظمة الأستبدادية الجائرة وتعدل ميزان تقاسم الثروات لصالح الطبقات المسحوقة والمهمشة .

 

نشرت في وجهة نظر
الجمعة, 05 نيسان/أبريل 2013 23:02

التطورات في النقاش حول أصل المندائيين

تسبب وجود اسطورة هجرة الصابئة المندائيين من حوض الاردن الى الجبال الميدية "طورا دماداي" وحران في مخطوطة "هاران جويثا" (حران الداخلية) بسبب اضطهاد اليهود لهم ووجود بعض العناصر السامية الغربية في الدين (مثل الكرمة "جفنا" والحق/العهد "كشطا") في نشوء نظرية الأصل الغربي للمندائيين مبكراً. وأشار الى ذلك مستشرقون كبار مثل نولدكه وليدزبارسكي، ثم أيدت الباحثة الكبيرة في المندائيات ليدي درور هذا الرأي لاحقاً، وهو الرأي الذي صاغه عالم الساميات المعروف رودولف ماتسوخ، وأيده كذلك كورت رودولف. من جانب آخر، وبسبب الجذور البابلية والرافدينية العميقة للدين، أشارت أقلية من الباحثين مثل باومغارتنر وفورلاني الى أن أصل المندائيين هو بابل، وهو الرأي الذي بدأ يتردد مجدداً بين أوساط علماء المندائيات.

يلخص ماتسوخ نظريته في مقدمة كتابه عن اللغة المندائية الكلاسيكية والمعاصرة فيقول: "يجب أن تكون هجرة المندائيين من وادي الاردن الى المرتفعات الميدية قد حدثت أثناء حكم الملك الفرثي أرتبان الثالث. وأثبتت محاولة ك. رودولف لوضع الهجرة في زمن أرتبان الخامس، وآراء إي. بامل بأنها حدثت في فترة حكم أرتبان الرابع القصيرة، أنها لا تأريخية. وقبل انتهاء الحكم الفرثي، انتشر المندائيون في كافة أرجاء وادي الرافدين. وفي القرن الثاني للميلاد أخذ العيلاميون والميسانيون منهم خطهم الذي اقتبسوه من الأنباط".

أما كورت رودولف فيقول في كتابه المندائية (لايدن 1971) "من الصعب الحديث عن أصل المندائيين وتأريخهم، لأنه أمر لم يدرس في كتبهم على الاطلاق. وهم أنفسهم يعتقدون بأن دينهم كان الأول ووضعه عالم النور، ولا يعنيهم تأريخ هذا العالم في شيء... وتوجد اسطورة متوارثة عن إضطهاد الجماعة (بالأصح 360 كاهن) في اورشالام علي يد اليهود الذين قادهم أدوناي والروها والشوفّا. ويعتقد أن تدمير اورشالام على يد قوى النور جاءت عقاباً لليهود على ذلك.. علاوة على ذلك، نجد في هاران جويثا تفاصيل إقامة الناصورايي في تلال ميديا (طورا دماداي) أو حران الداخلية، حيث هربوا بقيادة الملك أردبان من الحكام اليهود. وتم تشخيص أردبان الغامض هذا بالملك الفرثي أرتبان الثالث، أو الرابع أو الخامس... أي في فترة حكم الملوك البارثيين المتأخرين في القرن الأول أو الثاني الميلادي..". وأدوناي هو اله اليهود، الروها هي روح العالم المادي الشريرة، والشوفّا (شفياهي بالعامية المندائية، وهي شوبّا أو شوفّا أي السبعة) هم الكواكب السبعة الشريرة، أعوان ملك الظلام.

ويستمر رودولف "إن تحليل نمط ومواضيع هذا التراث المندائي القديم ومقارنته مع مختلف النصوص اليوحناوية يوضح بأنه يرتبط بالتراث المسيحي الفلسطيني – السوري القديم. ولا يعطينا الأدب المندائي أية إشارة الى أن الطائفة كانت في يوم من الأيام مسيحية على العكس من رأي بعض العلماء... ولا يمكن نكران الأصل اليهودي للطائفة أو الناصورايي رغم النقاشات الحامية ضد اليهود في الأدب المندائي... وتذكر لفافة هاران جويثا أن الناصورايي أحبوا الرب أدوناي الى أن جاء المسيح! ومن الواضح أن معاداة هذه الطائفة اليهودية المارقة لليهودية الرسمية أدت الى وقوع الاضطهاد عليها، من المفترض خلال حروب اليهود التحررية في القرنين الأول والثاني... ومن الأفكار القديمة نجد بهيري زدقا (المختارون الحقيقيون) ومار إد ربوثا (رب العظمة) ورازا (السر) والكثير من المصطلحات واللغة الرمزية حول التعميد وكأنها تكرار لنصوص قمران. والاردن دائماً هو اسم أي ماء مناسب للتعميد للمندائيين. وتؤكد العلاقة الواضحة مع الطوائف المعمدانية شرقي الأردن ومع المسيحية البدائية في سوريا، علاوة على العديد من العناصر السورية الغربية المميزة في اللغة والميثولوجيا المندائية (مثل مندا، ناصورايي، جفنا، كشطا، والملائكة التي تبدأ بـ "يو") نظريتنا في الاصل الغربي للمندائية".

أولاً نترك المواضيع المتعلقة بهجرة ما جانباً، فهي تكرار لتقاليد قديمة (هجرة ابراهيم الى حران ثم الى كنعان، هجرة أخوة يوسف الى مصر ثم الخروج العبري من مصر بقيادة موسى، هجرة يسوع وعائلته الى مصر الخ). وهناك أمثلة عديدة في تأريخ الأديان حول اقتباس أساطير وقصص من الشعوب الاخرى (والمثال الأسطع هو اطلاع اليهود على الميثولوجيا والأساطير الرافدينية بعد نفيهم الى بابل، ومنها استمدوا أساطيرهم بعد تحويرها، مثل الخليقة والطوفان، وذلك عند تحرير التوراة وكتب الأنبياء والمزامير وغيرها من كتبهم في فترات متأخرة). ما يهمنا هو العناصر الغربية في الدين المندائي. أحد أهم العناصر هو تعبير ناصورايي وهو العالم في الدين والمتبحر في اموره وأسراره، فمن أين أتت هذه الكلمة وما معناها؟

أصل الكلمة الفعل نصر هو صيغة قديمة للفعل نطر، ومنها ينطر، أي يحرس، يحمي ومنا الناطور أي الحارس. وهي كلمة معروفة في العديد من اللغات السامية، مثل العبرية والآراميات وحتى العربية. لكن المهم هو استعمالها الديني. فهي لا ترتبط بالمندائية فحسب، بل بالقمرانيين وباقي طوائف البحر الميت وبالمسيحية كذلك.

نجد في نصوص قمران مصطلح نوصري ها-بريت، وهو يعني حرفياً حماة العهد، في إشارة الى عهد يهوه مع ابراهيم في التوراة، وهي تسمية أطلقها مؤلفوا النصوص القمرانية على أنفسهم، وتختصر بالعبرية الى نوصريم. ويمكن اعتبارها الاسم الذي عرّف به القمرانيون (أو غيرهم) أنفسهم. ومن المؤكد أن التسمية العربية للمسيحيين، النصارى، هي على نفس النحو وليس من النسبة المفترضة للمسيح الى مدينة الناصرة التي لم تكن قد وجدت في عصر المسيح، وإنما ظهرت في فترات لاحقة بعد تدوين الأناجيل (القرون الثاني-الثالث الميلادي). فيسوع نفسه، كان يلقب بالناصورايي، أو النازاري (تحولت الى الناصري بالعربية). ويجب الحذر عند الاعتماد على المصادر المسيحية أو الكلاسيكية، فغالباً ما يرتبك الأمر على الكاتب والناسخ بسبب ضعف الاطلاع على ماهية أديان أو طوائف تتميز بسرية التعاليم أصلاً، وبسبب التشوش الهائل الذي سببه التغير في النطق عند ترجمة الأسماء من العبرية والآراميات الى اليونانية واللاتينية. فهناك اشارات في كتب الآباء المسيحيين الأوائل وكتب المؤرخين القدماء الى طوائف في شرقي الاردن تتشابه في أسمائها مع ما نعرفه من الأدب المندائي: فيذكر هيغيسبوس (من القرن الثاني الميلادي، حسب كتاب تاريخ الكنيسة ليوزيبيوس الذي توفي في 339م) الطوائف اليهودية السبع وهي: الأسينيون، الهيميروبابتست (المتعمدون في النهار) الجليليون، المصبوثيون (المعمدانيون) والسامريون، والصدوقيون والفريزيون. فالمتعمدون في النهار، والمصبوثيون هي أسماء قد تكون لطائفة معمدانية واحدة، الاولى عرفت بالاسم اليوناني، والثانية بالاسم الآرامي. ويتحدث أبيفانيس أسقف سلامينا (أواخر القرن الرابع) عن الناصورائيين والنازاريين والاوسيين في حوض نهر الاردن، وقتها كان المندائيون يعيشون في ميسان أي جنوب العراق. ونجد في مخطوطات قمران تسمية ثانية للجماعة القمرانية، وهي "عوسي ها-توراه" أي مطبقي أو محققي التوراة، وتختصر الى عوسيم، وهي نفس الأوسيين التي تحدث عنها أبيفانيس. وكما مر، فإن ناصوري ونازاري تعودان الى جذر نصر، أو نطر بمعنى ناصورايي، وتغير اللفظ حسب تأثير اللغة اليونانية أو اللاتينية، لغة المصادر التي نقلت الينا الأخبار الشحيحة عن هذه الطوائف!. المصطلح إذن شائع في تلك الفترة، حماة العهد، حماة الدين الخ، ولا يرتبط بدين معين كما رأينا.

وعن علاقة اليردنا بنهر الاردن، فالأمر واضح، ولا يمكن اعتبار استعمال المندائيين كلمة يردنا هي دليل على الأصل الغربي وإشارة الى نهر الاردن الحالي. تعني كلمة يردنا في اللغات الآرامية الماء النقي، الجاري. ويبدأ البارسيون (في الهند) أسماء الأنهار بسابقة هي "أرد"، وهناك العديد من الأنهر في أوروبا تذكرنا باليردنا: الرون والراين، ولاننسى رودانوس التسمية القديمة. على ما يبدو أن الكلمة ترجع الى فترات بعيدة في تأريخ البشرية القديم.

إن الطبقة الأساسية للدين المندائي رافدينية الطابع، ولا يمكن تصورها في أية بيئة ثانية عدا بيئة الأهوار والأنهار والماء الوفير في جنوب العراق كما يشير عزيز سباهي بصواب في كتابه "اصول الصابئة". فهل يقبل المنطق العلمي وضع كل العناصر البابلية الغزيرة في الأدب المندائي جانباً والتشبث بحفنة من العناصر "الغربية" في الدين، لإثبات نظرية الأصل الغربي؟.

والأهم من كل ذلك، هو وجود "العناصر الغربية" في جنوب بابل في تلك الفترة، متمثلة باليهود الذين آثروا البقاء في جنوبي وادي الرافدين على العودة الى أرض كنعان. فما الداعي "لاستيراد" العناصر الغربية ما دامت قد جائت من قبل مع اليهود الذين سباهم الكلدانيون الى بابل وبقوا على اتصال ببلاد كنعان؟. هذا ينطبق مثلاً على ما يسميه المستشرقون "مخلوقات يو" مثل الملائكة يوشامن ويوزاطق وغيرهم. وسابقة يو هذه تعرف بالحرفين وهي مختصر للحروف الأربعة يهوه اله العبرانيين القومي. وهناك الحروف الثلاثة يهو (ياهو، مثلاً في نتانياهو). واسم يهوه مقدس عند اليهود لايلفظوه، بل يقرأون إيلوهيم بدلاً منه (لذلك يجري تحريك كلمة يهوه بحركات كلمة إيلوهيم في النصوص). ويوشامن هو اسم مستعار من التراث الكنعاني، وأصله بعل شمين أي سيد السموات (في الأصل بعل شمايم، تحولت الى بعل شمين ثم الى يوشمين عند اليهود ومنها اشتق المندائيون يوشامن)، أما يوزاطق، فهو من يو-صادق. ومن المفترض أن تكون الصيغة المندائية ليوحنا المعمدان، يهيا يهانا (يحيى يوحنا) على نفس الشاكلة. لكن لماذا لا يكتبه أو يلفظه المندائيون يوهانا بدلاً من يهانا التقليدية؟ هذا أمر لم يتطرق اليه أحد ويتطلب البحث.

إن اقتباس المندائيون هذه الأفكار من جيرتهم اليهود في بابل هو أسهل بكثير من نقلها عبر هجرة واسعة من وادي الاردن الى حران فبابل. ولربما هاجر عدد صغير ممن كانوا يسمون بالناصورايي من حوض الاردن فعلاً، وانظموا الى المندائيين الموجودين أساساً في أرض بابل، وهو أمر تشير اليه لفافة هاران جويثا صراحة، لكن ذلك ما لا يمكن نفيه أو إثباته في الظروف الحالي. ومع ذلك وحتى التسليم بإحتمال مثل هذا لا يفترض تأييد نظرية الأصل الغربي ما دام القادمون الجدد انظموا الى جماعة قائمة منذ زمن، ولم يأتوا بدينٍ جديد.
ولعبت نظرية الأصل الغربي دوراً في تعقيد الصورة المعقدة أصلاً، على سبيل المثال أثناء النقاش حول الخط المندائي الذي يتشابه مع الخط النبطي (في الغرب) والخط العيلامي (في الشرق). فمن يؤمن بالأصل الغربي لابد وأن يقول بأسبقية الخط النبطي على المندائي، لأن الصورة لا تستقيم إلا هكذا، فيكونوا قد أخذوا الخط من النبطيين بطريقهم الى ميسان، حيث اقتبسه منهم العيلاميون كما رأينا عند ماتسوخ. ومن المفترض أن الخط المندائي كان قد بلغ اكتماله في القرن الثالث الميلادي، ويصعب تصور اقتباسه من العيلاميين كما يرى يوسف نافيه أو يانوش هارماتا لأسباب تتعلق بتأريخ التدوين عن الشعوب الايرانية التي لم تطور أبجدية خاصة بها، ولم تستقر على أبجدية إلا بعد الاسلام عندما اختارت الحروف العربية، وحتى الأبجدية الفهلوية كانت تتألف من ثلاثة عشر حرفاً فقط. ولو كان العيلاميون هم من ابتكر وطور الأبجدية هذه، لم نبذوها ولم يستعملوها لاحقاً؟. من جانب آخر ذكر رودولف أن المندائيون طوروا أبجديتهم بعد وصولهم الى ميسان. وستظل الأبجدية رهينة النقاش حول أصل المندائيين رغم اللقى الأثرية من نقوش ونقود وكتابات.

خلال مؤتمر جمعية آرام عن المندائيين في اوكسفورد في عام 2002، شددت الدكتورة كريستا مولر-كَسْلَر على ضرورة فتح ملف أصل المندائيين مجدداً وفقاً للمعطيات الجديدة التي أفرزتها دراسة اللقى الأثرية في وادي الرافدين. وكَسْلَر مهتمة بدراسة نصوص التعاويذ التي عثر عليها في وادي الرافدين منذ القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين والتي بقيت في المخازن دون ترجمة. وتعتقد كَسْلَر أن الدين المندائي تكون في جنوب وادي الرافدين وتنكر الأصل الغربي لعدم وجود ما يبرر هذه النظرية، أيدها في ذلك البروفسور المؤرخ أدموندو لوبييري من جامعة أودينا الايطالية.
وترى مولر ـ كَسلَر أن نصوص التعاويذ المندائية كانت موجودة وتلمس الكثير من عناصرها في نصوص تعود الى فترات أقدم من الهجرة المفترضة، الى منتصف القرن الثاني قبل الميلاد مثلا. وتدل الدراسات الحديثة حول نصوص الأدعية المندائية أن هذه النصوص رافدينية جنوبية بالتمام، لا بل تحمل بصمات محلية ضيقة غير معروفة حتى في مناطق اخرى قريبة من بلاد الرافدين. وتجادل كَسْلَر أنه كان على الجماعة المهاجرة من فلسطين في القرن الأول أن تغير لغتها وتترجم نصوصها الدينية بثلاث لغات خلال فترة زمنية قصيرة تقرب من مئة عام هي الفترة الفاصلة بين انطلاقهم المفترض من حوض الاردن لغاية وصولهم الى جنوب وادي الرافدين، وهو أمر مستحيل عملياً، بالإضافة الى أن مثل هذه الترجمة للنصوص لابد وأن تترك بصماتها مثل وجود عناصر لغوية ومفردات من اللغة الأسبق، وهو أمر لا نعثر عليه في النصوص المندائية. وتقول في دراسة سابقة لها صدرت في مجلة آرام (عدد 11-12): "إن إحياء دراسات النصوص المندائية القديمة المكتوبة على الرصاص والأوعية الخزفية في السنوات الأخيرة، يجبرنا على إعادة تقييم معلوماتنا عن معرفة المندائيين للثقافة البابلية القديمة ودورهم في نقلها. كذلك أن نصوص التعاويذ المندائية هذه بالذات هي التي ترتبط بشكل وثيق بقضية أصل المندائيين. هذا الأدب الخاص يكشف معلومات مفصلة حول الكثير من الأسئلة التي لم تحصل إجابتها. إن طبقة الصوتيات والمفردات والتعابير في اللهجة المندائية يجب أن تكون أدلة كافية لإثبات الأصل البابلي للمندائيين، لكن يبدو أن هذه الحجج اللغوية لم تكن مقنعة بالنسبة لأجيال من علماء الأديان".

ولم تقنع هذه الحجج البروفسور رودولف، فهو يعارض هذا الرأي لحد الآن، ويصر على أنه من الصعب تحديد أصل المندائيين بالاعتماد على دراسة نصوص الأدعية وحدها.

بظهور الأجيال الجديدة من علماء المندائيات، وتزايد الاهتمام بدراسة اللقى الأثرية – وهي الأدلة المادية على تأريخ جماعة ما -، يأخذ الخوض في أصل المندائيين منحىً جديداً، رغم تعقد الموضوع وتشابك عناصره وشحة المصادر التأريخية والأثرية التي ترتبط بالمندائيين

نشرت في تاريخ
الجمعة, 05 نيسان/أبريل 2013 18:43

الأنهار المقدسة

اسبر اغوار نهر الروح .. من أين جئت وبأمر من .. وبالرغم من انك اصبحت عبداً لهذا الجسد الفاني ، قم انهض مجددا واتبع النظام الذي منه انحدرت وشارك في السبب المقدس.. )نص آكادي)

غالبا ما تظهر الأنهار في المعتقدات الدينية كرموز النفوذ الإلهي والاتكال الحياتي ، والانهار تستحضر صورة الطاقات العقلية والروحية ، مغلفة المستويات المتعددة للحياة الكونية والفردية لتربطنا بشكل حميمي بالمصدر الروحي الذي يغذينا ويديمنا،. وهي تتدفق دوما لتوصلنا بكل الاشياء. وقد استوعب القدامى، ومنهم المصريون، هذه الهبة الكونية فسموا مصر هبة النيل، وقدموا له الصبايا الجميلات قرابين بشرية لإرضاءه.
الأنهار المقدسة هي ليست مجرد تذكير اسطوري بحقائق منسية، انما تمثل دفق الوجود البشري "من نحن؟ وماذا نحن؟" وليست كينونة ساكنة او جامدة وانما سيلا فاعلا للبهاء الإلهي. فقد وصفها الفلاسفة منذ القدم بأنها البذرة أوالبيضة التي تحوي الخصب الكوني الذي يحبل به رحم الكون اللامتناهي زمكانيا.
وينظر لهذه البذرة على انها ثمرة الأسلاف والاكوان السابقة المليئة بالحياة والذكاء والوعي. اذ من الطبيعي تخيل هذه البذرة اللامتناهية تنبثق في لحظة معينة لتتدفق نهرا جارفا من الطاقة غامرة الكون بـ "مياه" البهاء والألق أي الفوضى البدئية التي نجم عنها خلق المجرات والمجاميع النجمية تحوي كواكب جنائنية مثل كوكبنا الأرض.
وتقدم لنا قصيدة التكوين والخلق البابلية وصفا دقيقا مدهشا لانبثاق دجلة والفرات بسلسلة من اعمال القتال، بدأت بقتل أپسوApsu وهو عنصر الذكورة في مزيج الحياة البدئية، حيث كانت تيامت Tiamat تشكل فيه عنصر الأنوثة والأمومة وكانت تحكمه وتتحكم فيه، وهي التي منحت أپسو شعارات السلطة والتألق الخارق للطبيعةMelamu . وبالنسبة لأپسو فقد تمكن الإله (أيـا) بتعويذة سحرية من اختصاصه تعطيل حركته وتجريده من شعاراته، ثم قتله، بحيث لا يتحول الى العدم بعد عملية القتل هذه بل ليصبح العنصر الرطب اي محيط المياه العذبة الباطنية، حيث يتخذ الإله أيا مقره. وعلى هذا المحيط ، يتم فيما بعد، من قبل الإله مردوخ تكوين قرص الأرض.
اما تيامت حين منحت وحدها ودون الرجوع الى مجمع الآلهة السلطة لكينغو Kingo الذي اتخذته قرينا له بعد موت او تحول أپسو. ووفقا لهذا الرأي نفسه ، كان الإله مردوخ يمثل النظام والتصور السليم يرافقه تخطيط بارع يدل على حسن استعداده للمعركة مع تيامت واختياره لسلاحه ، وبعد انتصاره على تيامت، فانه شطر جسمها الهائل الى نصفين مثل ما تشطر السمكة التي يراد تجفيفها ثم تناول نصفا وقنطره وجعل منه شكل السماء وفي موضع كبدها احدث المناطق السماوية العلوية وكوّم فوق رأسها جبلا وأخرج منه ينبوعا وفتح في عينيها دجلة والفرات كما اعد ردفها لسند السماء وسقّف نصفها الآخر لتدعيم الأرض.
ويمكننا تبيان أهمية الأنهار في فكر الانسان العراقي في كل اساطيرنا القديمة التي دونها ببراعة لا تضاهى الشعراء السومريون ومن بعدهم البابليون بما جال في خيال وتصور العقل البشري في تدوين مغامرات جلجامش وبحثه عن سر الخلود ومعنى الحياة والذي قاده الى "أبو البشرية" الذي يسكن عبر البحر مع الآلهة في "حديقة الشمس" التي تقع عند مصب الأنهار. وقد استعارت التوراة العبرية هذا التصور حيث نقرأ في سفر التكوين 10:2 "وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة. ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس".
وكما الانهار تنحدر من مصادرها البدئية ـ من الامطار والثلوج ـ فانها تجرف معها الطمي وعناصر الطبيعة الاخرى من المناطق التي تجري فيها كما تجرف معها الاقذار البشرية التي تساهم في تلويث هذه الانهار الواهبة للحياة بغض النظر عن كونها اقذارا جسدية ام روحية. لقد كان كل من هومير وافلاطون مقتنعين تماما بتصويرهم لجريان الانهار الى العوالم السفلية، اذ نجد في نظرية نشأة الكون اليونانية ان الأقيانوس التايتاتي ، هذا النهر الاسطوري قد ولد عن السماء والارض وهو اب لكل الانهار ، النهر السماوي التي تحيط مياهه بالارض. ومن بين بناته الواتي ليس لهن عد هناك اربعة منهن انهار العالم السفلي الرئيسية بالاضافة الى نهر النسيان Lethe ، وهذه الانهار تلتقي لتسيل جنوبا ملتفة حول بحيرة الجحيم Acherusian لتصب اخيرا في الجحيم Tartarus . وتقوم هذه الانهار في العالم السفلي بتنقية الارواح والعقول من آثامها وانانيتها.
ان الاساطير تروي لنا بأن الانهار هي مظهر تكاملي للنظام البيئي الروحي العقلي الجسدي من خلال جريانها عبر العوالم الثلاثة الأرضية والسماوية والسفلية. ان الاسطورة الهندوسية حول نهر الهند المقدس الغانج تمكننا من تخيل هذا النهر على انه إلهة ـ حيث انها هي الإلهة الأم (ام الغانج) الواهبة للحياة ، وهي الطاقة الأنثوية ـ الأمومية ـ الذكية العاقلة الكونية قرينة الإله سيفا Siva . وهي النهر الذي ينبع من ابهام قدم فينشو حين ثقب بقدمة قبة السماء . من فينشو حامي الكون تجري غانجا باستمرار الى رأس دورفا ، النجم القطبي ، مطهرة في طريقها كل نفس تلمسها كي تصعد الاجساد الى الفردوس . ملايين الهندوس تأتي الى مثابات ومعابر الغانج المقدسة للاغتسال وتطهير الاجساد المتعبة في مياهها المقدسة والذين يحتضرون يحتضنون ضفافها للموت هناك لكي تعبر ارواحهم نهر الحياة والموت باتجاه الحياة الابدية.
وراء هذه الطقوس والرموز تكمن حكمة كونية ملهمة. افكارها المركزية تعبر عنها بوضوح استثنائي الثيوصوفية** المندائية. فمن البيئة المائية ، لأهوار دجلة والفرات، التي استوطنها المندائيون الناصورائيون اصحاب "الألق المعرفي" ظهرت افكارهم التي ارتبطت ارتباطا روحيا وعضويا بهذه المياه. ان الكوزمولوجيا المندائية تشير الى الكينونة الأسمى بـ "الحياة العظمى" التي توصف بانها غريبة متفردة ـ نكرايي ـ بمعنى انها بعيدة لايمكن فهم كينونتها لكونها تفوق الوصف. وبسبب غموضها وتجريدها فان المندائيين يتكلمون عنها دوما بصيغة الجمع الحيادي.
ان رمز الحياة العظيمة (هيي ربي) هو الماء الحي، الذي يسميه المندائيون (يردنا) وهو العنصر الاساسي الذي ترتكز عليه طقوسهم وعلى الخصوص (الصباغة) ـ التعميد ـ التي يجب ان تتم في الماء الجاري (الحي) ولا يجوز ارتماسهم في ماء تحيط به يابسة لأنه ماءا راكدا و(ميتا). ويردنا هي تسمية المندائيين لكل نهر جاري ـ ارضي أو سماوي ـ ويصرون على انه ليس اشارة مباشرة للأردن ولنهره. ان المندائين يعتقدون بأن كل الانهار تنبع من مصدر سماوي ـ نهرا نقيا يدعى الفرات البهي ـ "فراش زيوا".
أدبيات المندائيين تشرح لنا بأن نهر الحياة والنور يجري من نقطة واحدة (رحم) خفية لا يعرف سرها الا الحياة العظمى، الا ان ادعية معينة تقول بأن البهاء (الألق) ـ زيوا ـ هو الذي يرفع حرارة هذا المركز التوليدي ـ الرحم ـ مسببا ذوبانه وجريانه من (مشكنته)، اي من بيت الحياة ـ بيت هيي ـ أي الكون.
ومن هنا نستطيع الوصول لفهم امثل لطقوس الصباغة (التعميد) المندائية. ان الصباغة اليومية هي التعبير المادي الأقصى لما يحدث في حياة المندائين الفكرية والروحية. وهذا الارتماس في المياه الجارية التي تمثل اليردنا السماوي هو في الواقع تمثيلا للفعاليات الخلاقة لما يحدث في عالم النور ـ آلما د نهورا ـ ان هذه الطقوس التي تسمى (مصبوتا) تهدف الى تنقية المرء حيث يدخل الى هذه المياه (مجازيا) "اسودا" ليخرج منها "ابيضا" ، أي يدخل اليردنا نجسا او ملوثا ليخرج منها نقيا.
والماء الذي يعكس النور يعتبر شكلا من اشكال النور. فالشخص المصطبغ حديثا يعتبر مرتديا "حلة النور". وفكرة ان الفلك مملوء بضياء سائل والماء شكل مكثف من اشكاله، تظهر في الاعتقاد بوجود الزوارق الفلكية التي يرسمها المندائيون في منمنماتهم. والماء مع ذلك ليس كله سائلا سحريا واهبا للحياة . ان جزءا واحدا (مثقالا) من تسعة اجزاء (مثاقيل) منه فقط هي الماء الروحي الحيوي ـ ماء الحياة الذي يديم جسم الانسان، وسائر الاجزاء الاخرى تسمى ((تاهمي)) وهي سائل عديم الحياة يمر باستمرار في طريقه الى مياه البحار المرة جارفا معه فضلات ونجاسات الجسم البشري ، في حين يقوم الماء الحي باداء واجبه او يرتفع الى السماء مرة اخرى حيث الـ " يردنا" السماوية " فراش زيوا" او الفرات النوراني.
ان المياه النجسة كلها تصب في بحر العالم القريب من عوالم الظلمات ذات المياه السوداء الداكنة جدا، التي تغلي وتفور وتلتوي، من يشرب منه يمت وكل من يخوض فيها يحترق. ما من احد يطيق رائحتها باستناء ذلكم الذي خرج منه.
ان طقوس الاغتسال بالماء التي تقام مع اجراءات وأدعية وصلوات معينة هي بمثابة احتفال ديني تجلب جميع خواص هذا الماء السماوي وتضعها موضع التطبيق وتجعل متناوله قادرا على الاستفادة منه. هذه الاراء قديمة قدما سحيقا وتشير الى استمرارية الفكر والتقاليد. فمياه دجلة والفرات والكارون والزاب هي ذات قداسة متساوية لأن جميعها تحتوي على هذا الجزء السحري من الماء "ميا هيي" او ماء الحياة. والـ "يردنا" هي العلامة الخاصة بالمندائين الذي بدونه لا تتم مراسيم ـ طقوس ـ الصباغة :
" روشـمـي إمـشـي روشـمـي بـيـردنـا ربـا اد مـيـا هـيـي اد انـش ابـهـيـلـي لا مصـي . اشـم اد هـيـي واشــم اد مـنـدا اد هـيـي مـدخـر إلـي"
(( ان علامتي هي اليردنا العظمى الماء الحي الذي لا يستطيع الانسان ان يحصل عليه بقوته وحده. ان اسم الحياة واسم مندادهيي منطوقان علي)).
ان ولادة الماء الحي ، وفق نظرية الخلق المندائية، لم تأتي هينة يسيرة بل مرت بمخاضات عسيرة منذ ان حددت المانات العظمى لحظة البدء التي نشأت منها الاكوان والسموات التي امتدت اتساعا فيها النجوم تبزغ فتومض فيها متلألئة. وكانت هنالك مياهً وحرارة حية وحرارة آكلة في السماء ذات النجوم المنتشرة وپتاهيل المكلف بالخلق يذرع الاكوان يريد لها فكاكا من الظلمات والنيران الآكلة التي تلفها.
لقد صاغ پتاهيل النار من الثمرة والشجرة والكرمة ـ ومن هذه النار الحية خلقت المياه الحية في دار الحياة، ثم اتى بها پتاهيل الى تيبل ـ الأرض ـ ولكن الحرارة الحية تغيرت فغدا الماء بيده بدون لمعان. بثاهيل حاول كل شيء غير ان الماء لم يعد عذبا حلو المذاق فأمرت الحياة الحياة العظمى مندا اد هيي ان يمضي الى قمة الماء ليسحب جرعة خفيفة من الماء الجاري الحي ويتركها تجري حتى تسقط اخيرا في الماء العكر وتنساب معه، عند ذاك اصبح الماء حلوا فشرب منه بنو آدم وغدو شبيهين بالحياة.
ان الماء الحي هو النهر المندائي المقدس ـ نهر پرياوس ـ الذي ينبع من بوابة الشمال، من تحت عرش الحياة الكبرى عبر مياه الظلمات التي تحيط بتيبل ـ الأرض ـ من كل حدب وصوب اذ انه ليس وفي وسع قوى الظلام ان تقطع الماء الحي النهر المقدس ( يردنا ) عن مقام النور.

نشرت في تاريخ
الجمعة, 05 نيسان/أبريل 2013 18:41

الصابئة المندائيون في العراق القديم

لا أحد يعلم على وجه التحديد متى ظهر الصابئة المندائيون في العراق القديم ، ولكن اسمهم ارتبط بالنبي ابراهيم الخليل الذي عاش في مدينة اور السومرية ـ مدينة الهة القمر نانا ـ منتصف الالف الثالث قبل الميلاد، وكان ابراهيم عليه السلام أول من نبذ الاصنام وودعا لرب واحد عظيم القدرة اطلق عليه السومريون اسم [ لوگـال ـ ديمير ـ آن ـ كي ـ آ ] ملك الهة ما هو فوق وما هو تحت [ رب السماوات والارض] . وقد آمن الصابئة المندائيون بتعاليمه واحتفظوا بصحفه ومارسوا طقوس التعميد التي سنها لهم واستمروا عليها الى يومنا هذا. وقد هاجر قسم منهم معه الى حران والقسم الآخر بقي في العراق ، وقد عرفـوا فيما بعد بـ [ ناصورايي اد كوشطا ] اي حراس العهد الذين أسسوا بيوت النور والحكمة [أي ـ كاشونمال ] ـ بيت مندا (بيت المعرفة) فيما بعد ـ على ضفاف الانهار في وادي الرافدين لعبادة مار اد ربوثا ( الله ـ رب العظمة)، واتخذوا من النجم القطبي (اباثر) الذي دعاه السومريون (( نيبورو )) قبلة لهم. كما ارتبطت طقوسهم بمياه الرافدين فاعتبروا نهريها ادگـلات وپـورانون (دجلة والفرات) انهارا مقدسة تطهر الارواح والاجساد فاصطبغوا في مياهها كي تنال نفوسهم النقاء والبهاء الذي يغمر آلما د نهورا (عالم النور) الذي اليه يعودون . ومفهوم الاغتسال والتغطيس (التعميد) مفهوم رافـديني قديم ورد في العديد من النصوص المسمـارية حيث كتب الشاعر السومري في مرثية مدينة اور: (( شعب الرؤوس السوداء ما عادوا يغتسلون من أجل اعيادك ، اناشيدك تحولت الى أنين ، مدينة اور مثل طفل في شارع مهدم ، يفتش لنفسه عن مكان امامك)).

والصابئة المندائيون هم شعب آرامي عراقي قديم ولغته هي اللغة الآرامية الشرقية المتأثرة كثيرا بالاكدية . وقد تواجد الآراميون جنبا الى جنب مع السومريين والأموريين والكلدان وغيرهم ، واستوطنوا وسط العراق وبالأخص المنطقة الممتدة من بغداد وسامراء من ناحية دجلة وليس من ناحية شبه جزيرة العرب، في وقت مبكر قد يصل الى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد . وقد عثر المنقبون على وثيقة أكدية ـ نقش ـ منذ عهد نارام ـ سن 2507 ـ 2452 ق.م تتحدث عن انتصاره على مدينتي شيروم ( سامراء) وآرامي ، ويستدل على انهما تقعان في منطقة شرق دجلة بين الزاب الأسفل وديالى، ثم انتشروا في كل العراق، على ما يبدو.

وفي العهد البابلي الأخير تبنى العراقيون ، وكل شعوب المنطقة اللغة الآرامية لغة رسمية لأسباب كثيرة واستخدمت بكثرة في بابل والقسم الاوسط من العراق القديم وكانت اللغة المهيمنة في القسم الجنوبي من بلاد ما بين النهرين وما يعرف الآن ببلاد خوزستان في ايران وهي نفس اللغة التي يستخدمها الصابئة المندائيون اليوم في كتبهم ونصوصهم الدينية . لقد امتهن المندائيون في تلك الحقبة نسخ العقود والمخطوطات وكتابة الرقى وتولعوا بالارقام ومراقبة والنجوم وافلاكها وزاولوا الطب بنوعيه الروحاني والسريري (الأشيـپو والآسي) والتي ورثوها عن الأكديين ، حيث كان الأشيـپـو يعالجون المرضى بطرد الارواح الشريرة بواسطة الطقوس السحرية وقراءة التعاويذ وكتابة الرقى وأوعية الاحراز، خصوصا اذا علمنا بأن سكان وادي الرافدين كانوا يعتقدون بأن الأمراض هي عقاب يوقعه الالهة على البشر نتيجة للآثام والخطايا التي يقترفونها، في حين يقوم الآسين، وهم الصيادلة (العشابون)، باعداد الوصفات الدوائية للمرضى .

ان العثور على أوعية السحر (الاحراز) في مناطق شاسعة من العراق شاهد على انتشار المندائيين في وادي الرافدين واستخدام لغتهم ذات الأبجدية المميزة. لقد تأثر كتبة التلمود البابلي منتصف الألف الأول قبل الميلاد بالمندائية حيث نجد بصمات هذه اللغة واضحة تماما في سفري دانيال وعزرا من كتاب التوراة، كما تأثرت بمعتقداتهم الكثير من الديانات كالمانوية وغيرها. ان المندائيين لا بد ان يكونوا قد وصلوا الى بلاد عيلام (خوزستان الحالية) في القرن الثاني الميلادي عبر شمال بابل وبلاد ميديا ، وان الدين المندائي قد وصل حينئذ الى مرحلة من النضج واحتوى على النصوص المقدسة والطقوس الدينية التي نعرفها في وقتنا هذا. وكل هذه النصوص تشير الى الغرب اي الى منطقة حوض الاردن اي ان اصولهم من هناك وان بدأت التأثيرات البابلية والفارسية تظهر لديهم واضحة في أدبياتهم.

إن اول اسم يذكر في تاريخ المندائيين هو امرأة اسمها ( شلاما بنت قدرا ) ، وهذه المرأة ، التي تسمى باسم امها / او معلمتها في الكهانة ، هي اقدم امرأة (اسم شخص مندائي ) ورد اسمه على انه ناسخ النص المعروف بالكنزا شمالا كتاب المندائيين المقدس الذي يتألف من قسمين (يمين شمال) والجزء الأيسر بشكل نصوص شعرية يتناول صعود النفس الى عالم النور .. و[الكنزا ربا] هو اقدم نص مندائي . وشلاما هذه يعود تاريخها الى سنة 200 بعد الميلاد ، وهي بذلك تسبق بعدة اجيال الناسخ المندائي الشهير زازاي بر گـويزطه سنة 270 بعد الميلاد والذي يعودالى حقبة ماني)) .

لا يمكننا اليوم البت تماما فيما اذا كان الناس الذين يتحدثون بالارامية في مناطق شوشتر و ديزفول و عيلام و سوسة هم من اصول مندائية ، ولكن الكتابات الآرامية التي وجدت في الأهواز والتي تعود الى القرن الثاني هي هي مقاربة للأحرف المندائية. إن الكتابة المندائية قد سبقت العيلامية، كما اثبتت البحوث الحديثة قدم وجودهم في مناطق العراق الجنوبية حيث عثر على قطع نقود تحمل كتابات مندائية ، وتعود تلك النقود الى حدود سنة 150 ميلادية ، كما عثر على نصوص مندائية منقوشة على الواح رصاصية تعود لنفس الفترة التاريخية.

في زمن الدولة الفارسية تمتع المندائيون تحت حكم الملك ادشير الأخير بحماية الدولة (الامبراطورية) ولكن الأمر تغير حين جاء الى السلطة الملك الساساني بهرام الأول سنة 273 ، اذ قام باعدام ( ماني ) في بداية حكمه بتأثير من الكاهن الزرادشتي الأعظم (كاردير ) . وامتد الاضطهاد الساساني الديني ليشمل اتباع الديانات الاخرى الغير زرادشتية مثل المندائية والمانوية واليهودية والمسيحية والهندوسية والبوذية. ويمكننا ان ننتهي الى ان المندائيين قاموا بجمع تراثهم وأدبهم الديني وترتيبه وحفظه وهذا واضح في الجهود المكثفة التي قام بها الناسخ (زازاي ) في هذا المجال.

وبالرغم من حملة الاضطهاد الشعواء التي قادها الحبر الاعظم للزرادشت (كاردير) الى انه لم يستطع القضاء تماما على المندائية، ولكن التدوين توقف تماما لعدة قرون ولم نشاهد التأثيرات والكتابات المندائية الا فيما يسمى بأوعية ( قحوف ) الاحراز والأشرطة الرصاصية . ان المدونات المندائية التي عثر عليها كانت جميعها قد نشأت في بلاد الرافدين والتي يعود بعضها الى القرن الرابع الميلادي، والقسم الأكبر قد دون قبل ظهور الاسلام، الا ان محاولات التأليف المندائية لم تنقطع بظهوره وانما واصلت اعمالها تحت ظله الى ما بعد قرون عديدة.

لقد اصبح المندائيون في العصر الساساني الكتبة والنساخ الرئيسيين للوثائق الرسمية وعمل التعاويذ السحرية بكل اللهجات السائدة ، واهتموا باللغات فاصبحوا همزة الوصل بين الاقوام العربية والارامية وبين الفرس الساسانيين ومن ثم الجيوش اليونانية التي غزت العراق في القرن الرابع قبل الميلاد واتخذت من بابل عاصمة لها تحت قيادة الاسكندر المقدوني، وقاموا بترجمة اساطير وعلوم بابل الى لغة الأغريق . وبناء عليه يمكننا ان نطلق عليهم تسمية (مثقفو) العراق في تلك الحقبة، وقد اتخذ خالد ابن الوليد اثناء اقامته في الحيرة كاتبا ومترجما (سكرتيرا) مندائيا يدعى (مـُرَّة) ليقوم بكتابة الرسائل بالفارسية والآرامية والعربية.

كانت الكثرة من اهل المدائن (طيسفون) عاصمة الفرس الساسانيين الشتوية من الاراميين والمندائيين و فيها لهم معابد عديدة، وازدادت اعدادهم في الفترة الساسانية خصوصا شرق دجلة وضفاف الكرخة والكارون فاستوطنوا ديزفول (عاصمة بلاد عيلام) والاهواز والخفاجية والبسيتين والمحمرة وكان اغلب سكان شوشتر من المندائيين الصابئة، كما اصبحت الطيب (طيب ماثا) اهم حاضرة لهم. وتفوقوا في صناعة الذهب والفضة والاحجار الكريمة التي كانت تجلب من مملكة آراتا في المرتفعات الايرانية. اما القسم الاكبر منهم فقد امتهن الفلاحة وزراعة الارض واستوطنوا الاهوار وضفاف الانهار وقاموا بتنظيم قنوات الري في ارض السواد ، وأسسوا لهم حواضر مهمة مثل كـوثـا و سـورا ، وقد اطلق عليهم العرب تسمية انباط او ( نبت ) كونهم ينبتون الآرض وقد ذكرهم الامام علي (ع) بقوله نحن من قريش وقريش من النبط والنبط من كوثى.

لقد قدمت بابل ومملكتي فارس وميديا ظروفا طبيعية ملائمة لنمو عقائد دينية توفق بين التقاليد والشعائر القديمة وبين الافكار القادمة من الحضارة الصينية القديمة بواسطة فلاسفة الهند الفيديين ، تلك الافكار التي جددت عقائد الناس وبعثت فيهم الروحانيين والهمتهم خلود الروح وان مصدرها الكائن الالهي فاصبحت بلاد الرافدين بوتقة (كوزموبوليتينية) ضمت ديانات عديدة كالزرادشتية والمجوسية واليهودية والمندائية (المعرفية) والغنوصية والمانوية والمسيحية بالاضافة الى عقائد الاقدمين من سكان وادي الرافدين، واقواما مختلفة كالفرس والاراميين والبابليين والكلدان والاشوريين، والعبرانيين الذين سباهم نبوخذنصر، والعرب والارمن، والاغريق الذين جلبهم الاسكندر من مكدونيا.

وعلى صعيد آخر برزت مدينة حرّان (حرانو) في الشمال والتي هاجر اليها قسم من الصابئة مع ابراهيم الخليل كاحدى المراكز الرئيسية للحضارة الآرامية ووارثة حضارات الشرق الأدنى القديم من بابلية وآشورية وكنعانية وكلدانية، والبوابة التي تمر من عبرها حضارات فارس والشرق من جهة وحضارات اليونان والرومان خصوصا بعد فتوحات الاسكندر الاكبر (323 ) قبل الميلاد ونتيجة لذلك برع صابئة حران في الترجمة واصبحوا النقلة الأساسيون للحضارة الغربية الهلنستية الى الدولة العربية الاسلامية فيما بعد.

وفي الحقيقة كان المندائيون قد اعتبروا من قبل الاسلام على انهم من اهل الكتاب ، اذ ان بالتعبير (( الصابئين )) الذي ورد في القرآن الكريم، بثلاث ايات لا تقبل التأويل، لم يقصد بلا شك الا تلك الجماعة العراقية الموغلة في القدم التي آمنت بالتوحيد و اتخذت التعميد شعارا ورمزا لها. اما النص المندائي التاريخي الأهم هو الذ ي يبين بأنه عندما جاء الاسلام وجعل يميز بين الاديان ذات الكتب المنزلة والاديان التي لم تكن موجهة من السماء قدم الريشما ( آنوش بن دنقا ) 639 ـ 640 ميلادية ـ الذي ترأس وفد الصابئة المندائيون ـ كتابهم المقدس كنزا ربا (الكنز الكبير) للقائد العربي الاسلامي آنذاك ، وربما كان سعد بن ابي وقاص، واطلعه على ديانتهم كما ذكر له بأن نبيهم هو يحيى بن زكريا الذي يجله المسلمون فقبل منهم ذلك واكرمهم.

وليس من شك في ان مؤهلاتهم العقلية وخدمات بعض نوابغهم العلمية هي التي اهابت بالمسلمين الى منحهم الحماية كأهل الكتاب، وبرز منهم المئات من امثال ثابت بن قرة وابو اسحق الصابي والبتاني الفلكي وابن وحشية (صاحب كتاب الفلاحة النبطية) وسنان بن ثابت و الكيماوي الشهير جابر بن حيان.

وقد اجبرت جموعهم ، فيما بعد، الى الاسلام، لأن الدخول الى الاسلام لم يكن هناك بدا عنه، فقد قضت المصلحة الفردية به من وراءها حب التخلص من تأدية الجزية وما فيها من اذلال والتهرب من الاذى والرغبة في المناصب والتمتع بالحرية والامان، كما ارتكبت بحقهم العديد من المذابح . ونتيجة لذلك تناقصت اعدادهم تدريجيا وباتوا على شفير الانقراض. لقد احصى المستشرق الالماني بيترمان المندائيين في جنوب العراق فوجدهم بحدود (560) عائلة، وذلك في سنة 1841 .

ومهما قيل في اصل الصابئة المندائيون فإن وجودهم في العراق منذ منذ اقدم العصور لا يختلف عليه اثنان . فهم الباقون منذ القدم شهودا على عظمة ارض الرافدين التي كانت مهدا للحضارة البشرية.

نشرت في تاريخ
الجمعة, 05 نيسان/أبريل 2013 13:49

الديمقراطية وحقوق الانسان في سومر

بعد ان روى لجلجامش تفاصيل الأحداث التي أدت الى الطوفان قال أتونوبشتم ـ والان
من سيجمع الالهة من أجلك ـ
ياجلجامش ـ لكي تنال الحياة التي تبغي ؟ ـ يرى أحد علماء الاثار الماركسيين
الروس ان المقصود بذلك انحسار وغياب النظام الديمقراطي المشاعي الذي ساد في
سومر في بداية الألف الرابع قبل الميلاد . والمقصود بالالهة ـ الأنوناكي ـ
نواب المزارع الذين كانوا يجتمعون دوريآ للتداول في شؤون مزارعهم التي تدار
جماعيآ وكان المعبد الذي يشيد عادة وسط هذه المزارع بمثابة البرلمان الصغير ،
وكانت مثل هذه المعابد منتشرة في كل أرجاء سومر وهي الشكل الاجتماعي للنظام
السياسي الذي كان قائمآ في سومر القديمة.لكن تراكم الأنتاج وتقسيم العمل وتطور
أدواته وبسبب قساوة الطبيعة التي تتمثل بالفيضانات أدى تدريجيآ الى ظهور
الملكية الخاصة ومن ثم نشوء طبقة من الأسياد وطبقة من العبيد الذين كانوا في
الغالب ممن يتم أسرهم في الحرب أو بالابتياع وكانت هناك فئة وسطية تتمثل
بالأحرار ، وهذه الفئة الأخيرة هي التي صاغت لنا ، بشكل أساسي التراث الأدبي
والعلمي والحضاري الذي وصلنا والذي هو فخر كل عراقي.
ان ما نقوله عن هذا النظام الديمقراطي الذي ساد سومر القديمة ليس اجتهادآ أو
تخمينآ بل أثبتته الاف الأختام واللقى الاثارية وكان المعبد يقوم مقام البنك
بعد تفكك المشاعية وانحسار دوره كبرلمان مصغر ، وبدأ الحاكم السيد ـ لوغال ـ
يسلب الكاهن الاعلى دوره أو يشاركه به أو يقصيه كما حدث لاوتونوبشتم ـ نبي الله
نوح الذي أنقذ البشرية من الطوفان .ومن المؤكد ان أنكي أو أيا هو الاسم
التوحيدي لله في ذلك الزمن وهو ذاته ـ الحي أو هيي
الذي تقترن عبادته بطقوس الخصب القديمة والتعميد ،في ذلك الزمن السحيق كان
الصابئة يدخلون في صراع مع الحكام الذين أرادوا تحويل المعابد من مكان لعبادة
الخالق وممارسة الديمقراطية وسيادة مبادئ الأخوة والعدالة الى بنوك ومراكز
للأوثان والأصنام.
كان جلجامش أقدم متصوفة التاريخ وكان في بحثه عن الله يبحث عن الديمقراطية التي
غابت للتو ، يبحث عن العدالة والقيم العليا التي بدأت تنحسر في مجتمعه ، وكان
هو نفسه حاكمآ مستبدآ اثمآ لكنه وفي لحظة من استيقاظ الوعي عندما تواجه بموت
صديقه أنكيدو قرر أن يبحث عن الخلاص ، عن الدين الذي تنزل في صحف ادم ـ ع ـ في
فجر التاريخ البشري جنوب العراق وبشكل خاص ، وكما تؤكده الاثار المكتشفة الى
الان ، في قرية أريدو بالذات ، حيث تؤكد السيدة دراور التشابه الشديد
والتطابق بين خارطة المعبد في أريدو مع المعبد المندائي وخاصة في بركة التعميد
التي ترتبط بنهر الفرات بمجرى على يمينها واخرى للبزل على يسارها لاحداث تيار
من الماء الجاري الضروري لطقس التعميد المصبتا ـ ، ولا تستبعد السيدة دراور أن
الطقوس المندائية ذاتها كانت تمارس في ذلك المعبد في ذلك الزمن القديم ، نهاية
الألف الخامس ق.م.
وبعد أسفار طويلة قام بها جلجامش استطاع خلالها قتل ـ خمبابا ـ أو الروح
الشريرة ـ الروهة ـ كما يطلق عليها في الماثر المندائية ، وبعد ان تعرفت نفسه
المضطربة على شعيرتي البراخة والرشامة ـ أي التبرك والصلاة ـ وفائدتهما في
تهذيب نفسه وتحقيق مبتغاه في بلوغ الحقيقة ، متبوعة بدعوات امه الطيبة ،
والكاهنة الرفيعة المستوى في أوروك ، ننسون المرفوعة الى الله بشفاعة الملاك
شامش ، بعد كل ذلك يصل جلجامش الى ـ أورشنابي ـ المسؤول عن مفاتيح خزائن
المعرفة التي خلفها للبشرية نبي الله ادريس ، أو أنانوخ المندائي ، أو بالصيغة
السومرية ـ أدابا ـ حيث توصله هذه المعرفة ـ أو الناصروثا الاصيلة الأولى ـ
الى هدفه ليلتقي باوتونوبشتم الذي يحاول تكريزه الى درجة دينية عليا معادلة
لدرجة الترميذا المندائية لكن جلجامش يفشل في الاختبار وفي طريق عودته الى
اوروك يفقد ما أوصى له به اوتونوبشتم من عشب دائم الخضرة ـ ويرجح أن يكون الاس
ـ كتعويض عن اخفاقه وسلوى لروحه المتطلعة الى الحق و الحياة الأبدية.
هكذا ، اذن ، يفشل جلجامش في بلوغ مبتغاه حيث من المستحيل عودة التاريخ الى
الوراء ،الى عصر كان فيه المعبد مكانآ لعبادة الله الحق ـ كشطا ـ للديمقراطية
والعدالة والأخوة بين بني ادم ـ ع ـ مكانآ للخير وتوزيع الثروة الاجتماعية بشكل
انساني ، مكانآ لتربية وتأهيل دعاة الرحمن وتزويدهم بالمعرفة الربانية الأصيلة
والقديمة المنزلة في الصحف الأولى.ومأساة جلجامش تؤرخ وتوثق أول انفصام في
التاريخ بين ايمان الانسان والمحتوى الاجتماعي لهذا الايمان ، الخالق ومخلوقه ،
شريعة السماء وشريعة الأرض .
في ذلك الزمن كانت المرأة مازالت تتمتع بحقوق كثيرة ، اجتماعية واقتصادية
ودينية ، ونلمس ذلك بشكل خاص في خطاب صاحبة محل الاستراحة الى جلجامش ، حيث
يفصح كلامها عن معرفة بطبيعة ذلك العصر فتسدي لجلجامش نصائح ذات طابع عملي
قائلة له ـ كن فرحآ مبتهجآ نهار مساء ، وأقم الأفراح في كل يوم من ايامك ،
وارقص والعب مساء نهار ، واجعل ثيابك نظيفة زاهية ، واغسل رأسك واستحم في الماء
، ودلل الصغير الذي يمسك بيدك ، وافرح الزوجة التي بين أحضانك ، وهذا هو نصيب
البشرية ـ.
ان شعبنا العراقي صاحب ومبدع هذه الحضارة العظيمة لا يطلب من حكامه الجدد اليوم
غير تمكين العراقي من العيش بكرامة وفق نصائح هذه المرأة العراقية ، أن يوفروا
للعائلة العراقية المقومات الأساسية للحياة وهي الأمن والسلام والماء والكهرباء
والعمل للفقراء الذين أنهكتهم حروب صدام ومجاعاته وجورة لكي يفرح الطفل وتسعد
الزوجة تمامآ كما جاء في نصيحة هذة الامرأة العراقية التي عاشت في نهاية الألف
الخامس ق .م
أما صدام الذي يحمل بالتأكيد الروح الشريرة للروها ـ أو خمبابا السومرية ـ
والتي ظن جلجامش عبثآ انه قضى عليها ، في حين انها لا تفتأ تتوالد وتتناسخ عبر
العصور أبناء وأحفادآ ، فالأجدر بحكامنا تقديمه مع أتباعه وكل عناصر الشر
والجريمة الى العدالة وتنفيذ ارادة الشعب بحقهم .

ملاحظة ـ سوف نذكر المصادر بعد الجزء ـ 2 ـ من هذه المقالة وصور اثارية
وتوثيقية مع تدقيق علمي ولغوي مقارن لما ورد فيها.

نشرت في تاريخ

المقدمه:
تعرض المندائيين طيله تاريخهم الذي يمتد الاف السنين الى العديد من جرائم الاباده الجماعيه وموجات من القتل و الاضطهاد و القهر والاجبار على تغيير دينهم وكان تكفير المندائيين هي الذريعه المستخدمه لاباده الشعب المندائي, وقد استخدمت هذه الذريعه من قبل جميع الاديان المجاوره لهم . وقد يكون الشعب المندائي هو الشعب الوحيد في التاريخ الذي تعرض ولا يزال الى هذا العدد من المذابح دون ان يرفع احد صوته. ونحن هنا لا نستطيع سرد كافه هذه الحالات اولا: لكثرتها وتنوعها و ثانيا لقله المصادر الدقيقه حول البعض منها. وادعوا كافه الاخوه المندائيين الى المساهمه في اضافه اي معلومه لديهم حول هذه المذابح او غيرها من انواع الاضطهاد وخصوصا التي حدثت في العصر الحديث وسوف اواصل نشر حالات الاجبار على تغيير الدين قريبا .
تعريف الاباده الجماعيه
جاء في الماده الثانيه من الاتفاقيه الدوليه لمنع ومعاقبه جريمه الاباده الجماعيه ما يلي ((ان جريمه الاباده الجماعيه تشمل كل الاعمال التي تستهدف و بقصد, الى تدمير جماعه عرقيه او اثنيه او دينيه بصوره جزئيه او كليه))
وقد جاء من ضمن الاعمال التي تقع ضمن جريمه الاباده الجماعيه هي :-
1 ) قتل اعضاء من الجماعه(المقصود هنا يكفي قتل بعض من افرادها بقصد ابادتها اوالحاق اضرار بالغه بافرادها)
2) الحاق اضرار جسديه او نفسيه بالغه باعضاء هذه الجماعه
3) فرض ظروف معاشيه قاسيه على هذه الجماعه بقصد تدميرها جسديا بصوره جزئيه او كليه
4) فرض ظروف على الجماعه تؤدي الى منع الولاده
5) نقل اطفال من هذه الجماعه الى جماعه اخرى
وكذلك جاء في الماده الخامسه من هذه الاتفاقيه ما يلي ((على الحكومات اتخاذ الاجراءات اللازمه لمنع ومعاقبه مرتكبي جرائم الاباده الجماعيه))
من اعلاه, نلاحظ ان ما يتعرض له المندائيون الان وفي الماضي يقع ضمن تعريف جرائم الاباده الجماعيه والتي تقع على الامم المتحده ومنظماتها الانسانيه مسؤوليه حمايه المندائيين و انقاذهم.

1) مذابح المندائيين في القرن الاول الميلادي:
المصدر : كتاب حران كويثا( حران السفلى)/من كتب التاريخ المندائي

لقد ورد نص في كتاب ( حران كويثا ) ما يؤرخ حادثة واحده على الاقل حدثت في القرن الاول الميلادي وهي قيام اليهود بالقيام باباده جماعيه للمندائيين في اورشلام(موطن المندائيين) حيث قتل في هذا الحادثة كما روي في هذا الكتاب الاف المندائيين وكان بينهم( ثلاثمائه وستين رجل دين مرة واحدة) لانهم مندائيون مما ادى الى هجرتهم الى خارج المنطقه وهذا هو النزوح الاول للمندائيين خارج وطنهم . ويعلم جميع المندائيين المذابح التي تعرضوا لها على أيدي اليهود في التاريخ القديم و في بدايه الدعوه المسيحيه والذي اشارت اليه كتبنا الدينيه والتي توقف بعدها التبشير بديننا بسبب هذه المذابح , ولا اريد الاسهاب في هذا الموضوع لانه معروف للجميع.

2) مذبحه سنه 273 م في ايران
المصدر : From : Wikipedia
حين جاء الى السلطة الملك الساساني بهرام الأول سنة 273(م) . قام بحمله اضطهاد شعواء قادها الحبر الاعظم للزرادشت (كاردير) ضد المندائيين, الى انه لم يستطع القضاء تماما على المندائية، ولكن التدوين توقف تماما لعدة قرون ولم نشاهد التأثيرات والكتابات المندائية الا فيما يسمى بأوعية ( قحوف ) الاحراز والأشرطة الرصاصية . وقد اجبرت جموع المندائيين ، فيما بعد، الى الدخول الى الاسلام، لأن الدخول الى الاسلام لم يكن هناك بدا عنه، فقد قضت المصلحة الفردية و حب التخلص من تأدية الجزية وما فيها من اذلال والتهرب من الاذى والرغبة في المناصب والتمتع بالحرية والامان من الاجبار على دخول الاسلام.
3) مذبحة (القرن الرابع عشر) في مدينة العمارة جنوب العراق :

المصدر : الليدي دراور- (الصابئه المندائيون في العراق و ايران)

حدثت مذبحه للشعب المندائي في القرن الرابع عشر في مدينة العمارة وهي موثقه في كتاب (الليدي دراور ) بعنوان( الصابئة المندائيين) ترجمة المرحومين غضبان رومي و نعيم بدوي(رواه نهويلخون) صفحات 56 و 57 جاء فيهما :

(( ومهما كان الامر فأن الصابئين في القرون الوسطى يظهرون وقد قهرهم الاضطهاد فقد تركت احد الكوارث في القرن الرابع عشر طابعها في ذكرياتهم حتى هذه الايام وقد عثرت على تسجيل لهذه المذبحه في نهاية احد الاحراز الطلسميه التي تفحصتها اخيرا ,كما وجدت نفس الشيء مسجل في ( التاريخ ) وهو مخطوط يمتلكه الشيخ دخيل يحكي المخطوط عن مذبحه رهيبه تعرض لها الصابئون في الجزيره حين كان السلطان محسن بن مهدي حاكما على العماره وكان ابنه فياض حاكما على شوشتر حيث تعرض بعض الاعراب على امرأة صابئية و نشب القتال واعلنت الحرب على الصابئيين فذبح الكهان والرجال والنساء والاطفال وبقيت الطائفه مهيضه وبلا كهان لعدة سنين )) .

4) مذبحه سنه) 1782( في الجنوب الفارسي :

المصدر : Jean de Morgan (mission scientifique en Perse ) voume 5
الترجمه الحرفيه كما يلي :
(( المسلمين في بلاد فارس ارادوا الحصول على الكتب الدينيه للمندائيين ولكنهم لم ينجحوا بالحصول عليها لا عن طريق الشراء ولا عن طريق السرقه.لذلك قاموا بأعتقال قادتهم وقالوا لهم انهم يتبعون الديانه المندائيه عن طريق التقليد عند القيام بالطقوس المندائيه الدينيه خوفا على كتبهم ,عند ذاك تم رمي قادتهم الدينين في السجن وتحت التعذيب, ولكنهم استمروا في انكار وجود اي كتاب مندائي لديهم ولكن المسلمون الفرس هددوا الكثير من قادة المندائيين بالقتل , البعض خوزقوا واخرون مزقوا ,احد المعذبين المندائيين تم قطع اطرافه الواحد بعد الاخر بدأ من اصابع الارجل ثم الايدي, بعض قادتهم تم جلدهم احياء والاخرين تم احراق اعينهم بوضع حديده حاميه جدا في اعينهم, ثم بعد ذلك تم ذبحهم ,والبعض الاخر تم احراقهم احياء .
الكنزبرا ( ادم ) الذي تم قطع يده اليمنى من قبل المسلمين الفرس كان واحد من هؤلاء المساجين هرب الى تركيا ( من المحتمل المقصود شمال العراق في العصر العثماني ) ولكن قبل هربه اخذ معه نسخه من الانياني ( الكتاب الرئيسي للمراسيم الدينيه المندائيه ) تم استنساخه من قبله رغم ان يده اليمنى كانت مقطوعه وهذا ( الكتاب الانياني هو المصدر الوحيد الذي اعتمد عليه في منطقة العماره ) وفي نفس الوقت فأن أدم هذا هو نفسه علم المندائيه الى شخص انكليزي اسمه (j.e.taylor ) والذي كان نائب القنصل في البصره واستمر تعليمه لمدة 12 سنة ( يبدو ان تيلر هذا بطيء جدا في التعلم ).(يوجد لدينا النص الانكليزي و الفرنسي لمن يرغب الاطلاع اكثر)

5) مذبحة سنه) 1870( في مدينة شوشتر:
المصدر:
http://leocaesius.blogspot.com )
شوشتر هي مدينة ايرانيه تبعد عن مدينة الشوش الحالية اقل من عشرة كيلو مترات وهي سابقا مدينة مندائيه بالكامل يقدر عدد نفوسها حين ذاك( 20 الف مندائي) وتقع شمال الاحواز في جنوب ايران سنة 1870 م تم ابادة اغلب المندائيين فيها على يد الحاكم الايراني انذاك ناصر الدين شاه الذي حكم ايران من سنة 1831 الى 1896 م مع العلم ان العائلة الصابوريه ,وهي من العوائل المندائيه الاصيله ( كانوا يسمون سابقا العائلة الششتريه) هم من مدينة شوشتر هربوا منها انقاذا لانفسهم ولعوائلهم. ومن يراجع الزهيرات على متن دراشة يهيى(تعاليم يحيى) وكذلك سدرا نشماثا الموجودة لدى الاخوى المندائيين في ايران سيجد اشارات عديدة الى هذه المذبحه ومن يزور الشوش حاليا سيجد كتابات مندائيه خصوصا على الجسر القديم للمدينه تشير الى هذه المذبحه, وهناك كتاب بعنوان قصص من حياة امير كبير من تأليف محمود حميدي باللغه الفارسيه جاء فيه ص161 ما يلي :
(( في رسالة من اردشير حاكم خوزستان سنة (1266هجريه) قال له فيها ان طائفة الصابئه الذين يعتقدون في ديانة حضرت زكريا في شوشتر يسكنون على ضفاف النهر ............... عدد من الاعيان والاشراف هناك قاموا بأيذائهم واضطهادهم واجبروهم ان يتركوا دينهم بطريقة العنف والاجبار ويدخلون في الاسلام )) .(ارجوا من الاحبه في ايران بتزويدنا بما لديهم حول الموضوع حتى ولو كان ذلك باللغه الفارسيه)

نشرت في تاريخ

صادف يوم 24/06/2008 الذكرى الرابعة و الاربعين على رحيل العالم الديني الكبير الشيخ دخيل الشيخ عيدان الشيخ داموك إلى عالم الخلود و الانوار فأنه ما يزال يعيش بين ظهرانينا قيما وسلوكا تاركا بصماته على تأريخ هذه الطائفة ، وراسما طريقا واضحا لكل رجل دين مؤمن بالحي العظيم ومخلص لما امن به

و بهذه المناسبة سنقلب صفحات التاريخ اليوم وصولا إلى موضوع معاناة و اضطهاد الصابئة و الدور الذي قام به الشيخ داموك و حفيده الشيخ دخيل في الوقوف ضد هذا الاضطهاد ، ونسترجع ذكرى الرجال العظام الذين تشرفوا بنيل هذا المجد وكانوا رموزا.

لقد نال الصابئة منذ بداية ظهور الأديان ألسماويه ليومنا هذا أنواع شتى من الاضطهاد الفكري و الديني و السياسي و الاجتماعي , و السبب لكل هذا الاضطهاد هو تمسكهم بدينهم ووطنهم , فقد اضطهدوا من قبل اليهود و المسيحيين و الإسلام و كما مدون في كتبهم و تأريخهم .

فهم لا يملكون وطن أو ارض خاصة تجمعهم ولا لديهم قوه أو سلطه تدافع عنهم في كل ألازمنه و العصور و يحصدون الماسي و القهر و التشرد والضياع لكونهم أقلية لا تؤمن بالقتل والعنف وتؤمن بالسلام

مرت على الطائفة عبر تأريخها كثير من الظروف الصعبة و ألازمات ولكن بوجود رجال دين مخلصين مؤمنين بدينهم و بطائفتهم استطاعوا إن ينتصروا على هذه ألازمات و يقدموا صورا مشرقه على إخلاصهم و تضحيتهم وشجاعتهم وعزيمتهم من اجل المحافظة على الدين و الطائفه والسير به إلى شاطى الأمان.

و سأتكلم عن حدثين مهمين تعرضت لهما الطائفه فيوجد الشيخ داموك و حفيده الشيخ دخيل انتصروا على هذه ألازمات بقوة إيمانهم و شجاعتهم و ولائهم لدينهم و لطائفتهم و افشلوا مخططات البعثات التبشيرية التي أرادت مسح و تغيير الهوية المندائيه إثناء فترة سقوط الدولة العثمانية و دخول الإنكليز للعراق

ستظل هذه المواقف شعله تضيء دروب المندائيين و ستبقى الذاكرة المندائيه تتناقلها جيل بعد جيل .

هذا الموضوع سأتناوله في محورين .

المحور الأول بعنوان ( الشيخ داموك و دوره في إفشال مخططات البعثات التبشيرية ) ومن وقف مع هذه البعثات لتغيير الهوية المندائيه .

المحور الثاني بعنوان ( الشيخ دخيل يتصدى و يقف ضد الإرهاب والاعتداء على الصابئة ) في فترة

بداية احتلال العراق من قيل الإنكليز.

الشيخ دخيل الشيخ عيدان الشيخ داموك

المحور الأول

الشيخ داموك و دوره في إفشال مخطط البعثات التبشيرية

سكن في قلعة صالح الشيخ سام الشيخ شبوط و سكن فيها الشيخ عبد الله و ابنه الشيخ زهرون والد الشيخ يحيى قادمين من منطقة الأهواز و قد ارتأت الحكومة العثمانية إن يكون للصابئة رئيسا يمثلهم إمام السلطة العثمانية و ينضم علاقاتهم مع رؤساء العشائر و الجهات الأخرى , و عندها انقسم الصابئة إلى مجموعتين أحداهما رشحت الشيخ داموك لرئاسة الطائفه و الثانيه رشحت الشيخ زهرون لها و بعد تقديم الطلبات و الترشيحات للحكومة العثمانية صدر عنها قرار رسمي بتعيين الشيخ داموك رئيسا للطائفه و هذا القرار معترف به من قبل السلطة العثمانية و بذلك أصبح الدين الصابئي دينا معترف به رسميا كباقي الأديان الأخرى .

أصبح الشيخ داموك له الحق في متابعة وعمل ونشاط رجال الدين رسميا وكانت هذه الفترة محدودة لم تتجاوز خمسة سنوات من 1865-1870 وتولى بعده أخيه الشيخ صحن هذه الرئاسة

اتسمت قيادة الشيخ داموك بالشجاعة والقوة والحكمة والمعرفة وكانت من أصعب الفترات التي مرت على تاريخ المندائيين رغم قصرها ، ففي خلال هذه الفترة حرص الشيخ داموك وأخيه الشيخ صحن على متابعة شؤون المندائيين وتفقد أحوالهم ومتابعة شؤونهم الدينية والاجتماعية أينما كانوا ، فكانت لهم سمعة وشهرة واسعة وعلاقات واسعة مابين رؤوسا العشائر ومسئولين الحكم العثماني كما لهم علاقات وطيدة مع الطوائف والأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية وممثلي الدول والمصالح الغربية التي دخلت للعراق .

نظرا لتوسع العلاقة التي تربط الشيخ داموك وأخيه الشيخ صحن مع العشائر والمسئولين من الأديان الأخرى فقد كان لهم مضيف خاص للمندائيين ومضيف خاص لغير المندائيين حتى العاملين فيه من غير المندائيين تميشا للتقاليد السائدة آنذاك .

تزامنت تلك الفترة بنشوب الحرب العالمية الأولى للفترة من 1914-1918 وسقوط الدولة العثمانية سنة 1918 ودخول الإنكليز للعراق واحتلاله مابين سنة 1914-1917 وبالتالي فأن هذه الإحداث والصراعات قد ألقت بظلالها على تواجد المندائيين في أحواض الأنهر والاهوار في جنوب العراق ، فقد كانت هذه المناطق ممرا لدخول قوات الاحتلال ( الإنكليز) والتمركز بها ومن ثم دخولها إلى بغداد .

تعرضت المناطق التي كان يسكنها المندائيين بسبب ظروف الحرب إلى كثير من الاضطرابات والفوضى وفقدان الأمن وبالتالي انعكس هذا الوضع على حياة واستقرار المندائيين في هذه المناطق ، فقد تعرضوا للاضطهاد والظلم والقتل والسطو والنهب ومداهمة بيوتهم ونهب بناتهم وإجبارهم على ترك دينهم ومضايقتهم في ممارسة طقوسهم ومعتقداتهم الدينية .

هذه الإحداث أدت إلى نزوح بعض التجمعات السكانية للمندائيين من المناطق التي تكثر فيها الاضطرابات إلى مناطق شبه آمنه ( وما أشبه اليوم بالبارحة ) ولكن اضطهاد الصابئة في ذلك الوقت بقوا في العراق إما اليوم فقد هاجروا إلى خارج العراق وهذه كارثة تهدد مستقبل المندائيين وتساعد على زوالهم بعد اندماجهم في المجتمعات الأخرى .

هذه الأوضاع المأساوية التي تعرض لها المندائيين في تلك الفترة جلبت انتباه أنظار المبشرين والباحثين والبعثات التبشيرية وممثلي الدول المحتلة وبعد دراسة أوضاع ومعتقدات الصابئة وامتداد تأريخهم ودياناتهم وقدم لغتهم ، اكتشفوا بأن هذه الأقلية ودياناتها من أقدم الديانات الموجودة وهذا عامل مهم في اهتمامهم ومتابعتهم لمعرفة المزيد عن هذه الأقلية الدينية وتأريخها وعلاقاتها بالحضارات الأولى وبالأديان التي جاءت بعدها ومنها الدين المسيحي فوجودا هنالك نقاط مشتركة مابين الديانة المندائيية والمسيحية .

في منتصف القرن السادس عشر أصبحوا الصابئة هدفا لضغوط المبشرين المسحيين الغربين ومن مذاهب مختلفة ولم يتردد هؤلاء المبشرين حتى الاستعانة بالباب العالي لحملهم على الانصياع لدعوة المبشرين والعودة إلى صفوف المسيحية إذ كان يصورونهم بالمارقين على المسيحية وخلال تلك الفترة حصلت ضغوطات عليهم ايظا من الإسلام لاعتناق الإسلام .

استمر الباحثين والمبشرين بالبحث والدراسة والمتابعة لدراسة هذه الديانة وبالتالي لابد من إيجاد منافذ للدخول والتعرف عن قرب لهذه الديانة وكسب أبنائها لهم .

وظهرت البعثات التبشيرية وكانت موجهه من قبل فرنسا وإنكلترا ، فاعتمدوا الفرنسيين على المبشرين الكاثوليك والإنكليز على المبشرين البروتستانت وأصبح بينهم تنافس من اجل الفوز بما سيتحقق لهم من كسب لهذه الأقليات وبعد الاتصال برؤساء الأقليات والعشائر وأصحاب النفوذ في مناطق العراق وإيران

كان من بين هؤلاء الذين قاموا بهذه المهمات وبتوجيه دولهم :-

1- فرانس راودن جسني قائد بعثة الفرات

2- الرحالة السفير عضو مجلس النواب البريطاني هنري لاريارد ، فقد استطاع كسب وتعاطف الصابئة معه وعن طريقه مهد إلى رفع معاناة الصابئة وإصدار فرمان من قبل ملكة بريطانيا لحماية المندائيين وبهذا القرار ساعد على تقرب الصابئة للإنكليز

3- الوكيل السياسي في بغداد الكابتن روبرت تايلور ، فأصبح معنيا في كل ما يتعلق بالصابئة وحلقة الاتصال بهم

4- و . ك لوفتس احد أعضاء لجنة تحديد الحدود العراقية الإيرانية

5- جرونز ، أول المبشرين البروتستانت

صورة نادرة للسيخ دخيل وولده زكي وحاخام يهودي مع القيادة الإنكليزية في لقاء حول الأوضاع

التي يتعرض لها المندائيون واليهود من اضطهاد

بعد توجيهات هؤلاء المبشرين واتصالاتهم مع الصابئة توطدت العلاقة بينهم عن طريق القنصل البريطاني تايلور فقد حضي بالاهتمام والرعاية والانفتاح له من قبل الشيخ يحيى الشيخ زهرون وكسب مودته وعزز علاقته به وأصبح الشيخ يحيى الشيخ زهرون من رجال الدين المهمين بنظر الإنكليز للعلاقة المتينة التي ارتبط بها مع تايلور ، فقد سبق وان طرق تايلورابواب الشيخ داموك وأخيه الشيخ صحن وبقية رجال الدين فرفضوا التعاون معه وبالتالي التجأ إلى الشيخ يحيى الشيخ زهرون فوجد ضالته المنشودة فيه وأبدى له استعداده لتلبية مطالبه وبالتعاون معه في كل المجالات

استطاع تايلور وبواسطة الشيخ يحيى الحصول على كافة المعلومات والمصادر والكتب الدينية المهمة..

كانت هنالك تعريفة متفق عليها من قبل كافة رجال الدين تحدد الإكراميات التي يقدمها أفراد الطائفة لقاء تقديم الخدمات الدينية لهم في الزواج والتعميد وموقعة من قبل حكام الإنكليز وقد صدر أمر بها ، إلا إن الشيخ يحيى الشيخ زهرون لم يلتزم بها ، فلجأ الشيخ يحيى إلى تخفيض هذه الإكراميات إلى النصف وهذا لم يتم من قبله وإنما كان أيعاز وتوجيه من تايلور ضد قيادة الشيخ داموك وأخيه الشيخ صحن ومن اجل منافسة الشيخ داموك وبقية رجال الدين ولكسب مودة المندائيين للشيخ يحيى لقاء تعاونه مع الإنكليز بهذه الخطوة فقد كسب مودة البعض من المندائيين وهذا ما خطط له تايلور مع الشيخ يحيى ضد الشيخ داموك... وهذه أساليب الإنكليز ( أبو ناجي ) سياسة فرق تسد

واستمر هذا التعاون مابين تايلور والشيخ يحيى من اجل كسب مودة الصابئة للشيخ يحيى ، وجاء الوقت المناسب من قبل تايلور لتقديم عرض مغري إلى الشيخ يحيى الشيخ زهرون بتخصيص راتب شهري له مقداره ( 30 ) ليرة عثمانية لقاء تعاونه وتحقيق ما يطلبه منه الإنكليز .

ولم يكتفوا بذلك فقد قدموا له عرضا بمنحه سلفة مالية مقدارها ( 300 ليرة ) عثمانية إلى الشيخ يحيى لبناء ( مندي للصابئة وتحمل ساريته الصليب )وذلك لجعل الصابئة يتبعون الكنيسة المسيحية وهذا العرض قد وافق عليه الشيخ يحيى الشيخ زهرون...! )

لكن أبناء الصابئة وعلى رأسهم الشيخ داموك وبقية رجال الدين عندما سمعوا بهذا الخبر انتفضوا واستنكروا وعم الغضب لدى كل أبناء الطائفة في كل مكان وطالبوا الشيخ يحيى بالتنحي وسحب الثقة منه .

استطاع الشيخ داموك بحكمته وذكاءه وقدرته وشجاعته إن يحتوي الموقف ويسيطر عليه ويهدأ المندائيين.... فوقف متحديا تايلور والشيخ يحيى لهذا المخطط الخطير ويبدوا إن السلطة العثمانية كانت على علم بما يقوم به هؤلاء وهنالك من يعمل لصالح السلطة العثمانية فهي كانت ترصد تحركات ونشاطات هذه البعثات وهم على غير مودة مابين الحكومة العثمانية وقدوم الإنكليز.

وعلى ضوء هذه الإحداث قررت الحكومة التركية ومن خلال قائم مقام العمارة وبالتنسيق مع الشيخ داموك على نفي الشيخ يحيى إلى مدينة ناصرية الأهواز وفرض الإقامة الجبرية والمراقبة عليه وكان الغرض من هذا الأجراء هو حمايته من السلطة العثمانية ومن غضب أبناء الطائفة عليه

وبعد قضاء مدة من هذا النفي أعفى والي بغداد نامق باشا عن الشيخ يحيى وعاد إلى مكانه.

لم يستطيع المبشرين ورجال الساسة الفرنسيين والإنكليز من تحقيق أهدافهم لكسب أبناء الصابئة للديانة المسيحية وذلك بسبب قوة ايماتهم وتمسكهم بدينهم وبوجود رجال دين مخلصين ويمتلكون من الثقافة والمعرفة الدينية والحكمة والعزيمة والقوة والشجاعة للدفاع عن هذه الديانة وأبنائها ، كانوا يعملون لليوم الأخر لا للمنافع والمطامع والمصالح الشخصية وهذا ما كتبه لهم أبناء الطائفة وغير أبناء الطائفة في صفحات التاريخ

المحور الثاني

الشيخ دخيل الشيخ عيدان الشيخ داموك يدافع عن المندائيين

تعرضت الطائفة إلى كثير من الويلات والنكبات عبر تأريخها الطويل ، وهذا ما لمسناه خلال معايشتنا وما قراناه في كتبنا وشروحنا الدينية ولكن بقوة المؤمنين ورجال الدين وأيمانهم وتضحياتهم حافضوا على هذا الدين عبر أجيال متعددة من الانقراض والضياع ..!

هاهو السر الذي ساعد هذه الطائفة البسيطة بكل إمكانياتها المتواضعة أن تبقى وتصمد طيلة هذه السنين .. ؟؟ ألا هذا يفسر بأن هنالك سر أو قوة عظيمة تقف وراء هذا الدين...! دين يهانا ...

وهذا ما قاله الكهنة إلى يهانا في أورشليم ( يايحى ، النار ، لن تحرقك ، والسيف لن يقطعك ، مادام اسم الحي منطوقا عليك ، يا يحيى بابن الحياة ، استقر هنا ....)

من مواعض دراشة يهيا

لقد وهب الحي العظيم هذه الطائفة وانعم عليها بوجود عائلة الشيخ داموك وجذورها التي تمتد مع جذور الدين المندائيي ، فكانت خير من حافظ ودافع وضحى للدفاع عن الدين والصابئة ، فكانت لهذه العائلة العريقة وعلى امتداد تأريخها مواقف وإنجازات كثيرة وعلى يد رموزها .

ما قام به الشيخ داموك وأجداده الآخرين في مسيرتهم لخدمة الدين والطائفة سار عليه حفيدهم الشيخ دخيل وواصل هذه الأعمال الخالدة وهذا ما نقل لنا عن والدنا وعائلتنا لهذه الإحداث حينما وقف بوجه المعتدين الذين أرادوا الشر لهذه الطائفة ، وكما دونت هذه الإحداث من قبل المندائيين الذين عاصروا الشيخ دخيل لتلك الإحداث ومن بينهم المعمر المرحوم خضر جاسر سلمان أل سعد في تسجيل مصور له ومن ضمن برنامج شخصيات مندائية ، يتحدث عن هذه البطولة والشجاعة والإصرار للدفاع عن الصابئة من المعتدين.

خلال ثورة العشرين انتفضت بعض العشائر في جنوب العراق بوجه الإنكليز في تلك الفترة كما نشبت أيضا انتفاضة ( ريسان أل كاصد ) في سوق الشيوخ كما ثارت بقية العشائر في الناصرية والسماوة والديوانية ، فعمت الفوضى والاضطرابات وساد التوتر في معظم مناطق الجنوب ، تزامنت هذه الإحداث بدخول الإنكليز واحتلال العراق ، هذه الأوضاع ساعدت على الانفلات الأمني وانتشار العنف والقتل والسرقة والاعتداء والسلب واستغلت هذه الأوضاع لتصب غضبها من قبل الحاقدين والمعتدين والمتطرفين وقطاع الطرق على الحلقات الضعيفة في المجتمع وهي الأقليات الدينية وفي مقدمتها الصابئة وكانت لهم الحصة الكبيرة دائما في هذه الاعتداءات وهذا العنف والظلم ...

لقد تعرضت محلة الصابئة في سوق الشيوخ إلى كثير من الاعتداءات من حرق بعض البيوت وسرقة حيواناتهم وزوارقهم وسرقة ممتلكاتهم ومحلاتهم من قبل العصابات والمتطرفين والحاقدين وقطاع الطرق وهؤلاء كانوا يسكنون في القرى والعشائر المجاورة والمحيطة لمحلة الصابئة ، فقد كان موقع محلة الصابئة ممرا يستخدم لمرور هؤلاء من والى المدينة وهذا ما شجع هؤلاء في استغلال تنقلاتهم ومرورهم خاصة إثناء الليل للاعتداء عليهم

التقى الشيخ دخيل بالمسؤلين العسكريين والقائم مقام وعرض عليهم هذه التجاوزات وطلب منهم التدخل وحماية الصابئة وكان رد المسؤلين بعدم وجود قوة كافية للقيام بهذه المهمة وقالوا له طلبنا قوة اظافية وفي حالة وصولها سنقوم بردع هؤلاء ..

مضت أيام وازداد الوضع سوء ولم يتخذ المسؤلين اى تحرك ضد المعتدين وهذا أدى إلى نفاذ صبر الشيخ دخيل على هذه الأوضاع فطلب اللقاء مرة ثانية مع القائمقام والمسؤل العسكري واجتمع معهم وبعد التداول اتخذوا قرار على قيام قوة من ( الحرس الموجود في المقر) وعددهم لا يتجاوز 9 على ظهر مركب صغير يحمل رشاش في مقدمته وتحت إمرة وتوجيه الشيخ دخيل كدليل للمواقع والتجمعات والعشائر التي ينطلق منها هؤلاء المعتدين وأصدر القئمقام توجيها للجنود المرافقين للشيخ دخيل بإطاعة وتنفيذ ما يطلبه منهم الشيخ دخيل.

قبل القيام بهذه المهمة عاد للبيت واخبرهم بما اتفق مع القائمقام فطلب من زوجته إعداد له حفنة من التمر وطاسة لشرب الماء ..... اعترضت عليه عائلته وطلبت منه إن لا يقدم على هذه المجازفة وربما قد يتعرض لحادث كما تعرض له أبوه الشيخ عيدان وقتل في يوم البنجة ... قالوا له اترك هذا العمل ورشح غيرك لهذه المهمة فرفض وإصر على القيام بهذه المهمة وقال أنا ذاهب وبيت هيي معي ودعائي إن يوفقني وألقن هؤلاء درسا من اجل حماية المندائيين .

رافق الشيخ دخيل هذه القوة النهرية متجولين في المناطق وأماكن تجمعات العشائر التي تعتدي على الصابئة في المناطق المجاورة لمحلة الصابئة وضربت هذه المناطق السكانية بالأسلحة وحصلت مواجهات متبادلة بين الطرفين واستمرت هذه القوة بمحاصرة هذه التجمعات وإطلاق النار عليهم لمدة ليلة كاملة ولغاية عصر اليوم التالي . وبصحبة الشيخ دخيل

بعد هذه المواجهة شعرت هذه العشائر بالخوف وتراجعت أمام الحكومة والتزمت الهدوء وشعروا بأن الحكومة ستستمر بملاحقتهم وأصبحوا مهددين وبأ مكان الحكومة ضربهم وتلقنهم درسا متى تريد وبذلك عاد الاستقرار والهدوء لمحلة الصابئة وباقي المناطق في منطقة سوق الشيوخ .

بعد هذه المهمة قام الشيخ دخيل لزيارة القئمقام وكان هنالك البعض من رؤساء العشائر التي تنتظر للحصول على رخصة لمقابلة القائمقام فعندما سمع القائمقام بقدوم الشيخ دخيل قدمه على الآخرين من رؤساء العشائر وطلب مقابلته فورا وهذا الأمر قد أغاض هؤلاء ، وفي مقابلته الثانية طلب بتكرار هذه الدورية لهذه القوة من اجل استتاب الأمن والاستقرار للمنطقة وهذا ما تحقق .

بهذه الوقفة الشجاعة للشيخ دخيل وغيرها من المواقف الكثيرة التي اتخذها للدفاع عن الدين والطائفة شعروا المندائيين بالفرح والفخر والزهووالامان نتيجة ما قام به شيخهم ورئيسهم وأزداد تعلقهم وحبهم وإيمانهم به وبشجاعته وبطولته وهذه وقفات الرجال العظام الذين يقفون وقت الشدة يدافعون عن مبادئها وسمعتها وكرامتها ، فإذا قالو فعلوا وإذا تحدثوا صدقوا ، والكلمات عاجزة عن تخليد مآثره ...

لهذه الأعمال والمواقف انضم اسمه في السجل العالمي للأشخاص المميزين والقادة العالميين الذين ساهموا بهذا العمل ألتأريخي وهذا ما دون في معهد البحوث للسير الذاتية العالمية الطبعة الرابعة

الهوامش

الأستاذ نزار ياسر

ملكة بريطانيا العظمى فكتوريا أصدرت فرمانا لحماية المندائيين في منتصف القرن التاسع عشر المنشورة في اتحاد الجمعيات المندائية

الأستاذ المحامي شريف جودة السهر

لمحات من تاريخ الصابئة المندائيين في أواخر عهد الاحتلال العثماني المنشورة في أفاق مندائية

الأستاذ سالم الشيخ جودة الشيخ داموك

شيخ داموك ورئاسته لطائفة الصابئة المندائيين المنشورة في مجلة أفاق مندائية

المعمر المرحوم خضر جاسر سلمان والد كل من ناصر وليلو والدكتور جابر

يتحدث في لقاء معه عن الشيخ دخيل ومن ضمن برنامج شخصيات مندائية

نشرت في تاريخ

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014