• Default
  • Title
  • Date

 لقد كانت مسيرة انبثاق التنظيمات الادارية للطائفة صعبة وشائكة ابتدأت في الخمسينات مرورا بالستينات والسبعينات والثمانينات وحتى منتصف التسعينات من القرن الماضي لقد كانت ولادة عسيرة بدأت من تحت الصفر حتى وصلت الى وضع نظام داخلي معترف به من قبل الدولة وتأسيس مجالس الطائفة الثلاث ومؤسسات متفرعة من هذه المجالس ومن هنا كان هذا الاساس الحقيقي لأنطلاقة مسيرة الطائفة الحديثة .

لقد كان خلف هذه المسيرة الصعبة والوعرة جمع من الرجال ضحوا بجهودهم واموالهم كي يؤسسوا اللبنات الاولى متحدين الظروف الاجتماعية والدينية والسياسية وكل ما مر بالعراق من كوارث ومآسي خلال نصف القرن الماضي ومن هؤلاء كان هناك رجال تميزوا عن زملائهم وكانت لهم لمسات لايمكن تجاهلها وكان لوجودهم داخل هذه التشكيلات ثقل مميز ومن هؤلاء الدكتور قيس مغشغش السعدي

لقد عمل الدكتور قيس مع الرواد الاوائل في مجلس التولية والمجلس الروحاني الاعلى وكان هو الاصغر عمرا بينهم لكنه كان العنصر النشط والمحرك لكل الانشطة واللجان التي سعت في سبيل ارساء مسيرة الطائفة لقد كان الدكتور قيس شعلة من النشاط والحركة والافكار المتجددة ويشهد له من عمل معه وكنت انا قد عملت معه في آخر اربع سنوات له في العراق قبل سفره الذي فرض عليه فرضا الى خارج العراق  لاسباب اقتصادية بعد ان تدنت رواتب الموظفين والتهمها التضخم الذي اجتاح الاقتصاد العراقي في تسعينات القرن الماضي نتيجة الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق .

 كنت قد انضممت الى المجلس الروحاني الاعلى بداية عام 1994بديلا عن الاخ المرحوم حامد نزال السعودي ممثلا للعائلة البريجية في المجلس الروحاني الاعلى لتردي حالته الصحية فصادف اننا تمكنا آنذك من الحصول على موعد لمقابلة  رئيس الجمهورية (صدام حسين) بعد ان انتظرت الطائفة ثلاث سنوات كي تحصل على هذا الموعد لطرح مطالب   الطائفة المختلفة والحصول على موافقته الشخصية عليها .

 بتاريخ 6/6/1994 حصلت المقابلة وكان عدد اعضاء الوفد المندائي 17 عضو وهو عدد العوائل المندائية بالمجلس الروحاني الاعلى  وبرئاسة المرحوم الشيخ عبد الله الشيخ نجم وقد قدم الوفد هدية الى رئيس الجمهورية عبارة عن كتاب كنزا ربا مفتوح من الفضة والذهب بأسم الطائفة وقد استجاب صدام حسين لاغلب مطالبنا وكان من ضمن هذه المطالب هو اصدار قرار رئاسي بتفرغ الدكتور قيس السعدي من عمله كأستاذ جامعي لحاجة الطائفة لخدماته لكونه امين سر المجلس الروحاني الاعلى ولكثرة مسؤولياته آنذك على امل ان يستمر بأستلام راتبه البسيط من الجامعة ويستمر باشغال الدار الحكومية المخصصة له من الجامعة في الزعفرانية وتسير الامور كي يرتاح الدكتور قيس ليتفرغ كليا للعمل في الطائفة .

لكن الامور لم تسير كما تمناها الدكتور قيس فقد احيل على التقاعد وله بالخدمة 23,5 سنة بقرار رئاسي وترتب على ذلك ان يحسب تقاعده وكأنما قد خدم 15 سنة والادهى من ذلك فانهم انذروه بترك الدار بعد اشهر قليلة بسبب احالته على التقاعد عندها امسى الدكتور قيس بدون وظيفة حكومية ولا راتب ولو بسيط والاهم انه اصبح بدون سكن فتلاشى امله بتحسن حالته المادية وحاول ايجاد مورد رزق يسد حاجاته العائلية ويوفر له السكن لكن وبسبب الوضع الاقتصادي السيء بسبب الحصار وبالرغم من ذلك كله استمر الدكتور قيس باداء عمله بالمجلس الروحاني العام ثم في مجلس شؤون الطائفة العام وانكبابه للنشاطات الثقافية المندائية وحاول مد جسور التعاون بين الطائفة وبين منظمة اليونسكو في العراق لكن تسبب له هذا النشاط بمشكلة مع الدوائر الامنية وكادت ان تدخله بمسائلة أمنية خطيرة !!؟ ثم بدأ بأصدار مجلة آفاق مندائية فصدر منها عددين ودفع مسودات العدد الثالث الى المطبعة وفي عام 1977 أأتمنني سره وافضى لي بما ينوي عمله في اليوم التالي وهو انه سيترك العراق الى ليبيا بسبب صعوبة الحياة وتوفير لقمة العيش التي استعصت عليه واصبح بدون سكن ووضع تحت الاعين الامنية بسبب وشاية من رأس كبير في الطائفة بحجة اتصاله بمنظمات عالمية بدون التسلسل الرسمي المعمول به امنيا فسافر في اليوم التالي ولم يخبر سوى المقربين جدا منه وبدأت هجرته ليقضي سنوات في ليبيا ثم هاجر الى النروج وبعدها الى المانيا واستقر فيها .

لقد حرم الدكتور قيس من راتبه التقاعدي لسنوات خدمته التي نقصت سنة ونصف وحرم من شموله بقانون الخدمة الجامعية ولم يحصل منه الا على دنانير بسيطة تساويه مع متقاعدي الحد الادنى لموظفي الدولة !!

بالرغم من وجود الدكتور قيس بالمنفى فانه وبعد ان استقر هناك يعتبر نموذجا رائعا وشعلة وهاجة لخدمة المندائية اذ تراه يعمل بمختلف الاتجاهات وخاصة الثقافية وتمكن من اصدار العديد منها وقد كان ولايزال يفاجئنا بانجازاته الكثيرة . أفيعقل ان قيادة الطائفة لاتنظر اليه وترشحه لاحدى مناصب الدولة العراقية المخصصة للطائفة داخل أو خارج العراق جزاءا لجهوده المتميزة ولكونه شعلة ثقافية ناشطة وهاجة تعكس الوجه الحضاري للطائفة اقول قولي هذا وكلي الم وحسرة على قيس وعلى مئات من الكوادر العلمية والثقافية المندائية المتواجدة خارج العراق والمؤهلين لاشغال مناصب رفيعة في الدولة العراقية .

شكرا لكم والحي يزكي عمل الخيرين

 

تـُعداللغة أعظم إبتكارعرفته البشرية. وليس غريبا أن تكون بلاد ما بين النهرين، أصل الحضارات، راعية هذا الإبتكار وأرضه الخصبة المنمية والمطورة حتى كان فيها أول حرف عرفته البشرية وحتى تأتي اللغة الآرامية لتكون أكثر اللغات شيوعا في الشرق، تتكلم بها شعوب المنطقة وتحفظ تراث بلدانها. وما تصنيف اللغات السامية الا ّحديثا حيث ظهر على يد الألماني شلوتزر عام 1781 الذي نسبها الى سام بن نوح (ع).
ومع شيوع اللغة العربية وسيادتها في كل البلاد العربية، فإننا مازلنا نجد في بعض هذه البلدان وبخاصة في العراق تواتر العديد من الكلمات والمفردات المحكية دون أن تكون معتمدة في اللغة العربية الفصحى، بما يشكل ما يسمى باللهجة المحلية أو الشعبية. وما هذه اللهجة الشعبية في إختلاف مفرداتها وبعض قواعدها بمبتكرة أو ميسرة أو مجرد مفردة بسيطة أو دخيلة وحسب، بل هي أساسا لغة كانت محكية، حتى إذا ما سادت لغة أخرى مثل العربية، رغم أن العربية إستمدت مادتها والكثير من مفرداتها مما سبقها من اللغات ضمن العائلة السامية، فإنها سادت رسميا وبقي الشارع والعامة يتداولون ويتناقلون اللغة الأساس التي مع ضعف إستخدامها، الا أن الكثير من مفرداتها ظل حيا ومتداولا بما يعرف باللهجة العامية. وعندما لا نجد أساسا عربيا لمفردات محكية فإن البحث يقود الى إحتمال نقلها من لغات بلدان الجوار وبخاصة الفارسية والتركية، والأكثر هو إنحدارها مما جاء من اللغات التي كانت سائدة أصلا وهو ما وجدناه كثيرا ومؤصلا ً.
المفردتان " أكو ، ما كو " العراقيتان الشائعتان الى الحد الذي جعل اللهجة العراقية الدارجة تتميز بهما، تثيران أستفسارات عديدة حول مرجعهما، خاصة وأنهما ليستا من المفردات الدخيلة فارسيا أو تركيا. ويقود هذا الإستفسار الى كلمات أخرى عديدة جدا ً. وبما أن هذه الكلمات ليست دخيلة فهي أصيلة إذا ً، وأصالتها متأتية من الأكدية أساس لغات ما بين النهرين ووريثتها الآرامية. ولأن اللغة المندائية الفرع الأصيل والنقي من اللغة الآرامية، ولأن المندائية كانت سائدة في الجنوب العراقي ولفترة طويلة كإمتداد لسومرية المندائيين، فإن شعب هذه المنطقة عامة كان يتكلمها بدلالة أن العديد من مفردات هذه اللغة ساد وما زال سائدا في اللغة المحكية لعامة المنطقة، بل وبعضها في عموم العراق وحتى بعض بلدان الجوار. ومن أشيع هذه المفردات " أكو.. ما كو". نعم، أكا : بمعنى موجود في اللغة المندائية ونفيها بـ "لا أو ما" يعني غير موجود. إذن " أكو.. ما كو " ليستا كلمتين للهجة عامية عراقية، بل هما مفردتان فصيحتان في اللغة المندائية حيث يقال: أكا هيي: الحي موجود ، أكا ماري : الرب موجود.
ويجرنا هذا الأمر الى البحث في المفردات المحكية في العامية العراقية ومرجعيتهاالآرامية المندائية وهي كثيرة جدا سواء في مفرداتها أم في قواعد لغتها. وسنقف هنا على بعض أمثلة المتواتر والشائع ذلك أن المتداول كثير جدا، وسنلاقي في الأساس والإستخدام مما هو غير موجود في اللغة العربية من معنىً أو قواعد إستخدام. وللقارئ أن يسأل عن أية مفردة شائعة في اللغة المحكية العراقية دون أن تكون ذات أساس عربي وسنعمل على إخباره عن مدى وجودها في اللغة المندائية.
الكلمة المندائية المعنى باللغة العربية الشائع في اللغة العامية
أكا / لا كا، ما كا موجود / غير مو أكو / ما كو
أمو / بقلب العين همزة عم عمو
أمنطول ما دام ماطول
ألج / الجمع ألوج علج / علوج : ثقيل اللسان، أبكم، غبي
بت بنت بت
بسمار مسمار بسمار
بشة بطة بشة
بدق عرف، دقق، فحص بدك
بهش/ باهوش متحرك، مفتش عن الشيء باهوش
بهدا.. بهدا: وحدة وحدة بتمهل بهداي
جوّ داخل / في جوّ
جطل/ مجطول قتل/ طرح أرضا مجطول/ جطله
هطر ضرب، ضرب كف هطره: ضربه
هطر سقط/ وقع إنهطر
هم أيضا هم
هرش خرس حريشي
هشل جلس بقوة إنهشل
وي! للتعجب وي!
طيرقا/ طيركا مشكلة، مصيبة طركاعة
طر فلق طر الفجر، أطرّه طر
شلف سلب شلفه: عزله، تمكن منه
كبّ / كبّت شعل شوى كبّت: إشتعلت ومنها كباب: المشوي
كرفت جمع كيفما إتفق تكرفـّت
لهط لهث/ تعب لهط
لوش خلط/ عجن يلوّج
مانا/ مونة معنى/ فحوى مونة
مهط/ معط مدد/ مط ّ معط
مو! أليس! مو!
مطّ سحب مط ّ
مشّا/ مش مسح مش ّ
متع أمد/ أطال ممتوع
نبا أخبر نب عليه: أخبره
نز فز نز
فلج/ فلك قسم ّ/ نصّف فلكه: ضربه حتى شج رأسه
رهم ناسب رهم/ يرهم
شبش خلط شبش
شله شلح ثيابه شله وأعبر
شمر رمى شمر
شنو ماذا شنو
شدن/ سدن مجنون / مختل عقليا مسودن
مود أجل/ من أجل على مودك

ما تقدم هو أمثلة وحسب، وهنالك المئات من المفردات.
أما فيما يخص صيغ القواعد وبخاصة صيغ أستخدام الأقعال فإننا نجد أن عموم الإستخدام الشائع في لغة الجنوب العراقي هو من أساس قواعد اللغة المندائية الفصيحة وكأمثلة فقط نلاحظ:

أن التحدث عن الشخص الثالث بصيغة الماضي في اللهجة تكون بإستخدام ( إنـ ) ثم الفعل، مثال: إنهطر، إنهشل، إندفن، إنكسر... وهي الصيغة القواعدية ذاتها في اللغة المندائية. وكذلك في صيغة المتكلم حينما يريد أن يقول مثلا: جئت، كتبت.. فهو يقول: إجيت، كتبيت.. وهي الصيغة القواعدية ذاتها في اللغة المندائية. ويقال في العامية ( إبهاتهم و إبهاتكم: آباؤهم، آباؤكم) وهي صيغة الجمع ذاتها في اللغة المندائية. ويقال ( كلـّيتله، بمعنى: قلت له) وهي الصيغة القواعدية المندائية في ربط الفعل بضمير المتكلم أو الغائب أو المخاطب. بل أن طريقة لفظ الحرف في التهجئة العامية العراقية ما زالت ذاتها الطريقة المندائية حيث يلفظ الحرف بلفظ همزة قبله كما في : إب ، إن ، إق ، إش، إص.. وهكذا.

في كل ما تقدم لنا إستنتاجين أساسيين:

الأول، أن هذه الكلمات المستخدمة في العامية العراقية هي ليست كلمات لهجة أو تحريف لمفردات عربية أو كلمات دخيلة، بل هي من أساس اللغات التي كانت سائدة في المنطقة قبل شيوع العربية وإستخدامها الرسمي وظلت حية لقوة اللغات الأساس ودقة تعبيرها أحيانا وإلتصاقها بالجذور المؤصلة.

والثاني، أن مرجعية المئات منها الى اللغة المندائية المثبتة في كتبهم وأدبهم تدلل على الوجود المؤسس للمندائيين في بلاد النهرين، هذا الوجود الغارق في الزمن قدر قدم العراق وحضاراته من جهة ومن جهة أخرى شيوع اللغة المندائية كلغة محكية في المنطقة بأجمعها وقدرتها على إحتواء مفردات الحياة والتخاطب بما جعل شعب المنطقة يتحدث بها وما زال. وهذا، بلا شك، بعض إرث المندائيين في وطنهم العراق.

الأحد, 07 نيسان/أبريل 2013 14:08

الصاية والصرماية في اللغة المندائية

حين تبتكر حضارة وادي الرافدين أول أبجدية وتعتمدها في الكتابة، فما ذاك إلا ّ
لرقي إنسانها في ميادين عديدة ومنها الميدان اللغوي. لذا فإن أرض الرافدين تعد
مخزونا لغويا هائلا بدأ ابتكارا وأثرى بحكم ثراء حضاراته وما يمليه ذلك الثراء
من حاجة للمفردات على اختلاف ميادين الحياة المزدهرة. لقد توارثت حضارات وادي
الرافدين اللغة من بين ما توارثت، ذلك أن اللغة تراكم أصوات ومفردات واشتقاقات
وبناءات وقواعد واستخدام لين سلس تفوق حاجة الإنسان فيها حاجاته الأخرى من حيث
الاستخدام. فالإنسان إنما يأكل مرات محسوبة ويشرب مثلها.. وهكذا في حاجاته
الأخرى، في حين أنه يستخدم اللغة على مدار يومه نطقا أو تفكيرا ، بل يعتمد
اللغة حتى في أحلام منامه.

ومعلوم أن اللغة السومرية هي أساس لغة وادي الرافدين ثم تأتي اللغة الأكدية 

بعبقرية تكاملها لتكون اللغة الأم لما أصبح تقسيما شائعا تحت تسمية اللغات
السامية من قبل الباحث الألماني "شولتسر" في نهاية القرن الثامن عشر. وتأتي
اللغة الآرامية لتكمل البناء اللغوي في لغة وادي الرافدين. ومنها تفرعت لغات
شعوب المنطقة وتعدت الى أصقاع عديدة استخداما وتأثيرا.

ولأن المندائيين مكون أساسي من مكونات شعب وادي الرافدين، وبحكم حجم وجودهم
وغنى تراثهم فقد اختصوا بلغة خاصة هي اللغة المندائية التي يعدها الأكاديميون
والمعنيون الفرع النقي الخالص للغة الآرامية الشرقية لعدم تأثرها بمفردات اللغة
العبرية كما في اللهجات اليهودية، ولا بالإغريقية كما في اللهجات المسيحية. كما
طوروا أبجدية خاصة بهم أيضا غير متأثرة برسوم الأبجديات المتوارثة الأخرى. لذا
يرى عالم اللغات "كارل بروكلمان" بأنها تمثل الأصوات الحقيقية للغة تمثيلا
صادقا. ولأن بيئة المندائيين المعهودة هي وسط وجنوب العراق فإن تداول هذه اللغة
كان هو الشائع الى حد سك نقود مملكة ميسان بها.

وبدخول الإسلام أرض العراق بدأ تسيد اللغة العربية التي هي أيضا فرع من اللغة
الآرامية. ومع سيادة اللغة العربية كونها لغة القرآن وأداة فهم الدين وطقوسه
وشعائره، ثم تبني العراق تشييد صرح هذه اللغة بمدرستي الكوفة والبصرة وما أعقب
ذلك من ثراء لغوي بنتيجة ثراء الدولة العربية إبان الخلافة العباسية، مع ذلك
كله، فقد بقى لسان الناس يحفظ الكثير من الكلمات والمفردات التي قد يستغرب
بعضهم استخدامها ولا يعرف أساسه لانقطاع الرجوع الى اللغات التي كانت سائدة في
المنطقة. وليس غريبا أن إحصاء هذه الكلمات سيكون كثيرا جدا الى الحد الذي أصبح
بعضهم يطلق عليه اللهجة أو اللغة المحكية أو اللغة غير الفصيحة مع أن الكلمات
المتواترة في اللغة المحكية هي كلمات فصيحة في أساس لغاتها.

ومع أن بعض الأكاديميين والباحثين قد تناولوا هذا الموضوع وبخاصة في الكلمات
الأكثر شيوعا، فإن بروز الحاجة لاستخدام بعض الكلمات مما هو شائع في اللغة
المحكية أما لالتصاق تداولها بعامة الناس أو لغرابة استخدامها أو لغرض التنوع
وتجاوز المألوف أو لصلاحيتها للتعبير المتكامل عن معنى كبير لا تخدمه مفردة
واحدة في اللغة العربية قد جعل بعض الكلمات شائعة إعلاميا في الوقت الحاضر.

للأسف بقت اللغة المندائية مهملة في مهد منشئها ووطن وجودها مع أن لفظ الجنوب
العراقي، خاصة، يتطابق تماما مع لفظ اللغة المندائية ناهيك عن الكم الهائل من
المفردات المستخدمة والتي إنما هي مفردات بقت المندائية تحفظها عن الأكدية
والآرامية أو ابتكرتها وأشاعت استخدامها جميعا في المنطقة بحكم وجودها وشيوع
لغتها فيها منذ ما يزيد عن 2200 عاما.

لقد تناولنا في مواضيع سابقة استخدام اللغة المندائية بشكل فصيح لمفردتي " أكو
.. ماكو" وكذلك لمفردتي " الجا واللعد " وغير ذلك مما أحصيناه والذي يربو على
ألف كلمة وأساس أفعالها في ما نعكف عليه الآن في قاموس المفردات المندائية في
اللهجة العراقية. ومن بين الكلمات التي علا صوت استخدامها بعد أن اعتمدتها قناة
الشرقية وأشاعت ذكرها إعلاميا مفردتي " الصاية والصرماية " و " كرستا وعمل ".
وقد ذهب بعضهم في تفسيره بناء على المتداول في أن " الصاية والصرماية " هما
الجاه والمال والاكتفاء بأن المفردتين من أصول أكدية.

وبعد الرجوع الى اللغة المندائية فقد وجدنا أساسا لهذين المفردتين وكما يلي:
أما " الصاية " فأساسها في اللغة المندائية هو كلمة (صايتا ) التي تعني السند
والحزم والقرب والمعـيـّة. ولذلك يقال في اللغة المحكية ( بصاية الله وصايتك )
بمعنى بسند ودعم ومعية من الله ومنك . وبالمعنى نفسه ترد كلمة ( سياتا ).
ويلاحظ أن حرف التاء في آخر الكلمة في اللغة المندائية يشير الى صيغة المؤنث
أما ورودها بصيغة المذكر فيكون ( صايا ) وفي حال الجمع (صايي). وأما كلمة "
الصرماية " فأساسها في اللغة المندائية الفعل (صرر) ومنه تتشكل كلمة (صرراية )
وأيضا كلمة ( أ ُصرايا ) التي ترد بمعنى " الذخيرة والمخزون والإدخار والثروة
". ويظهر لنا بأن الحاجة الى إعتماد الكلمتين كمصطلح شامل متكامل بين الـ "
صاية " بمعناها السند والـ " أصرايا " بمعناها الذخر قد تطلب تحوير الكلمة
الأخيرة لتكون على وقع وسجع الكلمة الأولى فصارت مع تقادم الإستعمال وتليين
إستخدامه " صراية ثم صرماية ". وهكذا فإن مصطلح " صاية وصرماية " في اللغة
المندائية يعني ( السند والذخر) وهو ما يراد به تماما بحسب فهمنا لمعنى
الإستخدام الدارج حينما تشير الأم الى أبنائها بأنهم ( الصاية والصرماية) .

أما مصطلح ( كرستا وعمل) فإن كلمة "عمل" معروفة بأساس الفعل في اللغة العربية.
وأما كلمة (كرستا) فإن أساسها ما وجدنا في اللغة المندائية حيث تلتقي هذه
الكلمة مع الكلمة المندائية ( كَـِرساتا ) التي تعني الطحين أو دقيق الأشياء
القابلة للطحن. وعلى هذا فإن الخبز مثلا لا يحتاج إلا الى الطحين والعمل أي (
الـكرستا والعمل). ولأن عيش الناس قائم على الخبز فقد أصبحت مادته الأولية
(الطحين / الكرستا ) مثالا للمادة الأساسية لأي مجال إنجاز آخر. فصار وصف
متطلبات الإنجاز بـ (الكرستا والعمل).

كان إرجاعنا للمفردتين العراقيتين الشهيرتين ( أكو.. ماكو) الى أصلهما في اللغة المندائية كوريث أساسي للغة الأكدية أم اللغات السامية، كان مثار نقاش في أثناء عرض دراستنا حول اللغة المندائية في مؤتمر جامعة مدينة بوزنان في بولونيا ضمن مؤتمر الأديان غير المسلمة في العراق. وقد أثار ذلك تحفظات بعض المستشرقين حتى دعمنا ذلك بالمعنى، ثم بالإستشهاد بكلمات أخرى ذات إستخدام شائع في اللغة العراقية المحكية والتي لا يعرف لها أصل عربي أو قد يستهين بها البعض بعدها من المفردات ( الجلفية) التي قد يعاب إستخدامها.
وقد تطور النقاش على هامش المؤتمر حتى جذب إهتمام معهد الإستشراق في الجامعة للمفاجآت العديدة التي عرضناها في عائدية مفردات عراقية وبخاصة في لغة الجنوب المحكية الى اللغة المندائية حصرا أو إرثا أكاديا. كما أبرز النقاش الحاجة لوضع قاموس للمفردات المندائية الشائعة في لغة العراق المحكية، وهو ما قطعنا فيه شوطا طيبا.
وقد كانت مفاجأتنا مفرحة ولا تقبل التأجيل في الإعلان عن مرجعية الـ( چـا) العراقية الى اللغة المندائية. هذه الـ( چـا) التي تتقاسم مع الـ( أكو.. ماكو) سمة اللهجة العراقية ، حتى أن من يريد ان يظهر بيان تحدثه باللهجة العراقية فإنه يلجأ الى إستخدام هذه الكلمات الثلاث. أما الـ( أكو.. ماكو) فقد تناولناهما في مقالة سابقة، وأما الـ( چـا) فنقول أن باحثين عديدين حاروا في عائديتها وقد ذهب فيها البعض الى أنها من الكلمة الهندية ( آچـا) وقد جاءت مع مربي الجاموس الهنود يوم إستقدموا للعراق مع جاموسهم. أو هي تحوير لكلمة (أكو) بقلب الكاف جيما والواو ألفا لتكون( أچـا) ثم ( چـا) أو أنها من المقطع ( كا). وكذلك حاروا في معناها كلازمة فقط أم أنها تفيد المعنى في الإستدلال بتثبيت الظرفية خاصة وأنها تسبق السؤال بكيف وأين وماذا..
ويقابل لفظة الـ (چـا) كلمة ( لعـد) البغدادية. فالسؤال (جا وين؟) يقابله (لعد وين؟).. وهكذا. ولذا تجد البعض حينما يريد أن يتبغدد ويرتقي على لهجة الجنوب العراقية في الـ(چـا) يقول الـ( لعـد). مع أن لكمة ( لعـد) متكونة من (لا) و ( عاد). والـ(عاد) هنا ليس بمعنى العودة ولا بمعنى العادة أو أي معنى مشابه في اللغة العربية الفصيحة.
وإذا إعتمدنا أن (لا) هي أداة نفي في العربية والمندائية، فإن كلمة (عاد) هي ما تحتاج الى متابعة. ونجد في اللغة المنداية كلمة ( آد) تعني( فإن ،إذن، الى حين، حتى) وهي تفيد المعنى ذاته خاصة إن فرقنا الكلمتين كما في بيت الشعر الدارمي( دكم سترتك زين لا عاد أشتم..). وبذا تكون الـ ( لعد) البغدادية هي ربط بين لا وحتى أو الى حين أو إذن . ويكون المعنى أوضح في (كافي عاد) و ( بس عاد).

أما الـ(چـا) فقد قادنا البحث فيها الى أنها من أساس الفعل ( شا: ش، ا، ا) في اللغة المندائية. ولأنه من المعتاد أن يقلب لفظ حرف الشين في بعض الكلمات في لهجة الجنوب العراقي الى (چ) ذلك أن هذا االصوت ليس من اصوات الأبجدية المندائية ولا العربية، فإن ال( شا) تصبح (چـا) . ويتأكد ذلك من خلال معنى الفعل ( شا) في اللغة المندائية والذي يفيد : التكلم، التحدث، المناقشة ، الذكر. وهذا تماما ما يراد به في ذكر كلمة الـ(چـا) حيث ترد دائما مقرونة بكلمة أخرى مثل: چـا شلون: قل كيف؟ چـا وين: إذكر أين؟ چـا شمالك: قل ما بك؟ وهكذا فهي مرتبطة بالسؤال والإستفسار والطلب من المقابل أن يذكر: كيف وكم ومتى وأين ولماذا؟
ومن أصل هذا الفعل تشتق كلمة ( شيتا) بمعنى الكلام في اللغة المندائية، وكلمة(شوتا) بمعنى القول وهي ليس بعيدة عن الكلمة العربية ( الصوت). ويرد في الأدب المندائي : ( هازن هي شوتا قدمايتا) بمعنى: هذا هو الصوت الأقدم، الذي نادى به الحق لمعرفة الخالق وتوحيده في أنه الدين الأول.
ولأن اللغة المندائية - كما هو معروف- خالطت لغة النبط في مملكة ميسان قبل ما يزيد على 2300 عاما ، فإن مفرداتها سادت وتعاقبت وعاشت في المجتمع. ولم تستطع اللغة العربية ، مع أنها إستندت الى أصولها السامية وأخذت الكثير من اللغة الأكدية، أن تستوعب جميع المفردات وبخاصة تلك التي كانت لصق اللسان أو الأسهل والأيسر والأدق في التعبير. وعلى هذا نجد أن اللهجة المحكية أقصر طريقا في التعبير عن الفكرة في أغلب الأحيان.
وحيث يستند أصحاب الأصل الغربي للمندائيين ( قدومهم من فلسطين) الى ورود بعض المفردات المحددة في اللغة المندائية والتي تشير الى مواقع في حوض الأردن كما في كلمة (يردنا) التي تشير الى الماء الجاري فإن هنالك من الدلائل أن هذه الكلمة ذاتها ذات أصل سومري في ( گور- دو- ن). كما أن مئات الكلمات التي مازالت مستخدمة و شائعة في اللغة المحكية العراقية وبخاصة في جنوب العراق هي أدواتنا لمقابلة هذا الفريق في أن المنشأ والوجود والبقاء المندائي إنما هو بلاد ما بين النهرين. بل أن للمندائيين بناءاتهم المؤسسة في هذا الوطن العراق، وإن جادل مجادلون فهذه لغتهم في الـ( أكو، ماكو، جا، لعد، يمعود....والمئات التي نقوم بتوثيقها الآن).
كيف لا يؤلمنا إذن إستهدافهم من قبل الطارئين على العراق. وكيف لا يعصرنا إذن ألم نزوحهم الإجباري اليوم من العراق. تاركين فيه تعميدهم الذي لا يرتقيه أي تعميد في ماء غير ماء الفرات، فهو ( فراش زيوا: الفرات النوراني)! وتاركين مفردات لغتهم التي سيبقى العراق يتحدثها لغة محكية في الوقت الذي يضطرون هم من جديد الى تعلم لغات بلدان اللجوء!

حاوره موسى الخميسي من روما: تعتبر الديانة المندائية من الديانات التوحيدية، وورد ذكرها في القرآن الكريم، وكثر الحديث عن اتباع هذه الطائفة في القرن الماضي فالفت فيهم الكتب ونشرت البحوث والدراسات الانثروبولوجية قام بها شرقيون وغربيون. وديانة هذه الطائفة الصغيرة( 70 الف) التي تنتشر في العراق وايران، غير تبشيرية. كتابهم المقدس يطلق عليه" الكنزاربا" اي الكنز العظيم مدون باللغة المندائية وهي احدى فروع اللغة الارامية ومترجم الى عدة لغات عالمية ومنها اللغة العربية.
الدكتور قيس مغشغش، احد مثقفي هذه الطائفة الدينية ، وهو واحد من القلائل من ابناء الطائفة الذين قاموا بتحقيقات ودراسات قيمة في ميدان الدراسات اللغوية السامية، وله معرفة واسعة بلغات حية كثيرة، وساهم بالعديد من الدراسات اللغوية، وهو من الداعين الى احياء اللغة المندائية، باعتبارها كائنا حيا تعرض للاستلاب، بعد ان حلت محلها لغة تنتمي الى ثقافة وحضارة اكثر تقدما وحداثة، وقد اصدر في الاونة الاخيرة كتابا تعليما مصورا للكبار والصغار ولمختلف الثقافات والانتماءات القومية والدينية لتعليم اللغة المندائية باعتبارها رمز ثقافي له مكانته الكبيرة في التكوين الثقافي لاي مجتمع من المجتمعات. التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار:
* يقال أن لا حياة لإمة بدون لغة، فهل ينطبق هذا على المندائيين؟
- هذا صحيح، فاللغة أحد المقومات الأساسية لأية أمة. والمندائيون أمة تميزت بإبتكار لغة خاصة بها وذلك دليل على عدة جوانب منها: كبر حجم أمتهم ما جعل لغة خاصة بهم حاجة تتطلب الإبتكار. غنى تراثهم وتنوعه بما لم تستوعبه لغة من اللغات السائدة في مناطق تواجدهم. القدرة الإبتكارية للمندائيين في وضع لغة خاصة بكل ما تتطلبه اللغة من أبجدية ومفردات وأصوات وقواعد. خصوصية المندائية والمندائيين في ديانتهم وأدبهم وتراثهم. التعايش المجمـّع والموحد للمندائيين بحياة تفصيلية ما تطلب التخاطب بلغة خاصة. وقد كانت المندائية حية وحيوية بلغتها، وبفقدها اليوم تفقد عنصرا مهما من عناصر الديمومة وشد اللحمة والإرتباط بالأصول قدر الإطلاع عليها بلغتها التي دونت فيها لتكون أكثر تأثيرا في الوجدان والعاطفة.
* يقول علماء اللغة بأن 3400 لغة في العالم ستختفي في جميع أنحاء العالم خلال فترة الخمسين سنة القادمة، هل تعتقد أن اللغة المندائية ستكون واحدة منها؟
- من بين أكثر من 6000 لغة في العالم فإن هنالك أعدادا كبيرة منها معرضة اليوم للإنقراض. وهذا راجع أما الى زوال وإنقراض صفة المجموعات والشعوب التي تتحدث هذه اللغات، أو إنسحاب بعض اللغات إزاء سيادة لغات أخرى. وهذا ما حصل ويحصل للغة المندائية التي إنسحبت من لغة سكـّت بها العمل النقدية في زمن أوجها الى لغة لا يتحدث بها اليوم أكثر من 100 فردا.
* ماذا يستوجب هذا الأمر؟
- إن هذا الأمر يستوجب العمل في مجالين أساسيين. الأول: مجال الأمة ذاتها، وتحديدا هنا المندائيون أنفسهم. فقد إنسحب المندائيون تدريجيا عن لغتهم بسبب سيادة اللغة العربية وبسبب عيش المندائيين غير المحدد ببيئة جغرافية معينة أوخاصة بهم مما يمكن أن يحافظ على لغتهم من خلال دوام التحدث بها. وكذلك من حرص المندائيين على المعايشة مع المجتمع الأكبر الذي أصبحوا يعيشون فيه ويتعاملون معه كاسبين وده لضمان البقاء. كل ذلك جعل المندائيين يتقنون سريعا اللغة العربية بلهجتها العراقية دون تميز أو لكنة. ثم جاء الإنتظام في التعليم الرسمي ولغته العربية، وقد تميز المندائيون في اللغة العربية شأن تميزهم وتفوقهم التعليمي مما شكل الضربة القوية للغة المندائية. فقد غدا المتعلمون في الأمة المندائية ومثقفوها، بنتيجة الإنشغال عن اللغة المندائية، أميون في لغتهم الأم. وهكذا خسر المندائيون أن يحفظ ويطور الجيل المتعلم هذه اللغة مثلما طور علوما ومهنا كثيرة وتميز بها. إذن، إن مجال إحياء اللغة يتعلق أولا بالأمة ذاتها وبخاصة المتعلمون والمثقفون والواعون . ومع أن سبل الإحياء اليوم صعبة وكثيرة ومتنوعة الا ّ إنها مازالت ممكنة.
أما المجال الثاني، فهو الإسناد الدولي المتخصص. فقد أدركت منظمات دولية وأكاديمية وإنسانية عديدة أهمية اللغات التي إبتكرتها أمم وشعوب العالم وإعتبرتها إرثا إنسانيا يستوجب المحافظة عليه. وقد سعت هذه الجهات الى تحديد اللغات المهددة والمعرضة لخطرالإنقراض وبدأت بمشاريع توثيقها بل والمساعدة على ديمومة التحدث بها. وقد سعيت شخصيا لهذا الأمر من خلال مخاطبة منظمة اليونسكو وكذلك جمعيات أكاديمية أخرى لتسجيل اللغة المندائية واحدة من اللغات المعرضة لخطرالإنقراض علما بأن الأمر يتطلب جهود ومتابعة من المعنيين المندائيين.
* إذن، هل من سبيل لإحياء اللغة المندائية؟ وما هي متطلبات ذلك؟
- نظريا ً نعم. أما الجانب العملي فهو يعتمد على المندائيين أنفسهم. فقد أحيت دولة إسرائيل اللغة العبرية رغم تعدد قوميات ولغات اليهود. أما أهم متطلبات عملية الإحياء فهي الرغبة والدافع لدى المندائيين لأن يتعلموا لغتهم وهذا واقع ويمكن إستثارته من خلال حاجة المندائيين لإثبات هويتهم الخاصة وأنهم سلالة أمة موجودة وكان لوجودها إعتبار وقيمة تحملت من أجله الكثير وظلت حتى اليوم تعيش التطور والتقدم دون أن تتقوقع أو تتخلف أو تزول. فهي حقا تستحق الإكبار والمكافأة. والمكافأة هي أن نكافئ نحن أنفسنا بإعتزازنا بهويتنا المندائية وأبرز سمات الهوية اللغة الخاصة وهي موجودة ولاتتطلب إبتكار.
ينبني على ما تقدم ضرورة توفير الدعم لوضع المناهج التعليمية وأدواتها ووسائلها من كتب وبرامجيات وتقنيات ثم إعداد بعض الكوادر التعليمية وهم- فرواه ماري- كثيرون ومشهود لهم في ميدان التعليم.
ومع أن توزع المندائيين اليوم في بلدان المهجر قد زاد من تعقيد هذا الأمر، الا ّ أن إستخدام تقنيات الإنترنيت وغرف المحادثة والبرامج الكومبيوترية يمكن أن يستغل بشكل فاعل. على أن هذا الأمر يتطلب جهة متخصصة تحرص على متابعته، وقد كانت لنا فكرة إعتماد رابطة تجمع المتخصصين والمعنيين باللغة المندائية بمن فيهم أكاديميون غير مندائيين. وبهذه المناسبة فإنا نطلق دعوتنا لتشكيل مثل هذه الرابطة لتكون جهودها متخصصة وتنفيذية ملموسة.
* هل تحتمل اللغة المندائية إستنباط كلمات ومفردات جديدة، وكيف لها مسايرة متطلبات المعاصرة في حياة تعصف بها رياح التقنيات الحديثة وإحادية اللغات العالمية؟
- أما عن الشق الأول، فالإجابة نعم، تحتمل اللغة المندائية إستنباط كلمات ومفردات جديدة بحكم أن اللغة المندائية تقوم في مفرداتها على الفعل أساسا لإشتقاق الكلمة. فليس التلفاز في اللغة الإنكليزية والألمانية أكثر من " المشاهدة عن بعد" . وبالمندائية يمكن إشتقاق كلمة له من الفعل" هزا" بمعنى شاهد ليكون" هزوانا" مثلا وبعد أن يوضع في الإستخدام يشيع فيعتمد وهكذا. علما بأن اللغة العربية، على غنى مفرداتها، قد عربت كلمة تلفزيون على تلفاز، وهذا مدخل آخر في الإستنباط.
أما مسايرة متطلبات المعاصرة، فإن العولمة التي يراد لها أن تدق وتطحن خصوصيات الشعوب والأمم لصالح قطب احادي، فإنها تسعى لتفوق لغة واحدة بما يجعل اللغات الأخرى خجلة أمامها من حيث مفرداتها أو تعزيز إنتشارها. ونحن اليوم نفكر فقط في كيفية المحافظة على اللغة المندائية إذ أن التحدث ، وهو من أهم مقومات حياة اللغة، لا يتم الا ّ من خلال التواجد المشترك والتفصيلي وهذا ما لا يعيشه المندائيون اليوم حتى في وطنهم الأم. علما بأن هنالك لغات عريقة وواسعة الإنتشار ولها مقومات الإسناد، ومع ذلك فهي تتهم اليوم بأنها ليست لغة علم أو تكنولوجيا، كما هي اللغة العربية ولغات البلدان الإسكندنافية.
* يقال بأن أحد رجال الدين المندائيين كان يتراسل مع المستشرقة الإنكليزية الليدي دراور باللغة المندائية، فهل تعتقد أن أبناءنا المندائيين يستطيعون مستقبلا كتابة رسائل فيما بينهم باللغة المندائية؟
- كِلا المرحومين الكنزابرا الشيخ دخيل الشيخ عيدان والكنزابرا الشيخ نجم الشيخ زهرون كانا يتخاطبان مع الليدي دراور باللغة المندائية. وقد إطلعت على إحدى هذه المخاطبات والتي أحتفظ فيها لنسخة بخط يد الليدي دراور باللغة المندائية. كما أن تذييلات الكتب الدينية والى عهد الكنزابرا المرحوم الشيخ عبد الله الشيخ سام تكتب باللغة المندائية، وفيها يتم تدوين الوقائع التأريخية والحياتية المهمة في عصر الناسخ. ولا شك بأن تحدث المندائيين في إيران وتخاطب البعض منهم باللغة المندائية على ما يداخلها من مفردات ولكنة فارسية هو مدخل هام وأساسي في عملية إحياء اللغة المندائية إن عزم المندائيون على ذلك. وعلى هذا فإني على يقين أن بإمكان أبناءنا وشبابنا- إن رغبوا- كتابة رسائل فيما بينهم بالمندائية وقد بدأ البعض منهم فعلا مخاطبتي بجمل مندائية. وليس هذا الأمر بكثير فقد تعلم حتى الكبار منا لغات بلدان المهجر التي أصبحنا نعيش فيها. علما بأن تعلم اللغة المندائية عملية سهلة فهي لا تختلف عن العربية التي نتقنها جميعا من حيث الأسس بل وحتى في الكثير من المفردات التي سيتفاجأ المندائي بدرجة تشارك اللغتين فيها، ذلك أن الأساس واحد وهو اللغة الأكدية أم اللغات السامية.
* لماذا يصر رجال الدين المندائي على إستخدام اللغة المندائية في ممارسة الطقوس الدينية ويهملون تداولها في الحياة اليومية؟
- أخي موسى، ما أبقى حياة ًفي اللغة المندائية لحد الآن هو إعتمادها لغة وحيدة في كتابة النصوص الدينية والأدب المندائي. والمندائيون رغم تخليهم عن درس فقه الدين المندائي بسبب ظروف الإضطهاد والمعاناة التي تعرضوا لها، فإنهم لم يتخلوا عن ممارسة طقوسهم الدينية. وبما أن جميع هذه الطقوس تقوم على القراءات الدينية المصاحبة للمراسيم الأخرى، فقد أوجب ذلك على رجال الدين ضرورة إعتماد اللغة المندائية التي بدونها لا يتم الطقس خاصة وأن من القراءات ما يجب أن يكون جهرا. ولقد ظل عدد من رجال الدين وبعض المتعلمين الى عهد قريب يتحدثون اللغة المندائية حتى طغت اللغة العربية على تخاطبهم أيضا بأسباب عدم تواجدهم متلاقين متخاطبين وإنشغالاتهم الحياتية التي أحدثت تركا للغة. ومعلوم أن ترك اللغة يؤثر في قدرة التخاطب بها ويضعفها وهو ما حصل لدى أغلب رجال ديننا. ونحن نتمنى عليهم تكثيف درس اللغة حتى يكونوا عامل جذب وتشجيع للآخرين بل وفي مقدمة المساهمين في إحيائها. وهنا يسرني أن أشيد بالجهود التي بذلت من قبل الترميذا الشيخ سلام غياض في ستوكولم/ السويد لإستحصال الموافقات لإعتماد اللغة المندائية لغة أم وتدريسها على وفق منهج معد لأبنائنا المندائيين في مدارسهم النظامية مع الأمل بالتعميم والدعوة للحذو في جميع بلدان تواجد المندائيين.
* ما قصة الحرف المندائي، وهل من سبيل لوضعه في الخدمة الكومبيوترية شأن حروف لغات العالم الأخرى؟
- الحرف المندائي حرف جميل رغم قدمه وعدم السعي لتطوير شكله بسبب نصوص تقديس المندائيين لحروف أبجديتهم حفاظا أن لا يمسها تغيير أو ترك وقد نجحوا بذلك. لقد زاد من جمالية الحرف إمكانية ربطه من اليمين واليسار مع وجود خمسة حروف لا تقبل الربط من اليسار. وبهذه الميزة يمكن إجراء تكوينات تشكيلية في الخط المندائي بما يشابه التشكيلات في لوحات الخط العربي التي أصبحت فنا بحد ذاتها. ويمكن بهذا الخصوص الإطلاع على نماذج قمنا بها ومماثلتها أو تطويرها من قبل الفنانين المندائيين كمدخل آخر للإعتزاز والإحياء. أما عن وضع الحرف المندائي في الكومبيوتر فقد تم القيام بذلك بشكل محدود جدا من قبل بعض المندائيين. ولأغراض طبع كتابي فقد قمت بتصميم ثلاثة أنواع للخط المندائي هي " زازي، شكندا، و هيونا" وهو تخليد لأقدم وأبرز ثلاثة ناسخين مندائيين. وهنالك اليوم مخاطبات مع بعض الجهات الأكاديمية لوضع ثلاثة خطوط مندائية أخرى بحسب نموذج الكتابة اليدوية لكل من " ليدبارسكي/ عالم الساميات الألماني الكبير ومترجم كتاب الكنزاربا الى الألمانية، والليدي دراور الغنية عن التعريف، و رودولف ماتسوخ باحث اللغات المشترك في وضع القاموس المندائي " تقديرا لجهودهم المتميزة في خدمة المندائية.
والعمل جار من قبلنا لتسجيل حقوق هذه الخطوط من أجل وضعها في خدمة المندائيين والخدمة الكومبيوترية عامة.
* وهل سيساعد ذلك في إمكانية إستخدام الكومبيوتر لتعليم اللغة المندائية؟
- لا شك أن ذلك سيعد أحد الإسهامات خاصة وأن البرامج الكومبيوترية أصبحت اليوم من أكثر البرامج التعليمية فعالية، فهي وسيلة فردية وجماعية ويمكن أن تعتمد الصوت والصورة والحركة. فإذا ما تم بناء برامج تعليمية على وفق مبادئ التعليم المبرمج فإن ذلك سيساعد أبناءنا في تعلم لغتهم. والحقيقة أني قد قطعت شوطا في بناء برنامج تعليمي من هذا النوع الا ّ أن هنالك مشكلة تقنية تتمثل في تحويل برنامج" البور بوينت" الذي إعتمدته الى إسلوب عرض إعتيادي يستقبله أي كومبيوتر. وأنا أطلب مساعدة شبابنا المتخصص لحل هذه المشكلة وتسهيل إنجاز هذا العمل الذي يمكن أن يكون بين أيدي عامة المندائيين قريبا ً.

* هل تعتقد أن كتابك القيم في تعليم المبادئ الأساسية للغة المنداية يصلح كمنهج تدريسي للصغار والكبار على السواء في داخل البيئة العراقية وخارجها؟
- إن كتاب : "أتعلم المندائية" الذي قمت بوضعه يصلح كأساس لتعلم اللغة المندائية قراءة وكتابة. لقد تم بناؤه على وفق أسس التعليم الصحيحة للمرحلة الأولى في إكتساب اللغة. وهو منهج موجه من حيث مستواه الأولي وصوره الى الأبناء الذين نسعى أن يقدموا على تعلم لغتهم الأم. كما أنه يصلح لكل من يسعى للبدء بتعلم هذه اللغة على إختلاف مراحلهم العمرية. ولذلك فقد أقرت جامعة برلين الحرة إعتماده لتعليم اللغة المندائية لطلاب قسم الدراسات السامية، كما طلبت نسخا منه جامعات عديدة لحد الآن مثل: جامعة هايدلبرغ و جامعة كوتنكن في ألمانيا ، جامعة لندن، جامعة لايدن في هولندا، جامعة هلسنكي في فنلدا.
وتأسيسا على هذا المستوى يمكن وضع المستويات الأخرى بما تتطلبه من نصوص وتمرينات وقواعد.. وهكذا. والأمل معقود على كل من له معرفة وقدرة للإشتراك في لجنة متخصصة لهذا العمل. ولنا شرف التعاون مع الجميع خدمة لهذا المجال الحيوي من مجالات المحافظة على المندائية وبقائها. وأشكركم.

موروث بلاد النهرين لايحظي بدراسة مراكز البحوث والاكاديميات

إظهارا ودعما لأهمية اللغة في حياة الشعوب والأمم، فقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعتماد عام 2008 سنة دولية للغات وقد أسندت مهمة تنسيق الأنشطة المتعلقة بهذا العام لليونسكو التي أكدت عزمها علي القيام بدورها القيادي في هذا المجال إدراكا منها بالأهمية الحاسمة للغات في التصدي للتحديات العديدة التي سيتعين علي البشرية مواجهاتها خلال العقود المقبلة.

حماية جميع اللغات
وقد دعا مدير عام المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم " يونسكو " كوتشيرو ماتسورا الحكومات ووكالات المنظمة الدولية والمؤسسات التعليمية والجمعيات المهنية وجميع الجهات المعنية إلي العمل علي احترام وتعزيز وحماية جميع اللغات لاسيما اللغات المهددة بالإنقراض. وأشار ماتسورا إلي أهمية العمل للحيلولة دون اندثار هذه اللغات من خلال وضع سياسات لغوية تتيح لكل جماعة لغوية استخدام لغتها الأولي أو لغتها الأم علي أوسع نطاق ممكن ولأطول فترة ممكنة. وأكد ماتسورا ضرورة اتخاذ مبادرات في مجال التعليم والإنترنت بالإضافة إلي القيام بمشروعات تهدف إلي حماية اللغات المهددة وتعزيزها باعتبارها وسيلة للاندماج الاجتماعي. وأشار إلي أن السنة الدولية للغات 2008 تعد فرصة فريدة لإحراز تقدم حاسم في المساعي الرامية نحو بلوغ هذه الأهداف. وأعلن ماتسورا أن 21 فبراير القادم - الذي يوافق اليوم الدولي للغة الأم - يكتسب أهمية كبري هذا العام في ظل السنة الدولية للغات، حيث سيكون فرصة لإطلاق المبادرات الرامية إلي تعزيزها.
لقد إعتمدت اليونسكو تاريخ 21 شباط من كل عام يوما للغة الأم، وهذا اليوم هو تخليد لتاريخ أبشع تصفيات جسدية ذهب ضحيتها أساتذة ومتخصصون وناشطون بنغلاديشيون ناضلوا من أجل بقاء لغتهم البنغالية الأم مقابل تسييد اللغة الأردوية المعتمدة في الباكستان قبل إستقلال بنغلادش عن باكستان. وهكذا صار هذا اليوم مناسبة للتأمل في اللغات المهددة بالانقراض، وتقصي الأسباب الكامنة وراء ذلك، والتحرك دولياً للحد منه وتعزيز اللغات الأم وإحياءها. فاللغة هي التي تحمل قيم الجماعات وهويتها الاجتماعية، وهي وسيلة الإنسان للتواصل مع الآخرين، وأداته المعرفية. وبالتالي فاللغة هي الإنسان نفسه، و" هي البعد الأساسي للكائن البشري، بل أننا نحيا في اللغة وبها " كما يقول المدير العام لليونسكو.

صوت الامة
إن كل لغة هي نتاج شعب أو أمة وهي دليل قوي علي قيمة ذلك الشعب وأهميته وحاجته للتميز بلغة خاصة يأتي ابتكارها وتطويرها واستعمالها مؤشرا علي الضرورة الخاصة بالقيمة الاجتماعية والخصوصية. وقد صارت مقوما أساسيا من مقومات كل شعب أو أمة. ولأنه لا يمكن إدراك الحياة دون لغة، فإنها من هذا الجانب غدت بمثابة كائن حي يعيش مع البشر عامة لتميزهم دون سائر الكائنات الحية الأخري بها. وهي أداة التعبير عن الإحساس والشعور والعاطفة والتفكير والمعني. ولتميز الإنسان دون سواه بأعلي الدرجات في هذه الخصائص بل وتفرده في بعضها، فلم يعد مجرد التعبير الصوتي واللفظي ولا حتي اللغة المنطوقة كافية لسد حاجة التواصل الإجتماعي وخدمة ثقافة الشعوب. ولذلك فقد تخطت اللغة أن تكون مجرد وسيلة اتصال، بل صارت أداة توثيق ونقل ومعرفة للأنظمة القيمية للشعوب وأساليب تعبيرها الثقافي وعاملا أساسيا في هويتها. فاللغة ابتكار عظيم من قبل البشرية وعليها المحافظة عليه.
إن تعدد الشعوب وتنوعها وقدمها كان وراء وجود ما يقرب من 7000 لغة في العالم بحسب إحصاءات الجهات الدولية المتخصصة. إلا أن ما يسجل الآن أن أكثر من نصف هذا العدد مهدد بالإنقراض بأسباب تسيد لغات أخري عليها أو قلة أعداد المتحدثين بها. وقد كان ذلك مدعاة لأن تسعي منظمة اليونسكو ومنظمات أخري لتبني مشاريع للمحافظة عليها وأن ينادي بالعام الحالي عاما للغة.
ومفهوم اللغات المهددة بالانقراض يشرحه عنوانها بوضوح. وميدانيا، إعتبرت اليونسكو أن اللغة مهددة بالإنقراض إذا كان عدد المتحدثين بها لا يرقي إلي 1000 شخص، وإن أقل من 30 % من أبنائها غير قادرين علي تحويل ألفاظها إلي تعبير كتابي. وتأسيسا علي هذا فإن هنالك لغة تنقرض كل أسبوعين تقريبا بوفاة آخر المتحدثين فيها. وهذا ما كان وراء جهود كثيرة وكبيرة وحثيثة للمساعدة في تدوين هذه اللغات وتوثيقها والمحافظة عليها ، بل وإحياءها. فمثلا كان عدد الناطقين بلغة "الاينو" في جزيرة هوكايرو اليابانية ثمانية اشخاص فقط في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، لكن هذه اللغة تم العمل علي إحيائها وصار لها متحفا للغة يقدم دروساً للشبان والشابات المقبلين علي تعلمها. وفي انجلترا انقرضت لغة "كورنيك" منذ عام 1777، وتم إحياؤها في السنوات الماضية، وهناك اليوم ألف ناطق بها كلغة ثانية.
وتحددا بالعراق، بلاد ما بين النهرين، فإن موروثه اللغوي يتطلب أقصي رعاية، ذلك أن سجله في تاريخ البشرية يشير الي أن سكانه هم أول من ابتكر اللغة وامتلك أكبر إرث لغوي في العالم، وأنهم سبقوا العالم أجمع بأبجديتهم السومرية التي بدأ بواسطتها تدوين التاريخ مقارنة بعصور ما قبل التاريخ، وعن طريقها تم الوقوف علي موروث أدبي وقيمي كبير وقيم خلد جانبا مهما من حضارات سومر وأكد وبابل وآشور وجعلها حاضرة ليس بآثارها المادية الشاخصة علي أرض العراق، وليس بلغة الوثائق المكتشفة التي دونت جانبا من عصور وجودها، بل باللغة المنطوقة المحكية التي مازال اللسان العراقي يحفظها ويعتمدها علي الرغم من إعتماد اللغة العربية لما يزيد علي أربعة عشر قرنا. وحيث صارت اللغة العربية لغة البيت والشارع والتعليم، وبالتالي اللغة الرسمية للبلاد، فإن ذلك لا يمنع من متابعة الأساس اللغوي المشترك بين لغات العراق القديمة واللغة العربية خاصة أن هذه اللغات تشترك جميعا ضمن تسمية عائلة اللغات السامية بالإضافة إلي اللغة الكردية ولهجاتها واللغة التركمانية.

عائلة السامية
واللغة المندائية واحدة من عائلة اللغات السامية. يصنفها اللغويون بأنها الفرعي النقي للآرامية الشرقية لصرامة محافظتها علي عدم التأثر بأي لهجة أخري. ساهمت، من خلال التدوينات الكثيرة، في توثيق موروث المندائيين الديني والطقسي. وهي الشاهد القائم علي طريقة تدوين الأدب البابلي وأسلوب كتابة التلمود البابلي. والدارس لهذه اللغة يفاجئ بالكم الكبير الذي تحتويه هذه اللغة من المفردات التي مازالت مستعملة في اللغة العامية المحكية في العراق وبشكل خاص في وسطه وجنوبه بحكم وجود المندائيين في هذه المناطق، والتي ظلت لصق لسان العراقيين علي الرغم من إعتماد اللغة العربية لغة دين ولغة رسمية. فمن من العراقيين لا يقول في لغته المحكية " أكو، ماكو، چـا، يمعود، ياعين موليتين، عالميمر، چـوبي، أبو خـْريّان، صاية وصرماية، ترجية، طرشي، نشمي، ... ومئات الكلمات من التي عكفنا علي وضعها بمعجم أصلها المندائي، وسيكون بين أيدي عامة العراقيين قريبا.
إن هذه اللغة التي تعتبر من مقومات كيان الصابئة المندائيين، والتي توثق جانبا أساسيا من تراثهم وأدبهم وطقوسهم ، بل ومن تراث العراق بحكم الإشتراك الذي أشرنا إليه، هذه اللغة اليوم تعد بكل المقاييس لغة مهددة بالإنقراض. وإنه من المؤسف حقا أن تكون هذه النتيجة بأسباب الإهمال التام الذي أصابها في وطنها الأم العراق خلال عصور الإضطهاد ، والأخطر أن هذا الإضطهاد صار وراء تخلي أبنائها عنها علي الرغم من فاعليتهم وكفاءتهم المعهودة في جميع مجالات الحياة والتخصص.
لا يتحدث اللغة المندائية من المندائيين البالغ عددهم في جميع أنحاء العالم حوالي 60000 نسمة أكثر من 100 شخص. يشكل رجال الدين نسبة 40% تقريبا منهم بحكم أن الطقوس الدينية المندائية التي يجريها رجال الدين تتم باللغة المندائية. لكن هؤلاء أنفسهم لا يتحدثون اللغة المندائية في بيوتهم ولا حتي فيما بينهم أثناء تلاقيهم. ومن عامة المندائيين في العراق لا يتحدثها أكثر من 10 أشخاص. والعدد الآخر هو من المندائيين المتواجدين في جنوب إيران. علما بأن اللغة المعتمدة من قبلهم يطلق عليها " الرطنة " وهي ليست مندائية خالصة ، بل هي مزيج من المندائية الكلاسيكية والفارسية والعربي.
وتأسيسا علي مقاييس منظمة اليونسكو ، فإن اللغة المندائية من بين أكثر اللغات المهددة بخطر الإنقراض. وقد حفزنا ذلك للسعي من أجل جلب انتباه بعض الجهات المسؤولة بهذا الخصوص بما نجم عنه تدوين اللغة المندائية ضمن أطلس اليونسكو للغات المهددة. وبناء علي هذا التدوين يتوجب أن يقدم بلد اللغة المهددة بالإنقراض كل الدعم اللازم في التدوين والتوثيق والتعليم وضرورة مساهمة المنظمات المعنية بتقديم الدعم والخبرة المطلوبة بما تلمس نتائجه خلال فترة تحسبا للانقراض.
من هنا، ولأغراض المحافظة علي هذه اللغة الأصيلة والقديمة فإننا نري ضرورة تظافر جهود مكثفة وحريصة يقف في مقدمتها نشاط المندائيين أنفسهم في دعم لغتهم، ذلك أن أي نشاط في هذا المجال إنما يتأسس أولا علي إقبال المندائيين علي تعلم لغتهم والحرص علي قدر مقبول من التخاطب بها ولو ببعض المفردات التي تعزز نطقها وربما تعارف المندائيين فيما بينهم من خلال كلمات التحية والسؤال والجمل القصيرة. كما أن هنالك مسؤولية مباشرة للجهات الرسمية المعنية في العراق ممثلة بوزارة الثقافة ووزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي لتبني ودعم برامج في هذا الخصوص تتمثل في توثيق اللفظ والقراءات المندائية بصيغتها الكلاسيكية التي وردت في الكتب الدينية قبل إنقراض القادرين علي التحدث بها، وكذلك توثيق اللغة المندائية المحكية التي تسمي بالرطنة لأغراض المقارنات والحفظ وكذلك جوانب التمايز من أجل الفهم. كما يتطلب الأمر تطوير الحرف المندائي بحسب الأبجدية المندائية الخاصة والمتميزة وتوفيره لأغراض الإستخدام الكومبيوتري لمساعدة المندائيين في إعادة تدوين الكتب الدينية المندائية التي تحفظ لغتهم وتراثهم وإعتماد تقنيات وبرامجيات الكومبيوتر لهذا الغرض وكذلك دعم البرامج التعليمية التي تساعد في تعليم هذه اللغة لأبنائها.

دعم اللغة المندائية
إنها دعوة لأن يساندنا جميع العراقيين، متثقفون ومعنيون، من أجل أن توضع دعوة الأمم المتحدة بجعل عام 2008 عاما للغة الأم موضع التنفيذ. فنحن نأمل ونرجو ونطالب أن يكون هذا العام، علي مستوي العراق، عاما لدعم اللغة المندائية بإعتبارها حقا لغة مهددة بالإنقراض بحسب تصنيفها وتسجيلها في أطلس منظمة اليونسكو. كما نرجو أن تقوم الحكومة العراقية بالطلب إلي مندوب العراق في منظمة اليونسكو من أجل متابعة ذلك عن طريق التنسيق مع الجهات المندائية المعنية والأكاديمية المتخصصة علما بأنه سبق وكان لنا إتصال مباشر مع هذا المنظمة في هذا الموضوع. كما أن الأمر يتطلب تخصيصات مالية يقرها مجلس النواب لتنفيذ الكثير من البرامج التعليمية والتوثيقة المهيئة والتي تنتظر تمويلا مناسبا لوضعها موضع التنفيذ ومن ذلك إمكانية إيصال كتابنا التعليمي" أتعلم المندائية " مجانا إلي جميع المندائيين فهو كفيل بمرحلة تعليم القراءة والكتابة الأساسية، وقد حظي بتقييم وتقدير منظمة اليونسكو، ومشاريع أخري موقوفة بأسباب عدم توفر الدعم. ونشير أيضا أن هذا الأمر يمكن أن تشترك فيه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم المنبثقة عن جامعة الدول العربية ذلك أن مثل هذا الموضوع يقع ضمن ميدان عملها وندعوها لأن تسهم معنا في وضع دعوة الأمم المتحدة بهذا الخصوص موضع التنفيذ تأسيسا علي قرار منظمة اليونسكو بإعتبار اللغة المندائية لغة مهددة بالإنقراض.

بتوقف درس اللغة المندائية والتعامل مع معاني مفرداتها وأسس إشتقاق المفردات وبناء الكلمات ضاع الكثير من المعرفة وتوقف الإستدلال والإدراك لمتضمنات الكلمات والمصطلحات وصار الفهم منحصرا بالسياق الذي درج عليه. وقس على ذلك في فهم معنى النصوص ومن ثم ترجمتها!
وحين يتم التعامل مع اللغة على أساس البحث وليس على أساس الترجمة وحسب، فإن الباحث ستستوقفه المعاني والدلالات وبخاصة لرمزية المصطلحات الشائعة منها. وهذا ما إستوقفنا فيما نعكف عليه من متابعات في هذا الميدان. ووددنا هنا أن نعرض بعض ما وصلنا إليه، وهو من وجهة نظرنا محاولة للدخول في رمزية بعض المصطلحات المندائية تأسيسا على دلالاتها اللغوية. وقد يكون مجالا لإستثارة ما لدى العارفين المندائيين وغيرهم في مدخل من مداخل اللغة المندائية.
نبدأ موضوعنا هذا، الذي يمكن أن يتوسع لاحقا، بأكثر المصطلحات شيوعا ً. وسيكون نهجنا في ذلك أن نثبت ماهو معروف وصحيح، وما توصلنا إليه قطعا من معان لبعض المصطلحات لإطلاع القارئ الكريم. أما الذي لم يتم القطع فيه فيمكن أن يكون مدار نقاش وحوار وإستزادة رأي المختصين حتى قطع ويقين.

آدم : ترد تسمية آدم رأس السلالة البشرية لأول الخلق العاقل. وقد عمت تسميته باللفظ نفسه جميع لغات العالم قديمها وحديثها. وفي اللغة العربية يشار الى الإختلاف في إشتقاق الإسم حيث يقول البعض: أنه سمي آدم من أدمة الأرض. وقال آخر: لأ ُدمة جعلها الله تعالى فيه والأ ُدمة هي القرابة والوسيلة.
أما في اللغة المندائية فترد أيضا تسمية آدم الذي تعده العقيدة المندائية أول أنبياء المندائيين، وهو الرجل الأول" أدم كبرا قدماييا " ويعد رأس السلالة البشرية " آدم ريشا إد شـُربتا هايتا ". ولا تزيد المندائية في شرح التسمية. وبالتأسيس على أن لا كلمة دون مدلول، فإننا يمكن أن نتابع تسمية آدم من أساس الفعل " دما " في اللغة المندائية الذي يرد بمعنى : يشبه، يشاكل، يناظر. والأسم فيه يكون الشبيه ، المـُشاكل، المـُناظر، ذو الهيئة. ولأن التصور أن آدم قد خلق على هيئة الخالق، فيكون من المقبول أن تأتي تسميته بما يشير الى ذلك ويؤكده. وعلى هذا فأن معنى آدم يمكن أن يكون النظير. ونذكـّر بمعتقد المندائية أن النفس بعد أن تفارق الجسد وتذهب في مسيرتها نحو عالم الأنوار لا تستقر حتى تلتقي نظيرها وشبيهها الـ " دموتا " لتتحد معه وتستقر.
كما أن تميز الحياة عن سواها إنما يكون في مظهرين أحدهما خارجي وهو التنفس، والآخر داخلي وهو الدم سائل الحياة. وترد كلمة الدم في اللغة المندائية على " دما " تأسيسا على الكلمة في اللغة الأكدية " دامو". ويمكن أن تكون الكلمة إرتباطا بتسمية آدم ذاتها، لذا تشـّبه النفس بالدم فيرد في الأدب المندائي " لِـدما داميا نيشمتا " : النفس تشبه الدم.

حواء: على خلاف آدم، فإن كلمة حواء لا ترد بهذا اللفظ في جميع اللغات بل هذا لفظها مع بعض الإختلاف في عائلة اللغات السامية. ومعروف أن حواء زوج آدم. وإن كان هو أبو البشرية فهي أم البشرية ذاك أن من كليهما كانت الذرية البشرية.
ويمكن النظر الى معنى تسمية حواء بالإستناد الى اللغة المندائية تأسيسا على معنى الفعل " هوا " الذي يرد بمعنى يكون،يصير، يمنح، يوهب. ويقال في القراءة على روح المتوفي: رواها نهويلي" أي: لتوهب، تمنح له الرحمة. وعلى هذا فيمكن أن تكون تسمية " هوا: حواء" بمعنى العطية ، المنحة، الوهبة، المنة. وهي بلا شك هبة ومنة الخالق لآدم لكي تكون البشرية وتعمر الدنيا.

شيتل طابا : تسمية لنبي الله شيت (ع ). وقد أخذت أغلب اللغات التسمية بلفظها الوارد في اللغة العربية تقريبا. أما اللفظ في اللغة المندائية فهو يرتبط بمعنى الشتل والغرس تماما كما يرد في اللغة العربية وتأسيسا على الفعل في اللغة الأكدية " شتلو". ويرد في الكتاب المندائي الألف وإثنا عشر سؤالا: " يا بني وشتلي إد أنا بيميني شتليت" والمعنى واضح في المخاطبة : " يا أبنائي وشتلاتي (غرسي) الذين شتلتهم بيدي اليمنى.
أما كلمة طابا فتعنى الطيب. وعلى هذا يكون معنى تسمية النبي " شيت " على وفق اللغة المندائية " الشتل الطيب ". وهو حقا شتلا طيبا لآدم وللبشرية. ومن نقائه توزن النفوس جميعا بعد الممات، حسب العقيدة المندائية، بميزان " أباثر" ويكون قبالتها وزنا ً نفس النبي شيتل طابا لنقائها وصفائها وسلامتها.
وقد تسمى أحد أحفاد أبو إسحق الصابي وهو المؤرخ محمد بن هلال بن المحسن بـ" غرس النعمة " وهي ترجمة عربية صحيحة لـ" شيتل طابا " حيث "شيتل" هي الغرس و " طابا " هي النعمة والطيب. ولذا فإن صح إسلام غرس النعمة فإنه بقي متشبثا بـ " شيتل طابا " كنية عرف بها وإعترافا منه بمندائيته.

يوشامن: تسمية للحياة الثانية في إسطورة الخلق المندائية يمثل الحد الفاصل بين الخير والشر. والكلمة مكونة من مقطع (يو) وهو ما دأبت الديانة اليهودية ولغتها العبرية عليه في تسمية الكائنات العليا والراقية. أما كلمة " شامن " فربما هي من أساس الفعل " شمن" التي ترد في اللغة المندائية كما ترد كلمة " سمن " العربية بمعنى الإمتلاء. وعلى هذا فربما أن الكلمة تشير الى الإمتلاء الذي يراد منه وبه ما سيلحق من خلق قياسا على الأسطورة المندائية و التي يمكن الرجوع إليها في مصادرها.

مندا إد هيي: الملاك البارز والمبرز في الديانة المندائية. والتسمية معروفة بحكم شيوعها في الأدب المندائي وقيمتها الأساسية في إسطورة الخلق. ويشار له في الأدب المندائي كثيرا بأنه الرسول الأول( مندا إد هيي إد هو شليها قدمايا). والتسمية مكونة من ثلاث كلمات هي " مندا " والتي تعني في اللغة المندائية المعرفة ومنها تأتي تسمية المندائيين. وأداة الإضافة في اللغة المندائية وهي الـ " إد " وكلمة " هيي" التي تعني الحي. وبمجموع الكلمات تعني التسمية العارف بالحي أو العليم. ويمكن أن تكون صفة من صفات الخالق بأنه العليم. ومنها إنسحبت تسمية " الإغنوصية " على المندائيين في أنهم العرفانيين.

مانا : ترد الكلمة في الأدب المندائي لتصف الخالق "مانا ربا". والكلمة ترد في العديد من لغات العائلة السامية. و ترد في اللغة المندائية بمعنين الأول: الوعاء والإناء، والثاني العقل والفكر والروح والمعنى. ويخطر لنا بأن الكلمة مكونة من حرف الميم الذي يستخدم في اللغة المندائية كما في اللغة العربية لجعل الفعل أو ما يلحقه إسم أداة وآلة. فإذا أضفنا حرف الميم الى الضمير " أنا " تتشكل كلمة الـ " مانا " فهي ما أنا. وما أنا يفاد منها على أنها الضمير والعقل والفكر وكل ما في الكيان.

الروها : كلمة إعتمدت في الأدب المندائي لوصف الشر وكائنات الشر. وهي تتفق في اللفظ مع كلمة روح في اللغة العربية ولكنها تتعاكس معها في المعنى. فالروح في اللغة العربية هي هبة الله التي لا يعرف كنهها ولذلك جاء في القرآن الكريم: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"(الإسراء:85). وهي بهذا المعنى تقابل كلمة " نيشمتا " أي النفس في اللغة المندائية ومدلولها في الأدب المندائي. أما " الروها " بحسب المعنى المندائي فهي تقابل كلمة النفس بمعناها في اللغة العربية بكل عوالقها ونوازعها ورغباتها. وهي التي جاء وصفها في القرآن الكريم أيضا: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها "( سورة الشمس: 7 ، 8).
ويظهر لنا أن كلمة " روها " في اللغة المندائية إشتقاق من الفعل" رها، رهـو" الذي يرد بعدة معاني منها: يستنشق، يشم، يدرك عن طريق الحواس، يستريح، يفرح. وكل ذلك يرتبط بحاجات تتطلب الإشباع ويكون في إشباعها راحة ومسرة والعكس في خلاف ذلك. وربما تسمية الروح هنا من الراحة التي تتولد بالإشباع ولذا تبقى " الروها " في العقيدة المندائية طلابة وغير شبعة ومرتبطة بنزوات مادية وذاك ما يجر الى نزوعها للشر من أجل تحقيق الكفاية والإشباع والنهم.

النيشمتا: وتقابل معنى كلمة الروح في اللغة العربية ولفظ كلمة النفس. هي هبة الخالق وقبس منه. بدخولها جسد آدم الصلصالي المسجى تحرك وقام. لا يعرف كنهها كما لا يعرف كنه الروح في اللغة العربية. " نيشما سِلق لبيت هيي" النفس تصعد الى دار الحي، الدار الأولى حيث عالم الأنوار بعد أن تنعتق من حبسها في البدن طيلة الحياة الدنيا كما يرد في الأدب المندائي. والكلمة تتأسس على الفعل " نشم " في اللغة المندائية والذي يعني يتنفس. وعلى هذا فإن "النيشمتا" هي المتنفسة. تأتي بصيغة المؤنث، فالمذكر فيها " نيشما " وتجمع على " نيشماتا ". وهنالك كتاب ديني لدى المندائيين اسمه " سيدرا إد نيشماتا " أي كتاب الأنفس مخصص لصلوات طقوس التعميد.

هيبل زيوا: من أبرز الملائكة في الأدب المندائي ويقابل الملاك جبرائيل. كان دوره عظيما حسب الأسطورة المندائية في القضاء على " الروها " وقمع الشر. ويقرن دائما بصفات وخصائص الملاك العظيم " مندا إد هيي". والإسم مكون من كلمتين، الأولى مركبة من الفعل " هاب " والتي معناها كما في اللغة العربية: يهب، يمنح ، يعطي. وكلمة ييل كما في كلمة جبرائيل. أما الكلمة الثانية فتعني الضياء. وعلى هذا فإن المعنى الكامل لهذه التسمية هي واهب الضياء. وهذا هو الدور الكبير الذي تحمّله هذا الملاك حينما أعد وسُلح وجعل قاهرا لعالم الظلام في قصة الخلق بحسب الإسطورة المندائية.

أباثر: من الملائكة المبرزين في العقيدة المندائية وهو صاحب الميزان الذي توزن فيه النفوس ويجلس في آخر محطات المطهرات التي تحاسب فيها. وبحسب زنتها ترتقي الى عالم الأنوار. شكا له الملاك " فتاهيل" أن آدم الذي جبله غير قادر على جعله يتحرك. فسأل أباثر ربه العون فأنزل" النيشمتا " بعد أن لفت بقبس من نور وجعلت خفيا بيد الملاك العظيم مندا إد هيي يدخلها فيه.
لغويا يرى البعض أن كلمة " أباثر" مشكلة من كلمتين هما كلمة " أب " وكلمة " أثرا ". أما الأولى فمعناها في اللغة المندائية كما في اللغة العربية وأما الثانية فتعني الأثيري. وبهذا يرون أن معنى كلمة " أباثر" هو أبو الأثري أو الأثيريين. علما بأنه يرد في الأدب المندائي تسمية أبو الأثيريين ولكن بالإضافة حيث ترد:" أبا إد إ ُثري". والبعض يرى أن كلمة " أب " تعني (ذلك الذي) أما كلمة " تورا " فتعني الوزن والعدالة وبالتالي فهو صاحب القسط وصاحب الميزان. ويفسر بعض ثالث الكلمة على أنها مكونة من أب بمعناها العربي وكلمة " أتـُر" بمعناها الثراء ليكون ( أبو الثراء). وربما هي كما نرى" مُجلي الظلام" تأسيسا على أن كلمة " أبا " تأتي أيضا بمعنى الظلام في اللغة المندائية. أما كلمة " تـُر" فهي من الفعل " ترر" الذي يأتي بمعني يجهض ويطرح.

فتاهيل: ويلفظ بتاهيل تليينا للفاء. ملاك الفتح الذي أوكلت له مهمات كبيرة في تصليب الأرض والعالم السفلي بحسب الأسطورة المندائية. إنغر بفتحه ودوره وإرتأى أنه صاحب السلطان، فسحب الخالق الحق كل قدراته منه وعوقب مباشرة وظل موقوفا الى يوم الدين. الإسم يتأسس على الفعل في اللغة المندائية " فته: فتح " حيث طمر صوت حرف الحاء في المندائية . و يتطابق معناه مع اللغة العربية فهو ملاك الفتح.

كنزي برا: درجة دينية متقدمة في السلك الديني المندائي. ويظهر بحسب اللغة المندائية أن كلمة " كنزي" هي جمع لكلمة " كنزا " ومنها كلمة " كنزا ربا " أي الكنز العظيم وهو الكتاب الرئيس عند الصابئة المندائيين. كما تأتي كلمة " كنزا " بمعنى الكثرة والوفرة أيضا. وعلى هذا تكون كلمة " كنزي" جمع للوفرة والكثرة. وأما كلمة " برا " فيرد في معانيها الخلق والإبداع بما يقابل كلمة " بارئ " في اللغة العربية . فالله البارئ تعنى الله الخالق. وعلى هذا فنحن نرى أن كلمة " كنزي برا " تعنى خالق الكثرة من حيث المعرفة الدينية لارتباط هذه التسمية بدرجة دينية وما تمليه هذه الدرجة من مسؤولية على حاملها. وسيتضح لنا الأمر أكثر بالإطلاع على معاني تسميات الدرجات الدينية الأخرى التي ترتبط جميعها بالمعرفة وليس بمعنى عابر الكنزا ذلك أن ما يعقب كلمة كنزا الكلمة "برا" وليس "أبرا" بمعنى العبور.

ترميدا : وتلفظ تليينا ترميذا. وهي أول درجة دينية يرتقيها المكرس في السلك الديني المندائي . وقد أشيع معناها على أنها تعني تلميذ. وربما أن هذا اللفظ جاء من اللغة العربية. وقد ظهر لنا بأن اللغة العربية قد أخذت كلمة " ترميذا " وكيفتها لفظا وإعتمدتها بالمعنى المتداول بل وشكلت منها فعلا في" تلمذ يتتلمذ تلميذا ً" دخولا من اللغة الآرامية وبخاصة المندائية دون الإنتباه الى أن الكلمة في الأساس مكونة من كلمتين وكالآتي: الفعل المندائي " ترا " والذي يأتي كما في العربية بمعنى ثرى وأثرى وكثر ونما وتوسع وإزداد. وأما كلمة " مادا " فتعني في اللغة المندائية المعرفة من أساس الفعل " يدا " بمعنى يعرف ومنها إشتقـت تسميتهم " المندائيون ". وبجمع الكلمتين " ترا+ مادا " تكون كلمة " ترميدا " التي أخذتها العربية وجعلتها تلميذ. وبالتالي يكون معنى الدرجة الدينية " ترميد ا" الشخص الذي يثري ويزداد معرفة. وهي تسمية دقيقة ومناسبة تماما لمن يؤهل ويصبح عضوا في السلك الديني. فغير الثري معرفة لا يكون له دور فيما سيطلب منه ويرتقي فيه ليكون فيما بعد" كنزي برا " أي خالق الكثرة كما مر بنا أعلاه.

شوليا: وهي تسمية تطلق على المرشح للسلك الديني المندائي حين يكون في فترة الإعداد للتكريس . وقد درج على ترجمتها الى " المُرشـَح ". ويظهر لنا بأن الكلمة جاءت من الفعل المندائي " شال " الذي يرد معناه كما في اللغة العربية : يسأل، بعد التبادل المعهود في لفظ حرفي الشين والسين. وعلى هذا تكون ترجمة كلمة " شوليا " الى السائل وليس المرشح. وهذا المعنى أصح ذلك أن المطلوب من المرشح أن يبقى سائلا ومسؤولا عن المعرفة الدينية والحياتية والطقسية التي يجب أن يتأهل فيها خلال هذه المرحلة قبل أن تجرى مراسيم تكريسه والتي متى ما حصلت فإنه بالضرورة سينال مرتبة " ترميدا ".

شكندا: وتلفظ بكاف ثقيلة. وتأتي في الأدب المندائي بمعنى الرسول كما أنها صفة الفرد الذي يلازم من يقوم ببعض الإجراءات الدينية كالذبح. إذ لا بد أن يرافق من يقوم بعملية الذبح شخص نظيف أيضا تتوفر فيه الأهلية الدينية ليكون شاهدا على العملية ولذلك فهو يردد ويقول أثناء قراءات النحر " أنا سهدخ " بمعنى أنا شاهدك. والشيء نفسه مطلوب حينما يقوم رجل الدين المندائي بإجراءات التعميد أو الزواج إذ تتطلب عملية إنهاء المراسيم دورا للـ" شكندا ". ويظهر لنا بأن كلمة " شكندا" مكونة من كلمتين هما " شكا " والتي ترد في اللغة المندائية بمعنى الخطأ والزلل وكل ما يرتبط بهما، والفعل " ندا " الذي يعني في اللغة المندائية طرد ، دفع، أزال. وهكذا تكون كلمة " شكندا " بمعنى مُبعد الخطأ. وهذا هو الدور الفعلي لمن يقوم بهذا العمل إذ أن عليه مراقبة من يساعده دفعا لأي خطأ أو زلل لشدة حرص الديانة المندائية وتزمتها في إجراءاتها الطقسية. بل حتى إن أخذنا معنى الرسول للكلمة فما الرسول إلا الهادي المعلم دافع الخطأ ومبعد الزلل عن الإيمان الحق بالخالق.

كليلا : الإكليل في اللغة العربية يعني التاج. وفي اللغة المندائية فإن كلمة تاج تأتي أيضا بلفظ " تاغا ".
ويظهر لنا أن كلمة " كليلا " في اللغة المندائية متشكلة من مقطع "كا+ ليلا". أما مقطع " كا" فيفيد معنى هنا، وأما كلمة " لِيلا أو للاي" فتعني في اللغة المندائية للأعلى. ويمكن أن يكون المعنى هنا للأعلى. وبما أن الإكليل لا يكون إلا بالأعلى وهو فوق الرأس، فإن المعنى يتطابق مع القصد. ثم تعمم اللفظ على ما يوضع على الرأس مما هو جميل وراق فكان إكليل الورد والزخرف. وفي المندائية فإن كلمة " كليلا " هي التسمية الشائعة لغصن الآس المشكل بشكل حلقة كالخاتم والتي توضع على رأس المتعمد أو المحتضر تحت طرف من العمامة. واللغة العربية أشاعت هذا الإستخدام وعممته وجعلت منه فعلا يفيد ما يكون عاليا. والفعل يكلل ويتكلل أمثلة على ذلك. بل ربما أن كلمة " كلة " التي تعني الناموسية هي من أساس كلمة "كليلا" ذلك أن (الكلة) إنما تكون أعلى وفوق الشخص على سرير نومه.

رستا : هي اللباس الديني الأبيض المعهود الذي يرتديه المندائيون عند إجراء طقوسهم الدينية. وهي عامة تتكون من سبع قطع للشخص العادي وتسع لرجل الدين. أما المعنى اللغوي لكلمة " رستا " كما يرد في اللغة المندائية فهو الحق والإستقامة. والكلمة مستخدمة في اللغة الفارسية أيضا على أننا لا نستطيع أن نقرر مَن أخذ مِن مَن؟

سِندركا : وتعني في اللغة المندائية النخلة مع أن هنالك كلمة أخرى للنخلة وهي " تالا ". والـ" سندركا " تستخدم بمعنى رمزي في الأدب المندائي لتشير الى الفحولة والخصب وتكون مترادفة دائما مع كلمة " أينا " التي تعني كما في اللغة العربية العين والنبع إشارة الى الأنوثة. ويفيد معناهما المتلازم إشارة الى التكامل والإنجاب. ويظهر لنا بأن كلمة " سندركا " مكونة من كلمتين هما: كلمة " سين" وتعني القمر. أما كلمة "دركا " فتعني الطريق والنهج والسبيل. فهل يكون في جمعهما ما يشير الى السمو والإرتفاع؟

الأحد, 10 شباط/فبراير 2013 00:52

أخوان الصفا والصابئة

بعد أن تستقر الأديان من فورة الإحداث والنشر والتديين، يعود الفكر يعمل في البراهين، خاصة وأن أساس الدين هو المعتقد، وقيام المعتقد إنما على الفلسفة والنظر المنطقي في الكون وتدبيره. ومع شدة تأثير الإسلام من حيث اللغة والحجة والوضوح وسلطة تديين الناس به، إلا أننا نرى أن ذوي العقول والفكر لم يقفوا مستندين الى ما يقرر لهم، بل أعملوا فكرهم وأظهروا جوانب بيان الإتفاق والإختلاف. ونتلمس ذلك مصلحة بدءً من المرحلة الأولى التي أعقبت وفاة النبي محمد وعدم إتفاق المهاجرين بزعامة أبي بكر وعمر بن الخطاب من جهة والأنصار بزعامة سعد بن عبادة من جهة ثانية وعلي بن أبي طالب كونه رأس آل البيت من جهة ثالثة، وكل يرى أحقيته في الخلافة وله مؤيديه. ثم ما دار بين علي بن أبي طالب وعائشة زوج محمد من معارك وبينه وبين معاوية بن أبي سفيان أيضا، وهكذا بين الأمويين والعباسيين. ولما إستقر الأمر عباسيا ظهرت المذاهب التي تباينت بحسب رؤيتها في الشرح للقرآن وللأحاديث والسنة وتباينت في التشريع والأحكام، ثم الحركات المتعددة ولعل أبرزها الخوارج والمعتزلة والقرامطة والإسماعيلية. وقد هددت بعض هذه الحركات كيان الإسلام ودولته. ثم بدأت حياة المجتمعات تتأثر وبخاصة بعد دخول أجناس غير عربية ( تركية وفارسية) ميدان الحكم والسلطة وسعيها لنقل تراثها وثقافتها السابقة والتي غـُلبت بالإسلام وتحيي معتقداتها المرتبطة بالتوحيد والمتميزة بالفكر العرفاني وخاصة بعد أن ملكت السلطة كما حصل في العصر البويهي. ويعد المأمون، عالم خلفاء بني العباس، متميزا في تطوير حركة العلم والمعرفة نقلا وتأسيسا وقبولا، وكان في تأسيس بيت الحكمة مثالا على التوجه العلمي بكل مناحيه وبخاصة في الجوانب الفلسفية والمنطقية. وأبرز ما دار في عصره موضوع خلق القرآن الذي هز الكيان وأدى الى إنقسامات كبيرة وتمايزات أخمدها الخليفة المعتصم بعد وفاة والده وأوقف فتنتها. ويعد القرن الثالث الهجري متميزا ببروز الفلاسفة وبخاصة بعد قدوم ثابت بن قرة وجماعته من حران التي تعتبر مدينة الفلسفة وعاصمة الدين وعلوم الفلك والرياضيات والمنطق. لقد أثر هذا العالم الموسوعي ( الذي يتطلب منا أن نضع عنه مؤلفا كاملا لما له من علم وقيمة كبيرة في العلوم والتراث) بعلمه وفكره وأخلاقه في الخلافة العباسية وبخاصة أنه كان جليس الخليفة المعتضد ونديمه، وعالمه الذي وضع وترجم ونقل وشرح له الكثير من الكتب والمعرفة. وقد تأثر بأفكار ثابت وفلسفته العديد ممن عايشه وعاصره وكذلك ممن جاء بعده، ذلك أنه فيلسوف رائد طرح معتقدات الصابئة التي توارثها ودرسها في حران وأضاف لها بشرحه وعبقريته الفذة التوضيحات التي أثرت في العديد من الأفكار وبجوانب أثبتها بالبرهان المنطقي أو الرياضي أو بالتنبؤات الفلكية المبنية على علم النجوم. وما لم يستطع الوصول إليه في التأثير، تلقفته عنه مجموعة أخوان الصفا التي ظلت مجموعة سرية غير معروفة الأسماء برغم شيوع بعضها، إلا إن الإختلاف في عدم إمكانية الإتفاق عليهم يشير الى خشية هذه المجموعة من أن يصيبها الأذى بحكم ما ذهبت إليه مما يختلف مع الشريعة الإسلامية رغم تغليفها لأمرها بما يتفق معها في الظاهر.

{module إستفتاء القراء}

 

لقد تأثرت هذه المجموعة بأفكار العالم ثابت بن قرة في مجالات عديدة وهم ينقلون عنه بالإسم مرة وبدونه مرات في مواضيع متعددة، بل أن البعض يرى أن بعض كتب ثابت ورسائله نقلت وتم تضمينها كاملة ضمن رسائل أخوان الصفا التي تعد أول موسوعة في التاريخ من حيث شمولها وتنوعها. وما يهمنا أيضا ما يراه واضعوا هذه الرسائل من أهمية وإبراز لفكر الصابئة الذي دخل الفكر العربي والإسلامي من خلال ما نقله وشرحه كبير الصابئة ثابت بن قرة الذي أظهر فكر الصابئة من السر الى العلن وميز هذا الفكر بعقله وأبعده عن كل الطقسيات غير المنطقية التي علقت به والتي يأخذها البعض على ديانة صابئة حران وما بنوا عليه من تشويهات بأسباب تناحر الغلبة الدينية.

إن أخوان الصفا يشيرون صراحة الى علاقتهم بصابئة حران بالقول:" إن مذهبنا وإعتقادنا هو مذهب صابئة حران". ولأن غايتهم التقريب بين الدين والفلسفة فلا بد من أن ينظروا بفلسفة من سبق ويخضعونها لمنطق الإلتقاء مع حرص المرء على التدين فيكون التكامل بين المعرفة وبين الوجدان. وعلى هذا يشير أخوان الصفا في معرض تحليلهم لتسلسل عبادة الأصنام، أن بدء عبادة الأمم لها كان أولا عبادة الكواكب، وبدء عبادة الكواكب كان عبادة الملائكة، وسبب عبادة الملائكة كان التوسل بهم الى الله لأنهم صفوة الخلق. والمعروف أن صابئة حران والصابئة المندائيين يعظمون الكواكب لما لها من قيمة تدبير زودها بها الخالق للفعل في مدبراته في الكون. والمندائيون يعظمون الملائكه لأنها أطهر خلق الخالق ويرون منازلها في الأفلاك، وهكذا يحض أخوان الصفا أيضا.

ومثلما تأثر صابئة حران بالمذهب الفيثاغوري وبتأثير الأعداد وأهميتها وبناء الكل وتكثره من الواحد وفيض الجميع عنه مثلما يفيض الضوء عن قرص الشمس، فإن أخوان الصفا يرون فيهم الحكماء الفيثاغوريين الذين يعطون كل ذي حق حقه، فهم يقولون:( إن الموجودات بحسب طبيعة العدد وهذا هو مذهب أخوتنا - يقصدون الصابئة - وبحسب رأيهم في وضع الأشياء مواضعها وترتيبهم حق مراتبها على المجرى الطبيعي والنظام الإلهي).

إن ما نقله أخوان الصفا في رسائلهم من رسائل وكتب ثابت بن قرة وتبنيهم لآرائه وهي فكر وآراء الصابئة الأقدمين الذي تم توارثه وتناقله في مدينة حران بما عرف عنها أنها أصل الدين وحافظته قد أثار الحفيظة على ما جاء به أخوان الصفا وبخاصة في فلسفتهم التي أتهموا بأنها باطنية مغلفة بغلاف سياسي للإطاحة بالحكم العباسي من خلال تبني جماعات له وبخاصة جماعة الإسماعيلية التي تعتمد هذه الرسائل وتنظر إليها نظرة إحترام وتقديس كبيرة. ونحن لا نستبعد هذا التأثر بل نقره من خلال كثرة ما نقلوه عن ثابت بن قرة وكذلك عن أبنائه وأحفاده الذين ظلوا متأثرين بذلك وأبرزهم البتاني إبن أخت ثابت والذي يعد أبرز علماء الفلك وصاحب الزيج الصابئ، ونسيبه من أسرة آل زهرون ذائع الصيت أبو إسحق إبراهيم بن هلال الصابي، الذي عاش الفترة التي ظهرت فيها رسائل أخوان الصفا، بل وكان في بعض فترات حياته، على ما يذكر في شعره، في مدينة البصرة وهي المدينة التي عرف بها تأسيس جماعة أخوان الصفا. ولا نشك بأن الصابي قد إلتقى المبرزين في هذه المجموعة إن لم نقل أنه من زاد في الشرح والنقاش معهم وساهم في تغذية أفكارهم وبلورتها. وعلى هذا يذكر التوحيدي بعض أسماء المجموعة ومعرفته بهم وعنه نقل الآخرون أسماءهم، ومعروف أن التوحيدي من المقربين والمعجبين بأبي إسحق وعاش معه وذكره بخير الكلام. ( وقد وجدت لأبي إسحق الصابي في مخطوطة قديمة بجامعة لايدن/ هولندا رسالة كتبها الى أبي الحسن الصابي المنجم في إستطلاع تحويل سنته تلتقي في مضمونها وتوجهها بل وفي مفرداتها مع ما ثبته أخوان الصفا بنظرتهم لإستقراء طالع السنين وفي مقدراتها المرتبطة بتقدير الخالق وكيف أن الإستقراء لا يمنع نازلة بقدر ما يجعلك متهيئا لتلقيها فيخف وطؤها بالإستعداد المسبق).

ولهم في بيان قيمة المثلث من أنه أصل الأشكال المستقيمة الخطوط كما هو الواحد أصل لجميع العدد، فمن تكرارالمثلث يتكون المربع والمستطيل والمخمس والمسدس... وهكذا. ولنا أن نقارن ذلك بالأهمية التي يقدمها المندائيون للمثلث وبتكراره وتشكيل المعين منه وهذا ما يرد في النصوص بل وفي الزخارف المرسومة في المنمنمات التي ترد في الدواوين المندائية وبشكل متكرر وملحوظ.

وقد تناقضت التقييمات لرسائل أخوان الصفا بين التعظيم والتكفير. ويكفي أن ننقل ما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية : (كتاب رسائل الإخوان الصفا الذي صنّفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد ، و كانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة ، جمعوا بزعمهم بين دين الصّابئة المبدّلين ، وبين الحنفية ، و أتوا بكلام المتفلسفة و بأشياء من الشريعة) ويذكر أن ابن تيمية مطلع على فكر الصابئة ذلك انه أصلا من مدينة حران وضواحيها.

وما يثبت قيمة الرسائل أنها قد لاقت قبولا وإنتشارا واسعا في المجتمع ودار الخلافة والإمارة البويهية ذات المذهب الزيدي الشيعي، وإنتقلت سريعا حتى الأندلس وأثرت في أفكار العصر وأخافت الحريصين على موضوعة الدين بجانبه العاطفي والوجداني الذي يمكن من خلاله تسيس الناس. أما الذين يبحثون عن المعرفة والمنطق والحكمة والميتافيزقيا فقد وجدوا فيها شمولا وتكاملا لأفكار الفلسفات والديانات السابقة وقد تلقفوها لما للغتها من بساطة وشروحات ووضوح. وهكذا أثـّروا في الفلاسفة من بعدهم ، كابن سينا والفارابي والسجستاني والكرماني وناصر خسرو ونصير الدين الطوسي وغيرهم. وهكذا أيضا أقبل عليها المستشرقون وترجموا أغلب نصوصها وأخضعوها للدرس والمقارنات. ومازالت الى اليوم تعد أول موسوعة شاملة عرفت، وأكفأ موسوعة تضمنت فكر الصابئين بشكل خاص لتأثر جماعتها بفكرهم إن لم نقل أن المجموعة التي كتبت هم صابئة أصلا كتموا أسماءهم خوفا وغلفوا عباراتهم بعبارات إسلامية قبولا من المجتمع مع أنهم حاولوا أن يستفيدوا من جميع معطيات الأديان وتضمين افكارها وما تقره بحسب تماشيها مع منطقهم ونظرتهم التي إستفادت من معطيات عصرهم وسعت لأن تنقله نقلة عرفانية فتقدمت العصر. ولولا أن الأمر يغرقنا في التخصص لنقلت للقارئ الكريم الكثير مما تناولوه وكيفية ربطه بفكر صابئة حران وبما يرد في فكر الصابئة المندائيين أيضا وبخاصة في معتقدات الخلق والخالق والنظرة الى خلق العالم والكواكب وتدبيرها للكون والمطهرات والإلتزامات الدينية في النجاسات والتنبؤات والفلك وعلم النجوم وقراءة طالع السنين ودخول الأبراج وتأثيراتها. بل أنهم سبقوا العالم دارون في نظريته نشوء الخلق حين أبانوا بأن أعلى مرتبة من الجماد مرتبطة بأدنى مرتبة من النبات وأعلى مرتبة من النبات مرتبطة بأدنى مرتبة من الحيوان وأعلى مرتبة من الحيوان مرتبطة بالإنسان الذي هو أرقاها تميزا وعقلا، ولهم في كل هذا أدلة وبراهين من صفة الجمادات ومكونات الأحياء. ونقول: لو أنهم برزوا في عصر غير ذلك العصر وفي مكان غير مقر الخلافة العباسية التي يجب أن تلتزم مبادئ الدين الإسلامي لرأينا لشأنهم شأنا في تطوير الفكر الإنساني والمعرفة من خلال التقبل والتشجيع والتعميق بالدرس العلني لا بالحركة السرية التي أضطروا على الإختباء وراءها خوفا من التكفير والقتل والإضطهاد كما هي العادة.

وللصابئة أن يفخروا بمثل هذا التراث ويعملوا على إبرازه لأنه مستند الى فكر ومعتقد صابئة حران الذي يلتقي في جوانب كثيرة مع فكر ومعتقد الصابئة المندائيين مع خصوصية بعض الطقوس والشرائع. وإنما برز فكر صابئة حران بالعلماء الذين نقلوه وشرحوه، وظل فكل الصابئة المندائيين حبيس الكتب حتى ضعفت القدرة على شرحه ثم إنعدمت بل وصار الخوف من أن يكون الشرح مغلوطا بسبب عدم تواصل الدرس مع الأولين بما عرفوا حقا، وللإقدام على ذلك عليهم أن يعرفوا كيف يشرحوه ويقدموه لا بصفة التضاد بل بالصفة العرفانية المعروفة بديانتهم وهي معرفة أن الخالق علة الوجود. بل وعلى الصابئة اليوم أن يفخروا بتراث العظام الذين يقدرهم العالم وأبرزهم العالم الموسوعي ثابت بن قرة الذي يعد أعظم عقلية في تاريخ الرياضيات والفلك في أزمنة الحضارة العربية وفي الفلسفة والطب أيضا، وبكل من جاء من نسله وتبعه في ميادين المعرفة والأدب وأبرزهم الأديب الكبير والسياسي اللامع أبو إسحق الصابي.

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 11 شباط/فبراير 2013 06:37

الماضي عِبرة، وليس حَسرة وعَبرة

لأن الحَسرة والعَبرة تولد إما القنوط وإما الحقد على الحاضر. وكل من لا يستطيع أن يعيش الحاضر ويضعف بصره عن رؤية المستقبل يظل أسير الماضي متناسيا أن الماضي هو ما مضى. وكل من لا يقدر أن يقدم للحاضر ويمهد لصناعة المستقبل يأكله صدأ الماضي وهو يعلل نفسه ويوهمها بأنه بذلك يكون موجودا. وفي الوقت الذي يسحب الحاضر إلى العيش والحياة فإنا التقوقع في الماضي يسحب إلى العَطـَلة والتعطل والتعطيل. ونحن بهذا لا ننكر الماضي الذي نحتاجه لنتباهى بالبارز والإيجابي والإنجاز الملموس والمتحقق فيكون لنا به تأريخا مثلما نتباهى بتأريخ المندائيين، بل نرفض أن يكون مغناطيسا موقفا للحركة لأنه بذلك يكون حبسا ًيعيش فيه البعض ويحاول أن يسحب غيره إليه.

ولأن المندائيين اليوم في أحوج حالات الفعل قياسا بكل أنواع التحديات التي يواجهونها ككيان، فإنهم بحاجة شديدة لأن يأخذوا جرعات التنشيط والتقوية والصمود لينهضوا صباح كل يوم وهم يقولون هيا نكمل ما كنا فيه ليلة أمس. فالمندائيون مطرودون من وطنهم بحكم ما جرى ويجري فيه، والمندائيون تلوعوا ويتلوعون في بلدان النزوح يعيشون الشاقة والفاقة التي تسحب إلى خروج النفس عن قيمها وربما عن دينها، والمندائيون موزعون في بلدان الشتات على حوالي 20 بلدا والمئات من المدن فيها رغم قلة عددهم، والمندائيون يواجهون الحرج في ضياع هويتهم فلا يقدر البعض وبخاصة الأبناء أن يُعرّف بنفسه فيعمد سريعا إلى القول بأنه معمداني أو مسيحي وليس هو كذلك، والمندائيون تسحبهم حياة وثقافة المجتمعات الجديدة بدون جذور فيها ولا فرامل لأنهم أميل إلى التقبل مقارنة بإنغلاق الآخرين دينيا أو عرقيا، والمندائيون عانوا الإضطهاد في أمر مراراته وقد صار البعض يؤمن أن ذلك كان بسبب مندائيته وهي سبب في إختلافه واستهدافه فضعفت فيه المندائية وقلت معنيتها له، والمندائيون تصارع طقوسهم الجميلة ونشاط تباهيهم وتميزهم الظروف المناخية فاستسهلوا الترك بدلا من أن يجهدوا في التيسير مكانا وشعيرة، والمندائيون تركوا لغتهم في بطون السنين ولم يبق في لسانهم إلا كلمات منها، وتبلبلت ألسنتهم وألسنة أبنائهم اليوم فغدا الكلام ينحسر لديهم وهم موزعون، والمندائيون أصحاب الحِرف والوظائف التي كانت تشغلهم وتبرزهم بين أنفسهم وفي المجتمع فصار أغلبهم اليوم حبيس البيت وصار آذانا وحسب للإستماع وما يجر ذلك من تقولات ونميمة، والمندائيون بدون إمكانيات مادية تضع كل الطموحات موضع الإنجاز والتحقيق فيلمس الجميع ترجمة الأقوال إلى أفعال فصار كل طموح ومقترح وكأنه بيت شعر يقال وتكتفي الأغلبية بالقول: بارك الله فيك! والمندائيون مازالوا وحيدون بدون سند وطني أو دولي يستندون إليه في كل ما يحفاظ عليهم كيانا ووجودا. والأدهى أن العراق كان يحتضننا شئنا أم أبينا ويلزمنا بكياننا بحكم اللاانتماء لغيرنا، كيف وبلدان اليوم تقدم لنا بحكم إختيارنا لها كل المغريات، وصار الأبناء الذين كانوا يتجمعون حول الآباء ويزهون بمشاركاتهم، يعزفون اليوم عنا وفي الأقل أنهم مبتعدون بسبب ما يرون ويسمعون ويقرأون، وبهذا ننسحب ربما دون أن ندري إلى التخلي عنهم ونسلمهم لقمة مضغتها المعاناة وقطعها اللا احتضان فصارت للآخرين سهلة سائغة.

لا، أيها الأخوة. كل من يحب المندائية يجب أن يعمل لها. حرام أن تكون مندائيا ولا تعمل لمندائيتك. لسنا بحاجة لمزيد أقوال، ولا يكن فعلنا هو الكلام، وأي كلام؟ ليته الذي يشحذ الهمم ويولـّد العزم، بل إنه الذي يجرنا إلى جوانب في الماضي ليجعل منها عراقيلا في الحاضر. ولا شك أن من يفعل هذا هو بأقصى درجات المرض والحقد الذي شانه وهاله أن تتوسع حلقات الضوء في اليوم المندائي والغد المندائي لأن عيونه الرمدة وفكره الوهمي السوداوي لا يحب غير الظلام ويريد الآخرين أن يشاركوه ظلامه ويعيشوا معه، فهل توافقون على أن يرشدكم الأعمى ويهديكم المعتوه؟

كل من عمل للمندائية كان عمله طوعيا وهو أسمى العمل كما هو عمل الأنبياء وباهري الصدق، واليوم أبرزها سعة الحاجة للتجمعات والجمعيات المندائية في بلدان التواجد وتنظيمها في إتحاد يجمعها يحب أن يدعم قياسا بحجم الطموحات المتولدة عن أنواع المعاناة التي ذكرناها وغيرها الكثير وقياسا بالحق الذي لنا ككيان ووجود، والواجب أن تمد أيادي العون والتشجيع وتوفير الأمكانات للساعين من أجل لم الشأن والمحافظة عليه، وكل من يقف بخلاف ذلك فهو باطل باطل، ومع أن فعله باطل لكن علينا أن نصلحه فهو محسوب على المندائية ولو بحكم الولادة من أبوين مندائيين ، ولو بشعرة، فإن قطعها وحاول أن يقطع شعورنا ومشاعرنا علينا أن نحاسبه جميعا وننبذه جميعا ونبعده أيا كان ومهما كان، فما زال الأخيار هم الأقوياء. وهيي زكن

نشرت في وجهة نظر

نبدأ من مسلمة عراقية أن الصابئة المندائيين تراث أصيل في بلاد ما بين النهرين عمقه لا يتحدد بزمن.. وظل موصولا على مدى التأريخ حتى يومنا هذا. عرفوا بالعراق وعرف العراق بهم حين تذكر أقدم الأديان. وتعددت جوانب الإمتلاك لديهم بدءً بالمعتقد التوحيدي والإيماني الذي يظهر أن بذرة التوحيد الأولى إنما في بلاد ما بين النهرين وليس في أي مكان آخر. ثم في الطقوس الدينية المتعددة التي أساسها الماء هبة الحي للحياة ومنه كانت وتكون، فقدسوه تعميدا. وفي الأساطير التي تختلط عمقا ومعنى مع الأساطير السومرية والبابلية. وفي اللغة المندائية وهي الفرع النقي للآرامية الشرقية بحسب تصنيف علماء اللغات السامية، هذه اللغة التي حفظت أدبهم وطقوسهم وهي ما تزال ماثلة في مئات المفردات المعتمدة في اللغة العامية العراقية كدليل على قدم الإستخدام وإلتصاق المفردة باللسان العراقي فلا ينفك من أن يقول أكو ماكو. وفي تأريخهم الممتد على ما مروا به من وجود وإضطهاد وتهديد ومعاناة وحرص على البقاء أيضا. وفي إنسانهم العراقي الطيب المسالم الممتلئ مهنية البناء والإخلاص الوظيفي. وهم بهذا، وبكل ما يحفظه لهم العراق في ذاكرته، إستحقوا محبة العراقيين بجدارة ، خاصة وأن ديانتهم لا تحض على أي مطمع سياسي، فليس غير محبة الله وخلقه والعيش بسلام حتى الإنتقال إلى عالم الأنوار.

وما يؤسف أن هذا التراث الرافديني الكبير والكثير الذي يحتفظون به لم تنله رعاية متخصصة في البحث والدراسة والتعليم والتوثيق، فصار آثارا بدلا من أن يكون أثرا وإثراءا، إلى أن تلقفه الغرب فنقلوا آثار الصابئة المندائيين وأدبهم بمخطوطاته وكتبه التي عكفوا على ترجمتها إلى الألمانية والإنكليزية والفرنسية من خلال ما نقله المبشرون البرتغاليون حين قدموا إلى العراق في القرن السادس عشر الميلادي. وصارت المندائية تدرس في عدد من الجامعات الغربية، وحتى زارهم العالم الألماني هنريك بيترمان في عام 1853 في سوق الشيوخ وتعلم لغتهم، وحتى وضع عالم الساميات ثيودور نولدكه كتابه قواعد اللغة المندائية في العام 1875. وهكذا تواصلا يقوم عالم الساميات مارك لدبارسكي بترجمة كتاب النبي يحيى (ع) للألمانية في العام 1915 ومن ثم كتاب الصابئة المندائيين الرئيس " الكنزا ربا" في العام 1925، وتكمل الليدي دراور مسعى أكاديميا منذ العام 1935 وحتى وفاتها في العام 1972 بما صار يعرف بـ " مجموعة الليدي دراور المندائية" التي تحتوي على عشرات المخطوطات وترجماتها محفوظة اليوم في جامعة أكسفورد.

ومقابل ذلك حُرم الصابئة المندائيون من دراسة دينهم وصاروا أميين في لغتهم وفقدوا حلقات عديدة وبعيدة في تدوين تأريخهم وتسجيل وقائع وجودهم، وذهبت ثقافتهم بآدابها وفنونها ولم يحضوا بمدرسة واحدة في أي زمن وعصر تعمل على هذا بشكل نظامي ورسمي، وهم الذين يمسى بيت العبادة عندهم " بيت مندا " بمعنى بيت المعرفة. وقد يستغرب البعض أن جميع رجال الدين المندائيين غير متخرجين في مدرسة دينية متخصصة، ولم يحصلوا على تعليمهم الديني بشكل أكاديمي ممنهج إنما بالإعتماد على الدراسة الذاتية سواء في معرفة المعتقد أو في ممارسة الطقوس الدينية على الرغم من التزمت المندائي المعروف فيها. ولذلك فقد ظلوا يطمحون لأي مؤهل أكاديمي مندائي متخصص.

ونتيجة لما حصل في العراق الوطن الأم لهذا المكون العراقي الأصيل، فقد تهدد كيان المندائيين بخصوصيتهم أكثر من جميع المكونات الأخرى وبإعتراف دولي موثق، حيث أضطرت النسبة الأغلب منهم إلى مغادرة وطنها فرارا بالنفس والدين. وكان من نتيجة ذلك أن توزعوا دون هدي على أربع قارات وفي حوالي 20 بلدا في المهجر على محدودية عددهم. وصارت الخشية اليوم من ضياع هذا الكيان بأسباب التوزع الخطير وطبيعة وإغراءات ثقافات الشعوب التي صاروا بينها، والمعاناة في التجمع وإقامة الطقوس مع ضعف الإمكانات الذاتية لدرء خطر كل هذا. وما كل هذا إلا نتيجة لم يكونوا هم السبب فيها. كما أن التهديد داخل العراق مازال قائما ومستمرا والخشية في أي وقت أن يتعرض هذا الكيان لمجزرة فيفقد من يفقد ويتشرد من يتشرد من جديد. ومن أجل كل هذا صار المعنيون بالشأن المندائي يناشدون الحكومات والمنظمات الدولية والإنسانية للمساهمة معهم في حفظ كيانهم كحق إنساني، ولكونهم دليلا بشريا ملموسا على حضارات وادي الرافدين، وعلى ديانة تسجل على أنها واحدة من منابع ديانات الشرق بحسب التصنيف والإهتمام الأكاديمي العالمي بالأديان.

وحيث يصعب التجميع ولم الشمل بأسباب تعدد بلدان اللجوء، فإنه لا يصعب جمع ولم تراثهم وثقافتهم وتعليمهم والإحتفاظ به حقا وتكرمة لهم وثوابا، مثلما هو حق للعراق والإنسانية فيما يكتنزون. فإن ظلت بهم المندائية قائمة نكون قد حافظنا عليها شاهدا حيا على الأصالة والتسامح الديني والرعاية، وإن غلبهم هذا العصر بجبروته وبأسباب مغادرة العراق وطبيعة عيشهم فيه، فنكون قد سعينا لتوثيق هذا التراث والأحتفاظ به جزءا أصيلا من التراث الرافديني. بمثل هذا المسعى كان توجهنا لمخاطبة منظمة اليونسكو. ويوم لم نفلح بمشروع ثقافي، فاتحنا سمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند حرم سمو أمير قطر بحكم أنها الممثل الخاص لمنظمة اليونسكو في الشرق الأوسط حول اللغة المندائية كونها لغة مهددة بالإنقراض، فكان مسعى سموها طيبا ومثمرا في تسجيل اللغة المندائية لغة مهددة بالإنقراض من قبل اليونسكو في أطلسها منذ عام 2006 . لكن الأمر ظل تسجيلا دونما أي إسهام بأسباب أن العراق غير موقع على وثيقة الأمم المتحدة بحفظ اللغات المهددة بالإنقراض وبالتالي فإن اليونسكو لا تتكفل مشروعا بذلك بحسب آخر رسالة إستلمناها من اليونسكو بهذا الخصوص.

ويبقى العراق الوطن والحضن، ويبقى الوفاء لأبنائه من جميع أديانه وقومياته شعار الجميع ومسعى الجميع، إلا أن الصابئة المندائيين لم يشملوا لحد الآن بخصوصيتهم في إستحقاقات ملموسة. وتأسيسا على ما يكفله الدستور العراقي اليوم لمكونات الشعب العراقي كافة وللثقافة والتراث العراقي عامة، ولحرص مجلس النواب والحكومة العراقية على تنفيذ أحكامه وبنوده بالإستحقاق المتكافئ والمكفول بالمساواة بين العراقيين جميعا مع مراعاة خصوصياتهم الدينية والثقافية واللغوية، فقد تدارس الصابئة المندائيون سبل المحافظة على تراثهم بتنوعه، وتعزيز دراسته وتوثيقه، وإجراء الدراسات والبحوث فيه والدراسات المقارنة مع الأديان السماوية، وتخريج رجال دين بمؤهلات ومستويات أكاديمية وإنتظام الموجودين منهم بها، وحصول الراغبين على شهادات عليا في اللاهوت المندائي والطقوس الدينية، وتحفيز الكفاءات المندائية والراغبين من غير المندائيين عراقيين وعرب في دراسة المندائية وتأريخها، ولغرض الإنفتاح على الجامعات العالمية ومراكز البحث المعنية بالدراسات السامية والمندائية، وخرج الأكاديميون والمعنيون المندائيون في كل بلدان تواجدهم بإقرار تأسيس أكاديمية مندائية تكون مجمعا ثقافيا وتعليميا وتوثيقيا لكل ما يمتلكون وما يحرصون على تعليمه والمحافظة عليه، أساسها العراق وتنفتح على بلدان تواجدهم. وهم بهذا التوجه ينطلقون من أن هذا الأمر بالنتيجة هو إسهام عراقي متخصص يناط بهم على ما عرفوا به من كفاءات وإسهامات وطنية. وقد تم وضع مخطط المشروع الذي كان لنا شرف التكلف بمتابعته وإنجازه بنظامه وأقسامه ومستوياته وطبيعة الدراسة فيه.

ومن أجل أن يوضع هذا المشروع موضع التنفيذ فإن الحاجة لا مناص منها لمساهمة العراق رئاسة وحكومة وبرلمانا في مد يد العون لإسناد هذا التأسيس العراقي وجعله قائما متحققا ومحققا لأهدافه. وبه سيقدم العراق العزيز دلالة عملية على التسامح الديني والحرص التراثي وتقدير أصالة شعبه ومكافأة الصابئة المندائيين على حرصهم على البقاء وعلى مواطنتهم الشريفة والمعهودة.

إن الصابئة المندائيين يحذوهم الأمل بأن يلقى مشروعهم الأكاديمي الثقافي هذا القبول والإسناد ليتباركوا بإعلانه وهم يستعدون في العام 2011 للإحتفال بإحياء الذكرى المئوية لولادة العالم العراقي المندائي عبد الجبار عبد الله، فيقدمونه شهادة تقدير ومحبة وعرفان له ولأنفسهم وللعراقيين عامة بل وللمجتمع الإنساني. وسيعتزون كثيرا بمساندة كل أكاديمي عراقي وكل مسؤول منصف يسهم معهم في دعم بناء هذا الصرح الأكاديمي وقيامه.

نشرت في وجهة نظر
الصفحة 2 من 2

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014