• Default
  • Title
  • Date

لعل مقاربة هنا بين الحالتين الإيطالية والعراقية ستبدو للبعض إشكالية الى حد ما، نظرا لبعض الفروق النوعية بين الدولة الفاشية الإيطالية وطبيعة وتاريخ ثقافتها التي تعتبر متقدمة مقابل ما استورده البعثيون وأضافوا أليه من قيمهم المتخلفة وقمعهم الشرقي الممسوخ. بمعنى ان الثقافة العراقية في الفترة الفاشية لم تشهد المراحل والاتجاهات والمدارس التي مهدت لظهور الثقافة الفاشية الإيطالية ، الا ان المقاربة تبدو أكثر وجاهة لمن يطلع على تاريخ العديد من أوجه التماثل في التجربتين ، فعقد مقارنة، او مقاربة على وجه التحديد ، بينهما، سيحيلنا الى الاتفاق بممارسة كلا النظامين وسائل القمع الجسدي المنظم، والتدخل السافر في حياة الأفراد من اجل تأطير أفكارهم وممارساتهم ومصائرهم ضمن إيديولوجية الحزب الواحد الحاكم، التي تقضي بتذويب إرادتهم في إرادة قائد البلاد. كما ان كلا التجربتين قامتا على تحويل كلا الشعبين الى أشبه بالقطيع الأعمى المتعصب والمحروم من أي حس نقدي لإرغامها على الخضوع لسلطة الأعلى في الهرم الذي يتربع عليه قائد "الضرورة التاريخية" .ان قراءة لبعض جوانب هذا التماثل يفضي بنا الى معرفة سجل الصدام العنيف الذي يرتكز على مبدأ إنتاج الخوف واستهلاكه الذي اصطفاه كلا النظامين ليتحول الى دين بعدة مذاهب.

 

بعد زحف بنيتو موسوليني بتظاهرته الكبرى التي شارك فيها نحو أربعين ألفا من أصحاب " القمصان السوداء" الذين جاءوا من مختلف المدن الإيطالية ليحقق مسيرته الكبرى الى روما المهترئة عام 1922 . هؤلاء الذين لم يكن لهم أي وجود غداة الحرب العالمية الأولى، فإذا بهم خلال سنوات قليلة يصل تعدادهم الى عشرات الألوف من المضللين، الذين يحملون هوية الحزب وينعمون بالامتيازات، وسط أوضاع متردية سياسيا واقتصاديا، هيأت لموسوليني الذي تحول من الاشتراكية الى الفاشية من جعل حزبه بديلا لدولة لم تعد ذات وجود ومكنه من القيام بحملة ديماغوجية حرك من خلالها الغرائز المتطرفة لعدد كبير من العاطلين عن العمل من الجنود المسرحين، ومن ذوي السوابق الإجرامية وفلول عصابات الإجرام المنظم" المافيا والكومورا والفايدا"، فجعل لهم إيديولوجية متعصبة حد التطرف ليملأ الفراغ السياسي والأيديولوجي والروحي المأزوم بسبب الهزيمة المريرة في الحرب العالمية الأولى. أصبحت الفاشية في إيطاليا بمثابة وعاء تنظيمي وإرهابي تهيمن عليه "عصابات من حثالة المجتمع" كما وصفها الكاتب اليساري المخضرم اينسو سيشليانو، سعت الى تحطيم مقومات الدولة وتقاليدها التاريخية العريقة، فجرى تدجين قطاعات واسعة من المثقفين وقدمت لهم وجبات هزيلة من الثقافة المفبركة لخدمة أهداف الحزب الفاشي. فبعد ان تربع الدوتشي على أوج القوة والمجد في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي فقد دانت له ايطاليا، بعد ان اخمد أصوات المعارضة التي ارتفعت ضده في أول أعوام حكمه واستطاع ان يحكم البلاد بيد من حديد بحزبه الفاشي، محولا البلاد الى سجن كبير( لاحظ الجرائم التي ارتكبها النظام الفاشي العراقي المتمثلة في شواهد المقابر الجماعية وآثار حرق التجمعات السكانية بالغازات السامة) وحصل في نفس الوقت على تأييد الأغلبية الساحق من الشعب الإيطالي بإنجازاته البارزة في الميدان الداخلي ووسائل دعايته.

 

لم يكن موسوليني يخفي نواياه التوسعية الإمبريالية، كان يحلم علنا بان يسيطر على كل حوض البحر الأبيض المتوسط، ويحوله الى بحيرة إيطالية وان ينشىء إمبراطورية تمتد من الحبشة الى ساحل غينيا الغربي، وكان يدعو الى زيادة النسل ليزيد عدد الإيطاليين فيمكنهم بالتالي استعمار واستيطان هذه الإمبراطورية الشاسعة، وكانت الحبشة أولى ضحاياه، فقد غزاها في أكتوبر 1935، دون إعلان حرب على اعتبار انها اقل من ان تستحق هذا الشرف، وكان لتوه قد انتهى من سحق ثورة عمر المختار في ليبيا بوحشية بالغة. اخذ موسوليني يلوح بقوته الهائلة وقدرته على تعبئة اثني عشر مليونا مسلحين بأحدث الأسلحة، في حين ان الرقم الحقيقي لم يكن يعدو المليونين. اما الطائرات والبوارج والدبابات الثقيلة التي طالما تحدث عنها، فلم يكن لها وجود، فلم تكن قواته تملك سلاحا أثقل من العربات المصفحة التي تزن ثلاثة أطنان. وظل موسوليني يصر على" ان الفاشية لا تؤمن بإمكانية ولا بفائدة السلم الدائم، الفاشية تفهم الحياة كواجب ونضال وقهر". وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 وجد موسوليني نفسه في مأزق حرج فقد كان يأمل ان يكسب بالتهويش ما لا يمكن ان يكسبه بالقتال، ولذلك كان قراره في العاشر من يونيو 1940 بإعلان ايطاليا الحرب قرارا مميتا، وكانت النتيجة ان فقدت ايطاليا عشرات الألوف من الشباب ودمر اقتصادها وسرى الفساد في جسم البنيان الاقتصادي والاجتماعي.

 

يشير الكاتب الراحل البيرتو مورافيا الى ان" الإيطاليين عهدوا بكامل السلطة الى الدوتشي فكانوا يقتصرون على التصفيق له حين يلقي خطبا. كانوا يثقون بموسوليني ونظامه ثقة صبي وارث لا يفقه من الأمور شيئا فيترك لمدير أعماله ان يتكفل بكل شيء، فإذا بالوارث يكتشف ذات صباح، وقد انتابته دهشة سيئة، ان مديره قد دمره تماما.. هذا ما حدث في ايطاليا. وجد الإيطاليون أنفسهم ذات يوم وقد دخلوا الحرب من غير ان يعرفوا ما حدث.."

بدأت حرب الفاشية في الميدان الثقافي وذلك بتأسيس وتكريس الثقافة الفاشية التي اعتمدت على أفضل أساليب التضليل الجماهيري، من قبل كاريزما بنيتو موسوليني الذي حمل على أكتافه إيديولوجية اقل ما يقال عنها انها تبسيطية تحمل مضامين مدمرة ليصل بايطاليا من خلالها الى الحضيض، ومن بعد ان استوطنت في مشروعية القمع في كل المحافل، بدأت الحرب على الثقافة المضادة التي ترفض طروحات" علم الجمال الفاشي " الذي طالب به شاعر الفاشية غابرييلة د نوتسيو وصاحب ذلك حملة مكثفة في ظل الخطاب القومي الزائف الذي أوقع العديد من المثقفين في حبائله لشراء الذمم والمتاجرة بالحقائق ، وإشاعة الزيف وترويجه، كما عمت صورة الخراب الشامل التي تتحدث عن دخان المعارك والقتل والابادة الجماعية ووأد الثقافة التقدمية بشقيها اليساري والكاثوليكي، فانزوت غالبية المثقفين تنشد لقمة العيش والسلامة. لم تتوقف الحملة على الكتاب والفنانين الذي ناهضوا الفاشية منذ أول يوم للصعود، فأعلنوا شعارهم الذي يفيض بالفجاجة وقلة المهارة" جئنا لنبقى"، كما سادت ثقافة العنف المجاني الضاربة إطنابها في أرجاء البلاد بقوة وإلحاح. في عام 1923 أدرك الحزب الفاشي ما يمثله قطاع التربية والتعليم من رافد حيوي تستمد منه الأمة الإيطالية كل قيمها ومبادئها ومثلها العليا، فجاء بيان كتبه وزير التربية جوفاني جنتيله الذي تحول من الاشتراكية الى الفاشية، يطالب فيه تغيير المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، لتعم عمليات تشويه مقصودة لكل الجوانب المعنوية والفكرية الإيطالية،( لاحظ الانهيار والخراب للبنى التحتية في قطاع التربية والتعليم في العراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة) وامتلأت الساحات والشوارع بتماثيل موسوليني وبجداريات كبيرة تخلد أفعاله، كما بدأت حركة تنظيم شاملة للأطفال والفتيان وطلبة المدارس والجامعات على استخدام السلاح وحفظ الأناشيد القومية الفاشية، وبدأت حملة تجريد العشرات من الصحفيين من هوياتهم في النقابات الصحفية، كما أغلقت جميع الصحف والمجلات الأدبية مثل( الحرية الليبرالية( و( المقهى) و( العالم) و( لا تتحرك) و( السلطة الرابع) و( الصخرة) وعشرات غيرها. وسنت قوانين جديدة لمن يريد إصدار صحيفة تشترط الحصول على تزكية من منظمات الحزب الفاشي في المدن الإيطالية. يقول الكاتب" البيرتو مورافيا" كان الفاشيون ينظمون غارات في الأرياف وهم في شاحناتهم، يدخلون المزارع المعروفة بانها اشتراكية، فيقتلون الناس او يعذبونهم" . فبعد ان شتتوا الحزب الشيوعي واغتالوا العديد من قادته، وأزاحوا مؤسساته النقابية وجمعياته التعاونية، بدأوا حربهم الثقافية، في طبخ كل النزعات والاتجاهات والأساليب في الأدب والفن في وعاء الاتجاهات القومية ، الذي تختلط فيه الفنون والآداب والدعاية، باتجاه منغلق ومعاد لأية قومية أخرى، او اتجاه آخر وبهدف معلن هو تحرير الثقافة الإيطالية وتوحيد إشكالها ومقاييسها لتتطابق وتتجانس مع فكر الدوتشي.

 

تميزت النزعة الفاشية الإيطالية كما هي الحال في أجزائها الممسوخة للفاشية العراقية بنزعة الاستعراض، وإظهار رموز القوة والتفوق وتمجيد التقاليد السلفية، وإثارة الحماس والانفعال الموجه الذي يمجد التقاليد المتخلفة وإرادة القائد، فأصبحت التحية الفاشية، ولبس القميص الأسود وإطلاق اسم بنيتو على المواليد، ظاهرة ملموسة في الحياة اليومية للناس، كما هو الحال في فترة حكم البعث العراقي في إطالة الشوارب الذكورية على الطريقة الصدامية، وإطلاق أسماء صدام، عدي، وقصي على الأبناء، وتقليد حركات الجسد والأذرع أثناء السير رمزا مشاد به بالتعامل اليومي، مثلما أصبح ترديد بعض المفردات العامية من مدينة تكريت التي يتفوه بها رئيس النظام الفاشي العراقي السابق تقليدا شائعا، فخلقت عبادة جديدة تتسم بالعادية والضعة لهذه الرموز المنحطة في الحياة اليومية . واستخدم الإعلام الفاشي العراقي مبدأ " العنف الثوري" الذي بنى جوهره على منطق الإرهاب ليجر الى مطحنته مئات الألوف من البشر لإرغام المستمر للجمهور على مشاهدة إخبار الرئيس وتنقلاته ولقاءاته التي تمتد ساعات طويلة خلال النهار من على شاشات التلفزة المحلية. مثلما فعل من قبله موسوليني بتعمده مبدأ التكرار ليحمل الناس على تقبل شعاراته وأفكاره من خلال تسخير البث الإذاعي للمحطات المتعددة التي كانت ملك الدولة . فعم منطق إرهاب الثقافة وثقافة الإرهاب، حيث يتبادل الفنان والرجل الفاشي الأدوار فيصبح المبدع فاشيا والفاشي فنانا ليتبادلوا الأدوار في أساليب القمع والاحتيال والتسلط وابتزاز الآخرين. ومثلما تبعثر عدد كبير من المثقفين الإيطاليين في المنافي وخاصة فرنسا بسبب خوفهم من حملة التصفيات الفاشية ، فان العراقيين الذين اجتمعوا على محبة الوطن وأرادتهم الفاشية العراقية ان يكونوا صوتا بعيدا لتستطيع تثبيت جهلها القائم على فراغ لم يستطع ملؤه الا ضجيجها الإعلامي الذي حاصر الإنسان في حياته اليومية التي اصطبغت بفصول دموية امتدت نحو ثلاثة عقود، فهم غادروا نحو المنافي البعيدة ليصل تعدادهم بالآلاف. ومثلما فعل موسوليني بإجبار الناس على وضع صوره في غرف النوم وان توقد العوائل الشموع بعيد ميلاده وانتزع رجاله الحلي الذهبية من النساء ودبل ( حلقات) الزواج من أصابع المتزوجين في احتفالية لصوصية ، فقد قام صدام حسين بمسخ هذه الفعلة الفاشية الشائنة بابتزاز الناس بطريقة مماثلة تحت ذريعة التبرع لحروبه التي كان يحرس من خلالها بوابات العروبة . ومثلما فعل الفاشيست بتأكيدهم على مقولة العرق الروماني وتفوقه من خلال إقامة التحريض الذي يقوم على كراهية الآخر واحتقاره وتكرارها بابتذال شديد خلال فترة الحرب وبعدها، فان النظام البعثي هو الآخر صنف البشر الى أنواع عرقية متعددة آخذا الجوانب العدوانية المنغلقة في تفوق العرق العربي على العرق المجوسي الفارسي، وهي نفس الجوانب التي ادعى بها موسوليني ومن بعده هتلر والتي تقوم على نقاوة العرق الروماني والآري المتفوق على الأعراق الأخرى التي لا تمتلك من وجهة نظرهم الا الحقد والكراهية والحسد . والحروب التي أشعلها الطاغية موسوليني لم تولد الا الخراب للوطن والإنسان حاول من خلال رجال ثقافته ان يوحي بان الحرب فرضت على ايطاليا بعد ان كان يدعي في البداية يريد إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية ، مثلما ادعى صدام حسين بان حرب الخليج فرضت عليه للدفاع عن الجناح الشرقي للأمة العربية! وظل يستوحي الطقوس الفاشية في التعبئة الناس في أماكن عملها وفي المدارس والجامعات والمعامل، فالحرب لكلا الدكتاتورين كانت مطلوبة لذاتها، يتحتم تمجيدها باعتبارها مدرسة أخلاقية لتجديد قيم الإنسان وبعث الأمة من جديد من خلال التضحية والاستشهاد التي على المثقف ان يبررها ويبشر بها ويوظفها في كل ما يبدعه . مثلما تشكلت لجان في طول البلاد الإيطالية وعرضها من كتاب الدولة وأساتذتها لإصدار قوائم سوداء بالمثقفين المحظورين، وبأسماء الكتب المعادية التي يجب حرقها وإتلافها ومنعها من التداول، ومثلما قامت التجمعات الفاشية من أصحاب القمصان السوداء تقوم بالدخول الى المكتبات العامة لتخرج من رفوفها الكتب المعادية للدوتشي لتقيم كرنفالات الحرق في الساحات العامة، فقد قام مثقفو صدام حسين بحملاتهم التأديبية في تصفية أعداء فكر القائد الذين لم يندرجوا في تنظيمات حزب البعث، .( قتل أكثر من 200 كاتبا وفنانا عراقيا معرضا، بالثاليوم والاسيد والمسدس كاتم الصوت، إضافة الى ستة وزراء ثقافة وإعلام من السلطة نفسها، والرئيس السابق لاتحاد الأدباء العرب،كما تعرض أكثر من 600 شاعر وموسيقي ومسرحي وفنان تشكيلي للتعذيب بالصدمات الكهربائية والخازوق والفلقة. وفيه اغتصب الشاعر بحرفية التعبير لا مجازه. وغاب عن هذا البلد أكثر من 200 من العلماء والأدباء، هربا من قمع يندر ان شهد العالم نظيرا له).

 

وفي يوم 18 نيسان ( ابريل) 1945 ، بينما الحلفاء على وشك دخول بولندا والروس يزحفون نحو برلين، غادر موسوليني مقر اقامته رغم اعتراضات حراسه الألمان، فظهر في 25 ابريل في ميلانو ليطلب من أسقف المدينة ان يكون وسيطا بينه وبين الأنصار للاتفاق على شروط التسليم التي تضمن إنقاذ رقبته، الا ان قيادة الأنصار أصدرت أمرا بإعدامه، وتابع هو رحلته بالسيارة متخفيا ومعه عشيقته كلارا ليخوض ما اسماه بمعركة الشرف الكبرى والأخيرة، وعندما وصل الى مدينة كومو القريبة من الحدود السويسرية تبين بأنه كان واهما وان أنصاره المخلصين لا يزيدون على عدة عشرات من الأشخاص، اخذوا ينفضون من حوله بسرعة عندما شاهدوه( الزعيم) يهذي وبه مس من الجنون، وعندما رفض السويسريون دخوله الى بلادهم، فكر في ان يختبأ في أي مكان، وفي المساء من نفس اليوم وصلت مجموعة عابرة من الجنود الألمان كانت تريد اختراق خطوط الأنصار في طريقها الى النمسا، فتصور موسوليني انه قد جاءه الفرج وتخفى في زي جندي ألماني والتحق بها، وترك الحفنة الأخيرة من رجاله ليحاول كل منهم النجاة بنفسه، ولكن بالقرب من مدينة دونجو الحدودية على رأس البحيرة استوقفت كتيبة من قوات الأنصار الطابور الألماني لتفتيشه قبل السماح له بالمرور واكتشفت أمر موسوليني الذي كان يرجف من الخوف، وألقت القبض عليه، وفي يوم 28 ابريل 1945 تم إعدام موسوليني الذي كان يبلغ 61 عاما من قبل وحدة من رجال المقاومة اليسارية قبل وصول الأمريكيين بساعات قلائل ،لاحظ( هرب صدام حسين وكيف دحس نفسه في حجر الاختباء الذليل خشية مواجهة العدالة). في التجربتين الفاشستيين الإيطالية والعراقية الممسوخة عنها، لم تتوقف حملة القمع الدامي الذي أصبح قدر العراقيين أينما كانوا على الناشطين المعادين ، بل شملت حتى عدد كبير من المثقفين الذين احتموا بصمتهم، لان الفاشية أينما كانت لا تتيح للمثقف أمان الحياد، بل وعلى النيات المحفوظة في الرؤوس، فهي باعتقادهم تحمل أخطار فكرية بعيدة عن مبدأ الإخلاص للقائد لا ترتضي بالصمت الذي تعتبره تورطا غير محايد، فهي كل ما تريده دمج المثقف في الجماعة وتهيج مشاعره القومية لتصطف مع الزعيم او الرئيس.

نشرت في وجهة نظر

من المفارقات المعروفة عن الصابئة المندائيين انهم قوم يجهلون أفكارهم ومعتقداتهم، ويجهلون طبيعة هذه المعتقدات، وكيف ومتى وأين تلقى أجدادهم الموغلون في القدم هذه المعتقدات وطوروها. وما ورد عنهم في كتب التراث الإسلامي والمسيحي لا يجلو هذا الأمر بل يزيد فيه تعقيدا وتعميه بما يورده عنهم من بينات اما ان تكون منقولة عن خصوم لهم في العقيدة، او هي منحولة عنهم ولم يجر تدقيقها او تمحيصها، ودون دراية بأدبهم الديني او معايشة مباشرة لهم. والذين نسجوا على منوال هذا التراث من الكتاب العرب المعاصرين لم يقدموا ما يعين في تحديد هوية هذه المجموعة وأفكارها والأصول التي انبثقت عنها.

البحث في هذه المسألة المعقدة شيء، والكتابة والنشر عنها شيء آخر

غير ان البحث في المندائية والمندائيين دخل على أيدي جمهرة من المستشرقين من بلدان شتى طورا خاصا تطور من جيل الى آخر حتى غدا، بفعل عوامل لسنا بصددها هنا، ميدانا خاصا كرست له جامعات ومراكز بحوث لاهوتية اهتماما وطاقات علمية ذات شأن، وتكللت الجهود العلمية الحثيثة التي بذلت في هذا الأمر بنتائج غنية. فعدا عن ترجمة الأدب المندائي الى بعض اللغات الأوربية، لاسيما الألمانية والإنكليزية، فان مؤلفات كثيرة كرست للبحث في الجوانب المختلفة من معتقداتهم وطقوسهم وعلاقاتها بالمعتقدات والطقوس التي كانت تمارسها شعوب الشرق الأوسط، لاسيما المسيحية واليهودية والغنوصية. ولان الموضوع ينطوي على كثير من الثغرات والبحث فيه يفتقر الى كثير من البيانات المادية التاريخية، كان طبيعيا ان يختلف المستشرقون في تحديد بعض المعالم الأساسية في نشأة وتطور هذه المجموعة وأفكارها، وان لا يصلوا بشأن جوانب من المسألة الى أحكام قاطعة، حتى ان احد الباحثين دعاها بالمسألة الشائكة.

لقد عاش المندائيون قرونا عديدة دون ان يواجهوا مشكلة البحث عن الهوية. ونظرا للجهل الذي كان يلفهم فقد واصلوا ممارسة طقوسهم الدينية دون ان يضعوها موضع التساؤل. بيد ان حالا كهذه لم تعد قادرة على الصمود في الزمن المعاصر حيث يضع الإنسان موضع التساؤل والتمحيص كل شيء في الكون، في الماضي والحاضر والمستقبل. وكان من الطبيعي ان يبحث الصابئة اليوم، شيوخا او شبابا، على السواء، عما يهديهم الى تلمس هويتهم وتأريخهم، وهذا الأمر عدا كونه مشروعا، ولم يبدعوا به بدعة غير مألوفة شأن ما تفعله كل الأقوام والجماعات الأخرى، فانه ضروري ونافع في الغربة، بعد ان اقتلعوا من جذورهم وتناثروا في كل الأوطان وأمسوا في حاجة الى ما يشدهم لبعضهم البعض، ويذكرهم بالوطن الذي نبتوا فيه، وأسهموا في إنتاج ثماره، بيد ان البحث في هذه المسألة المعقدة شيء، والكتابة والنشر عنها شيء آخر. ان الخروج عن الناس بشيء مدون هو بحد ذاته مهمة لا يصح التعامل معها بخفة. انها مسؤولية قبل كل شيء، لاسيما حين تكون هناك جمهرة من القراء تجهل ماضيها ومتعطشة الى تلقف كل ما يقال عن هذا الماضي.

الحماسة للنشر لا تعفي صاحبها من مسؤولية تدقيق ما ينشر، كما لا تعفي المنبر الذي ينشر من مسؤولية التشديد على جدية الكتابات ووضع المقاييس الضرورية التي يتعامل بها مع المواد التي تصله


من المؤسف ان هذا المبدأ لم يوضع موضع التدقيق دائما. ولكن، اذا كانت المسألة المندائية لم تنل من الدارسين العرب الاهتمام الكافي، فان أصحاب الشأن ذاتهم، اعني المندائيين، لم يبادروا الى تقديم أنفسهم للعالم والتعريف بأفكارهم ومعتقداتهم لاسيما بعد ان نالوا حظا من الثقافة والتعليم. ويرجع هذا في الأساس الى جهلهم بلغتهم وأبجديتها وبمعتقداتهم المدونة، وأكثر من هذا، الى ابتعادهم عن هذه المعتقدات وضعف او فقدان إيمانهم بها، او افتقارهم الى البيانات المادية التاريخية.

بيد ان أمرا جديدا قد طرأ هنا في الآونة الأخيرة بفعل إحساس الغربة. اذ يلمس المرء حماسة بين المندائيين للكتابة عن المندائية وتاريخها، وهو ما يبعث على الترحيب بالطبع. وفي هذا الكم المتزايد من الكتابات سيجد القارىء عديدا مما يمكن ان ينتفع به.

لكن الحماسة للنشر لا تعفي صاحبها من مسؤولية تدقيق ما ينشر، كما لا تعفي المنبر الذي ينشر من مسؤولية التشديد على جدية الكتابات ووضع المقاييس الضرورية التي يتعامل بها مع المواد التي تصله، ولا شك ان موقفا كهذا سيعود بالنفع على الكاتب والمجلة او الموقع كليهما.

 هذه المقالة للكاتب والباحث عزيز سباهي نشرت في إحدى المجلات المندائية ( المندائي الجديد) التي كانت تصدر في السويد عام 1995 ونظرا لأهميتها الحساسة في الوقت الحاضر فقد ارتأينا إعادة نشرها في موقعنا 

نشرت في وجهة نظر
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 09:53

ايام من الذاكرة الجميلة

بمناسبة الذكرى الخامسة والستين

لمؤتمر ساحة السباع - 14/4/1948

تأسيس اتحاد الطلبة العراقي العام

اطلعت على موضوع الاخ الاستاذ فاضل فرج خالد والموسوم بعنوان ( الرابع عشر من نيسان 1957 - يوم في ذاكرتي ) والمنشور في صحيفة طريق الشعب الغراء هذا اليوم الثلاثاء 16 نيسان 2013 ، وقد اثار شجوني وذكرياتي عن تلك الايام الخالدات حيث بلغت الحركة الوطنية الطلابية ذروتها آنذاك .. كما اعادت ذاكرتي بوصفه الرائع لاجواء تلك الايام وكأني اعيش تفاصيلها هذا اليوم .. فقد انطلقت المظاهرات الطلابية المتلاحمة مع جماهير الشعب العراقي بجميع شرائحه بعد العدوان الثلاثي الغاشم على مصر اوكتوبر 1956 وباشتراك غارات جوية عراقية غير معلنة من الحبانية قي ذلك العدوان

انطلقت الشرارة الاولى للمظاهرات من مجموعة الكليات في الكسرة وهي دار المعلمين العالية وكلية الهندسة وكلية التجارة وكلية الحقوق وثانوية الصناعة وبتضامن كليات الحكمة في باب المعظم ( كليات الطب والصيدلة وطب الاسنان والموظفين الصحيين ) وبسبب تمترس قوات الشرطة السعيدية ورجال الامن المدججين بالسلاح في ساحة باب المعظم كان من الصعوبة بمكان التحام المتظاهرتين ، ولكن بعزم واقدام المتظاهرين القادمين من الكسرة والاعظمية وجماهير الشعب الاخرى حصل الاشتباك بينهم وبين رجال الشرطة وهم يطلقون النار عشوائيا على المتظاهرين في ساحة باب المعظم ، فسقط الشهيد الاول البطل ناجي نعمة السماوي احد طلاب دار المعلمين العالية ، والتحمت جموع المتظاهرين مع الشرطة من عدة اتجاهات ، وشاهدت الشهيد بعد قليل في منظر مؤلم لن انساه ابدا وهو بين ذراعي خطيبته وزميلته الطالبة في نفس الكلية وسط حزن وغضب عارم من قبل المتظاهرين

واستمر الغليان لعدة ايام وحتى ايقاف العدوان على مصر بتدخل دولي حينذاك وقد لعب الاتحاد السوفيتي دورا حاسما في ايقافه ، بعدها طالت الاعتقالات والمطاردات للعديد من الطلبة فهدأت الاوضاع نسبيا

 

كانت تربطني بالشهيد المناضل ناجي نعمة السماوي صداقة حميمة وكان زميلي لسنتين في الاعدادية المركزية وهو من ضمن مجموعة طلبة من السماوة واقربهم اليه هما المرحوم عبد جايد السماوي ( مدير تربية السماوة فيما بعد ) وعبد العظيم عبد الصاحب السماوي ( مهندس استشاري فيما بعد ) ، كانوا خلال المواسم الدراسية ايام الاعدادية يسكنون في الفنادق ، وبعدها في الاقسام الداخلية ، وكانوا في زيارات مستمرة لي للتذاكر سوية احيانا في دارنا في محلة الكريمات / الدوب ، ومن الاشياء الجميلة التي ميزتهم كاصدقاء يتصفون بدماثة الخلق والطيبة ، كانوا يطلبون من والدتي ( رحمها الله ) ان تطبخ لهم اكلات مندائية مميزة ، فكانت تلبي طلباتهم بين فترة واخرى لانهم في بغداد عزاب وغرباء وتطلب مني ان ادعوهم .. وعند قدومهم نرى فيهم روح الفرح والدعابة والامتنان والتلذذ بالاطباق المندائية ... فقد رحل احدهم الشهيد البطل ناجي نعمة السماوي قبل اوانه تاركا اهله وخطيبته واصدقائه بالآلام والحسرة .. ولكنه بقي خالدا في قلوب اهله واصدقائه ومحبيه

اما المرحوم المربي الفاضل عبد جايد السماوي والمهندس الاستشاري عبد العظيم عبد الصاحب السماوي فقد استمرت علاقتنا وصداقتنا لعشرات السنين وحتى سنين قليلة قبل سقوط الصنم والتغيير في العراق

اما عن الاحتفال بالذكرى التاسعة لميلاد اتحاد الطلبة العراقي بتاريخ 14/4/1957 والذي تطرق له الاستاذ فاضل فرج خالد ولم تسنح الفرصة لبقية الكليات بالاشتراك به معنا في السفرة لهذا الغرض ، فقد قام اتحاد الطلبة في كليات الحكمة (الطبية والصيدلة وطب الاسنان والموظفين الصحيين) بتنظيم سفرة طلابية الى بساتين سدة الهندية / الحلة في اول جمعة بعد 14/4 للاحتفال واحياء الذكرى الخالدة .. وكان تجمعا طلابيا كبيرا واحتفالا رائعا لازال عالقا في الذاكرة

 

ولكن للاسف لم تسير الا مور بعدها على مايرام .. اذ القي القبض على احد الطلبة المفصولين من الكلية الطبية لاسباب سياسية ( جبار حسين البصري _ تخرج طبيبا بعد الثورة ) وعثر في جيبه على قائمة اسماء كثير من الطلبة وفيها عناوينهم ... وشنت السلطة حملة اعتقالات طالت العشرات من الطلاب الناشطين وانا منهم وكذلك ابن عمتي المرحوم شاكر يوسف الحيدر الطالب الناشط في كلية الآداب ، وبقينا في معتقل التحقيقات الجنائية في شارع النهر ( المستنصر ) وقد تعرضنا للتعذيب الجسدي والنفسي ( لا زلت اتذكر ذلك الطنين المؤلم في اذني نتيجة صفعات قوية على وجهي من قبل ذلك الضابط اللعين ) ، ولعدم تمكن التحقيقات من انتزاع اعتراف من المعتقلين وانكار المتهم جبار حسين لقائمة الاسماء اطلق سراح معظم المعتقلين الا هو ، وحكم عليه بالحبس لمدة ستة اشهر

عاشت ذكرى مؤتمر ساحة السباع في 14/4/1948 يوم ميلاد اتحاد الطلبة العراقي العام

المجد والخلود لشهداء الحركة الوطنية

 

نشرت في وجهة نظر
الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 04:25

المندائي الباسق

بين عزيز سباهي وبيني سرّ ما يحدث للمندائيين هذه الايام، ومسرة ما قاله الشريف المرتضى بحق هلال الصابي، شاعر المندائيين البغداديين.

فقد كان هذا المندائي الباسق، يوم ضمتنا وآخرين، لاول مرة، قبل نيف واربعين سنة، حجرة طينية، في سجن نقرة السلمان شيدت من قبل النزلاء واتخذت كدار سرية “للطباعة والنشر” قد علمني صناعة الصبر وصياغة العبارة، وكان يقول لي وانا استنسخ النشرة اليومية من بين يديه في منتصف الليل ان الصبر وحسن الصياغة يغيضان الخصم، لاسترشد بهذه الوصية الى السبب الذي يجعل من المندائيين عرضة لحملة بربرية ارهابية طائفية، ملاحقة وقتلا وتهجيرا.. حيث غرز المندائيون اصولهم واسمهم في تربة العراق في صبر اسطوري لا مثيل له، وانشغلوا بمهنة وفن المصوغات فجرَدوا منها موضوعا يتصل بحب الحياة وانسيابها وجماليات السلم الاهلي القائم على تعددية العبادة والاعتقاد والبشَرة والرأي.

عزيز سباهي طويل القامة، وكان ينحني كثيرا حتى يدس نفسه من ستارة باب الحجرة الناصي الى باحة ضيقة مكتضة بالحاجيات، يجلس، ثم يلصق اذنه في جهاز الترانسيستر لتتوزع يداه بين الجهاز، يضبط مؤشراته على الاذاعات المطلوبة، وبين القلم، يسجل فيه على ورق ابيض مخطط الاخبار والتعليقات، نتلقفها منه لنعيد كتابتها وفق توجيهاته، ثم لا يلبث ان يلاحق، شؤونا تفصيلية لأكثر من الف نزيل تصلح ان تكون مادة للنشر والتعبئة والتوعية والصبر. كان صبره يتبدى في عنايته الحاذقة بالكتابة، إذ عُرف بانه صاحب افضل يراع تخط الحروف والسطور، وقد حاولت مرارا ان اتتبع طريقته في صناعة هذه الاناقة الساحرة غير ان الصبر سرعان ما يخذلني، وكنت اعلل النفس لتأويل هذه المفارقة بالقول: 

الصابئة تعلموا من مهنة الصياغة الصبر على البلوى.

وليس ثمة مبالغة في القول بان”البلوى” التي يتعرض لها، الآن، مندائيو العراق تختزل في ذاتها مشروع تدمير العراق..المشروع الذي يتخفى تحت ضجيج شعارات المقاومة والتحرير وحماية المقدسات والاسلام وحقوق المذاهب، فقد عبرت اعمال التنكيل والتضييق ضد المندائيين وعائلاتهم ومصالحهم وحقوقهم الدينية كل حدود السياسة والاخلاق والقيم، وخلقت ترسيما خطيرا لمستقبل هذه الطائفة التي احتلت مكانا بارزا في اللوحة التاريخية لسكان وادي الرافدين، الامر الذي عبر عنه الشريف المرتضى وهو يخاطب المندائي البغدادي الشاعر هلال الصابي بالقول:

وانك من اناس ما راينا لهم إلا الرئاسة والجلالة.

وعزيز سباهي، ايضا، من اولئك الأناس الذين تغير عليهم الضواري في حاضر العراق العاصف، فلهم مجد الصبر والابداع..ولأبي سعد العمر المديد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

...وكلام مفيد

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

“لأننا نتقن الصمت..

حمّلونا وزر النوايا”.

غادة السمان

الأربعاء, 17 نيسان/أبريل 2013 08:06

محطات مندائية

لم أتعرف حتى عام 1955 في مدينتي الحلة أو في عموم العراق على الكثير من الأخوة المندائيين بسبب كونهم كانوا قلة قليلة جداً في مدينة الحلة . في وبعد عام 1955 تعرفت على البعض منهم أصدقاءً وزملاءً أثناء سنوات الدراسة في دار المعلمين العالية ( 1955 ــ 1959 ) في جامعة بغداد كما سنرى . ثم َّ تعرفت على العديد منهم خلال السنوات التي تلت هذه الأعوام تحت ظروف شتى متباينة

 

1 ــ 

الأستاذ فاضل فرج خالد 

تعرفت على الصديق فاضل فرج خالد يوم أنا كنا طلاباً في ثانوية الحلة للبنين ... وبالضبط خلال العام الدراسي 1953 ــ 1954 . كنت أنا في السنة الخامسة الإعدادية وكان فاضل بعدي بعام واحد فقط . لا أتذكر أين أمضى سنوات الدراسة المتوسطة الثلاث ، في الحلة أم في ناحية المدحتية

( الحمزة يومذاك ) حيث والده وباقي أفراد عائلته . كنت ألاحظ الزميل فاضل شاباً كثير الهدوء عظيم الخُلق مسالماً لا يحب المجادلات ولا يقحم نفسه ( شأن بقية الطلبة يومذاك ) في منازعات وخصومات أيا كان طبعها ودوافعها . كان شعاره [[ إدفعْ بالتي هي أحسنُ فالذي بينك وبينه عداوة ٌ كأنه ولي ٌّ حميم ]] . هكذا عرفت فاضل فرج طالب الثانوية . رغم كونه جاء الحلة من ناحية الحمزة ، ثم كونه ينتمي للطائفة المندائية (( الصبّة )) الصغيرة ... كان نشطاً إجتماعياً بين الطلبة . تحفظاته وتحوطاته أقل من تلك المعروفة في وعن أبناء بقية الطوائف غير الإسلامية . أخبرني فاضل فيما بعد إنه كان يزور خلال فترة قصيرة من تلكم المرحلة بيت الشاعر المندائي عبد الرزاق عبد الواحد . كان عبد الرزاق حينذاك مدرساً للغة العربية في متوسطة الحلة للبنين . جاء الحلة مباشرة ً بعد تخرجه في دار المعلمين العالية سنة 1954ــ 1953 . فصل من وظيفته عام 1954 وكنتُ أراه يعمل صائغاً في دكان صغير في شارع النهر في بغداد .

عدنا وفاضل لنلتقي ثانيةً طلاباً في دار المعلمين العالية في خريف 1955 ... هو يدرس علوم البايولوجي ( علم الأحياء ) وأنا أدرس الكيمياء . عشنا في الأقسام الداخلية للكلية معاً وكنا لا نفترق تقريباً . كنا طلاب قسم الكيمياء وطلبة قسم البايولوجي نحضر محاضرات مادة الفيزياء معاً ... وكان أستاذ هذه المادة الأنسان الرائع المرحوم سعدي الدبوني ، الصديق المقرَّب والحميم للبروفسور المرحوم المندائي عبد الجبار عبد الله. أتذكر جيداً كيف كان يأتينا أستاذنا الدبوني أحياناً متأخراً بضعة دقائق ... فهمنا في حينه إنه كان يشغل وظيفة مرموقة في الحكومة العراقية يومذاك ... مدير دائرة أو مديرعام أو شئ من هذا القبيل . كان يأتي الكلية بسيارة صغيرة لعلها بريطانية الصنع. هذا الأمر زاد في علاقاتنا حميمية ً وصرنا نقضي معاً أوقاتاً كثيرة في نادي الكلية أو في حدائقها خاصةً في الأوقات التي كنا ننتظر فيها مجئ أوان ساعات وجبات الطعام الثلاث التي كان طلبة الكلية يتمتعون بها مجاناً . ما كان فاضل آنذاك يختص بصديق أو زميل بعينه ، كان صديق وزميل الكل وما عرفنا عنه إنه يؤثر بني طائفته على بقية الطلبة . كان أممياً في طبعه ومنذ نشأته الأولى وفترة شبابه . بعد ثورة تموز قفز إسم فاضل فرج مرشحاً قوياً ليحل محل مهدي الحافظ ، رئيس إتحاد الطلبة في الكلية ، فقد قفز الحافظ ليتبوأ منصب رئيس إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية . لا أدري بالضبط ماذا دار خلف الكواليس لكن ، إختفى إسم فاضل فرج وبرز بدلاً منه إسم الصديق عبد الجبار عبد الحليم الماشطة فغدا الماشطة رئيساً للأتحاد في دار المعلمين العالية وقد تحولت إلى كلية التربية . كان الماشطة صديقاً قريباً من فاضل سوية ً مع الصديق المشترك بيننا ( عبد الحسن عبد الرزاق الكُفيشي / أستاذ في جامعة بغداد فيما بعد) .

لم ألتق ِ والصديق فاضل فرج بعد تخرجنا في كلية التربية فقد تم تعيينه مدرساً في الشطرة أو في سوق الشيوخ في حين تم تعييني في مدينتي الحلة . لكننا إلتقينا بالصدفة المحضة في بغداد آواخر شهر حزيران عام 1977 في مبنى السفارة الجيكية وكان قصدنا تأمين الحصول على تأشيرة دخول هذا البلد إنقطعنا مرةً أخرى حتى تم بيننا لقاء قصيرمساء يوم من أيام آواخر شهر مايس عام 2002 في العاصمة السويدية ستوكهولم . كنتُ هناك مدعواً من قبل نادي 14 تموز الثقافي الديمقراطي لإلقاء محاضرة وبعض أشعاري . إفترقنا لكننا واصلنا الإتصالات التلفونية بين حين وآخر. ثم كانت تصلني أخباره عن طريق بعض الأصدقاء المشتركين فضلاً عما كنت ُ أزوده به من أشعار ومقالات أدبية قصيرة لينشرها في المجلة الثقافية المندائية (( الصدى )) حيث كان وما زال عضواً في هيئة تحريرها .

 

2 ــ 

شاءت الصدف يومذاك ، حين كنا طلبة سنة أولى في دار المعلمين العالية ، أن أتعرف على طالب مندائي من العمارة يسبقني في الدراسة بثلاثة أعوام وكان ذلك أمراً نادرَ الحصول . فطلبة السنة الأخيرة في الكلية كانوا يحسبون أنفسهم صاروا مدرسين على الملاكات الثانوية والمتوسطة ، أما باقي الطلبة فما زالوا طلبةً مبتدئين 

( زعاطيط ) لا يستحقون عقد صداقات . وكان فراشو الكلية يسمون الواحد منهم ( أستاذ ) فيزدادون غروراً . شذ عن هذه القاعدة طالب السنة الرابعة بايولوجي ( مثل فاضل ) إبن العمارة المندائي ( أُسامة إبراهيم يحيى ) . كان طريفاً منكّتاً خفيف الظل طيب الحديث والمعشر . وخلاف فاضل ، ما كان يعرف التحفظ المعروف عن الصابئة . كان يقص القصص وفيها ما فيها من كلام لم أسمعه من فاضل أبداً . ما كان يتحرج من ذكر الفاظ ٍ مكشوفة محرجة أو تخدش المشاعر وكان أحياناً سليط اللسان . أحببته كثيراً وكنت أود دوماً مصاحبته في النادي أو التمشي في حدائق الكلية أو أحياناً نتمشى معاً حتى باب المعظم بدل ركوب الباص المألوف ( أظنه يحمل رقم 7 ) . سمعت أخيراً أنه ما زال حياً يقطن بغداد.

 

3 ــ 

من هو المندائي الآخر في دار المعلمين العالية ؟ إنه البروفسور الأشهر الدكتور عبد الجبار عبد الله . كان الأستاذ عبد الجبار مضرب المثل الأعلى في علمه وأخلاقه ومسلكه . كان طلبته يقدسونه تقديساً . كان بعض أصدقائي الحلاويين وغيرهم من طلبته يحكون عن علمه الأعاجيب. أتذكر منهم علي حسين وتوت وعبد الوهاب عبد الشهيد والمصلاوي حكمت فرجو والصديق النبيل أدور حنّا الساعور . بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 أصبح الدكتور عبد الجبار رئيساً لجامعة بغداد بعد منافسة مشهورة بينه وبين الدكتور عبد العزيز الدوري حسمها عبد الكريم قاسم بترجيح كفة الأستاذ عبد الجبار . ما زلت أتذكره كيف كان حريصاً على أداء رسالته التعليمية السامية وتربية شباب العراق إذ لم تمنعه مهمات رئاسة جامعة بغداد المعقدة من مواصلة التدريس بكل دقة . كنت أراه يأتي دار المعلمين العالية يقود سيارة جامعة بغداد بنفسه تعففاً من أن يقودها السائق المكلف بقيادتها . كانت سيارة فورد صالون أمريكية ماركة فورد سماوية اللون تحمل علامة ( رئاسة جامعة بغداد رقم واحد ) . ما كانت تهمه المظاهر أبداً ، فكان يأتي صيفاً وهو رئيس جامعة بغداد بقميص أبيض وبنطرون لا غير . لا بدلة كاملة ولا ربطة عنق . عرف العراقيون ما جرى لهذا العالم الجليل إثر إنقلاب الثامن من شباط عام 1963 من إعتداءات وسجن وإبعاد من الوظيفة فأُضطر إلى مغادرة العراق والعمل والعيش في الولايات المتحدة الأمريكية إذ كان موضع تقدير وترحيب عاليين من قبل بعض الجامعات الأمريكية . غادر الدنيا في أمريكا وأظن إنه أوصى أن يدفن تحت تربة العراق ، وطنه ووطن أجداده الأقدمين . يشرفنا أننا طلاب تلكم المرحلة أن يرعى البروفسور عبد الجبار عبد الله حفل تخرجنا صيف عام 1959 في ساحة ملعب الإدارة المحلية الكبيرة الواقعة في حي المنصور من بغداد . خطب في هذا الحفل عبد الكريم قاسم يقف إلى جانبه المرحوم عبد الجبار رئيس جامعة بغداد .

 

4 ــ 

عبد الرزاق عبد الواحد 

قرأ الشاعر عبد الرزاق ، وكنتُ أحد الحضور ، في نادي إتحاد الأدباء العراقيين صيف عام 1961 قصيدة ( يا خال عوف ٍ عجيبات ُ ليالينا ) يجاري فيها قصيدة الجواهري ( يا أم َّ عوفٍ عجيبات ٌ ليالينا ) تعرض فيها صراحة لما وصل إليه حال العراق آنذاك من التمزق والتطاحن والإغتيالات والتجاوزات غير المسبوقة ثم التحول عن نهج الديمقراطية وسيطرة البعثيين والقوميين على أغلب مرافق الدولة : الجيش والشرطة والمحاكم والأمن والإستخبارات العسكرية ومعظم مناصب الدولة الحساسة . لم يمضِ إلا يوم أو أكثر إلا وتم إبعاد عبد الرزاق من منصبه معاونَ مدير معهد الفنون الجميلة في بغداد فجاء الحلة مدرساً في ثانوية الحلة للبنين . هنا توثقت علاقتي لأول مرة بالشاعر الزميل عبد الرزاق عبد الواحد إذ كنتُ مدرساً في متوسطة الحلة للبنين . كنا نقضي بعض الأوقات نتجول في سيارته البريطانية خضراء اللون ( أظنها ماركة زفير ) وأحياناً بسيارتي الروسية مسكفيج الزرقاء . وكان أحياناً يزورني في بيتنا ونتداول موضوعات سياسية شتى . كما كنا نلتقي في مقهى قريبة من دارنا في الحلة حيث كان يلعب [ الأزنيف ] مع الصديق المرحوم شوكت عباس . ما كنت أعرف هذه اللعبة لذا كنتُ متفرجاً أو أسجل النقاط لقاء شايات مجانية على حساب الخاسر في الجولات . نشط عبد الرزاق كثيراً كشاعر في هذه الفترة ولكن لم تكن الظروف السياسية يومذاك تسمح بإلقاء الشعر في منتديات أو تجمعات أو مناسبات عامة . كان يلقي أشعاره على حلقات خاصة من الأصدقاء في بيوتهم ويتم تسجيلها أحياناً . أزف صيف 1962 موعد مغادرتي العراق للدراسة في جامعة موسكو متمتعاً بإحدى زمالات الوكالة الدولية للطاقة الذرية . طلب عبد الرزاق مني أن أحمل إلى موسكو معي ديوانه الشعري للنظر في إمكانية إعادة طبعه هناك بمساعدة صديقه الشاعر عبد الوهاب البياتي . ما كان مرتاحاً من طبع وإخراج هذا الديوان وكان يشكو من كثرة ما ورد فيه من أخطاء مطبعية .

إعتذرت منه من أني معرض في مطار بغداد للتفتيش . ديوانه سياسي بالدرجة الأولى وفيه ما فيه من أشعار ثورية وأممية و... و... لكني وعدته أن أنقل طلبه حين أصل موسكو إلى الشاعر عبد الوهاب البياتي وهناك سيتم القرار . بالفعل ، إلتقيت ُ البياتي أواخر عام 1962 في جامعة موسكو لمناسبة إنعقاد مؤتمر إتحاد الطلبة العراقيين في الإتحاد السوفييتي . نقلت له رغبة عبد الرزاق فقال دون تريث وبشئ من الإنفعال : أنا نفسي هنا أعاني من صعوبات النشر !!

حدث إنقلاب الثامن من شباط عام 1963 وحصل في العراق ما حصل وقد نجوت من الموت المحقق . أخبرتني المرحومة والدتي في لقاء معها صيف عامي 1965 و1966 في بيروت ودمشق ... أخبرتني أن الحرس القومي بعد هذا الإنقلاب الفاشي الدموي مباشرةً جاءوا بيتنا يبحثون عني يحملون الرشاشات / أين عدنان أين عدنان ؟ قالت لهم إنتم تعرفون إنه في موسكو فصرخ أحدهم في وجه أمي {{ آخ ... مع الأسف ... طفر من الطاوة !! }} كان بين هذا الحرس بعض الطلبة الذين درستهم في متوسطة الحلة للبنين . سمعت أن أذى وبلاوي هذا الإنقلاب قد نالت من الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد أسوة بباقي المدرسين والمعلمين وباقي الناس وكان حينها ما زال في الحلة . 

دارت الأيام والسنين ... أكملت دراساتي وأبحاثي في جامعتي موسكو وكالفورنيا الأمريكية ( إرفاين ) وعدت بإلحاح من الأهل إلى العراق فواجهتُ بدوري المصائب والمصاعب حتى تمكنت ُ بصعوبات بالغة من العمل في كلية علوم جامعة بغداد . صدر أمر تعييني في الخامس من شهر شباط 1970 . ضاع مني عبد الرزاق وما كنتُ أعرف مصيره أو مكان عمله حتى أرسل لي ذات يوم عام 1971 أو 1972 رسالة شفوية مع إبنة شقيقتي ( أسماء ) يعرب فيها عن رغبته أن يراني . أعطتني عنوان مكان عمله (( وزارة الثقافة والإعلام )) . زرته بالفعل هناك عدة زيارات وكان يشاركه مكتبه شاعر فلسطيني بعثي ( مصطفى علي أو علي مصطفى ...) وكان يأتي مكتبه بشكل دائم رئيسه عبد الجبار البصري . كان عبد الرزاق يقوم بمهام تصحيح وتحرير المقالات المرشحة للنشر في مجلة ( المعلم ) . كلما زرته وجدت قبلي صديقه الشاعر يوسف الصائغ . وكانت بينهما مودة وصداقة متينة . ثم إنتبهت إلى وجود شاب حلاوي جميل الوجه أخضر العينين يروح ويجئ إلى مكتب عبد الرزاق . إنه الكاتب عبد الستار عباس ... شقيق الصديق الأستاذ عبد الأمير عباس ( أو عبوسي ) . 

إنقطعت علاقتي بالشاعر المندائي عبد الرزاق عبد الواحد بعد أن أصبح مدير معهد الدراسات النغمية ولم أره بعد ذلك أبداً . غادرت العراق في اليوم التاسع من شهر تموز عام 1978 ولم أعدْ إليه حتى هذه اللحظة . صعد نجم الشاعر عبد الرزاق صعوداً خرافياً وقد غدا شاعر صدام حسين وإبنه عدي كما يعرف الجميع . سألتُ عنه بعض معارفه من الأخوة المندائيين فقالوا إنه يتنقل بين دمشق وباريس .

 

5 ــ

الدكتور إبراهيم السُهيلي / أبو سوسن

تعرفت على هذا الإنسان المندائي الرائع شهر حزيران عام 1971 حين ضمتنا لجنة الإشراف على الأمتحانات النهائية لطلبة الأقسام العلمية في كلية التربية الملغاة يومذاك . كان البروفسور السهيلي يمثل قسم البايولوجي وأنا أمثل قسم الكيمياء والأخ الأستاذ سليم الغرابي ( أبو محمد ) يمثل قسم الرياضيات والدكتور رحيم عبد آل كتل ممثلاً لقسم الفيزياء ورئيساً للجنة . تعرفت على الأستاذ السهيلي جيداً خلال عملنا في هذه اللجنة ليلاً ونهاراً . لمست ُ في الرجل النزاهة والشجاعة وعلو الهامة والهمة . ثم عرفت أنه هو الآخر ناله الكثير من الأذى والظلم على أيدي القتلة الفاشيست أنقلابيي الثامن من شهر شباط 1963 . ألا نعم الرجل إبراهيم السهيلي عالماً فاضلاً وصديقاً صدوقاً وزميلاً زكياً طاهر الروح والسريرة . تعمقت علاقتي به أكثر بعد أن أنتقلنا إلى كلية العلوم / جامعة بغداد خاصةً وكان قسمانا ( الكيمياء والبايولوجي ) متجاورين في الكلية يربطهما جسر معلق قبل أن يهدمه الصديق النادر عميد الكلية الدكتور مجيد القيسي لأسباب تخص السلامة والشك في قدرة هذا الجسر على تحمل أثقاله بعد أن شاخ وهرم . وكان معه في القسم أستاذنا الدكتور المرحوم محمد سليم صالح وإبن الحلة المرحوم دكتور أحمد شوقي و نخبة أخرى من المعارف والأصدقاء .

 

6 ــ

الأستاذ عزيز سباهي / أبو سعد

كنتُ في سبعينيات القرن الماضي ألتقي والأخ عزيز في مقر صحيفة 

( طريق الشعب ) في منطقة البتاويين من بغداد . إفترقنا هو إلى الجزائر وأنا إلى ليبيا . ثم جمعنا لقاء صيف عام 1981 في العاصمة الجيكية براغ

، جاءها أبو سعد من الجزائر وكان معه الدكتور عزيز وطبان وزوجه أم ذكرى والدكتور عبد اللطيف الراوي وحرمه أم دريد ودريد وأخواته الصغيرات . ثم كان كذلك الأستاذ إبراهيم أحمد الداوود وعقيلته . لا أدري لِمَ لمْ تأتي السيدة ليلى ، زوج عزيز معه إلى براغ . غادرنا براغ : رجعت أنا إلى العاصمة الليبية طرابلس . عزيز سباهي إلى الجزائر ومنها إلى كندا . أحمد إبراهيم إلى الجزائر ومنها إلى السويد . عزيز وطبان إلى الجزائر ومن الجزائر إلى هنكاريا . وغادر عبد اللطيف الراوي مدينة براغ كذلك للجزائر ... ومنها إلى سوريا ، ثم الإنتقال الأخير لأبي دريد ... للعالم الآخر مع شديد الأسف !!

 

7 ــ

أما في مدينة ميونيخ الألمانية فقد أسعدني الحظ بالتعرف على الصديق الوفي الكريم السيد ( كلدان قبيس ) وعائلته وأولاده ماجد ومحجوب وخلدون ... لقد أنجب أبو ماجد ونعم ما أنجب . كما تعرفت قبل بضعة سنين على أخيه الأصغر منه الشاعر الدكتور قحطان الأستاذ في بعض الجامعات الأمريكية . علاقتي وثيقة بالصديق الصدوق أخي كلدان ونكاد لا نفترق رغم صعوبة ظروفه العائلية جرّاء توعك صحة السيدة أم ماجد . الصديق ( كلدان ) موسوعة في الشعر الشعبي يحفظ منه آلاف الأبيات فضلاً عما ينظم هو من جميل وبليغ مثل هذه الأشعار . لا يكاد يفارقه مَن يسعفه الحظ في التعرف عليه ... رجلاً متواضعاً أميناً ومناضلاً يسارياً حافظ على شرف إلتزاماته السياسية التي تستهدف إعلاء شأن الإنسان وحريته وكرامته ومستقبله . لم يستطع البعث من تلويث نقاوة هذا الرجل ولم يطأطئ رأسه لطغاة بغداد الفاشيست ، فالعراق يفتخر ويتشرف بأمثاله . لا يبخل عليَّ بإعارتي ما بحوزته من كتب قديمة وحديثة وقد زودني ببعض كتب التراث المندائي ديناً وطقوساً وتأريخاً . أما بيته العامر فإنه مفتوح للأصدقاء ليلاً ونهاراً .

 

ختام / لديَّ معارف مندائيون آخرون ربطتني بهم علاقات غير عميقة وبعضها قصيرة أو وقتية أو موسمية . أذكر منهم الشاب الطريف البشوش ( منجد جواد غافل ) ... جاء موسكو شهر أيلول عام 1962 ثم غادرها إلى مدينة ( كراسندار ) هو وصديقه الكظماوي ( عباس الصرّاف ) ليدرسا الزراعة في جامعتها هناك . لمنجد خال كان كذلك طالباً في بعض معاهد موسكو . والد منجد هو المربي المعلم الفاضل السيد ( جواد غافل ) الذي كان يومذاك معلماً في بعض مدارس ناحية ( قضاء ) المحاويل التابع لمحافظة الحلة .

نشرت في وجهة نظر
الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2013 10:03

الصابئة المندائيون ومنجل اصويحب

 الحياة والصحه والعمر المديد للشاعر القدير مظفر النواب وهو يوصف في قصيدته الشعبية الرائعة ، ذلك الفلاح الفقير اصويحب المغلوب على امره ، وبكل قساوة المتسلطين واضطهاد الظالمين ، وحتى تحين ساعة الموت يبقى منجل اصويحب وريثه الوحيد يداعي مشدودأ لأرضه، لمزرعته لسنابلها الخضراء، لكوخه القصبي ، لنخلته مغروسة في اعماقه العميقه ، وكل ما حواليه ، ولن يرضخ للظلم والقهر رغم قساوة الاشرار فهو ، يظل وباعلى صوته ينادي ، يصيح ، يداعي ، يشتكي وقد قيل ان هذا هو اضعف الايمان حيث لا يضيع حق وراؤه مطالب .

 لا تفرح بدمنا لا يلكطاعي 

إصويحب من يموت منجله يداعي

(الشاعر العراقي المبدع مظفر النواب)

 فالصابئة المندائيون يا سيداتي ويا سادتي الكرام ، حالهم حال ابن الخايبه اصويحب الفلاح ، فقد خسروا كل شيئ المال والناس والاهل والجيران والارض ودجلة الخير وفرات زيوا ونخلة البرحي ومشحوف شيخ صيهود وشريعة المندي وشاطئ المركَب والمشرح وقلعة صالح ، والكحلاء ، ومسحاة حسين ابو علي ، وقلادة ام عمر ودكان شارع النهر وسوق دله ، وطلبة اساتذة العلم والمربي زهرون ، وحكايات عبد الجبار عبد الله وجامعة بغداد و و .. وحتى طال الابناء بعد الاباء ، وصار (طشارهم مال والي ) بحكم تسلط زمر الارهاب والتكفيرين وفتوى بعض المحسوبين على رجال الدين والملالي( فأما الاسلام او القتل ) وهنا يكمن الشر القادم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ولم يبدلوا تبديلا . 

 نعم لم يبدلوا تبديلا ولم يبيعوا العراق ودهلة الشطين بمال الدنيا كلها .!!

 نعم لم يصبهم اليأس وسيناضلون مادام لهم الحق بالحياة ، الحق بالعراق ، الحق بالمواطنه ، يستحقونه شرعا وقانونا تشهد لهم اور وبابل ونفر وطيبماثه وما جاورها كلها شهود اثبات . 

جذورهم ممتدة بعيدا بعيدا بعمق الزمن ، ولهم تاريخ معرفي وفضل بالعرفان يسجل لهم ، وبصمات اصابعهم منقوشة على الصخر والشجر والذهب والفضه ،غير قابله للمزايدات والادعاءآت ولا تسقط بالتقادم ومرور الزمان . 

 

لهم اخوة بالوطن والخلق ، احبة كرام هم اهل كل العراق الشرفاء في كل مكان من العالم وكافة اؤلئك المؤمنين بالحرية والمساواة وحقوق الانسان والديمقراطية من شعوب العالم العربي وغير العربي . 

وفوق هذا وذاك ، لهم حس وطني مرهف وانتماء عضوي لا ينفصم ، ويكفيهم فخرا أن لا خائن جاء منهم ولا جاسوس دنئ ينتسب اليهم .

 

فهم اقوى من القدر المحدق بصبرهم اللامحدود ، وارفع من زرع الفتن والضغائن بين الاخوة ابناء هذا الشعب ، وقوتهم اقوى من قوة الشر لأن الشر حبله قصير وحجته واهية مفضوحه ، فلا عراق بلا محبة واخوة وتضامن ، وقد قالها من قبل ولا يزال يرددها كل الخيرين لهذا البلد والمخلصين ، فلا ثمة قوس وقزح دون اطيافه الشمسيه المكونه له ولا عراقيون دون مكوناته الاساسيه .

 

وهذا الرجل البرفسور عبد الله الصائغ ذو النيات الحسنة حامل الرساله الانسانية ، هو وصحبه الاخيار من مثقفات ومثقفي العراق ومفكريهم وسياسيهم وكتابهم التقدمين الديمقراطيين ومن الوطن العربي الكبير قائمين بتلك الحمله الانسانية الرائعه موجهين نداءهم التاريخي المعلن ( تضامنا مع الصابئة المندائيين ) دون ان تأخذهم بالحق لومة لائم وتحت شعار ( لستم وحدكم ايها الصابئة المندائيين ) فهو دليل وعي واخلاص وحس انساني رفيع ودعوة شريفه توجب الاعتزاز والتقدير والدعم المادي والمعنوي . 

 

كم رائع هو النداء والشعور بالمسئولية في وقت القحط ! 

يا محلا صوت الحق حين يعلو !

يا محلا تضامن الانسان الواعي مع اخيه الانسان !

يا روعة العراقيين ويا فخر من ينادي انا عراقي !

يا محلا اللمه من اجل نصرة الانسان المعذب المقهور والمستضعف !

يا محلا الوطن ! 

يا محلا اهله !

 

ومما تطمأن له القلوب ويخفف من الآلام حقا هو وقوف وسائل الاعلام العراقية والعالمية هذه الوقفه الشريفه ، مع البرفسورالصائغ في حملته للتضامن هذه ، من خلال مواقع غرف الحوار كل من البرلمان بادارة الاستاذ انورعبد الرحمن والاستاذه خالده مصطفى والاستاذ وهاب هنداوي وينابيع الخاصة بالانصار الشيوعين ، وما تنشره الصحف اللاكترونيه مثل الجيران بادارة الكاتب الكبير زهير الدجيلي وصوت العراق وجريدة طريق الشعب وعراق الغد وشمس الحريه وجريدة الوطن بادارة الاعلامي المرموق الاستاذ نوري علي ، وموقع كردستان الصوت الهادر بادارة الكاتب دانا جلال ، وكثير من الشخصيات المثقفة الاعلاميه منهم الكاتبه المصريه صديقة المندائيين اميره الطحاوي والاستاذه وفاء شهاب الدين وغيرهم من المقاتلين بصفوف المندائيين لا بالسيف والبندقيه بل بالقلم الشريف والكلمة الصادقة الهادفه ، وحتى رجال الدين المتنورين وعلى راسهم الشيخ الجليل علي القطبي ، كل هؤلاء يمثلون الرأي العام العالمي والمحلي ، ونيابة عن المجتمع المدني ومطاليب مجموع الشعب العراقي ، ووحدة كلمته واصالة عراقية العراقيين ، وشعورهم بالمسؤوليه ، كقطاع كبير من قطاعات اهل السياسة والفكر والقلم .

ان الصابئة المندائيين لا يطلبون المستحيل فهم ينادون ب :--

بالحياة كحق طبيعي لأنهم يحبون الحياة

بالحمايه لآن لا مليشيات لديهم تحميهم 

بالسلام لأنهم قوم مسالمون بطبيعتهم 

بالعراق لأنهم عراقيون اصلاء اقحاح 

بالمساواة لأنهم ديمقراطيون بطبعهم

بالمحبة والاخوة لأنهم من هذا الشعب

انا عراقي انا عراقي انا عراقي

عاش العراق عاش الشعب 

 

نشرت في وجهة نظر

هناك قول في السياسة مفاده " ان أقصى اليمين يلتقي مع أقصى اليسار" ، وفي التربية يقال بأن القسوة الزائدة مع الأشخاص كبارا كانوا أم صغارا مثلها مثل التساهل والتدليل الزائد ، فكلاهما يؤديان الى نتائج سلبية، وهناك قول للامام علي ابن أبي طالب هو " لاتكن صلبا فتكسر ولا لينا فتعصر" . ولا يخفى على القاريء الكريم وجود أقوال وأمثال كثيرة في هذا السياق، كقولنا ان أفضل طريقة للامساك بالعصى من الوسط ، الا أذا أردت أن تضرب بها بقوة لتوجع المقابل فينبغي أن تمسكها عندئذ من أحد طرفيها ، عليك حينها توخي الحذر، فانها يمكن أن تنتزع منك بسهولة بحركة ذكية من المقابل ، ومثل آخر يقول " اذا اردت أن تطاع فأمر بما هو مستطاع " ، وما المثل الشعبي القائل " كل شي يزيد عن حده ينقلب ضده" الا تجسيد حي لما أود قوله في هذه المقالة .ويمكن توضيح ذلك بالتجربة الآتية :ـ خذ حفنة من الرمل الجاف بيدك على أن يكون وضع اليد وكأنك تحاول حفظ كمية من الماء فيها كي لايتسرب ، ستجد أنك تحتفظ بكمية كبيرة من ذلك الرمل مقارنة بما ستحصل عليه لو حاولت ضغط يدك عليه بقوة أو أرخيتها أكثر مما ينبغي لأن الرمل المتسرب سيكون كبيرا في حالتي الضغط أو الارتخاء . ان كل ما تقدم يؤكد على ضرورة الاعتدال في المواقف والقرارات، والموضوعية والواقعية في اصدار الأحكام ، وما ينطبق على أنشطة الحياة المتنوعة ينطبق على الدين كونه أحد الانشطة المهمة في الحياة .أني اذ أكتب كل ذلك كي أنبه أخواني المندائيين في أنحاء المعمورة ، وعلى رأسهم السادة رجال الدين الأفاضل ، بأن المندائيين في أستراليا قاب قوسين أو أدنى من مفترق طرق خطير، يمكن أن يؤدي ( اذا ما تداركنا الأمر ) الى انقسام مذهبي بين فريقين ، أحدهما متشدد والآخر يدعي الاعتدال . ان الفريق المتشدد ينعت الفريق الآخر بالتساهل الزائد مما سيؤدي الى انصهار الطائفة وضياعها ، كما ان الفريق الذي يدعي الاعتدال ينعت الفريق الآخر بالتطرف ، مما سيؤدي بالمندائية والمندائيين الى نفس النتيجة المذكورة . ومن وجهة نظري ان كلا الفريقين محق. ان المندائيون في أستراليا متخوفون ، أي الاتجاهين يسلكون ، وهم يعلمون بقرارة أنفسهم بأنهم ومندائيتهم سيتمزقون بين هذين الاتجاهين ، لكني أبتهل الى الحي العظيم أن تكون مخاوفنا هذه في غير محلها .لقد وضع المجلس الأعلى للطائفة في أستراليا في بداية تشكيله هدفا عاما تندرج تحته أهداف عديدة في مجالات الحياة المندائية المتنوعة لتحقيق ذلك الهدف العام وهو " المحافظة على المندائية والمندائيين من خطر الزوال أو الانصهار كي تبقى رافدا حيويا من روافد التراث والفكر الانساني " . ومن خلال التمعن في هذا الهدف ، نجد انه يركز من جهة على المندائية كديانة لها طقوسها ومبادئها الدينية استنادا للكتب المندائية المقدسة ، وعلى المندائيين وهم أتباع هذه الديانة من جهةأخرى . أن حكمة رجال الدين وعلى رأسهم القيادة الدينية ، تتجلى في كيفية تحقيق الموازنة السليمة بينهما ، لايصال المندائية والمندائيين الى بر الأمان دون المساس بجوهر الدين . ان العلاقة بين المندائية والمندائيين هي علاقة جذب وتجاذب وهي من القوة بحيث بقيت صامدة آلاف السنين فلا مندائية بدون مندائيين ، ولا مندائيين بدون مندائية ، فاذا تحولت المندائية الى مجرد طقوس متشددة متطرفة ، فانها لن تجد بعد عقد أو عقدين من الزمان آذانا صاغية من قبل الغالبية العظمى من المندائيين مما سيؤدي الى عزوفهم عنها ، وبذلك سنفقد الاثنان معا سواء شئنا أم أبينا . وبالمقابل فاننا سنصل لنفس النتيجة في حالة التساهل الذي يمس جوهر الدين .لقد أدرك نبينا يهيا يهانة ( مبروك اسمه ) هذه الحقيقة منذ أكثر من ألفي سنة ، فأجرى تغييرات دينية تتناسب والتطورات التي حصلت في الفترة التي عايشها ، ومع ذلك فان ديانتنا بقيت صامدة لحد يومنا هذا، لأنه لم يمس جوهر الدين مستخدما عبقريته وحكمته لابقاء المندائيين ملتفين حول ديانتهم . وتقع على رجال ديننا الأفاضل مسؤولية جسيمة في استمرار حمل الراية المندائية أبد الآبدين ، وما عليهم الا الاقتداء بسيرة نبينا مبروك اسمه ، فيخفف المتشددون من تشددهم في أمور لا قيمة جوهرية للديانة فيها ، ويتمسك المعتدلون بجوهر الدين . ان ذلك لا يتم الا بالحوار المتواصل بينهم والمبني على المحبة والأخوة المندائية التي أوصتهم تعاليمنا الدينية بها ، وما سيتفقون عليه سوية هو المطلب الأساس للمندائيين ، واني متأكد بأنهم أي المندائيين سيحترمون ارادتهم هذه طالما هنالك اتفاق بينهم ، ومع ايماني بأنها عملية ليست باليسيرة ، لكنها ليست مستحيلة بأي حال من الأحوال ، كما اني على يقين من انهم سيجتازون هــذه المحنة .ان مخاوف المتشددين تتركز حول نقطة أساسية مفادها من وجهة نظرهم ، انهم اذا تساهلوا في مسألة معينة ، فانهم سيتساهلون في مسألة أخرى ، وتساهل يجر تساهل مما سيؤدي بالتالي الى ضياع الديانة ، وكما قلت قبل قليل فان تبديد مثل هذه المخاوف ليس بالعملية السهله ، والحوار بين رجال الدين على صعيد البلد الذي يعيشون به أو على صعيد العالم ، من شأنه تحديد المسائل الدينية الجوهرية التي تمثل خطوط حمراء لايمكن تجاوزها ، والمسائل الأخرى التي يمكن غض الطرف عنها فتمثل طقوس أو اجراءات دينية مستحبة وليست اجبارية . حيث يمكن للمتشدد الالتزام بهل شريطة عدم الزام المعتدل بممارستها ، على أن لا يؤدي ذلك الى تنزيله دينيا، وبالتالي امتناع المتشدد من اجراء الطقوس مع المعتدل جنبا الى جنب بحجة نزوله دينيا لكونه لم يمارس تلك الطقوس المستحبة .ومما ينبغي اثارته حول اتباع الاتجاه المتشدد ، هو عدم جواز الكيل بمكيالين من منطلق ( حرام عليكم حلال علينا ) ، أو من منطلق ( اتريدها أكبار أتريدها أصغار ) ، فلا يجتمع صيف وشتاء على سطح واحد . ومن الأمور الأكثر أهمية الابتعاد عن استخدام المعايير المزدوجة في التعامل ، لأنها ستؤدي الى أن يفقد المتشدد مصداقيته ، كما انه سيفقد المدافعين عن تشدده شيئا فشيئا ، الى أن يجد نفسه وحيدا ، وقد يبقى معه في أحسن الأحوال بعض من يؤمنون بالمبدأ العشائري المعروف ( أنصر أخاك ظالما أم مظلوما ) ، وكل ذلك سيحصل لأن الأرضية التي كان المدافعون ينطلقون منها للدفاع عن آراء المتشدد أصبحت هشة ، وسيخسر الجميع مبادئهم بعد أن الحقت بالمندائية والمندائيين أضرار فادحة لا يمكن اصلاحها وعلى جميع المستويات ، وفي وقت لا ينفع فيه الندم .وأخيرا وقبل أن أنهي وجهة نظري هذه ، أود أن أقطع الطريق على أي من أخواني المندائيين ممن يحاولون اقتطاع جزء من مقالتي هذه فيبني عليه قصة من نسج خياله الخصب بغرض التشهير واظهار المقالة ككل بمظهر سلبي ، حيث لا يكاد يسلم من يطرح رأيه على هذا المنبر في أيامنا هذه من التجريح الا بشق الأنفس . وها أنا أقولها بملأ فمي أنا مع العتدال ولست مع التطرف ، وان الهاجس الذي يؤرقني هو سعيي لوحدة المندائيين ضد فرقتهم ، واني مع ديمومة المندائية الى أبد الآبدين ولست مع أزهاق روحها . هذا هو جوهر مقالتي ، فأقرأوا ما بين السطور بهدوء رجاءا، ولا تقرأوا بسطحية وانفعال ، ومن له رأي آخر فهو أمام خيارين ليس لهما ثالث ، فأما أن يدلي بدلوه دون الاشارة لمقالتي بصيغة RE……. أو بمراسلتي على بريدي الألكتروني المذكور أعلاه وشكرا .تقبل الحي الأزلي العظيم منا ومنكم العمل الصالح لرفعة أسم المندائية والمندائيين

نشرت في وجهة نظر

لقد كانت الاحداث السياسية ساخنة جدا آنذاك على الساحة العراقية قوميا بسبب القضية الفلسطسنية والحرب الدائرة فيها وبوادر تنفيذ القرار الدولي بتقسيم فلسطين وتكوين الدولة الاسرائيلية ، وداخليا بسبب الضائقة الاقتصادية والمعاشية للشعب العراقي والمضايقات والمطاردات ضد الصحافة والاحزاب والحركة الوطنية والحريات العامة وازمة الخبز، تزامنت مع اعلان صالح جبر رئيس وزراء العراق من لندن عن التوقيع مع آرنست بيفن وزير الخارجية البريطاني على معاهدة بورتسموث المهينة والجائرة في 18كانون ثان1948، فبدأت حالة الغليان في الشارع العراقي وشملت كافة شرائح المجتمع في بغداد والمدن العراقية بقيادة الاحزاب الوطنية التي نشرت بيانات تندد بالحكومة والمعاهدة وتطالب باستقالة حكومة صالح جبر ورفض المعاهدة واعلن العمال وطلبة المدارس والكليات تضامنهم مع جماهير الشعب ضد بيانات الحكومة ، اخذت الامور تتسارع نحو التأزم والتوتر وانتشرت حالة الرفض والتنديد بسرعة واستمرت الاضرابات والمظاهرات (يرجى الرجوع الى مقالة عشتار البرزنجي في الرابط ادناه --- من تجارب شعبنا في الكفاح السلمي - وثبة كانون عام 1948 --- لمتابعة تفاصيل دقيقة وتسلسل الاحداث وتطوراتها السريعة) حتى جاء يوم الحسم والمعركة الوحشية الطاحنة في بغداد والمدن الاخرى بين جماهير الشعب العزل من السلاح وقوات الشرطة المدججة بكافة انواع الاسلحة والاوامر المشددة في صبيحة يوم 27/كانون ثان/1948 وسقط في بداية المعارك اربعة شهداء وعدد من الجرحى مما زاد في غضب الجماهيرفوقعت معركة جسرالشهداء الشهيرة التي راح ضحيتها 40 شهيدا من بينهم الشهيد جعفرالجواهري والشهيد قيس الالوسي ، وكان عدد جرحى المعركة ما لايقل عن 130 جريحا ، وعلى اثرذلك سقطت الحكومة والغيت معاهدة بورتسموث الجائرة وتحققت معظم مطاليب الاحزاب الوطنية ، وبهذا فقد انتصر الشعب العراقي مسجلا ملحمة بطولية مشرفة بالاصرار والتضحيات والاباء والشهادة

 

شذرات وطنية مندائية في وثبة كانون المجيدة

 

وثبة كانون معركة جميع مكونات الشعب العراقي ضد الظلم

 

كل الذي ادركته في حينها وانا ابن الثانية عشرعاما ونيف من عمري ان مادار من احداث هو ثورة الشعب الموحد بجميع شرائحه واطيافه ضد الحكومة والنظام وان اختلفت الشعارات والهتافات ، ومما زاد في يقيني عن عدالتها هو مساهمة اهلنا ومعظم الصابئة المندائيين فيها من صاغة وحرفيين وطلابا ومثقفين مع كافة شرائح ومكونات الشعب بدون تمييز سواء كان ذلك بالاضرابات وغلق المحلات التجارية والتوقف عن العمل والمظاهرات ومسيرات تشييع الشهداء .. في ذلك الحين لم افقه من مبادئ السياسة الرئيسية سوى ان هنالك شريطا من الاحداث التي سبق وان طبعت في مخيلتي ولم استطع بلورتها وتجميعها بشكل واضح الا بعد معايشتي احداث الوثبة التي كانت ذروتها ايام عصيبة (18 - 28/1/1948) ولم تنته تداعياتها الا بعد تحقيق معظم مطاليب الشعب وقياداته الوطنية وامتدت حتى شهر آذار 1948 حينما انحل مجلس النواب ، ولكن الشئ الذي لم اصدقه هو وحشية الحكومة وقساوة الشرطة وهم يوجهون نيران بنادقهم ورشاشاتهم الى صدور ابناء الشعب العزل من السلاح فسقط الكثير من الشهداء والجرحى بهذه المذبحة المروعة واعتقال المئات من المواطنين

 

احداث اثناء طفولتي لم اكن افقهها

 

من الاحداث التي بقيت عالقة في ذاكرتي في السابق ولم يكن لدي تفسير واضح لها .. احدها ان ابن عمي مدلول عبد الرزاق اعتقل من قبل رجال امن الفلوجة حينما كان مع جمهرة من الناس في مدينة الفلوجة وهم يشاهدون قطعات عسكرية عراقية ذاهبة الى فلسطين لانه كان يتكلم مع احد الواقفين بجنبه ويقول له اننا يجب ان نشم السمكة من ( ذيلها ) للتأكد من ان التفسخ لم يصل بعد للذنب ، فاعتقلوه !! والحادثة الاخرى لقد اعتقلوا ابن عمي لطيف كثير حينما كان طالبا في ثانوية العمارة وكتب الى اهله بريديا في احد ايام المناسبات الصابئية المندائية (يوم دك ابو الفل وهو مناسبة دينية تراثية يعملون فيها مدكوكة من التمر والسمسم) وكان يطلب منهم ان يرسلوا له كمية من الفل من العيارالثقيل ويقصد من الحجم الكبير، اذ كانت الرسائل تخضع للرقابة الامنية ، فاعتقلوه !! والحادثة الاخرى حينما ذهب رجال الامن في مدينة الكحلاء للتحري في دار ابن عمي حليم كثير ووجدوا صورا معلقة لرجال ملتحين في فناء الدار ( وعلمت فيما بعد انهما ماركس وانجلس ) وسأل رجل الامن احدى نساء الدار قائلا من هم هؤلاء؟ فردت عليه انهم اجداد الاولاد ، فاعتقلوا حليم !! والحادثة الاخرى حينما ذهب رجال الامن للتحري في بيت ابن العمة خيري يوسف في مدينة الكحلاء ووجدوا ان ام خيري جالسة على كوم من التبن في (حوش الهوايش) فسألوها لماذا انت جالسة هنا فقالت لهم اخاف على (الهوايش) منكم فامروها بالنهوض ونبشوا التبن ووجدوا كتب واوراق كانت قد دفنتها في نفس المكان الذي جلست عليه !؟ فاعتقلوا خيري !!! هذه الاحداث وغيرها توضحت لي بعد معايشتي لاحداث الوثبة الدامية وبدأت اعي ما يدور حولي بشكل واضح ووجدت ضالتي في السياسة

 

يوم مذبحة الجسر المروعة

 

كنت ايام الوثبة طالبا في الصف السادس الابتدائي في مدرسة الفيصلية الابتدائية للبنين في منطقة المشاهدة / محلة الجعيفر وهي مدرسة نموذجية تضم الصفوف الثلاثة الاخيرة من المرحلة الابتدائية ومعظم طلابها وحسب نظام الانسيابية من خريجين مدرسة المشاهدة الاولية المختلطة التي كنت انا احد طلابها ، واسكن مع عائلتي التي انتقلت قبل بضعة اشهر من محلة الدوريين الى محلة الكريمات قرب السفارة البريطانية في شارع حيفا حاليا مقابل المركز الثقافي البريطاني ومستشفى الدكتور محمد صالح الاهلي ونادي الشباب الرياضي مع بيت المرحوم ناهي ساهي الخفاجي والد كل من الدكتور طالب والفنان غالب وفاروق وغازي وفيصل وعائلتهم الكبيرة وكذلك بيت المرحوم ضامن حويزاوي ابو زهير (لفترة قصيرة) وثم بيت المرحوم زيدان خلف والد المرحوم المهندس فوزي زيدان .. كنت اذهب الى مدرستي في الجعيفر سيرا على الاقدام وحينما حصلت احداث وثبة كانون في ايامها الاولى كان الهيجان في الشارع ليس بتلك الخطورة والاحداث تتسم بالطابع السلمي بعيدا عن العنف ، ولكنني اخذت اسلك طرق الازقة الضيقة عند ذهابي وايابي للمدرسة ، كان مدير المدرسة المرحوم صالح الكرخي من المدراء المعروفين في بغداد بكفائتهم وقوتهم اداريا وكان حريصا جدا على سلامة الطلاب لاسيما وان الجعيفر والتيار القومي فيها هائج الى درجة الغليان فكان يغلق باب المدرسة بالاقفال ولا يسمح للدخول او الخروج من المدرسة وسارت الامور اعتياديا وبسلام حتى صبيحة 27 / 1 / 1948 يوم المجزرة حينما سمعنا دوي الرصاص من بنادق ورشاشات قريبة من مدرستنا في ساحة الشهداء ومظاهرات وتجمهر طلاب ثانوية الكرخ امام باب مدرستنا طالبين فتح ابواب المدرسة لنكون معهم وحاول المدير مقاومة ذلك ولم يفلح فانفتحت الابواب على مصراعيها لثلاثمائة طالب تقريبا ووجدت نفسي في الشارع في منتصف معمعة الهتافات والشعارات واهمها .. تسقط معاهدة بورتسموث والموت لصالح جبر والخبز للجياع ويسقط الاستعمار وهنالك من يهتف ( أكعد ياغازيها ألاسد فلسطين قسموها ) فسحبت نفسي بهدوء الى الرصيف واذا بأمي تفاجئني وتصرخ (ها يمه انت وين؟) كانت المسكينة مرتعبة شاحبة الوجه وخائفة ولفتني بعبائتها وقلت لها ما بك ولماذا انت خائفة؟) فقالت يمه سمعت الرصاص يلعلع وقالوا لي ان المعركة في الجعيفر وساحة الشهداء قرب مدرستكم وسيول الدماء على الجسر وهنالك عشرات القتلى والجرحى وهرعت من الخوف وامسكت بعبائتي وخرجت مسرعة خائفة عليك ولم اصدق ان اراك سالما ) وامسكت بيدي باتجاه الشواكة فوجدنا انفسنا في وسط المعركة قرب ساحة الشهداء والجسر ودوي الرصاص الذي يطلق على المتظاهرين في الشارع عشوائيا من فوق سطوح العمارات ومنائر الجوامع .. لفتني بعبائتها وسحبتني الى الخلف باتجاه الجعيفر والسوق الجديد وعن طريق الازقة الضيقة باتجاه مستشفى العزل ( م . الكرامة التعليمي حاليا ) وعلاوي الحلة ومن هناك باتجاه السفارة البريطانية والكريمات فتنفسنا الصعداء وتطمنا على الوالد والاطفال والاقارب

 

تعطلت المدارس والكليات وبدأ الحداد وخيم الحزن على شوارع بغداد والمدن العراقية .. في مساء نفس اليوم اعلن الوصي عبد الاله في خطابه للشعب العراقي عن رفض المعاهدة واستقالة حكومة صالح جبرالذي هرب مع نوري سعيد الى خارج العراق ، والموافقة على مطاليب الاحزاب الوطنية ، وبعدها توالت البيانات ، اذ بعد يومين تم تكليف الشيخ محمد الصدر لتأليف الوزارة الجديدة وتهدئة الامور وتحقيق معظم المطاليب

 

مواكب تشييع الشهداء المهيبة

 

وفي اليوم الثاني جرى تشييع مهيب للشهداء وعلى رأسهم الشهيد جعفر الجواهري والشهيد قيس الالوسي والاخرين ... فخرجت بغداد عن بكرة ابيها في مسيرات التشييع باتجاه جانب الكرخ وعلى شكل مواكب منظمة تمثل محلات واحياء بغداد وجميع شرائح المجتمع ومكوناته الاثنية والدينية وباتجاه علاوي الحلة ومقبرة الشيخ معروف حاملة اكاليل الزهور واللافتات السوداء لنعي الشهداء ولافتات اخرى تحيي الشعب العراقي وقواه الوطنية وتمجد بارواح الشهداء وتندد بحكومة صالح جبر العميلة وبالاستعمار البريطاني ومعاهدته المهينة مطالبة باطلاق الحريات وتوفير الخبز للجياع

 

ومن بين هذا المواكب كان موكب مهيب ومنظم جدا لطائفة الصابئة المندائيين اشترك فيه المئات من النساء والرجال والاطفال وعلى شكل مجموعتين رجالية وشبابية يتوسطها مجموعة نسائية ثالثة يحملون الاكاليل واللافتات وهنالك زناجيل بشرية في الجانبين للحماية ونساء يرتدين العبايات السوداء يحملن الماء (بالمصاخن) والطوس لتوزيع الماء على العطشى من المشاركين في الموكب واتذكر منهن (رحمة لارواح المتوفيات منهن) المرأة الرائعة ام عزيز سباهي وام نبيل بهية الشيخ دخيل زوجة المرحوم غدير باحور ورسلية غالب رومي زوجة المرحوم ابراهيم وهام واخريات لاتسعفني الذاكرة لذكر اسمائهن وكان من ضمن هذه المجاميع المندائية صاغة وحرفيون وعمال وشعراء وعدد كبير من المثقفين وطلاب الكليات والمدارس .. وقد وزع شعراء ومنظموا الموكب ادوارا على المجاميع الثلاثة لينشدوا مقاطع من الابيات الشعرية الشعبية الحزينة وبشكل متناغم ومؤثر يثير انتباه الحشود البشرية المصطفة على الارصفة وهي تبكي وتلوح للمواكب المارة

 

فتقول المجموعة الرجالية الاولى

 

شرطة ورشاش وتفك بحجار قاومتوها

 

الله واكبر ياعرب شبانا كتلوها

 

وتجيب المجموعة الرجالية الثانية

 

ما صارت بكل الدول صالح جبر سواها

 

وتجيب مجموعة النساء في الوسط

 

أم الشهيد أتصيح وين المعركة ياناس

 

ابني اشتراها عله الجسر نايم بليه اجفان

 

وتعود الادوار بالتعاقب بدون انقطاع على المجاميع بهذا الشكل حتى وصول المواكب الى المقبرة مما ترك اثرا كبيرا على الجماهير والمشيعين واهتمام منظمي المسيرة من القوى الوطنية وامتنانهم وانتباه رجال الصحافة والاعلاميين ووكالات الانباء في حينها

 

لقد كانت ايام حزينة ومؤلمة بالرغم من نشوة الانتصار التاريخي الذي حققته الوثبة المجيدة والذي كان حافزا قويا وممهدا لانتصارات الانتفاضات التي تلتها وحتى ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة

 

تحية اجلال واكبار للذكرى الثالثة والستون لوثبة كانون المجيدة

 

المجد والخلود لشهداء وثبة كانون الخالدة

 

المجد والخلود لجميع شهداء الحركة الوطنية في العراق

 

العزة والنصر للشعب العراقي العظيم

 

الخزي والعار للارهاب والقتلة المجرمين في كل زمان ومكان

 

الموت والاندحار لقوى التخلف والظلام

نشرت في وجهة نظر
الأربعاء, 10 نيسان/أبريل 2013 17:39

انتفاضة الشعوب الحية

ان المتابع لحركة تاريخ ثورات وانتفاضات الشعوب العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي سوف يلاحظ بدون عناء البحث في بطون كتب التاريخ بان هذه الثورات التي اشعل فتيلها الفقراء والمثقفين والعسكر من ابناء الطبقة الوسطى لم تدم طويلا حتى استحوذ عليها وحصد ثمارها الأنتهازيين والوصوليين والنفعيين والطفيليين الذين بين ليلة وضحاها صعدوا على اكتاف الطبقات المسحوقة واعادوا بالمسيرة القهقري الى المربع الأول بهيئة وغطاء شمولي جديد لأستعباد شعوبهم مجددا" . ان الدروس والعبر المستقاة تشير الى اهمية و ضرورة الحفاظ على زخم الثورة وديمومتها لتحقيق كامل اهدافها في ترسيخ نظام العدالة الاجتماعية و الديمقراطية واطلاق الحريات بكافة اشكالها واعادة الكرامة الأنسانية التي كانت الاسباب الرئيسية في اشتعال فتيلها .

 

 

لقد مضى على استقلال البلدان العربية بحدود الستة عقود لم تستطع كل الأنظمة السياسية التي تقلدت دفة الحكم فيها من نقل مجتمعاتها نقلة نوعية على كل المستويات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ) لتبعية تلك الأنظمة بشكل او باخر الى النظام الرأسمالي العالمي والتزامها الحرفي بالوصفة الجاهزة للبنك الدولي وبايدولوجية الفكر الليبرالي الجديد الذي ربط ربطا قسريا بين الحرية السياسية والحرية الأقتصادية .

 

 

لم تلتزم جميع الانظمة العربية السائرة في ركب النظام الرأسمالي المتوحش بكامل الوصفة الجاهزة لقائدة الفكر الليبرالي الجديد والرأسمالية العالمية امريكا ، فقد التزمت هذه الحكومات فقط بتطبيق جزءا" من الوصفة وبما لايؤثر على كراسي حكمها حتى وان يؤدي تطبيقها في مجتمعاتها الى ارتفاع نسبة الفقر والبطالة والجهل والامية وازدياد مديونية الدولة للبنك الدولي وتدني مستوى التعليم والصحة والخدمات الاخرى وغلاء المعيشة حيث قامت بتحرير اقتصادياتها وفتح اسواقها على مصراعيها للرأسمال العالمي والبضائع المستوردة لتقضي على صناعتها الوطنية وتحولها الى دول استهلاكية من الطراز الأول ، اما بالنسبة لتطبيق الجزء الثاني من الوصفة المتمثل بالحرية السياسية فان بعض الحكام العرب غظ الطرف عنها والبعض الاخر قام باصلاحات سياسية شكلية وانتخابات مزورة لاعطاء الشرعية لانظمتهم الفاسدة التي اكل عليها الدهر وشرب.

 

 

ظلت امريكا منذ احدث ايلول 2001 تلوح للانظمة العربية بالعصى الغليظة بين حين واخر فحررت عقليتها السياسية المتجبرة مشروع شرق اوسط كبير وبعد معارضة شديدة استبدل الى مشروع شرق اوسط جديد لتبديل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة باكملها وبما يتلائم مع مصالحها ومصالح الاخطبوط الكارتل العالمي واعطوا لانفسهم كامل الحق للتدخل في مصير الشعوب بحجة مقاومة الأرهاب و الدفاع عن حقوق الأنسان والحريات التي كانوا غاضين النظر عنها طيلة العقود الماضية لا بل بالعكس كان لهم الدور الكبير في خلق العديد من الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة والعالم .

 

ان هدف المشروع الذي تريد تطبيقه امريكا في المنطقة هو لابعاد شبح الثورات الوطنية والديمقراطية الحقيقية عن الدول العربية باعادة رسم خارطتها ، بتجزئتها الى دويلات صغيرة ضعيفة على اساس قومي او ديني او طائفي تمهيدا لخلق ارضية وبنى تحية لصراع مستقبلي قومي، ديني، طائفي ، لتحرف نظر الشعوب عن مخططاتها الشريرة باشغالها بحروب طاحنة ، هذا المشروع الذي بدأت ملامحة واضحة في خطة بايدن المعلنة في العراق و كذلك هو الحال في اليمن والسودان ولبنان وتباعا في كل الدول العربية التي فيها ازمة دولة و مجتمع حيث تتماهى سلطة الدولة مع سلطة الاحزاب القومية اواللبرالية او مع سلطة القبلية او الطائفة ، ففي مصر ازمة دولة وازمة مجتمع بين الاقباط المسيحيين والاخوان المسلمين وفي السودان ازمة دولة تعتمد الشريعة الأسلامية و ازمة دارفور وانفصال الجنوب وفي اليمن ازمة دولة وازمة القبائل المتصارعة و الشيعة الزيدية والجنوب الذي في طريقه للانفصال وفي المغرب ازمة البوليساريو وفي الجزائر ازمة القوى الاسلامية المتشددة والمتطرفة وفي دول الخليج ازمة انظمة حكم قبلية تعود في بعضها الى القرون الوسطى وازمة الشيعة البعيدين عن الحكم والمهمشين فيها لعقود طويلة وفي لبنان المنقسمة على نفسها .

 

ان كل الدول العربية تعاني من ازمة دولة و مجتمع مع اختلاف شكلها و نسبتها بين دولة واخرى وان اوضاعها السياسية والاقتصادية و الاجتماعية تنذر بالانفجار بين يوم واخر ، ان امريكا بتأييدها لثورة تونس ومصر ومن يليها في المستقبل القريب تلعب دور الحمل الوديع الان لانها تعرف جيدا قبل غيرها بان الانظمة العربية المتهرئة المدعومة والمسندة من قبلها طيلة الفترة الماضية قد استنفذت كل اسباب وجودها و بقائها لذا ترى من الضروري ان تسبق الاحداث باعلانها التأييد لهاتين الانتفاضتين الباسلتين، ليس ايمانا" منها بالتغيير الجذري للنظام وانما لأستبدالها بانظمة اخرى لاتختلف كثيرا في جوهرها عن سابقاتها الا من حيث الشكل لكي تستمر ماكنة انظام الرأسمالي العالمي تطحن الشعوب المقهورة والمظلومة .

 

على الشعبين التونسي والمصري البطلين وقواه السياسية اليقضة والحذر بقراءة تاريخ الأنتفاضات جيدا واستيعاب دروسها البليغة في اسباب نكوصها وتراجعها والحذر كل الحذر لكي لاتضيع الفرصة التأريخية لتستعيد الشعوب المضطهدة زمام الحكم بيدها وحريتها كاملة وكرامتها الأنسانية التي مسختها الأنظمة الأستبدادية الجائرة وتعدل ميزان تقاسم الثروات لصالح الطبقات المسحوقة والمهمشة .

 

نشرت في وجهة نظر

من الامور المعروفة ان طائفة الصابئة المندائيين من الطوائف الاصغر عددا في عالمنا اليوم، ولكن هل هذا يعني تجاهلها وعدم سماع صوتها !! وهل يعني ايضا ان نتجنى عليها وعلى تاريخها ونبعدها عن الساحة الانسانية ونقلل من شأن تمسكها بنبيها ونعتبره مجرد "شفيع" كما فعل استاذنا جان صدقة في مقالته الاخيرة الموسومة (يوحنا المعمدان قديس في المسيحية ونبي في الاسلام) والتي نشرت مؤخرا في جريدة التلغراف*، وقد خلا العنوان الرئيسي للمقالة المذكورة من ذكر اسم اتباع هذا النبي الحقيقيين وهم الصابئة المندائيين !! ربما قد خفي على صاحب المقالة ان الصابئة المندائيين يؤمنون بان النبي يحيى يوحنا احد انبيائهم الاربعة الرئيسيين والتي تدور حولهم ديانتهم ومعتقداتهم، ولا يوجد دين يدعي هذا الادعاء غيرهم، فكان الاحرى بكاتب المقالة ان يتعب نفسه في البحث في عشيرة هذا النبي !! وسوف لا استطرد هنا للرد على المقالة المذكورة انفا، لان فيها من المغالطات التاريخية بخصوص الصابئة الشيء الكثير، ولكني سوف احاول ان اعرض لصورة النبي يحيى يوحنا كما يرسمها لنا الادب المندائي. 

أن الحديث عن النبي يحيى (يوحنا) ذو الشخصية التاريخية والدينية المؤثرة والمهمة جدا على الصعيدين الروحي والتاريخي، ليس بالحديث اليسير، وذلك لعدة أسباب منها:

· عدم وجود دراسات حقيقية خاصة بحياة هذا النبي في المكتبات العربية.

· اختلاف القصص حوله، الدينية والتاريخية، على الرغم من كونه أحد الأشخاص المهمين في الحركة الدينية التي انتشرت قبل وبعد الميلاد بسنوات في حوض الأردن وأورشليم.

· المكان والزمان اللذان شهدا وجوده، كانا من اهم مراحل التاريخ الديني والفكري والانساني على حد سواء، لما شهدته فلسطين ومنطقة حوض نهر الاردن قبل الفا عام، من صراعات فكرية وايدولوجية وسياسية في ظل الاحتلال الروماني للمنطقة، والتزمت والسيطرة اليهودية الدينية على المنطقة انذاك. ادت الى ظهور جماعات وطوائف تدعو الى اتجاهات فكرية مختلفة، بعضها حافظ على البقاء، والبعض الاخر انحل واختفى. وفي خضم هذا الصراع الفكري كان للنبي يوحنا (يحيى) يلعب دورا حياتيا وفكريا مهما قبل وبعد وفاته وعبر مؤيديه. 

السبب الرئيسي في هذا الغموض هو انه لم يكن مؤسسا لجماعة دينية معينة خاصة به، ولم يطرح فكرا خاصا، ولم يأتي بدين جديد. لان حتى الصابئة المندائيون والذين يعتبرونه أحد آبائهم الأربعة المقدسين وأخرهم، وحلقة مهمة من حلقات تاريخهم الديني والحياتي، يعترفون بان ديانتهم لم ينشاها هذا النبي، وانما كانت قبله وهو الذي أعاد الحيوية في فكرها وطقوسها الدينية، فهو النبي والرسول (نبيها وشليها) الذي انقذهم من ظلم اليهود، وارجع اليهم روحية المفاهيم التي يؤمنون بها. وان كلمة الرسول لا تعني هنا من ياتي بدين جديد او مؤسس لفكر خاص، وانما جاءت كلمة (رسول – شليها) بالمندائية بمعنى المنقذ ورسول من اجل اعادة بناء العقيدة والدين. 

فلذلك يؤمن المندائيون بان هذا النبي جاء ليرجع الناس الى الشريعة الاولى شريعة الإنسان الأول (ادم وحواء). لأن المندائيين يؤمنون بان شريعتهم ما هي الا شرعة الحياة الفطرية (شرشا اد هيي) التي عرفها والتزم بها آدم أبو البشر (أول إنسان عاقل). وتتلخص هذه الشرعة بمعرفة وعبادة خالقا وسيدا لهذا الكون والذي يسموه ب (هيي اي الحي او الحياة) فلذلك سموا انفسهم بالمندائيين اي (العارفين في اللسان الارامي المندائي ومن جذر الكلمة مندا-عرف او علم).

ان لهذا النبي في الأدبيات والتراث الديني الصابئي المندائي الكثير من الروايات والقصص التي تستحق ان يعرفها الباحثون وعامة الناس. والذي وصفه الانبياء والرسل الآخرين بأعظم الصفات. فها أنا اقدم للقارئ العربي الكريم فرصة معرفة النظرة الصابئية المندائية لاحد أنبيائها، الا وهو النبي يحيى بن زكريا – يوحنا المعمدان (مبارك اسمه). من خلال الادب الصابئي المندائي، وسوف يكون مصدري الاول كتاب (دراشا دْ يهيا – تعاليم يحيى) المخطوط باللغة المندائية (وهي احدى اللهجات الارامية الشرقية)، وهو أحد كتبهم المقدسة والمعتمدة بعد كتابهم الكبير (كنزا ربا – الكنز العظيم). والاثنين مترجمان الى العربية. 

بدءا يجب ان نعرف الاسم الحقيقي لهذا النبي، ولماذا هذا الاختلاف بالتسمية ما بين يحيى ويوحنا؟. ان الاسم الآرامي المندائي لهذا النبي هو (يهيا يوهنا) أو (يهيا يهانا) - أي يحيى يوحنا (وهو اسم مركب) .. وبالعربية (يحيى) – الجزء الأول من اسمه الآرامي المندائي ، وبالمصادر المسيحية (يوحنا) – الجزء الثاني من اسمه الآرامي المندائي. اي يصبح اسم هذا النبي ب(يهيا يوهنا - يحيى يوحنا) وهو اسم مركب كما تعلمون.

اما كلمة المعمدان التي تلتصق بتسميته المسيحية (يوحنا المعمدان) ليست اسم وانما لقب (كنية) عرف بها وذلك لتمسكه بتعميد الجموع الغفيرة التي كانت تقصده لتنال غفران الخطايا والدخول الى ملكوت الانوار. ولقد ورد هذا اللقب وهذه التسمية في النصوص المندائية ايضا، فقد ورد باللسان المندائي الارامي ما يلي (يوهنا مصبانا) أي يوحنا الصابغ، لان الصباغة هي المعمودية المندائية التي كان يمارسها. اما معنى الكلمتين التي تؤلفان اسمه المركب فتدوران حول معنى الحياة. ولقد وردت معاني كثيرة لاسم هذا النبي في كتب التراث العربي نورد اهمها: (الذي أحيا عقر أمه) لان أمه كانت عاقر لا تنجب ، أو (الذي أحياه من الخطيئة) أو (المحيي) لانه سوف يحيي الأيمان وعبادة الخالق في قلوب الناس.

ولد يحيى يوحنا حوالي سنة 34 – 36 قبل الميلاد (حسب التراث المندائي) وحوالي سنة 1 قبل الميلاد (حسب التراث المسيحي). وذكر ايضا بانه ولد في سنة 6 او 7 قبل الميلاد. وان التقويم الصابئي المندائي المستعمل حاليا والذي يسمى ايضا بالتقويم اليحياوي (نسبة الى يحيى) يبدأ من مولد هذا النبي. مع العلم ان المندائيين يحتفلون بعيد ميلاده (23 ايار) في عيد يسمى (دهفة اد دايما)، ولو ان هنالك راي لبعض رجال الدين المندائيين يقول بان هذا اليوم ليس عيد مولده وانما هو يوم تقبله للصباغة الاولى (التعميد)، فلذلك يسمى هذا اليوم شعبيا عند المندائيين ب(بعيد التعميد الذهبي) والذي يتقبل خاصة الاطفال الصغار التعميد المندائي في هذا اليوم. 

ولد النبي من أبوين كبيرين طاعنين في السن، وهذا ما تتفق عليه المصادر الادبية المسيحية والاسلامية ايضا. فالأب اسمه (زكريا) ويلقب او كنيته (آبا سابا) أي الأب الشيخ، لانه ذا مرتبة دينية واجتماعية عالية، عند اليهود والمجتمع آنذاك. ومعنى اسمه ممكن ان ياتي من كلمة (زكايا) في اللسان المندائي الارامي وتعني (القديس، النزيه، المنتصر). وكان عمره 99 سنة عندما ولد النبي. ولقد بارك الأب زكريا ولده النبي واعترف بنبوته. اما والدة هذا النبي فاسمها في المندائية (اينشبي) او يلفظ لفظا شائعا ب(اينشوي)، وبالعربية (اليصابات) وبالإنكليزية (اليزابيث)، وجاء ايضا اسمها في المصادر العربية ب(اليشاع)، وكانت عمرها 88 سنة، عندما ولدت النبي (يهيا يوهنا) وهي لم تنجب أبدا لأنها عاقر، وتذكر مصادر الادب المندائي بان (انشبي) شربت من الماء السماوي (يردنا اد ميا هيي – يردنا ماء الحياة) بقدرة الرب العظيم وبمعجزة اللاهية ، وتلبية لدعائها، فحبلت بالنبي الموعود (يهيا يوهنا). فهي لم ترى ابنها النبي بعد ولادته، إلا عندما صار عمره 22 عام، وجاء لها فعرفته من خلال غريزة الأمومة، وصاحت بوجه اليهود عندما أرادوا تسميته بأسماء يهودية مثل (بنيامين، شوموئيل .. الخ) .. ورفضت وأبت إلا أن تسميه ب(يهيا يوهنا) ممن وهبه الحياة.

ولد النبي وفق البشارة الإلهية لأبويه زكريا واينشبي وهي المعجزة الأولى، معجزة الولادة .. وان الله وهبه الحكمة وعلمه الكتاب وهو صغير في حال صباه فقد كان عمره 22 سنة عندما دعي كنبي في أورشليم .. وبعد ولادته مباشرة، وقبل ان تقع عينا والدته عليه، أخذه الملاك أنش أثرا الى ( بروان طورا هيوارا – جبل بروان الابيض) وتم تعميده بعد بلوغه سن الثلاثين يوما. واخذ ينهل الحكمة وتعاليم الرب العظيم من قبل ملائكته الابرار الى ان بلغ سن الثانية والعشرين، بعدها أعطي التاج والصولجان واصبح من الناصورائيين العظام (الناصورائي هو المتبحر بالعلوم الربانية)، وعاد بصحبة الملاك الى مدينة اورشليم ليجهر بدعوته واصلاحه الناس. 

ان القصة المندائية التي تؤكد على ان هذا النبي قد تتلمذ وعاش ونشا بعيدا عن اورشليم، في منطقة تعرف ب (جبل بروان الابيض) تاخذنا الى امكانية وجوده وتعليمه قد تمت ما بين جماعة الاسينيين في منطقة قمران، وممكن ايضا ان يكون هذا الجبل هو احد التلال والجبال المحيطة بمنطقة قمران (جنوب شرق البحر الميت). ومن باب اخر ممكن ان يكون ما بين الصابئة المندائيون في حران. والاخيرة فيها جدل كبير سوف احاول ان اناقشه في مناسبة اخرى بخصوص العلاقة ما بين الصابئة المندائيين الحاليين وصابئة حران القدماء.

ان الأدب المندائي المدون يتحدث عن زواج هذا النبي وتكوين عائلة كبيرة من بنين وبنات. فيذكر انه تزوج من فتاة اسمها (انهر) والذي يعني اسمها في اللسان الارامي المندائي (الأحسن، الاشرق، الاضوء)، ورزق ايضا بخمسة ذكور وثلاثة اناث، واسمائهم هي كالاتي: الذكور : هندام ، بهرام (ابراهيم) ، انصاب (الثابت) ، سام ، شار. والإناث : شارت ، رهيمات هيي (رحمة الحياة)، انهر زيوا (انهر الضياء).

توفي النبي يهيا يوهنا في فلسطين حوالي عام 28 / 30 للميلاد .. وكان يعيش حياته في التقشف والصلاة. فقد كان له مجموعة من التلاميذ ( 360 ترميذي)، وأن تلاميذه قاموا بدفن جسده بعد ارتقائه إلى عوالم النور، في دمشق سوريا واصبحت مرجعا للمندائيين وبعد ذلك صارت كنيسة إلى أن جاء الوليد بن عبد الملك الأموي وزينها بالفيسفساء وجدد بناءها وأصبحت تعرف بالجامع الأموي. وان هنالك اماكن اخرى يدعي الناس بانها ترجع لهذا النبي وخاصة في الاردن وفلسطين.

ابتدات قصة ولادته برؤية عجيبة راها احد كهنة اليهود في اورشليم، اختلت فيها موازين الطبيعة، اذ راى كوكبا هبط على انشبي ثم ارتفعت نار تتوهج في باب بيت زكريا. وحصل اضطراب في الاجرام السماوية، والارض انحرفت عن مكانها، ونيزك انحدر نحو اليهود واخر نحو اورشليم، وارتفتعت سحب الدخان في بيت المقدس. وعندما تليت هذه الرؤية على كهنة اليهود، اوعز رئيس الكهنة (اليزار – اليعازر) بان يستعان بتفسير تلك الرؤية بالكاهن (ليولخ) وهو كاهن ذو علم بتفسير الاحلام. فكتبوا رسالة يشرحون فيها الرؤية واعطوها الى (طاب يومين) ليوصلها الى ليولخ، وجاء تفسير الرؤية من قبل ليولخ بالاتي:

( سوف تلد انشبي ولدا ويدعى نبيا في اورشليم وانه سيقوم بتعميد الناس في الماء الجاري "يردنا" وسقيهم ماء الحياة "ممبوها"، فالويل لكم يا كهنة اليهود، اذا ماولدت انشبي مولودا، ويل لك يا معلم الصغار، وويل للتوراة، اذا ماولد يحيى في اورشليم. ان يحيى يجيىء ويصبغ في يردنا، وسيكون نبيا في اورشليم ).

فسرها الكهنة بان هذه رؤية ستتحقق بميلاد نبي من صلب زكريا وانشبي (اليصابات). وعلى اثرها ثار كهنة اليهود على الاب الشيخ زكريا، وقال (اليزار) له ( ابتعد عن اورشليم ولا تلقى الفتنة في اليهود )، ورد الاب الشيخ زكريا بصفع الكاهن اليزار على خده، قائلا له: (هل هناك من مات ثم عاش ثانية، حتى تلد انشبي مولودا؟ هل هناك من اصيب بالعمى ثم ابصر، او كان كسيحا ثم قام، حتى تلد انشبي مولودا؟ هل الاخرس يستطيع ان يكون معلما كي تلد انشبي مولودا؟ منذ اثنتين وعشرين سنة لم اقترب من زوجتي، فأي مصير ينتظرها وينتظركم، اذا ولدت انشبي مولودا؟!! ). 

فاعتمل الغضب والكره في قلوب كهنة اليهود الكبار، وخططوا شرا للتخلص من الوليد وامه .. وعلى اثره غضب الاب الشيخ زكريا وهمَ بالخروج من المعبد، فتبعه اليزار فراى ثلاثة اسرجة ضوئية تسير معه. فساله مستفهما عنهما، فقال له زكريا: ( يا اليزار يا رئيس جميع الكهنة، المشاعل التي عبرت امامي لا اعرف من تحرس؟!! والنار التي اتت من خلفي، لا ادري من ستلتهم؟!! ولكن اسمعوا: اي مصير ينتظرها، وينتظركم، اذا ما ولدت انشبي مولودا؟!! ).

وعرف عن هذا النبي بانه قوي وذو تاثير كبير على محيطه، ولقد جاء في الادب المندائي، وعلى لسان (يهيا يوهنا) بان مصدر قوته كانت من خلال تسبيحاته لخالقه وعبادته له، والتي صار بها كبيرا في الدنيا .. فهو لم يقم عرشا بين اليهود، ولا كانت نيته تبؤء المناصب وكراسي الحكم، لانه صاحب دعوة تصحيحية كان قد بداها في فلسطين، فقد كان زاهدا في الدنيا ولم يحب اكاليل الورود، ولم تغره النساء، ولم يكن من شاربي الخمر ولا اكلي اللحوم، ولم ينسى ابدا محبته وعبادته لابيه السماوي (الحي العظيم)، ولم يترك صباغته (تعميده) ولا رسمه الطاهر، ولم ينسى يوم الاحد المقدس. فلقد كانت مجمل احاديثه وتعاليمه تدور حول حيازة نعيم ملكوت الحياة بعد الموت. فهو يذكر الغفاة والجهلة والنبلاء والذين يتدثرون بنعيم هذه الدنيا الفانية، ويقول لهم: ( ماذا ستفعلون من اجل ان ترحل نفوسكم نقية من اجسادكم الى عالم النور بعد الحساب ؟ ).

وان لهذا النبي الكثير من الوصايا والتعاليم والحكم التي وردت في الكتب المندائية، والتي تدعو الى العبادة والنزاهة وتنقية الانفس. وسوف اورد بعضا منها للقارىء العربي، وخاصة ما يسمى منها بالراسيات:

 

رأس الحقيقة .. لا تفسد كلمتك، ولا تحب الفساد والكذب. 

راس ايمانك .. الأيمان بملك الأنوار المقيم والثابت في كل الفضائل.

راس ثباتك .. أن تقاضي نفسك.

كن كالجبل التي تنو فوقه الأزهار والأشجار ذو الرائحة العطرة.

راس علمك .. لا ترمي نفسك بالتهلكة.

راس معرفتك .. لا تقول ما لاتعرف.

راس طهارتك .. لا ترمي نفسك بالرجس.

راس ايمانك .. اعطف على الأنفس العانية والمضطهدة.

تشبه بمائدة الطعام التي تقدم للجياع وهي مبتهجة.

الحكيم من لا يبني بيتا بدون سقف.

 

كان النبي المعلم (يهيا يوهنا) حسن المظهر والوجه والصورة ، وهو على اكمل أوصاف الصلاح والتقوى ، وهو شديد الشبه بوالديه، فتذكر المصادر المندائية بان فمه وعينيه وانفه تشبهان فم وعين وانف والدته اينشبي ، وشفته وجبهته وطوله، تشبهان شفة وجبهة وطول والده زكريا ، ويقال أن النبي عند ولادته كان يضيء البيت لنوره وحسن وجهه وجماله. فكان لباسه البياض دائما، ماسكا عصا السلام (مركنا). وكان مبارك اسمه حكيم وحليم وذو نفاذ بصيرة وطبعه هادئ وودود ومتواضع ومتصدق وجميل الصورة وله جاذبية قوية وحديثه ممتع وكلامه رصين ومبني على تعاليم ربه، وكان محبا ومكرما ومجلا لأبيه وأمه وزوجته. وينقل أن النبي يحيى عندما يصلي تغرورق عيناه بالدموع من كثرة خشوعه .. ويقال أيضا انه عندما يبدا بالصلاة في الصباح الباكر ، حتى طيور السماء تركن إلى أعشاشها وتنصت لصوته وتراتيله النورانية الخاشعة . فكان يحب ويقدس يوم الأحد ، وكان يسهر ولا يغمض له جفن في ليلة السبت لاستقبال يوم الأحد ونهاره ليبدا بالصلاة. فتلك الصورة الشخصية لهذا النبي رسمها لنا الادب المندائي بكل وضوح. على الرغم من ان هنالك اسئلة كثيرة تدور حول حياته من مختلف الجوانب، تبقى مبهمة ويلفها الغموض لحد الان.

ان هذا النبي كان ينهمك في تعميد الجموع الغفيرة التي تطلب الرحمة والغفران من الرب وعلى يديه من خلال تعميده المشهور، فقد كان تعميده موجه لليهود وغير اليهود وبدون استثناء. ويجري ذلك كله في النهار، حيث ينصرف في الليل الى تلقين تلاميذه ومن يبغي المعرفة الحية، تعاليمه وووصاياه وافكاره الدينية.

اما بخصوص العلاقة ما بين يوحنا والمسيح .. فهما ومثلما هو معروف تعاصرا لفترة زمنية في منطقة اورشليم وضواحيها. ولقد جاء المسيح الى يوحنا المعمدان لكي يتقبل المعمودية على يده، وفي البدء رفض يوحنا تعميده ولكن في النهاية انصاع وعمد المسيح، وقد كان لهذا التعميد اهميته اللاهوتية والاجتماعية بالنسبة للاخير. ولحد هذه اللحظة هنالك بحوث ودراسات جدلية كثيرة في مجال العلاقة التاريخية والروحية ما بين هذان النبيان.

واذا اردنا ان نكون باحثين محايدين يجب ان ناخذ جميع النصوص الدينية (اي كان مصدرها) ونجردها من محتواها الميثولوجي الديني، ومقارنتها بالاصول الاخرى، وتحليلها حسب المعطيات التاريخية والاجتماعية في عصرها، لكي نخرج بصورة ربما تكون اقرب الى الحقيقة التاريخية. على العموم تبقى مساءلة حياة هذا الرجل النبي محط اهتمام الكثير من الباحثين (الغربيين) لما له اهمية في اكمال حلقات مفقودة من التاريخ الايدولوجي والروحي في فترة التاريخ المسيحي المبكر وكيفية نشاتها. فلذلك من الاهمية ان نقوم بعرض حياة هذا النبي من وجهة نظر مندائية، لكي نحاول مقارنتها مع وجهاة النظر الاخرى التي تصدت لهذا الموضوع في ادبياتها. على الرغم من اننا قمنا بعرض الجزء اليسير من تلك الرؤية المندائية وذلك بما سمحت لنا مساحة الكتابة في هذا المنبر الاعلامي المفيد.

* جريدة عربية تصدر في استراليا، الاربعاء 23 حزيران 2004 العدد 4191.

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014