• Default
  • Title
  • Date
الثلاثاء, 29 أيلول/سبتمبر 2015 15:00

معلم التاريخ

سار ستار مبتعداً عن صفه الذي يدرس فيه، بخطى واثقة، بطيئة ومدروسة كمن يمشي في جنازة، في الممر الضيق المؤدي إلى غرفة معاون مدير مدرسة الانتفاضة الابتدائية، في صباح كانت فيه الشمس الحارقة سيدة الكون دون منازع، وستار بملابسه العتيقة، الرخيصة التي لا تعبر عن زمن ارتدائها وألوانها التي لم تعرف حقيقتها لقدمها.
كانت الحياة في منتصف السبعينات مزيجاً من الفقر والجوع والجهل العام المهيمن على صحة ونفوس العراقيين والظلم والقهر القابع في القلوب والمعجون بالقمع والقسوة لكل من يقول أو يتفوه بكلمة لا تريد الحكومة- عذراً - أقصد العصابة الحاكمة وقتذاك سماعها...
كان ستار ابن المرحوم ماهر، الذي كان يمتهن الحدادة، والمعروف بسمعته الطيبة، كفقره، لم يتجاوز ستار الثانية عشرة من العمر، نحيف الجسم، كفتيل قنديل مستعمل، وسمرته الداكنة أعطته مسحة من الحزن، أضيفت إلى رصيده الشخصي في التعاسة والفقر، قليل الخبرة، ضعيف الشخصية، كأي طفل عراقي في وقته وسنه، يتابع سيره باتجاه غرفة المعاون الذي يتأمل فيه خيراً وعوناً...
في خلده كانت أمنية وجدها سهلة التحقيق، وأثناء سيره، لم يكن يفكر إلا بالساعات التي سيقضيها بعد أن يوافق معاون المدرسة على ما يفكر فيه أو السبب الذي دعاه ومن أجله يريد لقاءه والمثول بين يديه...
وفي طريقه بالممر الطويل الذي يفصل صفه بغرفة المعاون، التقى معلم التأريخ" الأستاذ خلفاً " ذلك الشاب الرزين، الرياضي، ذو الكفين والكتفين العريضين وكأنهما يعودان إلى خباز أو سباح، حليق الوجه، قصير الشعر، بعينين غير مرحتين كعيني ثور صغير، وأنفه يشبه أنف الصقر وقد أنسد منخاراه بشعر كثيف أسود فظهر نافراً متملصاً متلصصاً ومتدلياً من أنفه كالأسلاك السائبة، بصوته المبحوح، المجروح العالي الذي يرن ويصدح في الآفاق كلما تحدث، ويجلس في أصبعه الثالث من يده اليسرى خاتم ذهب كبير يخطف البصر يلمع؛ فسألَ ستار بسرعة وبأسلوب لين أقرب إلى الإغراء والترغيب بعد أن أجبره على التوقف:
لماذا أنت هنا؟ ثم عدل من صيغة سؤاله مضيفاً:
أقصد لماذا تركت صفك في هذا الوقت المبكر من الصباح؟
- بنبرة مسحوقة كالنجوى:
معذرةً أستاذ، أنا جئت بغية رؤية السيد المعاون في أمر يخصني!!
- كأحد زبانية جهنم، بعدم اقتناع ممتقعاً:
ماذا؟ وتقول أمر يخصك وأمامي!! هكذا، بكل علانية ووقاحة!!
- منكساً رأسه بخوف ووجل ويهز رأسه علامة الإحباط:
أنا آسف يا أستاذ!!
- بانفعال أبعد عن العقل وبصوت أقرب إلى التهديد جعجع:
آسف... على ماذا؟!
- مخذولا بقهر وهو يحرك يده بالهواء دليل الحيرة والاتباك:
لا أعرف!! لكنني... أنا... أقصد، جئت لمقابلة السيد المعاون!!
- وماذا بعد؟ وعيناه متوهجتان بالغضب والحنق.
- قبل فترة شاركنا في حملة عمل شعبي كما تعلم، وكنت أنا من ضمن الطلبة الذين ساعدوا في بناء مدرسة أبو منصور الابتدائية، حتى أنك كنت الأستاذ المشرف على الحملة... قال ذلك ستار كله مندفعاً وكأنه بهذا الحديث مختنق، فأرتاح بعد أن باح ما في خلده وصمت.
- وما دخل ما قلته برغبتك في لقاء السيد معاون المدير؟!
- مهتاجاً:
المسألة... أعني، لا أستطيع أن أقول لك لماذا!! أرجو عفوك...
- إن لم تقل لي لماذا، سوف لن أجعلك تقابله!!
- احتار ستار في أمره، برهبة نظر له ثم إلى الأرض مرتبكاً ورد بحذر:
جئت لأطلب لنفسي إجازة من المدرسة لهذا اليوم!!
- خرج الأستاذ عن طوره، صرخ به مزمجراً بجنون وكأنه مس كرامته:
إجازة!!
- بهيبة:
نعم، لأنني وعدت أمي بذلك.
- بدهشة وصلت حد الإنكار:
أمك!! ثم أردف بقسوة أقرب إلى الأذى:
هل تريد أن تضحك عليّ يا ولد؟ ما دخل أمك في شؤون المدرسة ونظامها؟
- تردد ستار كثيراً قبل أن يجيب، وبعد فترة ثقيلة من الصمت ناح بهمس:
لذلك قلت لك أريد رؤية السيد المعاون شخصياً!! فزاد رد ستار غضب الأستاذ...
- لقد زادت وقاحتك وتعدت حدودها، لا يمكن السكوت عليك بعد الآن أبداً!! ثم تابع مندفعاً:
لن أسمح لكَ بمقابلة السيد المعاون، وعليك أن تعرف أن المدرسة لها قوانينها وحرمتها، لذلك يجب أن تقول لي لماذا تريد مقابلته؟
- اهتز بدن ستار خوفاً، تلكأ بالرد ثم أجاب مقتضباً:
الحقيقة يا أستاذ أن أمي بحاجة لمن يساعدها في ترميم سطح البيت الذي نسكه، حيث كلما أمطرت السماء كلما غرقت غرفنا، لذلك ترجتني بمساعدتها لإصلاح السطح مع أخي الكبير، اعتماداً على خبرتي التي جمعتها أثناء عملي في بناء مدرسة أبو منصور كما تعلم... ثم بصوت مخدوش:
هذا كل ما في الأمر...
وما أن أنهى كلماته الأخيرة، حتى نزلت على خده صفعة قوية من كف معلم التأريخ الذي فقد أعصابه وهو يستمع إلى تبريرات الطالب ستار بغية حصوله إلى إجازة كي يساعد أمه في ترميم سطح بيتهم، وهاج وماج صارخاً به، بعد أن أشفى غليله بتلك الصفعة القاسية التي حولت خد ستار إلى قطعة متوهجة، حمراء ملتهبة من اللحم:
أنت يا فتيلة القنديل المحترقة التي لا تقوى حتى على الاشتعال، تريد أن ترفع الطابوق والأسمنت والجص والطين؟ هل تريد أن تغشنا؟ أنت الذي لا يقوى على الوقوف تريد أن تفعل كل ذلك؟ يا لك من طالب مخادع، كاذب وسخيف... ثم صرخ به آمراً:
اذهب إلى صفك وأكمل يومك المدرسي وبعدها اذهب إلى أمك التي تنتظرك يا فتيل القنديل، هيا تحرك ولا تنظر لي هكذا كالأبله...
ذاب ستار بالصمت ولاذ به بعد أن ترقرقت دموعه بلوعة وحرقة على خده الملتهب، وهو يتحرك باتجاه صفه متحطماً، مقهوراً ومخذولا... ليس لأنه تلقى صفعة قوية عند الصباح دون ذنب، بل لأن الأستاذ خلفاً لم يصدقة!!

نشرت في قصة
السبت, 26 أيلول/سبتمبر 2015 19:41

عزاء صامت

 

التقيته في بيت صديقي رغيد، أسمه "آدري"، هو من وافق على سكني في القرية قالها صديقي.. كان يعمل مديراً في بلدية المحافظة قبل احالته على التقاعد.. طويل القامة نحيف رخيم الصوت في بداية العقد السابع من عمره.. بيته لا يبعد كثيراً عن بيتي.
مضت السنون، هاجر صديقي الى السويد ، تزوج هناك، لقد كان العراقي الوحيد في القرية. كنت إذا رأيت "آدري" صدفة مع زوجته، تبادلنا التحية السريعة والسؤال السريع ونمضي.
في احدى الأيام تصادم من بعيد وجهي مع وجه زوجته في السوبر ماركت.. رفعت يدها ورفعت يدي أحييها .. شيء ما دار في رأسي، كانت تتسوق لوحدها ومنذ مدة طويلة لم أرهما .سألت نفسي يا ترى هل افترقا فهي زوجته الثانية، تزوجا على كبر وكانت صديقة زوجته.
تذكرتُ حينها جاري "ياب" قبل ثلاث سنوات كان خير معين لي.. ساعدني بتصليح دراجتي النارية، ربطتني معه علاقة ودية عمره عند منتصف السبعينات ، طويل القامة، ضخم البنية، ابيض الشعر لا يملك سوى ضرسين وسن قاطع في فمه، في احدى الأيام دلفت بيته عند المساء، كان الرجل يعشق الخمر قال لي: المرأة الهولندية تعشق النقود وأخرج محفظته، طرحها فوق الطاولة وأردف، زوجتي طلبت الطلاق مني حين فقدت عملي إثرَ إصابتي؛ لكني هددتها.. قام من مكانه وفتح دولاب مكتبته وأخرج مسدساً، لا اعرف مدى صلاحيته، قلت لها، بهذا المسدس سأقتلكِ لو تزوجتي !!، لم تتزوج لحد الآن .. إمرأة طاعنة في السن تسكن الشارع الآخر .
أمنيته الوحيدة، الذهاب الى بنَما.. تحققت بعدما بلغ الثامنة والسبعين، غادر مع صديقه، لمّا عادا توفي صديقة بعد شهر بحادث.. ومرض ياب جراء سفره. كانت رحلة الوداع.
سيارة اسعاف واقفة قرب داره، ركضت اليه..أخرجوه المسعفين مربوطاً على الحمّالة.. أدرت وجهي الى ضحكة استفزتني، كانت جارتي الفضولية التي طالما عصيّ اسمها عليّ واصبحتُ اناديها في بيتي صاحبة الكلب، تُكلمُ من شباك غرفتها العالي جارتي الأخرى والتي كانت واقفة قربي، قالت: قد يكون في حالة سكر ولا يدري... ضحكتا.. لكن خيّم الحزن على وجهي.
بعد ثلاثة أيام كانت سيارة واقفة قرب داره، دخلتُ بيته مسرعاً وكان صديقه.. جالس يحتسي البيرة ودمعته صامته في عينيه قال: لقد كان المرحوم صديق أبي، قبل وفاته طلب مني أن أغطّيه بعلم بنما .. سيدة بعمر الأربعينات معها شاب دخلا علينا، حمل الشاب طقم أسنان صناعية ..يضحك ويقول: هذا ما تركه لي جدي ...صُدِمت!! وصمَتَ معي عزائي.
عادت بي ذاكرتي عندما كنت صغيراً، توفى "زاير شامخ" رجل كبير في السن، يسكن الشارع خلفنا، جاءت مركبة كبيرة عارية السقف "لوري" حملت نساء لبسن السواد، بعباءاتهن السوداء ربطنّ خصرهنّ، وصبغنّ وجوههنّ بالطين، نزلنَّ رباعاً رباعا، يلطمنّ بإيقاع يفتت الصخر بلحنه؛ حتى وصلنّ بيته.. والرجال تحلقوا فيما بينهم، حمل أحدهم عَلَماً أخضر اللون رفعه بعصا، نهايتها التصقت بكرة معدنية تبعث خرخشة عند هزها، يدورون حول الدائرة، وآخر حمل مسدساً، يضرب العيارات النارية .عندها عَلِمَ من لا يعلم أن "زاير شامخ" انتقل الى جوار ربه.. هذا ماكنت أراه في العزاءِ.
هاتفي يرن كان صديقي الذي هاجر الى السويد.. منذ اكثر من عام لم أسمع صوته.. بعد أن تبادلنا الكلام والإشتياق سألته عن" آدري "؟
قال :رحمه الله لقد توفى منذ أكثر من عام، اتصلت بي ابنته وقالت لقد توفى أبي!!..
صعقني الحزن وأنا أعيش غربتي، حيث تشتت في أصقاع الأرض أهلي ، وعزاء صامت أحاط بي .

نشرت في قصة
الجمعة, 03 نيسان/أبريل 2015 10:42

لوحة بعنوان – وقت في عمق المساء

الكل يتجمعون، يتوافدون من كل الجهات، وفي طياتهم ترنيمات السكارى، وميل العاشقِ للرقص، تبدو على محياهم مظاهر الفرح والسعادة، والتخمة حد الشبع، ملابسهم أنيقة، وكأنهم ملائكة الجانِ والسحر، ألوانها ممزوجة بعطر الياسمين ونور الشمس، وعلى كل حال، فهم أناس عاديون، يمتلكون ما نملك، ولكن لا كما هم، بل كما نحن!
يدخلون المكان المتلألئ بأنواره الساطعة الحارقة، مكان يملئه الفراغ والصمت، سوى واجهة أمامية تطلُ على مقاعد كثيرة فخمة، تدلُ من الوهلة الأولى للناظر، على أنها كانت في الأمس، قاعة لقصر ملكي، وما أن أصطف الجميع، وأخذَ كل منهم يهمسُ للآخر، الوقت قد حان، سنعيش لحظات لا يمكن لنا أن ننساها بسهوله، ويغمز الآخر له، معك حق وكلامك لا ينقصه سوى الإطراء، فينتعش فخراً، وتمتلئ رئتيه بالهواء حتى تكادان تنفجران من الكبرياء!
تبدأ الأنوار بالاختفاء، كلحظات غروب الشمس، حينها تندثر الأصوات تحت القبور الثرية، وتخمد الأنفاس، سوى من لهاث الشيوخ وسعالهم، يزحف الظلام إلى أجزاء المكان، يمليه ، يمتصه، ويخيم عليه، فيحيط بكل أجزاءه، ليطبق السواد، كالليل ليكون الكل واحد!
تنفرجُ الستارة، ليخرج وهجاً، منظر يدلُ على أنه مكتب لأحد رجال الأعمال، ثمَ يظهر رجل ممتلئ الجسم، يرتدي بدله سوداء عريضة، لتبدو وكأنها جناح خفاش، وعلامات الغضب والخجل واضحة على ملامحه، فبدأ متعثراً بلسانه الذي لا ينطق، محاولاً الكلام، دونَ جدوى، وبعدَ أن واتته الشجاعة، قال: نحنُ نعتذر جدا ، فبطل المسرحية معَ أثنين من الممثلين لا يستطيعون الحضور لعرض المسرحية الليلة، ولأسباب جوهرية تمنعهم من الحضور. سيؤجل العرض إلى الأسبوع القادم، فتقبلوا منا كل الأسف والاعتذار.
ومرة أخرى تنكشف شمس الأنوار، ليظهر الجميع، الواحد مختلف عن الآخر، كي يمارس دوره، بمفرده في استغلال غيره، لكي يعيش وهو مزهواً، عالياً، في نفسه فقط.

نشرت في قصة
الجمعة, 03 نيسان/أبريل 2015 09:23

رجل الصيانة

تصدقون أو لا تصدقون... لا يهمني!
فكل ما أريد أن أخبركم به هو أن لرجل الصيانة كانت قصة، ولكن أية قصة؟! ولا في الأحلام... حدثت في ألمانيا في بلد الحرب والدمار والسلام!!
توطنت علاقتي وتطورت مع سيد ماير منذ أن استأجرت المتجر الذي أعمل فيه... حتى أصبحت علاقتي به مثالاً جيداً يحكى بين الناس من حيث الوفاء والإخلاص وبرهنا على ذلك في مواقف كثيرة متعددة لا تحصى.
كان سيد ماير رجلاً ألمانياً طيب القلب، نقي السريرة، قليل الكلام كثير الابتسام ويحب الخير للجميع كما لنفسه... رفيع القدّ طويلاً في منتصف الحلقة الرابعة ويبدو كأنه تجاوز الخمسين، صاحب شعر أحمر ناعم وطويل يعقده خلف ظهره فيبدو كذيل الحصان تلاعبه الريح وتهزه؛ يعمل مع زوجته( التي تقوم بمهمة التنظيف ) مسؤولاً عن صيانة البناية التي أملك فيها متجراً.
في إحدى العصاري القصيرة زارني والوجوم والشؤم يعلو محياه وكأنه عقد تحالفاً مع الشيطان لتوه فبدا مثل غراب طاعن في السن وهو يتأفف هلعاً ويزفر دون انقطاع وفي عينيه جرأة لا يثقبها الرصاص مردداً:
تباً لهم من أوغاد ثم عاوده السكوت المتألم الذي شككت بطوله، فصح اعتقادي حتى رجع منفجراً بغيظه كشخص مسكون بالأرواح:
إنهم ليسوا أوغاد فقط كما قلت، بل فاجرين ملعونين وأولاد سوابق... فقاطعته محتجاً صارخاً بهمس كفنان يعشق فنه بعد أن فاجأتني طريقته الغريبة التي دخل وتحدث بها والتي لم اعتدها منه بعد أن تفاعلت مع هوسه المفاجئ:
أقصر الشر واخز الشيطان يا سيد ماير!! ثم وعيت على جملتي التي تغنيت بها فعدلتها بصيغة وجدتها أقرب إلى التوسل:
أقصد ماذا هناك؟! لماذا أراك منهاراً وكأنك تريد البكاء!!
- بضحكة متشنجة كصراخ قطة محاصرة:
الذنب ليس ذنبي، هؤلاء المسحوقون الذين يشبهون الفئران المريضة الحاملة للطاعون هم من جعلوني أخرج عن طوري وأفقد توازني وبهذه الطريقة المخزية التي تراني بها!!
- بالأمانة المقدسة ماذا تقصد؟ وما حكاية الفئران حاملة الطاعون؟
- متهدجاً ملتاعاً وبنبرة محطمة يائسة لعلع من تحت شاربه العريض:
هؤلاء لا أسمعك الله أصواتهم ولا أراك وجوههم مثل ناموس يحمل الملاريا لا دين لهم ولا أخلاق... وهو مازال يزفر بضيق شديد وكأن كبرياءه انفصل للتو عن جسده وأنا جيداً أعرفه... صاحب ذوق رفيع وحساساً جداً وينهار لمجرد لمسه توخز سمعته، لذلك تعاطفت معه حدود الحزن بسبب منظره وكلامه...
أجلسته بهدوء وجلبت له كأساً من الماء وقلت له بطريقة متناغمة بين الرجاء والطلب وبصوت خافت وكأنني أمارس طقساً دينياً: لا عليك يا صاحبي، كل شيء يهون، لكل مشكلة ولها حل، أهدأ أولاً واحكِ لي بالضبط ما حصل...
صمت قليلاً وكأن مؤامرة في متجري تجري، عسعس بأدب مثل أدب القرود وقال:
يريدوننا هؤلاء الذين لا أريد أن أسميهم بأسمائهم أن نسبح بحمدهم!!
- بتراخٍ: أنا أستمع لكَ جيداً... أكمل!!
بنظرة ثقيلة كثقل اليأس والحيرة تابع: اسمع، كنت قبل أيام وعند الصباح أحوم حول البناية لفحص مواسير المياه وإذا بي أجد مجموعة من الشباب السائب يكتبون بالألوان السوداء والحمراء على حيطان البناية ويرسمون أشياء( لا أريد أن أذكرها الآن ولكنك تستطيع أن تقول عنها فاحشة ) وأردف مستطرداً بنبرة مخذولة وبصوت مسلوخ:
اقتربت منهم وأخبرتهم بأني رجل الصيانة هنا ولا اسمح بهذه الأفعال المخربة وقد قلت أشياء كثيرة وقتها وانفعلت وصرخت دون أن يعيروني أية أهمية... فتركتهم مبتعداً ومن إحدى الزوايا التي لا يستطيعون فيها رؤيتي قمت بتصويرهم بجهاز هاتفي المحمول لأثبت تورطهم بالصوت والصورة في هذه الجريمة التي توقعت أن يحاسبهم القانون عليها!!
- متدخلاً بطرف غاض: لا قدر الله... هل تشك بعقابهم ومحاسبتهم وأنت قمت كما قلت بتصويرهم؟!
- متأوهاً كمن تعرض إلى حادث:
نتف الله شعر صدورهم شعرة شعره... هذا هو الموضوع الذي جعلني أنهار وأجن!!
- بغيظ مكتوم:
كيف يعني؟ لم أفهم عليك... أرجوك وضح لي المسألة...
- ما أن أكملت تصويرهم حتى ذهبت فوراً إلى مركز الشرطة وقدمت لهم التسجيل الكامل الذي لا يقبل الشك في إثبات تورط هؤلاء السائبين أولاد الحرام في جرمهم بعد أن شرحت لهم عملي ووظيفتي... وما أن فعلت ذلك حتى شعرت فجأة وكأني أشم فيهم رائحة عفنة كرائحة قبر فتح للتو بعد ألف عام من إغلاقه فهمُّوا بوضع سلاسل الحديد في يدي وقالو بعد أن تقمصوا دور الشياطين وكأنهم يريدون بذلك إثبات مواهبهم اللعينة:
أنت متهم!!
صرخت في وجوههم وبنبرة صارمة تخللها السعال والفحيح: متهم بماذا؟!
قالوا قمت بتصوير أناس ليس من حقك تصويرهم دون إذن!! واسترسلوا بتشاؤم متابعين: نحن هنا في بلد لا نسمح من أن نجعل أحدهم يكون وثناً بشرياً كي نعبده!! ثم تابعوا صولتهم مندفعين وكأنهم في حرب ضروس:
إذا أنت فعلت هذا وغيرك يفعل الشيء ذاته ستصبح دنيانا وحياتنا الساكنة الغارقة بالنظام فوضى ومن ثم ماذا سيتبقى لنا من عمل نفعله نحن أصحاب الشأن والمسؤولين عن هكذا مخالفات؟!
حاولت إقناعهم أو شرح موقفي الصحيح كموظف يعمل على حماية وصيانة البناية التي أعمل فيها... هذه العالية التي أتمنى الآن من أن تسقط على رؤوسنا اليوم قبل الغد دون فائدة تذكر، وعملوا بعدها محضر جلسة، وهأنا أنتظر موعداً للمحاكمة، بعد أن تحرزوا على هاتفي المحمول كدليل إثبات ضدي!!
تابعت حديثه بمودة خالصة بعد أن انفطر قلبي له ولمأساته وضحكت في سري متألماً لحال صديقي الوفي وأنا أشعر بالشياط يفور بداخلي من أجله، وتذكرت لحظتها العراق... بلدي... وكم تمنيت في تلك اللحظة أن أموت!! وإذا بدمعة كبيرة متحجرة صامتة كطبعي طفرت من عيني دون أن أعي لماذا...

نشرت في قصة
الجمعة, 27 آذار/مارس 2015 03:28

تداعيات 6

عِندما رأيتُ دُبـّـا
في معظم أيّام حياتنا نواجه ما لا نتوقّع ، وتصدرُ تبعاً لذلك ردودُ أفعالٍ لا يُمكن التكهن بها ؛ خاصة عندما تكون جديدة ، أو غير متوقعة الحدوث ، أو هي مما لم نتعامل معها في حياتنا اليوميّة.
وكما يقال { الذكرى ناقوسٌ يدّقُّ في عالمِ النسان } ؛ لذا سأروي لكم اليوم ما حدث قبل ثلاثين عاماً ، آسف إنها أربعون عاماً و شهرٍ واحد فقط ، - يالها من سنوات مضت ، أطيبَ من الشهد ، وأمرَّ من العلقم -!
ذلكَ الشتاء كنتُ في شمال العراق ، جندياً إحتياط للمرة الأولى بين عامي 1974\1975 .
آنذاك كنت قد وقعتُ في الحبِّ لأولِ مرة ، وهاهي أعيادُ الميلاد ورأسُ السنة ستأتي بعد يومين ، النار تأكل الحشا ، والقلبُ يضطرمُ بلوعة البُعد ؛ فلقد مضت أكثرمن ثلاث أسابيع وأنا في شمال العراق بين جبال منطقة { سفّين}* الشاهقة ،حيثُ الثلوجُ تُحيطُ بها ، وتفرشُ بساطاً أبيض يكاد يلتمعُ تحت ضوءِ قمرٍ شتائي يشكو لوعةَ بُعده عن العشّاق ، كنت يائساً حزيناً ؛ فليس هناك من بارقةِ أملٍ في الحصول على إجازة قصيرة ،أستطيع معها رؤية الحبيبة أولاً، والأهل بعد ذلك و بدأ الحزنُ يغلّفُ روحي ويخنقُ حركاتي ، لكن القنوطَ ولّد فكرةً جهنميّة ، وبحثتُ عمن يساعدني على تحقيقها ؛ فغيابي سينكشف حالاً أو بعد عدة ساعات ، لأني كنت مكلّفاً حينها بنقل الأرزاق من الخطوط الخلفيّة للسريّة وإيصالها إلى أفراد السريّة في أعلى قمّة لجبل سفين ، - ويتاج لأكثر من ساعة للوصول لقم ذلك الجبل الوعر المسالك ،وليس من له خبرة في التعامل مع( أبو صابر)** سوى المخلوق الضعيف - أنا – وكذلك صديقي الذي كان يتمتع باجازته وقت ذاك ، ووجدته ، إنه - عريفُ الإعاشة - شابٌ من أهالي مدينة هبهب يعتزُّ بي أيّما إعتزاز ، وحدّثته بما خطر ببالي ؛فتراجع فزِعـاً مما أخبرته به ، لكنه أخيراً طأطأ رأسه موافقاً بعد إقناع وإلحاح منّي ؛ لقد أقنعته بأن ننزلَ سويةً إلى بغداد ..........
ولإنجازالخِطّة كان لِزاماً علينا الحصول على نماذج إجازة ، وليس هذا بالأمر العسير ؛فطالما نحنُ ضمن قطّاع الإعاشة ؛ فالنماذج موجودة عند عريف الإعاشة ؛ فقام هو بكتابة إسمه على نموذج ، أما أنا فلقد أرسلتُ نفسي إلى مستشفى أربيل العسكري ؛ لغرض معالجة أزمة كلويّة حادة ، إضافة لنموذج إجازة مختوم ، لكنه بلا توقيع الآمر !
لكن قبل ذلك ؛ ولأُعطي نفسي قدْراً كافيـاً من الوقت كيلا ينكشف غيابي ؛أوصلت مواد الإعاشة إلى أعلى قمة جبل سفين حيثُ الجنود ينتظرون الإعاشة والرسائل بلهفة ما بعدها لهفة ، وما أن رجعت إلى الخلفيّات حتى إكتملت أركانُ خطة النزول ؛ فكنتُ أولَ الإثنين حيث كانت الأرض وكأنها غير موجودة تحت قدميّ ، كنتُ وكأنني أطير ولستُ أسير على أرضٍ مغطاةٍ بثلوج شتاءٍ كانوني ، وبعد مسيرة حوالي الخمس عشر دقيقة ، إلتفتُ لأكلّمَ صديقي عريفَ الإعاشة ، و....جمد الدمُّ في عروقي ؛ فلقد كان صديقي مُنحيناً وهو يتحدّث مع أحدٍ ما داخل سيارة ( واز قيادة )*** الصاعقةُ حلّت وشلّت حركتي وتفكيري ، يا للهول ، لقد إنكشفت خطة نزولنا إلى بغداد ، وهاهو آمر السريّة يُرسل من يُعيدنا إلى سجنِ السريّة ، هكذا وبسرعة مذهلة أرسل دماغي إشاراتٍ سريعةً أوقفت كلَّ حواسي ولم أعد أشعر بما يُحيط بي ؛ فلقد أُسدلت ستارةٌ سوداءُ وأنتهى حلمُ رؤية الحبيبة ، إنه ولا شك مشهدٌ لمسرحيّة لم تكتمل فصولها بعــــــــــــــدُ ...
و.....تسمرّتُ في مكاني ،أأهرب أم أعود ؟ العريفُ يؤشر بأن أعود ، وقلبي ينأى عن هذا الطلب ، وأنا أرددُ (السجن خلفكم والهربُ أمامكم )، لكن كيف الهرب ، وهناك سيارة سريعة يُمكنُ أن تلحقَ بي خلال دقائق ، والثلج أحاط بي إحاطةَ السوار بالمعصم ، السيّارةُ واقفةٌ ، والعريفُ يؤشر بأن أعود ، و....عدتُ كسيراً مُجهداً ، مُجتهداً لأعرف ماذا قال العريف لمن في داخل السيّارة ؛ كي أقولَ ما يطابق قوله ، لكنه بادرني والبسمةُ تعلو وجههَ الخالي من الشعر ،وأسنانه تعلوها صفرةٌ غريبة ،وبفمٍ مفتوحٍ فَرحاً قال : ( صديقي محمد سيوصلنا إلى سيطرة أربيل ؛لأنه مأمور لمهمة خاصة هناك ) ولم أعد أعرف ماذا أقول !
واجتزنا السيطرة العسكريّة بلا مشاكل ، لكن كان كراج أربيل - بغداد يعجُّ بالجنود وبالإنضباط العسكري وبرجال الأمن من كل صنفٍ ولون ، ومن شدة ذهولي بما أصابني قبل قليل أخرجتُ ورقة الإجازة لأوقعها بدل آمر السرية غير مكترثٍ بما يدورُ حولي ، وبلا مقدماتٍ نضب الحبرُّالأخضر من القلم ، وجفَّ مداده .....! وبلا تأخير وبدون وعي طلبتُ من أحدِهم أن يُعطيَني قلم جاف ، ونظر إليَّ ولم ينبس ببنت شفة ، وناولني القلم ، ووقعتُ الإجازة ووضعتها بجيب معطفي الثقيل ، أمّـا الرجل الذي أعارني القلم فكان يلتفتُ يميناً ويساراً ؛مخافةَ أن يشاهدنا من لا يتورّعُ في زجي بالسجن بتهمة التزوير والهروب من المعسكر ،ووصلت السيارة وخلال دقائق إمتلأت عن آخرها وانطلقت إلى بغداد ، ولم أنتبه أكان عريف الإعاشة معي أم لا ؛ فالمهم أن أصلَ بغداد وليذهب الآخرون إلى الجحيم !
و... وقضيتُ في بغداد ليلتين عشتُ خلالها أجمل أيام عمري ، أرتشف ألذَّ الشهد ، والمشروبات التي ومن كثرتها قادتني إلى مستشفى مدينة الطب ؛ لغرض غسيل معدتي لحدوث تسمم كحولي......
وعدتُ بعد يومين إلى أربيل ومنها إلى كوم سبان ومنها إلى جبل سفيّن ، وما أن وطأت قدماي أرض المعسكرحتى وجدت نفسي مُحاطاً بأصدقائي مهنئين بعودتي ، ومرحبين بي وقادوني بعدها إلى آمر السرية مخفوراً حاملاً معي ( يطقي ) **** حيث أعلموه بعودتي ،فأمرهم أن أحمل أغطيتي لأتم عقوبتي في السجن الواقع في مقرالسرية فوق جبل سفّين ، ولم أكن مهتماً بما سينزل بي من عقاب ؛ فلقد حققت ما أردتُ ، وهو أروع
شيءٍ حدث لي خلال خدمة الإحتياط ، وأكملت أسبوعاً في السجن والبردُ يأكلُ من أضلعي و الجنود يأسفون لما يحدث لي ، وكنت حينها معروفاً من قبل جميع من في السرية ، لأني في مكتب السرية وقائد بغل الإعاشة ، ومعلم ، وأدرس حينها في الجامعة المستنصرية ، فكنتُ ذا مكانةٍ متميزة بين الجنود ، لكن كلَّ ذلك لم يشفع لي واُطلق سراحي بعد اسبوع وكُلّفت بواجب هو من أتعس الأوقات والذي خدم في العسكرية يعرف الفترة الممتدة بين الثانية عشرة والثانية صباحاً أو الثانية صباحاً حتى الرابعة فجراً ، وأخذت مكاني في الربيّة المسقفة ببعض الجذوع التي لا تقي لا من مطرٍ ولا من ثلجٍ ولا من أي حيوانٍ جائعٍ يبحث عما يسدُّ جوعه ...الساعة تقريباً الثالثة فجراً والسيكارة العاشرة على وشك الإحتراق الأخير ؛عندما رأيتُ تحت ضوء القمر ما جعل شعر رأسي يقف ذُعراً ،إنه دبٌ ، نعم دبٌ ضخم ، ولا شك في أنه جائع وسأكون طعاماً شهيّاً له ، لقد نسيتُ في غمرة خوفي وذهولي بأني مُمسكٌ ببندقيّة نصف آليّة وفيها ثلاثون إطلاقة تُردي الدب في أقل من ثانية ، و....بقيتُ أنتظر والقلقُ والخوفُ جعل الساعةَ الأخيرة دهراً ،ولعنت خلالها النزق والطيش الذي أوصلني إلى هذا المكان ... وانقضت الساعة وهاهي الرابعة فجراً ؛ والدبُّ ما زال في مكانه ، أو لربما قد تحرّك قليلاً ولم أنتبه لتلك الحركة ، لكن يجب أن أنتبه وأُحصي أي حركة من حركاته ؛ كيلا أُأخذ على حين غرّة !
يا إلهي ، -يا للخوف ماذا يفعل ببني البشر ! وسحبتُ نفسي بخفة لأجعل الجندي الآخر يأخذ دوره في الحراسة ، وفي نفس الوقت اُحذره من الدب ، وفعلت ، ودسستُ نفسي داخل الأغطية الدافئة ، وما هي إلا دقائق حتى صحوت على صوتٍ يدعو للتجمع الصباحي ، لكن قبل أن ألتحقَ مع بقيّة الجنود للتعداد الصباحي تطلعت حيثُ مكان الدب ؛ لأعرف هل غادر أم مازال في مكانه ، ووجدته في مكانه لا يتحرّك ؛ فلقد كان جذعَ شُجيرةِ عنبٍ ويفصلُ بيننا وادٍ عميق ~

20\2\2015

* (جبل سفين ) جبل شاهق يفصل شقلاوة عن المنطقة التي كنا فيها
أبو صابر) * كنية ( البغل ) قاهرالجبال ومنقذ الجنود من الهلاك) (**
***( واز قيادة ) سيارة عسكريّة صغيرة مخصصة للضباط **
***** (اليطق ) فراش المراتب والجنود

نشرت في قصة
الثلاثاء, 03 آذار/مارس 2015 14:23

خواطر ملونة

حُبٌ وألم
عندما كنت طفلاً كانت أمي تدخلني حمّام البخار ...دقائق وأفر منها هارباً لأسحب انفاسي...ذَهَبتْ بيّ الى الطبيب وبعد أن عاين حالتي.. قال لأمي علّته في صدره، وهذه الحالة قد تزول عند فترة الشباب وقد تعود عند الكبر...
دارت الأيام واصبحتُ صبياً.. وطاش الهوى في رأسي واشترك قلبي مع صدري، يتنقل حيثما شئت من الهوى، وأخَفَ عني آلام صدري... كبرتُ حتى صرتُ شاباً يافعاً.. وعلى عرش قلبي تربعتْ فتاة أحلامي، وأنستني كل آلام صدري وآلامي.. ومضت السنون وكبرتُ وكبر معي قلبي حتى شاخ... ولكن في الصدفة طَرَقَتْ باب صومعتي امرأةً تبادلت معي بعض الكلمات الجميلة، وأعادت لي أحلام الشباب دون أن أدري!.. ومضيت أسهد في التفكير بها، و لكنها كانت أشد ثباتاً مني ...سيطَرتْ المرأة على عواطفها وتركتني الوذ بعواطفي وأُعاني مما زججت به نفسي... لم يحتمل قلبي، وصرت اسمع نشيج صدري... زادت بي الآلام وعدت الى الطبيب شاكياً حالي... مسك الطبيب السماعة وفحص قلبي ورآه ينبض حيوية رغم كبر سني.. وقال قلبك يعمل جيداً؛ لكن الألم في صدرك. وشكيت له حالي عندما كنت صغيرًا وقال لي: من الجائز ان تعود آلام الصدر أثناء الكبر ..وادركت ان آلامي قد عادت الى صدري...

************************

خربشة عند الفجر

في مقابلة تلفزيونية مع المهندسة المعمارية العراقية العالمية" زها حديد "سألها مقدم البرنامج عن مدى اعجابها بالمعماريين العراقيين والعرب قالت :هؤلاء الناس لديهم مشكلة انهم يُعمِرون بيوت الطين ويجمِلونَها... وأعمالهم خلتْ من التصاميم الحديثة بأجسامها الهندسية المختلفة..
طاشت في رأسي خربشة عند بزوغ الفجر ورحت افكر بما نكتبه... هل هو قديم أم صار من القِدم ؟؟...ورغبت ان استحدث صورة في كتاباتي وادخل فيها مجسمات هندسية ...عسى ان تكونَ حديثةٌ ..فجمعت افكاري وحملتها مع نفسي ومددت جسدي وجعلته مستقيما، وعملت به جدارا حجبت به كل دكاكين احزاني وآلامي .. ثم عملت منه منحنياً طوَقتُ به راسي ولملمتُ بقايا أشلائي، وخصوصاً قلبي اللعين الذي طالما خذلني بحب الحبيب وحب الناس والوطن... حتى صار جسمي دائرة ً. وتدحرجت به كالكرة! وصرت اتدحرجَ واتدحرج اتدحرج واتدحرج و جنحت عند نقطةٍ... فتحت عيني عندها كانت خشبة مسرح... جلس الناس فيه ينظرون الى الكرة وكأنها بلورة سحرية ، يرقبون بلهفة العرض الذي سيعرض. انطفأت الأنوار وساد الصمت... واخذت الوان الطيف تخرج كالضباب الكثيف من الكرة البلورية "الاحمر –والبرتقالي والاخضر والازرق والنيلي والبنفسجي)... انتظرَ الجمهور ترقباً لمفاجئة قد تحدث ولكنهم ملّوا من هذا العرض ومن رؤية الضباب فلا يوجد غيره ...
احتجَ الجمهور من هذا العرض ولم يفهموا شيئاً.. واخذت اصوات الاحتجاج تعلو في جميع اركان المسرح ..صوتي يناديهم: الهدوء رجاءً، الزموا الصمت، والبسوا النظارات التي حملناها اياكم. ان الفلم مجسم ثلاثي الأبعاد3D...
ران الصمت قليلاً ولبسوا نظاراتهم... ثوانٍ مضت وبدأ الأنين وكلمات التعاطف صارت تخرج منهم... انهم يشاهدون ما تبقى من اشلائي قصة حياة انسان من بني جلدتهم اصابته معاناة بشرية حقيقية تحمل ثالوث الألم والموت والهرب. وكان بعض من المتفرجين من يشتم حبيبتي التي هجرتني وذهبت حيث المال.. وآخرون دعتهم صوري يجفلون من شدة القصف الناري الذي تعرضت له، وكأن القذائف تسقط جنبهم قريبة منهم: تكاد ان تنفجر بينهم. وتراهم يصرخون، ومن لا يحتمل الموقف يخلع نظارته، ثم يعودوا يروا حطام الوطن والإنسان مجسماً ذاك الحطام بان في أشلائي ... وفي الحقيقة كنت ارقب الجمهور من بين ثقوب البلورة أفتش عن حبيبتي التي هجرتني علّها تكون معهم جالسة لترى صدق مشاعري. .. لقد كانت احزان وطن احزاني وآلامي يرونها عن قرب مجسمة لم يحتملوها. وصار الدمع ينهمل من عيونهم المخبأة خلف النظارة السوداء ..وقبل نهاية الفلم صاح أحدَهم محتجاً:
ما هذه المأساة التي وضعتنا فيها إلا يوجد هناك نسمات فرح وأمل...
قاطعته بصوت مجسم دوى في المسرح أسكته واصغى الحضور له :
- لا تتعجل... في الجزء الثاني وضعت آمالي وطموحاتي وطموحات وطني في مجسم رباعي الأبعاد4D وأنا متأكد انكم سوف ترونه اوضح
من هذا ...ولقد وضعت به وبأشكال هندسية مختلفة كل آمالي وآمال وطني.

عيد الحب
في صباح هذا اليوم الشتوي استيقظت من نومي مفزوعاً... وفَزَعَت معي عيني على رّفّات جفني.
وجلستُ في فراشي أمسح وجهي براحة كفيّ... استغفر ربي أن لا يصيبني مكروه في يومي.
سويعات مضت...
فجأة وفي حديقة بيتنا وعلى شجرة الأجاص الخالية من الأوراق، سمعتُ اصواتَ زقزقة العصافير وقد اجتمعت على الشجرة. تتشاجر فيما بينها بصوت عالٍ.
فقلت في نفسي خوفاً:
يا إلاهي ما هذا إلاّ تأكيد على رّفَة جفني ...لكني عدت في سري وقلت:
لِمَ لا يكون هذا فأل حسن! أمّا خبر أو ضيف من بعيد يأتي؟ كما كانت تقول أمي ...
لحظات مرّت وإذا بباب دارنا يقرع... وصِحتُ مَن الطارق؟
قال أنا....
صوتٌ لا أكاد أُصَدقه يأتي... انه هو من أحَبه قلبي... كان منذ زمن خاصمني ولم يعد يسأل عني .
اهتزَ قلبي وزاد في خفقانه؛ حتى كاد يسقط في أحشائي.
وانا خلف الباب واقفة في حيرة من أمري ...أفتحها أم أتركه يمضي ..
عزّ عليّ فراقه ...وفتحت الباب وقلت له:
أنتَ !!
لم يجبني بل كان صامتاً يتطلع الى وجهي... وتطلعتُ الى وجهه.. وبدا وجهينا يرسمان في تلك اللحظة صورة الخجل والعتب والرفض والتسامح ..
كان يشبك يديه خلف ظهره. وكأن شيئاً يخفيه عني... مدّ يده اليمنى نحوي وقد حمل بها وردة حمراء غصنها طويل اخضر.
لقد فاجئني وكبّلَني وما عدتُ أفصح في قولي وغضضت الطرف عنه...
وشعَرتُ وكأن الربيع عاد الى قلبي...
تمالكتُ نفسي وقلت له:
ما المناسبة ؟؟
قال لي بصوت خفيض:
" كل عام وانت ِحبيبتي"

 

نشرت في قصة
الثلاثاء, 23 كانون1/ديسمبر 2014 21:17

لحظة حب تحت الحراب

نامت عيون أهل المدينة في تلك الليلة ، بعد أن أقفلت المقاهي والحانات أبوابها وكلٌ ذهب إلى بيته، الحبيب يناجي حبيبته، والأم تحتضن أولادها، والطالب يراجع منهجه، والشعراء سهارى يكتبون قصائداً للعشاق ،لا ترضى بغير الحبيب بديلا، والموظف يهدئ فكره ، والعامل يريح جسده ويرسم بأحلام اليقظة والمنام على جدران المستقبل شمسا لا تغيب من أجل تقارب قلوب البشرعلى المحبة والسعادة ، وفي ظلهما تعزف لهم أغان للمجد وللسلام.
هذا هو الجو الذي كان سائدا .
في تلك الليلة : لم يحسب للصباح حساب... بالرغم من أن هناك من يربي الأفاعي السامة التي تفتك بالبشر الاَمنين وتتربص بهم أفرادا وجماعات
لكن أهل المدينة أخذتهم الغفلة ولم يصنعوا لهم سياجا ، يحمون به حياتهم من غدر تلك الأفاعي ومربيها. وفاتهم أن عصارة أنيابها قد امتلأت بالسم القاتل.
وقد أعقب هدوء المدينة في هذا الصباح : صياح الناس الطيبون المسالمون
وهم يصرخون بأعلى أصواتهم : جريمة ... جريمة وحشية ...
الأصوات تتعالى ، هجمة شرسة يجب قبرها في مهدها ..
أنه : اليوم الأسود للظلام.,,ساد المدينة الارتباك ..
أحلام لم تكتمل ، العرائس تركت خدورها ، الطلاب والمدرسون هجروا مدارسهم وجامعاتهم ، الأطباء تركوا خفارتهم ومرضاهم ومستشفياتهم ، غصت بالكل زنزانات التعذيب من جراء اليوم الأسود للظلام ، الذي وزع سمومه على الأحبة بدرجات متفاوتة ... منهم من أستشهد
..ومنهم من فُقد في زنزانات التعذيب ومنهم من تاهت أخباه وهو حيٌ يرزق في البراري والقفار
ظروف اليوم الأسود للظلام حتمت على الذين نجوا : التقيد بالمأكل والملبس وتغيير المكان تحاشيا ما لا تحمد عقباه مع الإصرار على متابعة مصير الأحبة وحمايتهم من المتوحشين
وحين يكون السلاح بيد قلة تتعرض الكثرة للدمار والتفكك وهذا الذي مكنهم من السيطرة على المدينة وأهلها ,
مرت عدة أعوام والناس الطيبون يعانون من اليوم الأسود للظلام ولا يعرفون مصير أحبائهم
وفي يوم من الأيام تناهى لسماعهم ذلك الخبر ، مواجهة لبعض من تاهت أخبارهم بين سجون المنافي البعيدة
فقد الجميع صوابهم واسرعت الجموع لملاقاة الأحبة ، بعد الافتراق القسري والمعاناة والصبر وكل واحد منهم يكلم نفسه عن ما الذي سيروى لهم عما تعرضوا له وستقص كل الحكايات ، وتحدي الملمات ..
وصلت الجموع وهم قلقون ودموع وحسرة في صدور الامهات والزوجات والعرائس وكل الأحبة
اصطفت الجموع في طابور علاه صراخ الأطفال وتذمر كبار السن ،استمر وقوفهم لساعات طويلة
:أمام مماطلة حراس اليوم الأسود للظلام ، وبعد التفتيش الدقيق لكل الحاجيات سُمحً للجميع بالدخول
وعند الوصول للرواق المؤدي لردهات السجناء، حاول الجميع المحافظة على هدوئهم ، عند ملاقاة الأحبة رسمت الفرحة مع الابتسامة بالرغم من غضبهم على مسببي هذه المأساة
شعرت أحدى النساء بدوار وألم في رأسها ، عندما سمعت حديث يدور بين أثنين من الموظفين
حول نزيل في غرفة الإنعاش منذ عدة أشهر مرضه وما يعانيه ، ناتج عن ضغط وضرب مكثف على صدره وتعرضه للاختناق وأخرون مثل حالته في بقية الغرف ،وفوق كل ذلك هم محكومون بأحكام قاسية تتراوح بين المؤبد وبين العشر سنوات
رد عليه الموظف الثاني ::لكي يجعلونهم غير قادرين على التلذذ بطعم الحياة وإسعاد عوائلهم وأحبتهم
قالت أحدى النساء للجندي المدجج بالسلاح الذي كان يسير ذهابا وإيابا : أين أجد السجين المريض؟
وناولته ورقة مكتوب بها اسمه مع ختم المستشفى...رد عليها بقوة وهل أحكم تفتيش ما تحملين من حاجيات ؟ قالت نعم :رد عليها إذاً ما عليكِ إلا الانتظار؟
قالت لكنني انتظرت منذ الصباح الباكر::
وفي هذا الأثناء بكى الطفل الصغير الذي تحمله : حدق الجندي بهما ثم أومأ لها على الغرفة التي يتواجد على بابها حارسان مدججان بالسلاح وبيديهما حربتان
توجهت الى الغرفة وهي في لهفة لهذا اللقاء بعد غياب دام أربع سنوات كل شيء فيه يدل على وسامته جمال عينيه الدعابة التي تتخلل قسمات وجهه طيبته حبه لكل ما هو أنساني
: قطع عليها سلسلة أفكارها أحد حراس باب العناية المركزة طالبا منها كارت الزيارة
وبعد التدقيق سمح لها بالدخول .. يا للهول ما الذي حل بك أيها العزيز القوي ؟
ضعيف البنية متهالك على السرير خافت النظرات ويحيط بك الحراس من كل جانب وهم لا يحيطون المجرمين الحقيقيين ثم قالت صدقت يا جان جاك روسو يولد الإنسان حرٌ لكنه مقيد بالأغلال ..وغلبت كل اللغات لغة الدموع
لقاء الأحبة بعد الفراق المرير ,,, فليسقط السجان وسيد السجان
ها هي الزوجة الوفية عادت سالمة لتزورني وها هو ولدي بين الأحضان كأنني في حلم لا أريد أن أفيق منه : لا أريد أن أسترجع في ذاكرتي منظر السجن الرهيب لابد لي أن أعيش هذه اللحظات ثم قال لها:
لا تقلقي يا عزيزتي فما أصابنا لم يكن بمعزل عما أصاب الرفاق والشعب
حاول تغيير الجو وزيادة الارتياح والطمأنينة ولتغيير الجو السلبي الذي تخلل حياتهما لأن الرضا ينبع من داخل روح الأنسان ويغير مزاجه ، وساد بينهما جو من الهدوء والسكينة ومثل هذا اللقاء الذي تمنياه والآن قد حصل.
وشع بريق من السعادة بينهما الطفل الصغير بحضنه وخلال هذه اللحظات وضع يده على كتفها
وهو الخيار المفقود الذي شع من خلاله الأمل وإدامة الحياة بالسعادة والحب وفي هذه اللحظة دفع الحارسان الباب بقوة الحربتان وبصوت أجش انتهت المواجهة

 

نشرت في قصة
السبت, 13 كانون1/ديسمبر 2014 11:53

نَبْض الضّمير

زائرٌ طيّبُ الأنسام زاره منذ صباه، تعلّق به، وصار يتربع في قلبه وسلب له عقله ..وأصبح عاجزاً في ايجاد تسمية له:

- هل هو الهَوى أو الهُيام ...أم هو العِشق أو الشعَفُ؟؟

تلك الكلمات دارت في رأسهِ، يبحث فيها عن تعريفٍ للحُبّ، بعد أن غمر حبّها قلبه، وبات الشوق يكابده... يبحث بين طيات كتبه في دواوين الشعر الجاهلي والحديث... يتنقل ما بين أشعار (امرؤ القيس وعنترة وجميل بثينة) وما بين أشعار (بشارة الخوري ونزار قباني ) لعلّه يجد بيتاً من الشِعر يشفع له بمفردة ٍ يغازل فيها حبيبته!!!.

لا يعرف متى أتت إلى بيته؟؟؟ وطرقتْ باب مخدعه، وجدَته جالساً عند الطاولة مع كتبه المبعثرة...

نهض متفاجئاً بقدومها... أومأت اليه بيدها أن يبقى في مكانه ...

جَلستْ على سريره صامتةٍ، تسرق النظر إليه...

لحظاتٌ من الصمت...

وسألَتْه:

- ماذا تبحث في تلك الكتب المبعثرة؟؟؟

قال:

- أبحث فيها عن ابيات شِعرٍ فيها من الحب والغزل كي القيها اليكِ..
اِبتسمت له..

وقالت:

- وهل وجدتها؟؟؟

قال:

- (عشقتك يا ليلى وكنتِ صبيتاً...وكنتُ ابن سبعٍ ما بلغت ثمانيا)

تراخت على وقع الكلمات ..

وقالت:

- لمن هذا الشعر؟؟

قال:

- لأمرؤ القيس يا حبيبتي.

قالت:

- حقاً هل كنت تحبني منذ الصغر؟؟

قال:

- وكيف لا أحبك وجفنك في كل يومٍ يعلمني كلمات في الغزل كما قال بشارة الخوري (جفنه علم الغزل)...

قالت له:

- أراكَ وقد اصبحت كالعابد الناسك في حبكَ لي؟؟؟

قال لها:

- وانتِ راهبةٌ في معبدي...

قالت:

- منذ متى قيل شِعر الحُبّ والغزل في هذه الدنيا؟؟؟

قال:

- منذ أيام (سومر)* كان الكهنة يتغنون به وإلى ألآن مازالت أنهار الشعر تتدفق وتجري...

فتحت ثغرها مندهشةً بما تسمعه...

وأردف قائلاً:

يقول افلاطون: كل انسان يصبح شاعراً اذا لامس قلبه الحب...

واليكِ مني هذا البيت من الشِعر:

- الحب يا حبيبتي كالسهام ترمى في الهواء بنظرةٍ...وتستقر في القلوب بطعنةٍ.

صرخت وقالت:

الله!! أرى فيك شاعراً...خبرْني بالله عليك هل أصابك سهمي ؟؟

سكت عن الكلام... ورمقها بنظرات الحب والإعجاب...يتفحص فيها حبيبته التي ما إن وقعت عيناه في شباك عينيها العسليتين؛ حتى تسمّر في مكانه... يرنوا اليها لا يحرك طرفاً... يرسم في مخيّلته صوراً لها تبعث في المكان عطر انوثتها...

نهض من مكانه وعيناه لا تسقط عنها؛ كأنها سرقت عقله بشمس وجهها المشرق وجمال عينيها العسليتين، وفي جيدها الموسوم بخالةٍ سوداء، وكأنها ماسةً في وسط عنقها الرشيق الحسن .

سلبته اِرادته وانجذب اليها...

خطى نحوها...جلس جنبها على السرير..

وراح بحنين أنامله يرفع ذوائب شَعرها المسدول، وهي ساكنة خامدة ...

شعور غريب حلّقَ بهما...مسك يدها الناعمةً وتلملمت كمنديل الحرير في كفه... أحست بالدفء الذي يغلي في عروقه كصوب الغيث ينهمر فيها ...نظر إلى شفتيها الممتلئتين وبآن فيهما رعشة المتلهف ... كاد أن يلثمهما بفمه الذي أصابه العطش... وصار يزدرد لعابه ...رفع يده إلى رقبتها وطفق يداعبها، يلاطفها بأنامله حتى اِستمالت برأسها على كفه، وتوسد خدها عليه ونامت تتحسس دفئه.. تطلق من فمها أنين رغبتها الخارج من أنفاسها،

كان يتلذذ بنعومة وجهها ولهفة انوثتها ...بدت له وكأنها عجينة من الطين الطري في يدّيه، كيفما أراد تطاوعه!!!. صوت أزيز في داخله يحفّزه على الخطيئة وإشباع رغبة جسده... توثب الشيطان في رأسه ، وتحفز النمر المختبئ فيه... نظر اليها بعين الشهوة...طرحها على الفراش وتمددت حتى اِسْتقام جسمها...سيطر الشيطان عليه يوسوس فيه ؛ حتى نسِي نفسه... وفحيح كفحيح الأفعى صار يخرج من فمه... اندفع راكعاً فوق صدرها والعرق يتصبب منه، عازماً إطفاء ظمئه بقبلةٍ حلم بها منذ سنين، واليوم حانت فرصته. تحطمت اِرادتها وما عادت تقوى للملمة نفسها...اِمرأة في فراشه تسحره بقوام جسدها النحيف، وقبّتي معبدها... كان الشيطان يمزق براءة حبه فيها ...يقوده لاهثاً بأنفاسه الدافئة نحو فمها... يقترب من ثغرها المفتوح .. ينظر إلى عينيها وقد نامت واغلقَت جفنيها ...يتطلع إلى وجهها وإذا به يستغرب لونه فقد غدا احمراً كقرص الشمس عند الأصيل، تحيطه هالة سوداء وكأنها فرشت بساط الليل حوله !!! فاختلجت عيناه فجأة منها ؛ وكأنه يرى انطفاء ضوء الشمس في وجه حبيبته ... أحس بصفعة في داخله...جفل فيها وتسمّر في مكانه ... تسارعت دقات قلبه، وبدا مرعوباً، وانسحب النمر الواثب فيه...

أغمضَ عينيه...سحب نفساً عميقاً واستوقفت جوارحه... يفتش عن ذاك الكائن المختبئ فيه والذي اوقف جموح عواطفه؛ حتى تحسسه ينبض فيه ...وعرفه لقد كان ضميره!!.

كان ضميره يطارده ويتابع فِعله خوفاً من فعل الخطيئة، حاملاً شرع الله معه، يُذكّره بالعفة والإخلاص في حُبهِ ...

هدأت نفسه ...سحب أنفاس حُرّيّته وكأنه إنعتق من شيطانه...

حنى رأسه اليها خجلاً وطبع قبلة على جبينها ...

اعتذر منها وانسحب جالساً على كرسيه مطأطئ الرأس...

فتحتْ عينيها وثوب الخجل يكسيها...لا صوت في الحجرة سوى صوت الألم والخجل...قامت من مكانها ومشت نحوه ... مسكت يده، رفعتها واخفضت رأسها عليها وقبلتها.

رفع رأسه اليها ورأى ضوء الشمس وقد عاد في وجهها...

أبتسمَ لها قائلاً :

- نقاء حُبّي العُذريّ لكِ... أسمى وأرفع من شهوة جسدي

 

*(سومر) آثار ما بين النهرين أظهرت لوح طيني فيه اول قصيدة حب وغزل سومرية، واللوح معروض حاليا في متحف اسطنبول في تركيا.

نشرت في قصة
السبت, 13 كانون1/ديسمبر 2014 21:36

رائحة الحرية

في كل صباح أغتسل بالماء الجاري و أتوضأ لأصلِّي؛ عسى أن أحظى بشفاعة من يشفع لي يوم الحساب، فكنت أتبع حكمة ما لقيصر لقيصر وما لله لله... وما لي أنا العبد الفقير سوى متعة واحدة في المساء: شرب كأس من الخمر؛ كي أجلي بها اِنحباس عتمة الليل في صدري ..وأرى فيها ما أراه.. أسمعه ويسمَعني، وتذهب همومي ..وأندفع هامداً في فراشي بعد انتهاء خمرتي... وعند اِنبلاج الصبح أنهض مستغفراً ربي لذنبٍ اقترفته لا أعرف ما هو؟ واذهب إلى عملي!! .

وفي هذه الأيام وعلى أعتاب رأس السنة الميلادية الجديدة... كانت قد انسلخت روحي خلسة من بين كأسي، ورحت أطوف معها ببغداد؛ حتى توقفت عيني شاخِصةً أمام نصب الحرية، أبحث عن وطنٍ يأويني وتأريخٍ يسعدني ، واخذتني الحيرة ودمعتي اِنهمرت فوق خدي، وأنا انظر إلى النصب، أشم رائحة الحرية فيه وأحسب قطعه الملصقة عليه فرأيتها أربعة عشر قطعة.

سألت في نفسي عن القطع الأربعة عشر الملصقة في النصب :
من أي قطعة نبدأ يا وطني؟ فكل ما في الجدارية يمسني!! فهو تأريخ بلدي وتأريخي؛ ولم يخفِ ناحتها (جواد سليم)* أي شيء من التأريخ فيها ،وما أحس به من إحساس وطني في قوله (ليس الفن بالشيء الذي يحتاج إلى فنان فقط ، الفن هو العيش في بقعة ما، انه شيء يحدث بين انسان وما بين الأرض التي يعيش عليها، وهو بحاجة إلى فهم ومن يفهم شعباً جديداً وارضاً جديدة كلاهما الآخر يستغرق وقتا طويلاً)، قول به إحساساً جميلاً مس به مشاعري.

أخذتْ رأسي تدور بعد كأسي الثالثة، وهاجت في دواخلي أصيل الثورات والشهوات؛ وكأني أسمع صهيل الفرس، يخرج شامخاً رأسه، معانقاً السماء، وقد أرعب الكون بحوافره، ممزقاً صفوة الليل على الغزاة وعلى اللصوص وسراق الشعب ...ورأيت خلفه الثوار يركضون معه، حاملين رايات النصر، والشعب خرج مبهوراً بهذا، وأحاطهم برجاله ونسائه، يهتفون و يزلزلون الأرض بأهازيجهم وبصيحاتهم يحيا الوطن ..تحيا الحرية... رافعين رايات النصر بأيديهم وعينهم على أولادهم ، تغمرها الفرحة ينظرون اليهم متأملين لهم بغدٍ مشرقٍ...وصدى زغاريد النساء يختلط بصيحات الثوار يشجعنّهم ، رافعات أيديهن إلى السماء داعيات لهم باغتنام النصر... وانتقلت عيني إلى امرأةٍ حانية رأسها وقد احتضنت ابنها الشهيد تُقَبل جبينه، وتصرخ به أنت رفْعة رأسي وفخر أمتي؛ لولاك ولولا الرجال لنهبت خيراتنا وسبينا وباعونا في سوق النخاسة... ثم تصرخ بالحق والشهيد في حضنها: لقد عبّدتَ طريق الكرامة والحرية بدمك... تحيا الحرية . وتعلو صيحاتها وصيحات أشراف أمتها تساند الثورة؛ حتي تتكسر قضبان السجون الحديدية بيد الجنود والثوار الأحرار، وتعلو شمس الحرية فوق رؤوس أبناء وطني، والكل يهتف باسم الوطن والحرية والحياة السعيدة ، ناعمين بالحرية و بخيرات النهرين الخالدين دجلة والفرات، مخلدين اسم حضارتهم برمز الثور رمز الخصب المستخدم منذ زمن حضارات العراق القديمة حضارة سومر وبابل وآشور ، جاعلين الأرض جنة بسواعدهم...رافعين معاولهم ومطارقهم متأملين خيرات بلدهم، طامحين في البناء والتعمير.

ملحمة حقيقية قادها رأسي وكأسي، شممت بها رائحة الحرية، أتلذذ بتأريخ بلادي، وقد أعجبني ما رأيته وغمرتني الفرحة وبعثت السريرة في نفسي، ورحت أبحث في زجاجة الخمر عن خمرة أزيد بها كأسي؛ كي أحتفل بالنصر وأنتشي، ودرت بها فوق كأسي وكانت فارغة، أخذت أرجَ بها علّها تقطر لي فرحاً جديداً؛ لكن ذلك لن يجدي، ودفعت الزجاجة بقوة على يميني وسقطت على الكومبيوتر وانطفأ واختفت صورة النصب... عاودت العبث في الازرار كي أعيد الصورة ولكن دون جدوى، امتلكتني الحيرة وصارت افكاري تترنح معي بهذا الفال النحس، ابحث عن الثورة والثوار ولكنهم اختفوا ...
وصحت يا إلاهي من سرق النصب؟ لقد اختفى النصب من أمام عيني وعاد الليل يخنقني. أبحث في جنح الظلام عن وطنٍ فما عادت له صورة، و الأفكار تسري كدبيب النمل في رأسي ، وأسئلة كثيرة لم تفارقني:
من سرق النصب منا؟ فلا عاد صهيل الحصان يسمع ولا صيحات الشعب تدوي، واختفى الثوار يلوكون الخبز جوعاً، والغانمين كبرت كروشهم، واختلف حكمائهم على شكل ولون الراية التي يرفعونها، ففي كل ثورة راية ونشيد!! واختلف أسم المقاوم والثائر، وصار أبناء الشعب يثور الواحد على الآخر!! وكثر العويل والشهداء وسبي النساء والخطف وقطع الرؤوس بين ابناء بلدي؛ وما عاد هناك حلم لطفل كان يطمح بفرصة علم وبات يحلم بكسرة خبز وملجأ يأويه!! وتفرق البؤساء يسكنون المزابل... ونصب الحرية ما زال قائم في مكانه؛ رغم اِدّعاء واختلاف أبناء أمتي، وهجر الأصلاء الأرض تحت التخويف والترهيب، ولم يعد للثور رمزاً، و جف النهرين وتصحرت الأرض وتهجر الشعب ...
يا إلاهي لقد سأمت نفسي ...
قمت من مكاني مترنحاً في عتمة غرفتي، ورميت جسمي جثة هامدة فوق فراشي متأملاً بغفوة صغيرة تعيد لي اِنبلاج ضوء الصبح؛ كي أُصلّي وأدعو بالحرية لوطني .


10-12-2014
جواد سليم*
تولد( 1920—1961) نحات من العراق ويعتبر من اشهر النحاتين في تاريخ العراق الحديث ولد في انقرة من ابوين عراقيين اكمل الدراسة الابتدائية والثانوية في بغداد
في عام 1959 شارك مع المعماري رفعت الجادرجي والنحات العراقي محمد غني حكمت في تحقيق نصب الحرية القائم في ساحة التحرير ببغداد وهو من اهم النصب الفنية في الشرق الاوسط ويبلغ طول النصب 50 مترا وارتفاعه 15 مترا. ولجسامة هذا العمل الشاق تعرض النحات الى نوبة قلبية شديدة اودت بحياته.

نشرت في قصة
الأحد, 30 تشرين2/نوفمبر 2014 12:59

ساداكو اليابانية/حقيقةٌ وأسطورة

 ساداكو اسم لفتاة يابانية حقيقية جميلة ولدت سنة ١٩٤٣م إنتشر اسمها بين اليابانيين كما تنتشر خيوط الفجر في صباح ٍ باكرٍآذاري ..... إنها فتاة رياضية تُحب الركضَ صباحا وتشارك دائماً في مسابقات مدرستها ، ربما كانت تحلمُ أن تكونَ بطلة ً رياضية يابانية ، سقطت ْ الفتاة يوما على الارض في احدى المسابقات ، وأكتشف الاطباءُ أنها مصابةٌ بمرض سرطان ِالدم ِإ ثر إلقاء القنبلة الذرية على مدينتها هيروشيما من قبل دعاة الديمقراطية والحرية الأمريكان ظنا منهم إنهاء الحرب العالمية الثانية . ثم رقدتْ الفتاة في المستشفى ، زارتها صديقتها وقد جلبتْ معها أوراقا ً ملونة ً ومقصاً وقالت لها :يا ساداكو اصنعي من هذه الأوراق الملونة الفَ طير من طيور الغرنوق لان هذا الطيرَ كما نعتقد نحن معشر اليابانيين يعيش ُ الفَ عام ٍ وعندما يصنعُ المريضُ الف طير من هذه الأوراق فانه سوف يعيشُ بعدها ويشفى من مرضه . صدّقتْ الفتاة المسكينةُ المريضةُ هذه الأسطورة َوشرعتْ تصنع ُ تلك الدمى الورقية ظنا منها بإنجازها كاملة سوف تعيشُ بعدها وترجع الى هوايتها في المسابقات الرياضية المدرسية ، وهذه هي قيمة الحياة عندما لا يفقد الانسان الأمل في العيش . استمرتْ ساداكو بصنع هذه الطيور رغم انها تشعرُ يوما بعد آخر بضعف جسمها ووهنه ، وعندما زارتها أمها ذات يوم الى المستشفى بعد أن جلبتْ لها ثوبا جميلا في صباح يوم ِعيدٍ لتلبسه ساداكو وتفرح َ به ، لكنّ ساداكو ورغم وهنِ جسمها وشحوبها وعدم قدرتها على الحركة والنهوض ولبس ذات الفستان ، الا أنها تحاملتْ على نفسها إعتزازا منها لامها وقررت ان تلبس الفستان وتجلس امام أمها التي أحبّتها حبا جما لانها هي التي تشعر بالقرب منها وتجدُ دفئها منها . صنعت ساداكو ٦٤٤ طيرا من طيور الغرنوق وملأت بها غرفتها وكانت مع كل طيرٍ تملأ فيه عصارة َ قوتِها وجهدها وتغلبها على مرضها لان الأمل في العيش كان يدعوها ويستنهضها ويناديها من الداخل :إستمري يا ساداكو فان المستقبلَ قادم والحياةُ فرصةٌ جميلةٌ يجبُ أن تستمري معها . لكنها مع طيرها الأخير الذي صنعته وهو أجمل طيرٍ من طيورها وأبقته دون أن تعلقه لحين مجيء أمها لتطلبَ منها ان تعلقه لانها لم تستطع ْ الحراك ، جاءت أمها وطلبتْ ساداكو منها ان تعلقه في ذلك المكان وما هي الا برهة ٌ فإذا بساداكو تسلمُ روحها لتودع الحياة بدموعٍ رقيقةٍ من جانبي عينيها ،كفكفتها أمها التي تقفُ بجانبها والتي كانت هي الاخرى تبكي بصمت . تركتْ ساداكو رسائلَ كثيرة ٍالى أصدقائها وأسكبتْ فيها جُلّ حبها واشتياقها وحنينهاللدراسة والمدرسة والى زملائها وطلاب صفها كيف كانوا يصفقون لها وهي تركضُ كالبرق، لتسمع كلماتهم الجميلة بحقها ، كانت تُمني النفس َبذلك . نُشرتْ هذه الرسائل في الصحف ونشرت كل وقائع وأحداث الفتاة اليابانية المسكينة والتي هزتْ في وفاتها جميع اليابانيين سيما وأنها قد فارقت آلحياةَ وهي في الثانيةَ عشرةَ من عمرها اي في سنة ١٩٥٥ . لم تكمل ساداكو طيورها الألف ، قرر اليابانيون تكملة البقية ال ٣٥٦طيراً في كل ذكرى من ذكرى وفاتها سنويا لتبقى اليابان عائشة ً ومتحديةً قهر الحياة وظلمها وظلم المسببين لها ، أصبحتْ ساداكو رمزاً للتحدي والأمل والعيش والانتصار ، واليوم عندما تسألُ أيّ يابانيٍ عن اسم ساداكو يجيبكَ بقصتها كاملة رافعا رأسه للسماء لطلب الرحمة لها . نحن العراقيون بحاجة الى ان نصنع ساداكو عراقية اخرى وكم من ساداكو التي يعجّ بها العراق اليوم ، نحن بحاجةٍ لها لكي نعالج َ قهرنا وظلمنا وبناء

 

*قصةٌ قصيرةٌ ، بسيطةٌ في معناها كبيرة في مدلولاتها ، تُرجمتْ من اليابانية الى السويدية ثم ترجمها الاستاذ الفاضل عبد الكريم جاني السهر الى العربية ، وقد قمتُ بتلخيصها وقرأتْ من إذاعة صوت تموز /القسم العربي من إذاعة ستوكهولم السويدية ثم اعتمدت ونشرت ْ في احدى الصحف العراقيةحينهاوالسويدية بعد ترجمتها.

نشرت في قصة

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014