• Default
  • Title
  • Date

 

القصص تدو رحول شاب اسمه خالد؛ شاب جميل في الثاني والعشرين من العمر، اسمر البشرة متوسط القامة واسع العينين، له اصابع يد ناعمة لم يمسها سوى القلم . عند تخرجه من الجامعة كان يمسك بيد وثيقة تخرجه وبالأخرى يؤشر الى السماء على الطائرات التي بدأت اليوم بقصف بلاده معلنتا بدا الحرب العراقية الايرانية .وبعدها بأسبوع استدعى الى الخدمة العسكرية وقد انهى تدريبه العسكري والفني في خمسة شهور وحاز على لقب مخابر في صنف المخابرة اللاسلكية بشارة عريف مجند.
حرب واشياء اخرى

السيد الرئيس

كانت اعمدة الغبار المتصاعد فوق الطريق الترابي كأنها عاصفة ،جاءت بها ارتال من عجلات مصفحة واخرى مقاومة للطائرات ؛ حملت جنود واشياء عسكرية اخرى.
- متوجهة الى مقر جوال قائد الفيلق الرابع ، المكان الامين لضباط ركن حركات احدى فيالق القاطع الجنوبي حيث تدار به المعارك عن بعد ..محيطه ساتر ترابي دائري بارتفاع اربعة امتار ، مساحته لا تتجاوز كيلومترين مربع،؛ يتاخمه موقع صغير لوحدة المخابرة فيه غرفة من الطابوق يسكنها ملازم مسؤول عن الموقع وأربعة خيام ، في كل خيمة جهاز لاسلكي وثلاثة جنود اغلبهم مطوعين وبعض المكلفين عريف خالد احد الجنود المكلفين المسؤولين على احدى الخيم ؛ تخرج من الجامعة قبل ثلاث سنين وهو ما يزال في خدمة الاحتياط بسب الحرب المشتعلة منذ تخرجه ، كان واقفا ورفاقه فوق الساتر ينظرون الى الارتال ويعدونها وقد وصل الرقم الى ثمان وسبعين عجلة ،في ظهيرة يوم كانت شمسه عمودية ساطعة.
- عند وصول الارتال الى مقر الجوال، علت السماء ثلاث طائرات سمتيه، حامت حول الجوال ؛حطت واحدة منها ثم هبطت الآخرتين بعدها.
- عريف خالد ورفاقه المقاتلين توقعوا وزير الدفاع قد قدم من بغداد!! فهو لن يعتاد رؤية هكذا حدث منذ ان نقلت خدماته الى هذا المكان منذ ستة اشهر، كل التوقعات تشير الى معركة قادمة هذا اليوم.
- كان رتل القوات الخاصة ، منذ الصباح مر باتجاه الوحدات الامامية حاملا جنود ابطال، اولاد الامهات السمراوات اللاتي ارضعتهم من ملح الارض ؛بوجوههم مسحة الخوف والحزن والكبرياء الممزوج بابتسامات كاذبة،
كل منهم لا يعرف من سيروي قصة بطولته و بطولة رفيقه عند انتهاء المعركة.، بعضهم يلوح بيده بخجل مجاملا عريف خالد ورفاقه الذين كانوا يلوحون لهم بعلامة النصر .
فجأة اعتلى ساتر الجوال جنود ممتلئين، ملابسهم خضراء مرقطة ، اختلطت علامات البداوة والريف في سحنتهم؛ طالبين الجميع دخول خيمهم . واكد اهمية الحدث ظهور ضابط المخابرة مسرعا وخلفه العقيد آمر الكتيبة ورائد جواد ضابط التوجيه السياسي، كانا قد جاءا من المقرات الخلفية.
- كان عريف خالد مسؤول عن تأمين اتصال لاسلكي للفرقة العاشرة بقائدها والويتها مع قيادة حركات الفيلق، بواسطة جهاز لاسلكي بحجم التلفاز الصغير يخرج منه سلك ربطت نهايته بهاتف وضع في غرفة ضباط حركات الفيلق ،وقع الاختيار على خيمته ...المعركة ستدور عند الفرقة العاشرة، عمد عريف خالد مسرعا بإزالة الغبار من جهازه اللاسلكي بقطعة قماش لكي يظهر نظافته، فهذا عرف عسكري.
- دخل الخيمة العقيد آمر الكتيبة ،يتبعه رائد جواد والملازم ضابط الموقع، نهض عريف خالد مؤديا التحية العسكرية ، قال له العقيد: هل جهازك وعدَّته كاملة يا ابني؟ اجاب عريف خالد: نعم سيدي كل شيء جاهز؛ كانت الخيمة تحتوي على طاولة خشبية صغيرة وضع عليها جهاز لاسلكي بحجم التلفاز الصغير وثلاث أسرة خشبية صنعها عريف خالد ورفاقه الجنود من صناديق العتاد الفارغة. جلس الضباط على السرير المقابل لخالد ، قال رائد جواد للجنديين: اخرجا فهذا العريف يكفي . كان غالبية الجنود يكرهونه ويكرهون صلعته كانه دب وانفه المفروش وشفته الممدودة العريضة العارية السطح كشفة بعير.


-جميع من في الخيمة كانوا ينتظرون دقة جرس تلفون الحركات، لحظات ودق الجرس ؛قال عريف خالد: مجيبا ضابط الحركات تفضل سيدي.. قال الضابط: احضر لي امراء الوية الفرقة العاشرة والمتجحفلين معهم من الالوية الاخرى؛ السيد رئيس الجمهورية يريد التحدث معهم!! وبحركة لا ارادية من رائد جواد فزع و نهض من مكانه واخذ يرفع حزامه بيديه ساحبا كرشه الى الاعلى متوجها صوب الجهاز وكأن الرئيس نده عليه! بينما العقيد وضابط الموقع كانا اكثر هدوء منه؛ اخذ عريف خالد وبكل ثقة ينادي بجهازه اللاسلكي امراء الالوية للتهيؤ بالحديث مع السيد الرئيس.
- استعد الامراء منتظرين الحديث مع الرئيس.. بينما كان رائد جواد يأمر عريف خالد بتحويل المكالمة فورا دون تأخير ، اعتقادا منه ان المعركة ليست وطنية فقط بل حزبية وعلى الارجح كان يقصد الاخيرة من موقعه وتصرفاته وتجاوزه العرف العسكري بينه وبين العقيد بحركاته الغير منضبطة باحترام الاقدم رتبة عند الكلام والحركة. بدأ السيد الرئيس بالتحدث مع امراء الالوية بالسلام عليهم وعلى جنودهم ، يشد هممهم والامراء يستعرضون استعدادهم واستعداد جنودهم للدفاع عن شرف الرئيس والذود عنه متناسين اسم الوطن ، والسيد الرئيس يقهقه ويقول لهم انا انتظر منكم البشارة؛ بينما رائد جواد يقترب من عريف خالد، وراسه ينضح بولا كانه اصيب بحمى فالعرق ملأ صلعته التي كانت من المفترض ان تكون حكيمة لا لئيمة، ورائحته بدت تثقب انف عريف خالد فقد كان يفرز افرازات نتنة ؛ تابع امراء الالوية الواحد تلو الاخر يعلنون الولاء للسيد الرئيس . والعقيد ورائد جواد وضابط الموقع يبتسمون بابتسامة الرئيس اما عريف خالد كان حذر ان يظهر ابتسامته خوفا من خرق العرف العسكري .
- ضوء زاد النهار ضياءا مع اصوات تتبعه.. كانت ثلاثة صواريخ ارض ارض تبعد مسافة من الخيمة قد اطلقت معلنتا بدء المعركة واستبشرت انهار الدماء بفتح مجاريها ، وقتام الحرب بان في الافق من بعيد ، بغبار معركة كان سمع طلقاتها قد هزّ الخيمة فكيف مكان وقعها.. اشتبكت الجنود بحرابها ، تاركة احلامها في ارض المعركة، التي استنفذ السيد الرئيس بها كل القوات التي ملأت مواضعها وعرباتها التي نقلتها. ووصلت هدفها المقرر ببحر من دماء الابطال ابناء الفقراء، الذين باتت امهاتهم تعجن بالدموع خبزها وتصبغ بطين الحزن جدائلها .
ثلاث ساعات متتالية معركة دموية سريعة تعالت بها اصوات التقدم والانسحاب ثم التقدم كلها مسموعة بالجهاز اللاسلكي حتى وصلت الى هدفها وكانت( تلة ترابيه في قاطع الطيب تشرف على مخفر حدودي) سببت ازعاجا لبعض القطعات المتواجدة امامها.
شكر ألآمر عريف خالد على حسن التعامل مع الموقف مطبطب بيده على كتفه قائلا لعريف خالد: بارك الله بك يا ابني .


- اختفى الجنود الممتلئين فوق الساتر غادرت السمتيات مدرجها وعادت اعمدة الغبار وهي تبتعد عن المكان راجعة من حيث ما أتت.
كان العقيد والملازم يتحدثان وهما يبعدان عن الخيمة ،بينما بقى رائد جواد يتحدث مع نائب الضابط الحزبي المسؤول الثاني عن هذا الموقع الصغير وهو في داخل الخيمة..
ذهب عريف خالد يقضي حاجة، بعد توتر دام ثلاث ساعات بل اكثر؛ وحينما عاد فوجئ من قبل رائد جواد بعدم السماح له البقاء في هذا المكان!! معللا أهميته ولا بد من وجود موثوق بهم وبماضيهم- -اندهش عريف خالد مستهجنا هذا القرار الثوري المفاجئ وقال سيدي: ما الذي فعلته انا؟ ألم أكن موفقا؟ قال رائد جواد: هذا لا يعنيني ، حياة قيادتنا الوطنية اهم شيء وانت لا تصلح في هذا المكان !! ابتسم عريف خالد ابتسامة استخفاف قائلا ماذا تقول سيدي هل عندك شك بوطنيتي ، هذا بلدي وبلد اجدادي ؛اذا نحن لا نفتديه ..من يفتديه.. قال رائد جواد انا اريدك ان تفتديه هناك عند خط النار لكي يفرغ الوطن منك ومن امثالك الذين يدعون الوطنية... ارتفع الجنون براس عريف خالد وانطلق لسانه يطرح حديث قلبه وبشكل لا أرادي قائلا بوجه الرائد : انا غير وطني كيف تقول هذا يا سيدي الوطن بشعبه والحزب شيء اخر، قاطعه رائد جواد بالسكوت ولكنه استطرد قائلا: اذا كنت تشكك بوطنيتي وماضيها فهذه مدينة الحلفاية التي تبعد عشرين كيلومتر خير شاهد على تاريخي ، اتعلم ان هذه المدينة شهدت زواج امي وابي وما زال عبق عطرهما يفوح بخيمتي ، اتدري ما فعلته اشجار القصب يومها: كانت تزين نفسها بشرائط الذهب ،ترقص على وقع الطبول والدفوف كلما مرت بها مشاحيف (زوارق) العرس وهي ذاهبة الى مدينة الكحلاء حيث بيت جدي... انا غير وطني لا ياسيدي ...ماذا اقول لابي وامي واجدادي :أتريدني ان افسد عليهم ليلة عرسهم ؛ -اذهب وانظر الى قصب مدينتهم فستراه واقفا رافعا حرابه ليمزق بها من يحاول ان ينتزع كرامته...ثم عاد يقول انا غير وطني ؛ جن جنون رائد جواد واخرج مسدسه وقال له اذا لن تذهب الان سأرميك قتيلا، كاد ان يفعل شيء! لولا يد سحبت عريف خالد؛ وكانت يد النائب الضابط، ابعده عن المكان وهو يلتفت الى رائد جواد كانه ضابط من المرتزقة لا يعرف تاريخ هذه الارض...
صرخ خالد مهضوم وهو يقول هل الوطن هو الحزب، والدمع ينهمل من عينيه فقد خونه بوطنيته هذا الكلب المسلوخ ؛ لأنه غير منتمي الى حزب السيد الرئيس ؛ والنائب الضابط احتار بأمره وهو يحاول ابعاده عن الخيمة ؛ واذا بعريف خالد يفلت من يده ويسرع باتجاه الساتر الترابي واقفا رافعا يده اليمنى الى جبهة القتال التي لن تجف دماء شهدائها بعد.. ورفاقه ينظرون اليه بألم وحسرة وفخر .. صرخ بصوت عال قائلا: ( هناك يموتون الابطال ابناء الفقراء ..لكي يحيا الجبناء) وقف صامتا؛ ثم عاد الى خيمته بعد خروج رائد جواد منها ،يلملم اغراضه وجراحه، يتصفح بذاكرته كل الاحداث ؟... آه قالها عريف خالد انه ( حسن) كاتب التقارير الحزبية ؛حقا : (ذيل الكلب لن يعدل) ، غالبية زملاءه في الجامعة كانوا يكرهونه و سجن على يده كثير من الطلبة حينها رآه عريف خالد صدفة قبل ثلاثة اسابيع بينما كان عائدا من اجازته الشهرية جالسا معه ببدلته الزيتونية في احدى السيارات العسكرية التابعة لمقرات الفيلق الخلفية. ؛ فلن يراه منذ تخرجهم من الجامعة قبل ثلاث سنوات . لقد استدرج خالد في الكلام بكل هدوء وخبرة سنين وحاز على كل ما يريد من معلومات تخص خالد فاستدل على وحدته ومكانها ؛ لكن خالد كان يعتقد ان الحرب تغسل النفوس ويكون عدوها واحد ، وعند وصولهم قال لخالد : انا اعمل جندي في مكتب التوجيه السياسي للفيلق الرابع لو احتجت أي شيء سأساعدك..
كان نائب الضابط جالس في سيارة (الواز) العسكرية الواقفة قرب الخيمة ينادي : أأنت جاهز يا عريف خالد ؟قال عريف خالد: نعم وضع بندقيته و فراشه وحقيبته في السيارة.. وانطلقت الى حيث لا يدري في اية معركة سيكون...

نشرت في قصة
الخميس, 24 تشرين1/أكتوير 2013 18:23

رحيل

 

رحيل _ قصة قصيرة

 

 

 

منذ اللحظات الاولى لاستيقاظ الشمس من سباتها الليلي وحبات المطر تتناثر هنا وهناك بشكل عبثي كحبات متناثرة لمسبحة مقطوعة بينما بدأ الناس يتجمعون حول السيارة اتي وقفت وسط الزحام بلا حول ولا قوة وهي ترفع الراية البيضاء لتلك الضربة القوية التي تلقتها منذ لحظات خلت . كان سامي يجلس بجانب السائق بكل وقار وهيبة كجبل شامخ يرفض الانحناء الا للشمس التي تحييه كل صباح بأبتسامتها الذهبية وعيناه تنظران للناس من حوله بهدوء وحيرة ! دون ان يتمكن من من الاتيان بأي حركة الا ذلك الخيط الرفيع من اللون الاحمر الذي بدأ ينساب برقة وخجل من رأسه المصاب كشلال صغير عنيد ليصبغ قميصه الازرق ذو الياقة القصيرة والاكمام البيضاء بلون ارجواني زاهي , وعلى الرغم من كل الصراخ وضجيج الناس من حوله وهم يحاولون بكل قوة ان يفتحوا الباب من جانبه لاخراجه الا انه لم يكن يسمع شيئا من ذلك !! لم يكن يسمع الا جرس المدرسة وهو يرن وسط الساحة ليدخل الطلاب الى صفوفهم بينما وقفت امه عند الباب الخارجي تنظر اليه لتشجعه في أول يوم مدرسي له وحقيبته الجلدية الصغيرة بيده كمحام مبتدئ يذهب لأول مرة الى المحكمة ليرافع عن وكيله المتهم . بدأ المطر يتزايد بشكل غريب وكذلك الناس المتجمهرين حول السيارة الا انه مازال يلوح بيده الصغيرة لأمه ودمعة خائفة بدأت تتعرف على طريقها نزولا على خده الاسمر الصغير وهو يشاهد كل اولئك الاطفال في باحة المدرسة . حاول أحدهم ان يكسر زجاج النافذة في محاولة يائسة لشده خارجها لكن الاخرين منعوه خشية ايذاءه وجعل الامر أسوأ مما هو عليه , ومع مرور الدقائق أخذت شفتيه بالارتجاف وكأنها تعزف لحنا لا يفهمه الا المجانين وازداد شعوره بالبرد وهو يجتاح جسده بالكامل بينما عينا امه الحنونة القلقة لا تكاد تفارقه حتى بعد ثلاثين عاما مضت على رحيلها . لم يكن يشعر بأي ألم في جسده وكأنه كان مخدرا بالكامل مع انه كان واعيا تماما لاصابته الشديدة ويعرف ان السائق بجانبه قد رحل في طريق اللاعودة ومع ذلك لم يكن يشعر بالخوف بل هو السلام والسكينة التي تتدفق من عينيه كسحابة صيفية ناعمة . قطب حاجبيه قليلا بعد ان لمح من بين الحشد الصاخب حول السيارة طيفا مألوفا واقفا على مسافة قريبة منه , حاول ان يدقق النظر أكثر ليتعرف عليه بشكل أفضل واذا برعشة تهزه كسعفة يابسة عندما تعرف على عبائتها السوداء وغطاء رأسها الابيض , يالهي ..انها هي !! وقفتها , ملامحها , عينيها الحنونة ..انها هي ! قال لنفسه عندما بدأ جسده يتحرك فجأة وكأنه يريد الطيران ليحلق بين السماوات , فألتفت الى الناس من حوله وتحركت ساقيه لينهض من كرسيه ويمر عبر الباب المحطم ويمرق من خلال الجمهور الواقف كنسمة هواء باردة في ليلية صيفية حارة واقترب من امه التي أخذت تتلمس معالم وجهه المغطى بلون احمر وكأنه أيادي عروس في ليلة حنتها , وهمست في اذنه : بني ..اشتقت اليك كثيرا , أمسك سامي يدها وابتسامة مكبوتة ارتسمت على اطراف شفتيه عندما نظر الى كل الناس الواقفين حول السيارة وهم يحاولون بعد ان تمكنوا من خلع الباب المهشم ان يجعلوه يتحرك أو يفيق دون جدوى !! بينما كانت عيناه تقول لامه وهما يسيران كظلين تحت جنخ الظلام ..اماه ..لن نفترق بعد الان , شد على يديها وهما يبتعدان شيئا فشيئا ليختفيا كأوراق شجرة حل عليها الشتاء من دون موعد مسبق .

 

نشرت في قصة
الأحد, 29 أيلول/سبتمبر 2013 12:33

لحظة وداع - ذكريات لاجئ عراقي

                                     

 بعد مخاض أربعين عاماً... كانت الحقيبتان المركونتان قربَ بابِ  حجرةِ الضيوف؛ تشكّلُ عائقاً لمرور إخوته وأخواته وبعضَ من أصدقائهِ وأقربائه؛ فالجميع جاءوا يودعون فرات؛ متمنين له السلامة والتوفيق... في رحلة اللاعودة ! رحلة البحث عن وطن اخر!... بعد ان جفت في بلدهِ ينابيعُ المياه العذبة و فقدت الأنهار وشاحها الازرق وأصبحت جدباء عاريه كاشفةً أسرارها؛ وضفافُها باتت مزابلَ تعبثُ بها الكلابُ والقطط السائبةُ ، والنباشين الذين ما وجدوا إلا في هذه الأماكن عيشهم  ؛(ولكل دابة في الارض رزقها على الله)

- طنينٌ ملأ اُذنه صدى وسخونةٌ  تعالت من الذبذبات المختلفة  الصادرة من أصوات المودعين ،المليئة بالنصح والدعاء لسندبادهم، وعيناه  أحاطتهما غشاوة فشلت في إخفاء القاع الذي تزين بمرجانة حمراء،ورأسه يتحرك بانسيابيةٍ كرأس دميةٍ متارجحاً يميناً تارة ً  وتارة شمالا ،  مجاملا هذا  ، ومبتسماً لذاك وطرفـا عينيه منصبتان على الركن البعيد حيثُ أطفاله الثلاثة  ، إبنته وولداه الواقفان بجانب الباب، فكبيرهم عمره 7 سنين، وكانت وجوههم حائرة وعيونهم تتفحّصُ هذا الجمع الذي حضى به والدهم هذا اليوم.

 - كان وفي لحظات  إنشغال المودعين  عنه يذهبُ مسرعاً إلى حجرة نومه  ، وهو لا يعرف ما يقوم به ،  يحوم في داخلها كالطير المذبوح، ويتسمّر واقفاً أمام المرآة ؛  ليرى وجهاً خفُت ضؤه القمري مع أول خيوط الصبح ؛وهو يحاكي نفسه هل: هذا فرات!    هل أنا: إسمٌ على مُسمّى- كما كان يُكنى لي أيام دراستي الجامعية- وحتى قبل اُسبوع. كيف أكون فرات  وملامحي بدأت تفقد عذوبتها- وفي كلِّ مرة كان يسرق نفسه من مودعيه يقف أمام المرآة وفي لحظة إستغراق خاطفة  يرى وجهاً غيرَ وجهه،  وبدأت قامته تقصر وتقصر حتى  تكاد اذا طال النهار قد تصل إلى الحافة السفلى للإطار الخشبي للمرآة.. وكان كلما خرج من غرفتة لإستقبال المودعين ، تلاحقه زوجته والتي كانت مهمومة بمجاملة  النساء المتواجدات وفي كل مرة كانت تفتعل عذرا لهن بانه قد نده عليها وكانت عيناها هذا اليوم ذابلةً وشعرُها من تصففه ، بل إكتفت بلملمته إلى الخلف ، وقرصته بحلقة مطاطية.., أمّا أُمّهُ  ؛ فكانت لآخر لحظة غير مقتنعة بهذه الرحلة  التي يتوجب عليه ترك زوجته وأطفاله، وربما إكتفت بقدر سلامته وسلامة اخوته من الحروب التي إبتلى بها البلد ، أمّا السفر والهجرة  ؛فلم يكن له عنوان عندها ولا عند غالبية الامهات والآباء العراقيين.

-  وقف شاكر عند باب  حجرة الضيوف وهو صديق طفولته وجاره وكان قد فقد احدى طرفيه في الحرب العراقية الايرانية وحاز على سيارة المعوقين. صاح شاكر وبصوت حزين مناديا :فرات ..فرات.. السيارة جاهزه ... نهض فرات بسرعة كالمقاتل الذي أراد الهروب من ساحة المعركة، ونهض جميعُ المودعين بحركة لا إرادية وكأنهم في مسرحية شارفت على نهاية فصلها الاخير،  وأخذ الجميعُ ،  الواحدُ تلو الاخر يعيدون تقبيله ويكررون أُمنياتهم ودعائهم له، وهو هامدٌ جامدٌ كأنه صفحة من كتاب التشريفات فتحت لإستلام تواقيع المهنئين أو المعزين على خده.

- ركض بسرعة حيثُ أطفاله واقفين ،  وحظنهم وأخذ يشمُّهم كأم الجِراء بعد الولادة؛ وكانوا قدهموا بالبكاء بعد ما رأوا المودعين يبكون.

- عيناه المحمرتان ترقرت بدموعها وهي كقرص الشمس في الشفق،  ودموع زوجته وبكائها وبكائه الصامت،  وعينا أُمه الحسيرتان المختبئتان خلف العدسات السميكه لنظاراتها ، كلُّها  كانت عناوينٌ  للوداع ..

- قبّلَ زوجته والتفت إلى أُمه وقّـبل يدها منتفظا قائلا: إدعي لي يا أُمي ؟  وسحب جسده  مسرعاً  إلى الخارج ، غيرَ ملتفتٍ لاحد ،وجلس في سيارة شاكر، حيث كان ينتظره وقال لصديقه شاكر :هل الحقائب في صندوق السيارة ؟ فقال شاكر: نعم انها في الخلف . ثم قال: وبصوت باهت مخنوق:  لنذهب ....

وتحركت السيارة وإذا برشة ماء مطرت خلف السيارة تقليداً لضمان سلامة الوصول.

 

 

نشرت في قصة
الخميس, 08 آب/أغسطس 2013 09:21

نحو قصر الأمير

ْ
قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة

طريقٌ مُترب طويل ، خطواتٌ لأقدام ٍ مُتعثرة تحمل بقايا أنسان تتمايل قامته من شدة الضعف و وهن الجسد ، لا تسترهُ غير قطعة ثوب عتيق بال و صَندل مُمزق مُهتريء لا يكاد يحمي تلك الأقدام المُتهالكة ، فأنغرز الحصى الناعم فيها دون أن ينتابه أدنى أحساس بالألم ، بعد أن فقد ذلك الشعور من كثرة ما لاقاه ... ماكاد يسير بضع خطوات حتي يتكأ قليلاً على أحدى الجدران الطينية ليستعيد بعضاً من قوتهِ تعينه على مواصلة مشيه نحو ذلك الأفق البعيد الذي لا تبدو من ملامحه غير العُتمة ..... على هذا المنوال المتباطيء الرتيب واصل (أونتاش) سيره قاصداً قصر الأمير.
قطع بمسيرته المتباطئة تلك سوق المدينة ، حيث كانت الحياة في (لكًش) سقيمة كئيببة ، بالرغم من ما كان يوحي ظاهرها المزوق المُزيف الذي تحاول سلطة الأمير تجميله لأخفاء حقيقة الواقع المُزري الذي تعيشه .. أنتصب في وسطه تمثال كبير للأمير بوجهه القاسي المُتجهم ماداً يده للأمام كأنه يأمر الجميع بالسكوت ، والناس يمرون بجانبه رامين أياه بنظرات الغِل الحاقدة . لم يقف أحداً عنده سوى بعض البغايا اللواتي أتخذن منه مرتعاًً و مثابة لتجمعهن الرخيص ... أما الحوانيت فكانت مُشرعة الأبواب ، عارضة بضائعها المتنوعة أمام المارة المنتشرين بينها هنا و هناك على أختلاف هيئاتهم ، و البسطاء منهم يكتفون بالنظر اليها دون أدنى قدرة منهم على الشراء بعد أن نخرتهم الفاقة حتى النخاع ... و بالمُقابل ترى التجار قد أزدادت سمنتهم و أنتفخت كروشهم كقطط المطابخ الكسولة ، يجلسون أمام حوانيتهم بملابسهم الفاخرة موزعين أبتسامتهم الصفراء الكاذبة مُحاولين أستمالة الزبائن و مُروجين لبضاعتهم ، هاتفين بعلو أصواتهم (أنها خيرات أميرنا العظيم) ، (أنها نِعَم أميرنا المُفدّى) . أما الذين لايهتفون فليس لديهم من عمل يقومون به سوى وزن شيقلات الذهب و الفضة و وضعها في أكياس جلدية صغيرة ، غير عابئين بالحمالين المُتعبين العاملين في حوانيتهم ، و قد أحدودبت أظهارهم من كثرة تحميل البضائع و أكياس الحبوب الثقيلة ، ناظرين الى التاجر نظرات حادة تبقى معانيها بين ثنايا قلوبهم المُتقيحة ...... كانت صور هؤلاء المظلومين المتعبة شبيهة بحاله هذا ، حيث غدى مع معظم الفلاحين الكادحين في المدينة بعد أن ُطردوا من أراضيهم و دورهم و كل ما يملكون لعجزهم من سداد تلك الضرائب اللعينة التي فرضها جباة الأمير عليهم .... (الأمير يمهلك ثلاثة أيام يا (أونتاش) لتأتي بنفسك اليه و تختم صك التنازل عن أرضك أمامه ، و ألا سيكون مصيرك مثل مصير زوجتك الساقطة) .. هكذا قالوها بمليء أفواههم العريضة التي تشبه أفواه الضباع ، أعقبوها بضحكات العُهر التي لا تليق ألا بالقتلة ، و هو مُكبل اليدين مُلقاً أمام أرضه السليبة التي لم يبقوا له فيها سوى جثة زوجته (ننشيدا) مُلطخة بدمائها .. أي أذلال ذلك الذي يريد الأمير أن يلحقه بالكادحين و المستضعفين؟ و أي غضب ذلك الذي يريده أن يتلبد في صدورهم؟
مع نهاية السوق ساقه الطريق لأحد الأزقة الفقيرة حيث بيوت الشغيلة و الحرفيين البسطاء الذين عانوا ما عنى فلاحي (لكًش) ، ليرى وجهاً آخر من القهر الذي عانته هذه الأرض المتهالكة ، لايكاد يجمعه مع الأول سوى سور المدينة الذي أنهدمت أجزاء كبيرة منه و تداعت أخرى ، ليعلن عجزه عن حماية وجهيها النقيضين ... بيوت بائسة و أخرى في طريقها للسقوط ، رجال و نساء يجلسون عند أبوابها المتهاوية ، لا ملامح لهم بعد أن تحولوا الى أشباح من شدة الفقر و قسوة الجوع و كأنهم أخرجوا تواً من قبورهم ، ينظرون الى المارة بذهول غريب ... أطفال عراة ذوي بشرة صفراء يبحثون بين أكوام النفايات عن شيء من بقايا الطعام يملؤن به بطونهم الخاوية ، و آخرون يلعبون وسط بركة للمياه الآسنه .. في هذا المكان لم يكن هناك من ذكر للأمير أو حتى مايرمز لوجوده سوى بقايا رأس تمثال مشوه ليس فيه أية ملامح ، مُلقاً قرب أحدى أكوام النفايات ، أتخذ منه الأطفال مكاناً للتبول ..... رأى في براءة أولائك الأطفال صورة طفليه ، حين أخذوا عنوة من زوجته (ننشيدا) لوشمهم بوشم العبودية لأكمال دَينه المفروض عليه .... (ياترى أين هم الآن و ما هو هو حالهم ، جائعين ، عطشى ، أم ترى عمل العبيد قد هدّ أجسادهم الغضة النحيلة) .... أستعاد تفاصيل ذلك اليوم الأليم عندما هاجمهم جنود الأمير مع جباتهم لأخذ أرضهم و غِلتهّا ، و كيف دافعت زوجته ببسالة عنها ، لقد أنقضّت كاللبوة الكاسرة على الجنود حين حاولوا أختطاف طفليها ... (أه ما أشجعك يا (ننشيدا)) .. لقد قتلت جندين بمنجلها قبل أن تمزق جسدها حراب الباقين ... كانت تقول دوماً (أن الحياة قصيرة ، فلنعشها أذاً بكرامة) .... نعم يجب أن نعشها بكرامة ، لكن أي كرامة تبقت بعد أن قتل الأحبة و أستباحة الأرض و أسعباد الأطفال ... لقد أمتزجت هذه الأرض بدموعنا و عرقنا ، و الآن غدت أغلى بعد أن أرتوت بدماء من نحبهم ، فكيف نعطيها للأمير ؟ لا و لن يحدث هذا .. (لا يا (ننشيدا) لن أعطيها لهم و لن أكون أقل شجاعة منك) . (ها أنا ذاهب الى ذلك المِسخ الذي تسيل من أنيابه دماء أبناء (لكًش) لأقول له .. لن أتنازل عن أرضي مهما يكن ، ولا تحلم أن أختم لك يوماً ذلك الصك الجبان ، لقد أخذتها عنوة ، لكنها ستظل أبد الدهر مقرونة بأسمي و أسماء أولادي الذين سيظلون يطالبون بها ، و لابد أن يستردوها يوماً).
كان كلما أقترب من القصر تبدأ صور النفاق و الكذب و الدجل بالأزدياد ، مُتجلية بمنظر الكهنة و هم يقفون مُتصلبين مُتبسمرين كرموز النحس أمام معابدهم الدهماء ، و هم يبتهلون بصوت عال (لتحمي الآلهة أميرنا و تقوي سلطانه) ، (أنه أختيار آلهتنا المباركة) ، (لتزيد الآلهة من ثروات الأمير كي يعم البلاد الخير) ... و بين المعابد تنتشر منحوتات تتوسطها صوراً للأمير و هو بعدة هيئات ، تارة تراه شاهراً سيفه ليهدد و يتوعد ، وتارة يبتسم أبتسامة المُتشمتين ، و أخرى رافعاً يده علامة النصر على شعبهِ الجائع المُضطهد ، مقرونة بكتابات تمجد حكمه البغيض .. (الأمير الذي أنتصر على أعداء الآلهة) ، (الأمير الذي أحبته الآلهة من دون البشر) ، (الأمير واهب الخير و باني المعابد) ... و عند أركان أحد تلك المعابد كان أحد الكهنة قد أختلى ببعض الجَهلة المُخدرين ليفتي بهم (أمنحوا كل ما لديكم من أجل الأمير) ، (جوعوا ليشبع الأمير) ، (أذا شبع الأمير شبعت الآلهة ، هل ترضوا أن تجوع الآلهة؟).. لكن ما أزدراه أكثر كان لدى مروره بزقورة المدينة ، ليرى صفاً طويلاً من الرجال و النساء المُتعبدين يرتقون سُلمها نحو معبدها العلوي .. و هم يثنون أذرعهم الى بطونهم و يحنون رؤوسهم نحو الأسفل بطريقة مُذلة مُهينة حتى لم يعودوا يرون سوى أقدامهم ... يالها من مفارقة أن يُفرض على الأنسان أذا أراد أن يرتقي العُلى أن يذل نفسه و يطأطأ جبينه .. لكن لماذا هو و بالرغم مما لاقاه من ظلم و حيف و ألم ، أستطاع حقاً أن يحني ظهره لكن هامته بقيت شامخة شموخ النخيل و لم يحدث أن حناها يوماً ألا ليقبل يد أمه أو خدود أطفاله ... ياترى هل هذا هو قدر الكادحين ، أن يُضحوا دوماً بكل شيء من زهو الحياة ليكسبوا كرامتهم و عزة نفسهم التي هي الدنيا كلها بالنسبة لهم .... (هيهات أيها الأمير أن تحني هامتي .. لقد قتلت زوجتي ، و أستعبدت أطفالي و أستحوذت على أرضي و بكل يُسر تستطيع قتلي أنا أيضاً ، لكن رأسي ستبقى مرفوعة ، و ستظل عيناي أبداً تقابلان الشمس).
و مع أختلاط دوامة الأفكار في رأسه مقرونة بما آل اليه جسده المُنهك ، ليجد نفسه في تالي المطاف و آخر الطريق وجهاً لوجه أمام قصر الأمير ببوابته الكبيرة السوداء الشبيهة ببوابات العالم الأسفل ، و الى جانبيها أنتصب حراسها المدججون بالسلاح .. توقف لحظات ، هل يواصل مسيرته نحو ذلك القدر المجهول ... نظر طويلاً الى الحراس بصورهم الكالحة القبيحة و سيوفهم القاطعة اللماعة ، فكر قليلاً ثم تمتم مع نفسه ... (أنها قصيرة .. حقاً أنها قصيرة).

ةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةة

*تدور أحداث هذه القصة الخيالية المُفترضة في مدينة (لكًش) السومرية عام 2400 ق.م ، ُقبيل أندلاع ثورتها العظيمة التي أطاحت بالسلطة الحاكمة هناك ، والتي تعتبر أول ثورة جماهيرية في التاريخ .

نشرت في قصة
الجمعة, 07 حزيران/يونيو 2013 12:33

مصير الشيطان

قبلَ وأثناء حرب الخليج الأولى؛ عاشَ عزيز سلام، معَ زوجته إلهام عواد في مدينة بغداد، لا يملكان في حياتهما، سوى كرامتهما وعزة نفسيهما التي توارثاها بجدارة عن أجدادهما.

كانَ يحيى وحيدهما... عاشَ وشّبَ على الدلال المفرط، خاصةً من أمه التي لا ترفض له طلباً مهما كان،   ومرات قبلَ أن يشير إليها بأصبعه الصغير.

يعمل أبوه الصائغ بورشة تابعه له، في نفس المنطقة التي يسكنها، يصوغ فيه خواتم الزواج الرجالية، تلك التي يصنعها من مادة الفضة؛ ينقش عليها من الداخل، اسم الزوجة وتاريخ  الزواج بيده الخشنة التي يظهر عليها آثار جراح قديمة مازالت وكأنها لم تندمل بعد؛ لاستعماله أدوات الصياغة البدائية التي لا يفكر بتغييرها لنقص المال؛ لذلك كانَ يصوغها بطرقها ومعالجتها حرارياً في نفس الوقت، بينما ينقش الأسماء والتواريخ بقطعة حديدية مدببة من طرف واحدة، غالباً ما تنزلق أثناء النقش جانباً، فتأكل من لحم يده أكثر مما تحفره في الخواتم.

في حين كانت أمه ربة بيت وعلى قدر بسيط من التعليم، تتعامل مع من يحيطون بها بالفطرة، ولا تطمح إلا لإسعادهم، لتعيش من أجلهم، كراهبة.

عاشَ يحيى بلا كفاءه تذكر؛ واستمرَ يأخذُ مصروفه اليومي من أبيه.

وفي احد الأيام التي كانَ يقضي فيها عطلته الربيعية في منطقة الحبانية معَ أصدقائه للترفيه عن نفسه بعد فصل دراسي منهك! وعلى شاطئ البحيرة الجميلة آنذاك، تعرفَ على طيف قاسم، والتي تعتنق نفس ديانته، وهذا ما شجعه أكثر ليقدم على الخطوة التالية، وهو يعلم علم اليقين، بأن في مجتمعه الضيق لا يعترفون ولا يسمحون بالعلاقات التي تسبق الزواج، فطيف كانت بالنسبة له حلما يراه في الحقيقة.

طيف، تلك الشابة الجميلة، ذات العينين الخضراوين بلون الشجر... أنجذبَ لها، لتبادله الشعور ذاته، ليكونا بعد ثلاثة أشهر من تعارفهما خطيبين دونَ تخطيط مسبق لحياتهما القادمة، بعد أن أقنع أبويه بخبث وحيلة ومكر الثعلب، بجدوى الزواج المبكر! سمعهُ الأب وهو صامت لا يعرف ماذا يجيب، بينما فرحت الأم بطيبتها الساذجة بقرار ابنها الوحيد.

لم يعش بعدَ زواجه أكثر من تسعة شهور في منزلهم القديم، ليقرر فجأة السفر إلى خارج العراق برفقة زوجته، على الرغم من أنه مازالَ طالباً جامعياً. صعقت الأم بالخبر، وبدأت توسلاتها المكوكية أولاً مع الزوجة، وعندما لم تصل معها إلى أي اتفاق، ولم تجد فيها أذنا صاغية، استغفرت ربها وقالت في سرها: مسكينة لا تعلم ماذا ينتظرها هناك في الغربة. ثمَ حاولت معَ ابنها تترجاه بقلب يعتصرهُ الألم، في كل كلمة تنطقها:

 يا بني لا تجعل حسرتي عليك تأكلني، فأنا لم أعش إلا من أجلك، لا تفكر بأنانية الطفل، فكر بأبيك المريض الذي أصبح نظره  ضعيفاً جداً، لا يرى الخواتم التي يصوغها إلا بشق النفس، وأنا، ماذا تظنني؟ كيفَ سأعيشُ بدونك؟ هل فكرت بنا؟ لا تكن قاسياً كالصخر، أتوسل إليك بأن لا ترحل وتتركنا، لا تقتلنا في الحياة، أرجوك، وأجهشت في بكاء متواصل مر الذي يقطع أوصال من يراها، إلا ابنها الجامد كقالب من الثلج، يسمعها ويراها تبكي وتنتحب، وهو يتأفف من الضجر!

سمعَ الأب بالخبر، فأوصى ابنه بأن يزوره في ورشته بعد انتهاء دوامه الرسمي، كي لا تسمع الأم ما سيدور من حديث فيؤذيها؛ انتظر الأب طوال النهار ولم يأتيه! وفي المساء كررَ طلبه بعدَ أن تعذر يحيى بأسباب وجدها والده بأنها واهية، غير مقنعة، لكنه لا يملك الكثير من الأوراق في يده، وهو يعلم بأن ابنه يستطيع السفر دونَ الرجوع إليهما، رغم ذلك أصّرَ على مفاتحته بالموضوع لعله يتراجع فيغير رأيه، لكن انتظار الأيام القادمة لم تجدِ نفعاً؛ وفهم الأب تلك النوايا على أنها أجوبة صريحة، لا يريد يحيى المواجهة في موضوع قد حسمه وأصبحَ في حيز التنفيذ، فأجبرهما على الخضوع، وهم صاغرون.

ودعتهم الأم بالدموع، والأب بالأحضان والقبل، بينما يحيى يستعجل الوقت ويأمر زوجته متلذذاً، صارخاً:

هيا يا طيف، سنتأخر على موعد الطائرة، ألم تنسي شيئاً؟ هلً أخذتِ معك كل أشيائك الثمينة؟ لأننا قد نحتاجها هناك، من يعلم؟ ثمَ يلتفتُ إلى أبيه وهو يغمز قائلاً:

وأنتَ يا أبي لا تنسانا، فإننا هناك سننتظر ما ستبعثه لنا من مال، سأتصل بكم كلما احتجتُ إلى شيء، أعدكما بذلك! ثمَ آمراً زوجته مجدداً: هيا يا طيف فالطائرة...

ناحت أمه: معَ السلامة يا بني، كن حذراً وأعتنِ بنفسك وبزوجتك جيداً، اتصل بنا كلما سمحت الظروف بذلك، أرجوك، وهي تودعه أجهشت بالبكاء، تجعل من يراها يموت آلاف المرات، إلا ابنها.

سافرَ يحيى وهو مازال بعد لم ينهِ دراسته الجامعية، بينما كانت زوجته قد أنهت دراستها الإعدادية، لتبدأ حياتهما الجديدة في مدينة نيويورك الأمريكية، وسط انبهار وتعجب استمرَ لعدة أسابيع، فالحضارة الحديثة، والبنايات الشاهقة، والشوارع  المزدحمة، حتى بدت المدينة لهما وكأنها تدور، كل شيء فيها يجري بسرعة حتى الأطفال الذين مازالوا يحبون.

اضطرا  للعيش على ما تقدمه لهم بلدية المدينة من معونات، تلك التي تقدم للذين هم تحت خط الفقر، بالإضافة إلى دعم الكنيسة، ذلك بتزويدهما بالمواد الغذائية التي نفد تاريخ صلاحيتها، ولكنهم يوزعونها للفقراء، حتى تعود يحيى بالوقوف في طابور طويل مرة كل بداية أسبوع للتزود بما يفيض من تلك المواد.

فكرَ يوماً بالاتصال بأهله عندما بدأ الجوع ينهش بطنيهما، بعد أن فشلت كل محاولاته للحصول على فرصة عمل يعيشان منها، خاصة وأنه لم يكمل دراسته الجامعية؛ انتظرَ ذلك اليوم لحين قدوم المساء في توقيت بغداد:

-  الو... مرحباً يا ماما، أنا يحيى.

- نعم يا حبيبي، كيفَ هي صحتك؟ وكيفَ حال زوجتك؟ ألم تصبح زوجتك حاملاً بعد؟ هل تأكلُ جيداً؟ قل لي بصراحة ولا تخبئ شيء على أمك يا ولد...

- نحنُ... نحنُ بخير يا ماما، كيفَ حالَ أبي؟ قولي له أرجوكِ بأننا نحتاج إلى بعض المال، والعنوان قد أرسلته في رسالتي الأخيرة لهذا الغرض!! أرجو أن يعجل الإرسال يا ماما.

- رددت منزعجة:

الو... الو...  انقطع الخط، ولم يقل أي كلمة وداع، لا أحبك يا ماما، ولا أي كلمة اشتياق؛ ثمَ  استطردت وهي تدافعُ عنه:

قد لا يملك حق الاتصال؟ لذلك انقطع الخط! ثمَ أردفت متألمة: لم يعطني فرصة للكلام، كي أخبره بما حصل!! ولكن كيف سيقع الخبر عليه؟ لا، لن أخبره، آه... يا ربي، ماذا يمكن لي أن أفعل؟ أنه رجل وعليه أن يتصرف أيضاً كالرجال، لكنه وحيدي وأخافُ عليه، لم أعد أملك في الحياة سواه، آه... رأسي يكاد ينفجر، يا ألهي( هكذا كانت تخاطب نفسها، كالمجنونة )

بعدَ ثلاثة أسابيع، عاودَ الاتصال مجدداً:

- الو... مرحباً يا ماما، نحنُ مازلنا ننتظر المساعدة، ألم يرسل أبي شيئاً؟

- ... سكون، كصمت القبور بلا جواب.

- الو، ماما هل تسمعينني؟

- نعم يا بني أسمعك جيداً،  ولكن...

فضحها صوتها المرتبك، بكت بصوت موجع، كمن تقطع يده دونَ مخدر.

- ماما، ماذا حدث؟ تكلمي أرجوك، هل أبي بخير؟

- بصوت مرتجف، وبنبرة حزن عميق، وبحسرة خانقة كالمرء الذي يشعر بأنه سيموت بعد ساعة أردفت قائلة:

أبوك يا بني... قد... قد ماتَ قبلَ خمسة وعشرينَ يوماً، ودفن في مقبرتنا، وقد تصرفت بورشته كي أسدد تكاليف الدفن، حتى أنها لم تكفِ، ولم يسوَ قبره سوى بحفنة من التراب، دون زهور يا يحيى، هل سمعت؟ دون زهور... وأجهشت في البكاء مجدداً.

-  الو... ماما، أرجوكِ أن تتحلي بالصبر، وأن تمسكي أعصابك  فالوقت يجري، والمكالمة تكلفني كثيراً،  أرجو أن تركزي معي، وقولي لي بسرعة، ماذا ترك لنا أبي؟!

- نعم يا بني، أنا أتفهم ظروفكم جيداً، لكن أبوك لم يترك لنا ما هو ثمين، وأنتَ تعلم بأنَ الفضة التي كانت بحوزته، لا تساوي شيئاً يذكر الآن، وأدوات الصياغة التي يمتلكها كلها قديمة والصدأ يملؤها، فكل هذه الأشياء لا تساوي اليوم حق كيس من الطحين الأسمر المخلوط بالنخالة؛ آه... يا بني ماذا أقول لك؟ الأمور لم تعد كما كانت عليه في السابق، وعلى الرغم من أنك لم تتركنا سوى ستة أشهر، ولكن كل شيء قد تغير هنا وبسرعة مذهلة...

- ماما، سأضطر لغلق الخط... ينقطع الخط دون أن يودعها، وهي مازالت تتحدث...

معَ السلامة يا بني، اعتنيا بصحتكما أرجوكما، افعلا ذلك لأجلي، واعلم بأني أحبكما كثيراً جداً، أجهشت في بكاء متواصل، كما يبكي الطفل، وأضافت:

 لقد أصبحت وحيدة يا بني، لا أحد باتَ يتكلم معي أو يسمعني سوى الجدران، حتى أنني بتُ أصدق إنها فعلاً تتحدث معي وتعيد عليّ كل ما أقوله!! أشعر بأنها تتألم لآلامي، بل حتى أنها تبكي معي، فأشعر بدموعها ندية ورطبة عندما ألمسها بحنان أم... براحة يدي. ثمَ واصلت وهي تتنهد:

إلا تصدقني؟ ماذا دهاك يا بني؟  لقد باتت كلماتك قاسية كضربات السوط، وثقيلة كالحجر على قلبي، أريد أن أتكلم معك... إلا تشعر أنت بهذه الحاجة؟ أأصبحَ قلبك إلى هذا الحد صلداً كحجر الصوان؟ لا أريد منك شيئاً سوى التحدث معك، هل هذا كثير؟ أنا أمك يا يحيى، هل تفهم ما يعني هذا؟ حتى أني ترددتُ في رفض عرض جارتي الطيبة أم عماد، لأنَ هذا لا يرضي الله ولا أحداً، فهي مسؤولة عن أسرة كبيرة ولها طفلٌ مريض بالربو، قد يختنق في أي لحظه، حتى ابنها عماد الموجود في إيطاليا، تأخر عن إرسال الأدوية الضرورية له، وهي قلقة جداً هذه الأيام وتكاد تجن، كيف يمكن لي قبول عطفها؟! حينَ قالت: لو أحببتِ، أستطيع أن أبقى معك أثناء الليل.

(تتحدثُ معَ نفسها، كأنها تحضر روح لعزيزٌ لها، أدركها النعاس، غفت معَ حزنها ووحشتها ببراءة طفل وهي جالسة بلا ظل)

بدأت الأم تعاني الوحدة القاتلة، سماعها الأصوات ليلاً جعلها قلقة لا تستطيع النوم، حتى أنها بدأت تصدق الأوهام، كأنها حقيقة تنظر لها كالمرآة، قطع عنها النور، بسبب تأخر الدفع، استعاضت عنه بوهج الشموع، حتى ثقب الباب بدا لها في الليل مثل عين وحش يترصد حركاتها، باتت تتقلب في السرير وكأنها نائمة على جمر، أصبحت هزيلة، كبالونه أفرغت تواً من الهواء، وعيونها ملتهبة حمراء بلون الدم، أنهكها السهد، لتنهض في صباح اليوم التالي تستقبله، كي تبيع فيه قطعة أخرى من أثاث منزلها، بعدَ أن بدأت ببيع جهاز التلفاز ومن ثم كانت قد تصرفت بطاولة الطعام والكنبة والأسرة واحداً تلو الآخر وحتى المذياع الكبير المستقر على الرف، الذي شاطرهم حياتهم... استقطعت جزءا من المال الذي باعت به تلك الأشياء لتشتري فيها بطاقة كي تتصل بابنها...

- الو... نعم يا ماما إني أسمعك.

- حبيبي، كيف صحتك؟ وكيفَ هي زوجتك؟ لم تعد تتصل بي! هل نسيتني يا بني؟ أرجوك أبقِ الخط مفتوحاً ليلاً، فأنا بدأت أشعر بالخوف هنا بمفردي، أريد أن أسمع شهيقكَ وزفيرك، كي أشعر بالأمان، وأعدُ نبضات قلبك لأنام، أرجوك أنا سأتحمل تكاليف المكالمة، لا تقلق من ذلك، لن أكفلك شيئاً؛ ثمَ دمدمت بتهالك:

يا حبيبي أريدك فقط أن تكون معي، فالوضع هنا قد تغير كثيراً، هناك من يريد سرقتي أو قتلي، أراهم في كل ليلة يحومونَ حول المنزل، صدقني يا ولدي... ترتجف وتتلوى كطير مذبوح.

- ماما، أرجوكِ وصلي لي سلامي إلى صديقي جبار، أنتِ تعرفينه، إنه زميل الدراسة، قولي له إنني مشتاق جداً لتلك الأيام التي قضيناها معاً، إنها أيام لا يمكن نسيانها، سأحاول الاتصال به قريباً، حين يكون لدي بعض المال، لا تنسي يا ماما، لأجلي...  وينقطع الخط مجدداً دونَ مؤاساة أو كلمة حب أو حتى وداع.

- سأذهب إليه اليوم بعد الظهر يا ولدي، لا تقلق، سأفعل ذلك من أجلك، ما دامَ هذا الأمر يجعلك سعيداً وراضياً. لكنك لم تقل لي، هل أستطيع أن أكون بجانبك ليلاً؟ فأنه سيأتي وسيجلب معه الخوف!! هل تعلم ماذا يعني الشعور بالخوف لامرأة في سني؟! أراك كالصنم بلا عواطف، ماذا جرى لك؟ أنسيت اهتمامي بك وسهري الليالي؟ أجبني بالله عليك ولا تجعلني أكلم نفسي كالمجنونة، ماذا... ها... ؟ لماذا لا ترد؟ هل أنت شيطان بجسد إنسان؟ ثمَ هتفت وهي مجروحة الشعور، دونَ وعي:

لا، أنت يحيى ابني، حبيبي... ثم تنتحب، ترتجف، تبكي بلا صوت، تغمض عينيها، تنكسُ رأسها فتغفو وهي جالسة كالميت.

شاخت في الستة أشهر الأخيرة، كما لو أنها ستونَ عاماً، غزا الشيب رأسها فجأة وبسرعة غريبة، كما تنتشر الغيوم الملبدة بالأمطار في شهر نيسان، انحنى ظهرها ليصبح كقوس الرماية، فتبدو للناظر ذابلة، كزهرة قطفت من أشهر خلت.

كبَر القلق في داخلها كما يكبر الجنين في رحم أمه، باعت إبريق الشاي الذي كانت تحتفظ به، وقالت تحدثُ نفسها وهي منهكة:

ماذا يعني إبريق الشاي بالنسبة لي؟ لا شيء. فأنا لم أحضر الشاي منذُ موت زوجي، ولا أرغب باحتسائه من دونه، إذن لا جدوى من الاحتفاظ به! واشترت بثمنه بطاقة لتتصل بابنها الذي لم تسمع صوته منذ مدة:

- الو، بصوت متثائب، منْ هناك؟

- أنا أمك يا نظر عيني.

- أه يا أمي، هل تعلمين كم الوقت الآن؟

- لا يا ولدي، فعندنا هنا مازالت الشمس تلعب معَ الأطفال، فالطفل يحاول أن يهرب من ظله، لكن الأخير يلاحقه بإصرار لا يعرف التعب، مثلي يا ولدي!

- نعم يا أمي، نعم، ولكني متعبٌ جداً الآن، لأنني قضيت اليوم بطوله في المستشفى مع زوجتي، لقد سقط الجنين للمرة الثالثة، هل عرفت الآن لماذا أنا متعب؟ وأرجوكِ يا أمي لا تلاحقينني كالظل، فأنا لم أعد طفلاً، سأتصلُ بكِ غداً، أعدكِ بذلك، يغلق الخط...

- انتظرتُ مكالمتك طويلاً يا بني، وبعتُ آخر إبريق احتفظتُ به ذكرى من أبيك، كي اتصلُ بك. إن داخلي يا ولدي قد حطمته، كما يتحطم الزجاج، والجراح في داخلي تنزف شوقاً لك، هل تسمعني يا ولدي؟ إن حبك يأكلُ قلبي، كما تأكل آفة السرطان جسم الإنسان، فأنا لم أطه الطعام منذُ أيام ولا أرغب في الأكل بمفردي، لا أريد إلا أن أكون بجانب أبيك، لقد اشتقت إليه كثيراً، لم أعد أطيق الانتظار، ما رأيك أنت؟ هل تسمعني؟

باعت فراشها، لتفترش الأرض وتلتحف الفراغ، كي تشتري بإصرار مرة أخرى بطاقة، فتعاود مجدداً ودونَ ملل الاتصال... وهي تشعر بأنها لم تعد تقوى على الحركة أو حتى الكلام، ونهايتها باتت مجرد لحظات، ولكنها تريد سماع صوت ابنها، قبل أن ترحل وإلى الأبد.

- الو، نعم يا أمي لقد عرفتكِ مباشرةً!! ما وراءك؟!

- إني جائعة يا ولدي، وخائفة، أشعر بالهزال الشديد، لم أعد أقوى على الوقوف، بالله عليك لا تغلق الخط، بالله عليك...

ينقطع الخط.

فتسقط سماعة الهاتف من يدها الصغيرة المرتعشة، تتوقف الحياة في قلبها، كوردة قطعت من غصنها.   

في هذه اللحظة، كانت زوجته تنظر له جامدة مثل عمود ملح، كزوجة لوط... تنظر له بعينين ثاقبتين، مثل عيين الصقر، فأدارَ رأسهُ  نحوها وسألها بنبرة مشفقة:

لا تتأثري يا زوجتي العزيزة على سقوط الأجنة، نحنُ ما زلنا شباباً، والحياة ما زالت أمامنا طويلة، لا تيأسي من رحمة الله... وعندما لم تبدِ أي حركة، تقرب منها، رفعَ يدها فسقطت من تلقاء نفسها، كجلدة السوط، وأحسَ ببرودة جسدها، رجعَ إلى الوراء مذهولاً، يشد شعره بقوة دون شعور، وبدأ يعوي:

ماذا يا حبيبتي؟ هل سترحلين وتتركيني... هكذا؟ لا، لن أسمح لكِ، ها... لن أسمح لكِ، ماذا... أين الهاتف؟ يلتفَ حول نفسه كالمجنون، يصرخ عالياً، تباً، أين الهاتف؟ لقد كانَ للتو هنا، يجده ويطلب أمه...

ما من أحد يجيب...

يفقد أعصابه، يرمي السماعة بقوة على الحائط، فتتحطم، يبكي بهستيريا وكأنه في كابوس يرى رأسه في يده... وينوح:

 لماذا لا تردين علي يا أمي... ها... لماذا؟ ثمَ صرخَ بتهالك مفضوح:

أنا خائف يا أمي، فزوجتي تنظر لي، لكنها يابسة وصلبة كصارية مركب، ماما أجيبيني... قولي لي بأنكِ مازالت تحبينني؟ قولي أي شيء، أريد أن أسمع صوتك الملائكي كي أشعر بالراحة، أني أجن يا أمي، أجن... وأجهش في البكاء وهو يضرب رأسه بالجدار المقابل له بقوة، ينزف... فتنزلقُ الدماء سريعاً على وجه، يفضُ ملابسه دون فتح أزرارها، كالسكران ويخرجُ إلى الشارع عارياً، يصرخ برعونة متضرعاً:

أماه، أماه أجيبيني، إنني خائف، وحيد... ثم أردف بعد غصة:

إنني شيطان، نعم يا أمي أنا شيطان، لكنني أبقى ابنكِ، هل تسمعينني؟

في نفس تلك الليلة... دخلَ اثنان من السارقين وهما جائعان، إلى أحد المنازل...

-         أرى المنزل مظلماً، كالقبر( قالَ أحدهما )

-         أجابهُ الآخر مرتبكاً: نعم، ورائحته نتنة كرائحة جثة متفسخة.

-         يرتطم الأول بشيء في الأرض، ويقول هامساً: ما هذا؟ كأنه صرة مليئة بالخشب.

-         لنحملها إلى الخارج، لعلنا نجدُ فيها كنزاً ثميناً أو شيئاً يؤكل؟!

يحملان ما ضناه صره، وعندَ عتبة الباب الخارجي من المنزل، ينظران إليها... فإذا بهما يفاجأن بجثة امرأة، يتلفتان حولهما بهلع، لا يعرفان ماذا يفعلان... شاهدتهما الجارة أم عماد، فصاحت في وجهيهما، فزعة:

ماذا أرى؟ من هناك؟ ماذا تحملان؟ اتركاني أتأكد بنفسي...!

تتقدم أم عماد نحو السارقين ببطيء شديد، كالضرير، فتصعق صارخة، وهي تضربُ صدرها بيدها، وتنوح بصوتٍ موجع:

إلهام يا عزيزة قلبي، ومهجة عيني، لقد كنتِ ظلاً لأجسادنا، وصدى لكلماتنا، هكذا تكون نهايتك على يد الشيطان؟! 

ماتت الأم العظيمة الصابرة.

بعدَ معاناة كبيرة، نتيجة حب عظيم، منحته إياه، استحقت عليه الموت الذليل، بعد رحلة عذاب وجوع ومهانة تلقتها من فلذة قلبها، ولو كانَ صدرها قد أنفجر، لأغرقَ الدنيا بالوحشة، اشتياقاً لابنها الوحيد.

روت أم عماد للسارقين الجائعين الحكاية... وهي في حالة من الذهول، بقلب يعصرهُ الألم وعيون حمراء تملؤها الدموع.

يطبقُ صمتٌ عميق ورهيب للحظات، يتفرس كل منهما وجه الآخر، تكاد تنطقُ نظراتهما بسؤالٍ واحد:

جثة إلهام؟

 فاتفقا على دفنها بجانب زوجها في مقبرتهم غرب بغداد، دونَ الشيطان!

 

نشرت في قصة
الأربعاء, 29 أيار 2013 10:48

الفرحة التي ....

شعورٌ عارمٌ  بالغبطة والسعادة ، طيرٌ محلّقٌ بلا أجنحة  ،الفضاءُ الرَّحبُ لا يسعه ؛ فالفرحةُ تغمرُ كيانَه ، حتى لا تكاد قدماه تطأ الأرضَ من شدةِ السعادةِ التي تسربله ؛ وهو يقرأ إسمه بين أسماء الناجحين ،ليس هذا فحسب بل ولقد  كان  مجموع درجاته عاليا  ؛  ومعدله أكثر من سبعٍ وتسعين  بسبعة ِأعشار الدرجة ؛ وهذا ما يمنحـه الفرصة  لدخول أي كلية عالية المستوى ، كالكليّة  الطبيّة  أو أحدى كليات الهندسة المرموقة ، معـدلٌ سيؤهله للبدء بحياة جديدة أسمها الحياة الجامعية  ؛ حيثُ الفتياتُ الجميلات  ،اللواتي كثيراً ما سَمِع عنهن من أخيه الأكبر ، كيف يكنَّ ، وكيف يتعرّفـن على (زملائهن )  وكيف يتعرف الزملاءُ بهن  !     نعم لقد كدَّ وتعب من أجل هذا اللحظة الموعودة والتي طالما حلم بها ، نعم لقد وفّي نذراً  ، وعهداً قطعه على نفسه أن يكون نجاحه ليس نجاحاً عادياً؛ بل متميزاً ؛ ليشار إليه بالبنان وليقال عنه : الأول على مدرسته ، أو الأول على  مدارس الرصافة أو على بغداد مثلاً أو حتى العراق ؛ فطالما سيكون من الأوائل في بغداد ؛ فمن الضروري  أنه سيكون من  الأوائل على العراق للعام 2001 ؛ وهاهو يعلم اليوم  ، إنه الأول على تربية الرصافة ، بمعدّل سبعٍ وتسعين درجةً وسبعةِ أعشارِ الدرجة  !

 لقد كان يحلم  ومنذ دخوله القسم العلمي ؛ بأن يكون طبيبـــاً ؛ فلقد زهد في أن يكون إداريـاً أو  محامياً بل صيدلانياً  أو مهندســاً ؛ فعائلته الكبيرة والصغيرة تكاد تغصُّ بالمهندسين من كافةالإختصاصات الهندسية ، إعتباراً من الهندسة المعمارية ، والكيمياوية ، والمدنية والإنشاءآت ، والنفط ، وآخرها هندسة الطرق والجسور ، وتذكّـر عمته ؛ فلقد كانت مهندسة ري وبزل ، ولن يكون صيدلانيا ً ؛ لأن الصيدلة ستعني أن يجلس وراء منضدة عالية  ، ووراءه عشرات الأغلفة التي بداخلها أنواعٌ متعددة من الأدوية ذات الروائح النفّاذة والتي تُثير عنده الحساسية ، أو يدور من رفٍ لآخر ليوفّـر الدواء لمن جاء يطلبه ، بل وسيكون كعطارٍ في سوق الشورجة  لكنه إستدرك و قال في سره ( مع الإعتذار للصيادلة فلولاهم لهلك البعض ) ؛  لذا فهو قد فكّـــر : سيكون من الأجدر و الأنسب له وللعائلة أن يكون طبيباً  ؛ السبب  بسيط ٌ جــــداً ؛ لأن ليس في العائلة من كان يحمل لقب {طبيب – دكتور}   ولا يريد أن يكون إقتصادياً خريج إدارة وإقتصاد ؛ فهذه إختصاصات إنسانية وهو فرع علمي ، ولا يريد أن يكون محاميـا ؛ لما يحمله المحامي من مراوغة وإخفاء لبعض الحقائق من أجل تبرئة موكله ؛ حتى وإن كان قاتلاً مع سبق الإصرار والترصد ، وهذا أيضاً لخريجي الدراسة الأدبية  !

أريدُ أن أكون طبيبـــــاً بشريا   ! ردد ذلك مع نفسهِ  وسرح بخياله ،  ياله من شعورٍ طاغٍ بالزهو والغبطة وهو في أعلى درجة  من درجات  نشوة النجاح ،  وتصّور نفسه كيف سيكون وضعه  ، عندما يضع السماعة - والتي ستكون شعاره في الطب  - وهو يضعها  في إذنيه ويستمع إلى دقات قلب أول مريض يفحصه .... لا لا سيكون هو أولُ من يجرّب السماعة ؛ عندما يفحصها بعدةِ  نقراتٍ من إصبعه ، بعدهـا يضعها على جنبه الأيسر ليستمع إلى ضربات قلبه المتسارعة  ،  ثمَّ  يمد يده اليسرى ليجسَّ النّبضات  المتسارعة و التي يكاد شريانهُا ينفجرُ تحتَ ضغط إبهام يده اليمنى  ؛ يتأكد  بعدها أن كلَّ شيءٍ سيكون على مايرام . ؛  أنها  الآن صالحة لإستبقال مرضاه ، وبالتأكيد ستكون اُنثى ؛ فهن رقيقاتٌ ، سريعاتُ العطب  ، ولأقل وعكة صحيّـة  يذهبن للطبيب !

  لطالما حلم أن يكون قريباً من النساء ؛ لا حبـــاً بهن فحسب ؛  و لأنهن دائمات التعطّــر وقلما تجد إحداهن وهي تسير بلا عطرٍ فواح  ، أوبلا  زينةٍ كاملة ، أصابع ملونة البنان ، وألاظافر تزهو بأجمل الألوان ، تسريحات الشعر وهو يتماوج كشلال ( كَـلي علي بك )  ما أجمله من شلال ومن شعور بالشعر وهو ينسدل  على أكتافهن التي تكاد تنكسر من رقتها كحرير ناعمٍ ، ياللروعة وياللجمال أنه حقاً ما يتمناه المرءُ وما يرغب فيه  .  لا يعرف كيف تسلل له الشعور بأن الرجال أكثر عرضه من النساء للإصابة بمختلف الأمراض أو إصابات العمل   ؛ فهو والحالة هذه سيكون مضطراً لفحص الرجال مع ما يفوح من أجسادهم من  رائحة العرق والتي تجعله يشعر بالغثيان عندما يمرق أحدهم من جانبه ، وفكّـر هذا لايهم طالما أن النقود التي سيجنيها ستكون كافية لإكمال دراسته  ، دراسته !  نعم سيُكمل الدراسة التي تؤهله لأن ينال أعلى المراتب العلمية ، الماجستير ، لكنه وفي الثانيةِ الثانية َإستدرك ؛ لماذا لا تكون دراسته، الماجستير والدكتوراه  في نفس الوقت !   نعم هذا أفضل وأقل عناءً  وهو في نفس الوقت سيبُقيني منشغلاً بجو الدراسة والإستفادة  من كلَّ ثانية أقضيها من أجل الحصول على مبتغاي  .

 وفكّـــر : هو الآن في السابعة عشر ؛  [فلقد سبق زملاءه بعامٍ دراسيٍّ كاملٍ نتيجةً  لتفوقه الدائم  في الدراسة ]  ، غضٌّ ، قد خُطَّ شاربه توّاً  ،لكنه قويُ  البنية ، جسمٌ رياضي ، يكاد طوله يكون  أفضل  من أقرانه . مع ما يمتاز به  عنهم  بما يملكه من روح المثابرة  والجـد في اُمور الدراسة والتحصيل العلمي ؛ فما  كان ليفوّت محاضرة واحدة خلال السنة الدراسيّة الأخيرة

وثانية ثاب إلى رشده  ؛  فللوصول إلى مبتغاه النهائي أي  { الدكتوراه } عليه أن يحسب بدقة كم سيكون عمره وقتذاك !

 وكما تعوّد أن يفعل كلما أراد أن يخطو خطوة في تحصيله العلمي والمهني  ؛ بــــــــــدأ   يحسب وكانت بداية  حسابه  الرقم {  ستة  }  !

و بأصابعه بدأ يحسب ، لكن، بتمهلٍ وبدون إستعجالٍ أو تهــوّر ؛ لأن المستقبل مهمٌ و يجب أن يتم الحساب له دونما تهاون ، ودونما  إغفال لأي جانب من جوانب الحياة الأُخرى ؛ ستة ، نعم ستة ؛ الكلّية الطبية الدراسة فيها ستُّ سنوات ،ثلاث أو اربع سنوات طبيباً مقيمـــاً ، سنة دراسية تحضيرية للماجستير أو على أكثر تقدير سنة ونصف ، لتكن سنتان ! وستكون ثلاث سنوات للدكتوراه  ؛ وأفرد أصبع الخنصر  من يده اليسرى ،  {ست سنوات، أربع سنوات البنصر ، الوسط سنتان ، السبابة ثلاث سنوات  ، الإبهام وكان هو المحصلـة النهائية  ، خمسة عشر عامـــــا  }، وأضاف سبعة عشر ؛ فكانت النتيجة { إثنان وثلاثون }، واتسعت عيناه  رعبـــاً ممزوجـــاً بالإندهاش ؛ فأعاد الحساب ثانيةً  على عجل ،( ست + أربع+ إثنان + ثلاث= إثنان وثلاثون  ) وصرخ يا الله يا مندادهيي ! إثنتان وثلاثون سنـــةٍ على أقل تقدير ، متى سأتزوج ، متى سأكوّن عائلة ، متى ...... آلاف المشاريع في بالي ، السفر ، التمتع بمباهج الحياة  ، وهل سأتزوج عندما أتخرج من الكلّـــية  أم عندما اُنهي الدكتوراه  ، أم خلالهما ، أو أثناء الماجستير؟    وعاد يُسائل نفسه ،أنا أعرف إن الزواج والطب خصمان أبديان ؛ خاصة لمن كان مثلي يريدالحصول على ما يُريد بأسرع وقت ! الزوجة لها حقُهـــــــا ، والطبُ والمرضى لهم الحق أيضاً في إهتمامه بهم  ،  والعيادة  ...العيادة !  كيف نسي أن يضع العيادة في حسبانه ، الطبيب ( يجب أن تكون له عيادة ) هذا هو المنطق الصحيح  والمعمول به في جميع الأوقات وفي جميع البلدان ، نعم ستكون لي عيادة ، لكن متى سأكون في العيادة ومتى سأعود إلى البيت  ؟  الزوجة لها حقها الطبيعي والمرضى لهم حقهم  والمستشفى  والخفارات  ، والحالات الطارئة  ويمكن أن يطلب أحدهم عيادة في بيته  كيف سيكون وضعه لو أن أحداهـن جاءها المخاض وأرادت أن تضع وليدها !  تُرى كيف ساُوفق بين الإثنين  ؟

ياإلهي ما أصعب أن يكون الإنسان طبيبـــــا  ! وماذا لو تزوّج وأنجبت زوجته  مولوداً ؟ ماذا  ؟ وليدٌ في البيت ؟ كيف هذا ؟ لا ،  لا أُريد أن أتزوج كيلا يُفسدَ عليَّ الوليدُ ما اُخطط له ؛ إن المستقبل أكثر أهمية من إنجاب الأطفال ، لكن أبي يحبُّ الأطفال ، وسيكون سعيداً عندما يحمل حفيده  بين يده ،يناغيه ويلاعبه ويدلعه ،  وماذا عن أمّـي  ؛ فهي الأخرى لا تمّـــلُّ من الإنجاب  ، ورعاية الأطفالِ هوايتها المفضّلة  ؛ فمنذ أن وعيت  وتفتحت عيناي في هذا العالم ، وأُمّـي أمّـا حاملاً أو أنها وضعت وليداً جديداً قبل شهر أو شهرين  ! إنه أمر لا يُصدّق ! ياإلهي ما العمــــــل ؟ لو حملت زوجتي ووضعت توأمـــــــاً ، توأم  ! إنها والحق يقال ستكون الطامة الكبرى  ! كيف سيكون وضعي ووضع زوجتي وهي تتحمّـل أعباء بكرين ، البكر الواحد حمل ثقيل على الزوجةِ الحديثةِ  الولادة ؛  لطالما سمعتُ أن المولود البكر تكون تربيته في غاية التعب والإرهاق للأم  ، تؤأم ، وماذا سيحدث لو كان التوأم مختلطا   ! وماذا يفرق لو كان كذلك  لا أدري ولا اُريد أن أعرف ، لا ،لا إن هذا الأمر خارج عن إرادتي وإرادة زوجتي ، إنها إرادة الله أن نبتليَّ بتوأم !  لا يهم سأتدبر الأمر مع أمي  ، وإن كان الأمر فوق طاقتها سأعمل على إستخدام مربيّة ، أو مدبرة منزل لتحملَ بعض الأعباء عن زوجتي . وما هي إلا لحظة ، حتى إستدرك هذا الموقف الطاريء ، لكن كم سيكلّــــف هذا الإستخدام وأنا في أول سلّمة على طريق بناء حياتي المهنيـّة ؟  وفي اللحظة التالية ، همس يحاور نفسه : إذا كان أمر الزواج بهذا التعقيد سأقوم بتأجيل الزواج لما بعد الدكتوراه ، هذا أفضل وأسلم  لكن ، من سيقوم بأمور البيت ،  في حال قيامي  بتأجير بيتٍ بعيداً عن بيتنا الحالي ؟   ، ولماذا تأجير بيت ؛ وسأكون في معظم الأوقات في المستشفى  ، لكن من سيقوم بغسل ملابس وتهيئة الطعام  ، -الزواج والطب خصمان لدودان  - ؛ فلهذا  فمن الأنسب ألّا اتزوج لأني لن أكون متفرغـاً للزوجة ومطاليبها التي لن تنتهي ؛ خاصة وأنها ما زالت عروسا !   ومن يضمن لي أنها ستكون متفرغة لي  ولإحتياجاتي ، إحتياجاتي   ! وحينها هوت على أمِّ رأسه صاعقة  لم يكن قد  وضع لها حساباً ولم يعرها قبل الآن أية أهمية ؛ أنا دكتور ، و.. وضعي الإجتماعي يحتّـم عليِّ أن أتزوج بمن تليق بمستواي وبمركزي  ومركزها يجب ألّا يقـل عن مستواي العلمي ؛ فقد يحدث وأن اُعيّن أستاذاً في إحدى الكليّات الطبيّة  وعندها سيكون الأجدر أن تكون زوجتي طبيبة أيضـــا أو لنقل : لتكن مهندسة على أقلِّ تقدير؛ لأن المهندسين أقل إنشغالاً من الأستاذة في الكليات الطبيّة   ، وانتبه لامر قد سها عن باله : في أي المواضيع سيكون إختصاصي  ؟ إختصاصي ، هو طب الأطفال ، لا ، لا الأطفال لا يتكلمون ليفصحوا عمّـا بهم ، إذن سأكون طبيب باطنية  ، ولماذا لا يكون الأمر باطنية وأطفال ؛  لكثيراً ما أقرأ في شارع الرشيد ، وحافظ القاضي ، وشارع السعدون بالذات  ( دكتوراة باطنيّة وأطفال )  ، وسرعان ما نفى تلك الفكرة أيضا ، أنا لا أحب أن اعالج الأطفال ؛ لأني لا أعرف كيف اُمسك بأحدهم ، إذن سأختار ( جلدية وتناسلية ) وغرق بعدها بضحكة مكتومة وهو يتساءل : ما علاقة الجلدية بالتناسلية ؟ ألم يكن الأجدر أن تكون بولية وتناسلية ؛ للمجاورة بين الإثنين ! لا يهم ، ليكن ما يكن ،المهم أني الدكتور ......ولم يُكمل الجملة التالية ؛ فلقد كانت هناك يدٌ توضع على كتفه الأيمن وصوت أبيه يسمعه يقول له : هيا لنذهب إلى دائرة الجوازات  لإستخراج جوازسفر باسمك  ؛ ليتسنى لنا الخروج من العراق بأسرع وقت ؛  فسيكون عمرُك  في العام  القادم ثمانيةَ عشرَ عامــــاً ولن يكون  بعدها بمقدورك مغادرة البلــــــد   ، ولن نغادر بدونك  ......

نشرت في قصة
الإثنين, 27 أيار 2013 20:17

وداعا ً مدينة القمر

نظر (آكوركًال) الى موقد النار في تلك الغرفة الطينية الصغيرة المظلمة و القابعة في أحدى أطراف المدينة , ومن مجلسه بجانب الموقد أخذ بعصاً صغيرة يحرك قطع الجمر ليزيد من تأجج اللهب فأنطبع وهجه في عينيه , ليعيد الى ذاكرته أحداث الأسابيع الماضية , وكيف ألتهمت مثل هذه النيران مدينة (أور) ... لتغدوا مدينة الأله (ننار)1 ..هذا البنيان العظيم الذي شيده شعب المدينة على مدى قرون من الزمان الى كيان مسخ يكسوه الرماد و ترتفع منه أعمدة الدخان و تتناثر بين أزقته جثث النساء و الأطفال ... فأحست زوجته (كًشتن أنا) الجالسة على حصيرة بالية بجانب أبنتها النائمة بشروده ...
_ (آكور كًال) أين أنت , يجب أن تنسى كل ما جرى ولا تفكر الا بالأيام القادمة . هل نسيت أنها ليلتنا الأخيرة في (أور) و سنغادرها عند منتصف الليل .

_ أني حتى الآن لا أكاد أصدق أني سأرحل عن وطني الى بلاد (مارتو)2
لقد أمضى (آكور كًال) الأيام التي مضت مع زوجته (كًشتن أنا) و أبنته (شاسا) ذات العامين في خوف و قلق كبير بعد أن تحول الى هارب منذ أن أحتلت جيوش (عيلام) مدينة (أور) . وبعد أن كان كاتباً معروفاً في بلده أصبح شريداً مطارداً , بعد أن أمر العيلاميون بقتل جميع كتبة المدينة.... و بمعجزةٍ نجى وعائلته من براثن الجنود ليهرب من داره ويختبأ في هذه الغرفة الصغيرة على أمل أن يهربه أحد أصحاب القوافل الذين يعرفهم صديقه الوفي (أينمركًار) الى أرض (مارتو) .
ثم قام (آكور كًال) واقفا ً بقامته المديدة و أتجه صوب الكوّة الصغيرة الوحيدة في الغرفة و المطلة على الزقاق لينظر من خلالها ويتأكد من عدم وجود جنوداً في الخارج ... وداعب لحيته المجعدة ناضراً الى البيوت المظلمة الصامتة والتي تشع من بعضها قناديل خافتة قائلاً مع نفسه ... أهكذا أحالك الزمان يا (أور) , أين هي أنوارك الساطعة التي كانت تضاهي نور الشمس , أين أختفت لياليك , ماذا حلّ بأهلك ألذين لاتغيب الضحكة عن أفواههم , أهكذا يتحول غنائك الذي كان يصدح في كل مكان الى نواح لنسوةٍ أرامل و بكاءٍ لأطفالٍ هدّ الجوع أجسادهم ألغظة بعد أن أنستهم الفاجعة شكل الأبتسامة... أكذبة ً هذه أم كابوس مزعج ذلك الذي نعيشه... أيعقل أن تتحول هذه الأرض الخيّرة بين ليلةٍ وضحاها الى خربة بداخلها موت و خارجها موت ولايسمع فيها سوى نعيق البوم .

_ لقد نسينا الوطن يا (آكوركًال), وها أنت ترى عظم مصيبتنا معه .
_ محال أن تنسى الأوطان أبنائها ... أن مشكلتنا لم تكن أبداً مع وطننا فهو الآخر غدى ضحية مثلنا , بل أن مصيبتنا الكبرى مع من تسلط على رقاب شعبه .
_ لقد ماتت (أور) و ماتت معها كل ذكرياتنا و أحلامنا .
_ أن الأوطان لاتموت ما دامت لدى شعوبها قلوبا ً تنبض بالحياة و في عروقها دماء ً تجري.
_ و ماذا تبقى من شعب (أور) ... بعد أن قتل مغنوها و عازفوها و كتابها , و من بقى منهم حياً فهو أما سجيناً لدى العيلاميين أو شريداً مطاردا ًمثلك ينتظر الرحيل الى أرض أخرى بعد أن ضاق به رداء الوطن . ولم يبقى من هذا الشعب المظلوم سوى الجوعى و البائسين و الجهلة و المنافقين الذين نسوا ماضيهم و ساروا في ركب العيلاميين .
_ لابد أن شعب سومر سيلملم جراحه و ينتفض يوماً ... لقد صبروا أكثر من مئة سنة على أحتلال (ألكًوتيين) أفاعي الجبال3 حتى قادهم (أوتوحيكًال)4 الى الحرية .
_ لقد كان ذلك منذ زمن بعيد و لا أظن أن الزمان سيجود يوماً بأميرٍ مثل (أوتوحيكًال) ليوحد ذوي ألرؤوس السود5.
_ أن أرض سومر ولاّدة و حتماً سيأتي يوماً من يوحدهم .
ثم ألتفت الى موقد النار و قال بحسرة مسموعة ..... آه ياوطني أهذا هو قدرك بأن تكون دوماً ضحية ً لجلادي العصور .....

و قطع حديثهم طرق خفيف على باب الغرفة , لقد كان (أينمركًار) الذي دخل عليهم بهدوء ليطمئن أنهم على مايرام و ليحذرهم ...

_ هناك بضعة جنود سيمرون من أمام الغرفة لكن لا تقلقوا فلن يفتشوا أي بيت في هذا الزقاق .
_ هل رشيتهم ؟ قال (آكوركًال) ..
_ لقد أعطيتهم جرة كبيرة من نبيذ التين و بضع شيقلات6 من الفضة . فقط لاتتكلموا بصوتٍ عالٍ و أطفأوا ضوء القنديل حين تسمعوا بقدومهم ... وعلى أية حال سأكون في الخارج عند طرف الزقاق تحسباً لكل طارئ , و لأنتظر الرجل الذي سيقلكم الى خارج المدينة ... عليكم أن تجهزوا حوائجكم فقد نأتي في أية وقت فكونوا مستعدين .
_ أني أتعبك معي يا (أينمركًار) , أن ماتفعله لكثير...
_ لاعليك ... المهم أن تمّر هذه الليلة بلا معوقات و تصلوا لغايتكم بسلام .

ترى هل تستحق مغادرة (أور) كي ينجو بعائلته أن يضحي بكل شئ .. تاريخه .. ماكتبه طيلة تلك السنين .. أهله .. رفاق الدرب الأوفياء ... فكر بذلك و نظر الى (شاسا) الجميلة النائمة على فراش القش الصغير ..ثم جلس الى جانبها و أخذ يداعب بأصابعه شعرها الفاحم الجميل المدهون بزيت السمسم , وجذائلها الرفيعة المزينة أطرافها بالخرز الملون ... ورآها وهي تبتسم في منامها فأبتسم هو الآخر رغم ماكان يشعر به من تعب و قلق ... يا ترى بماذا تفكر هذه العصفورة النائمة .. لعلها تحلم بوطنها الخاص .. بأرض خضراء واسعة تملؤها الورود و تطير فوقها فراشات وطيور ملونة ..... وقال مع نفسه .. ياليتني أستطيع الغور الى رأسك لأرى بما تحلمين به يا (شاسا) .. ياجميلتي الغافية على الأرض الحزينة .. أتدرين مايحدث حولك ؟ .. أتعرفين في أي أرض ستكونين غداً ؟ وهل ستذكرين يوماً (أور) وطنك الذي رحلت عنه قبل أن تذوب أيامك بقسوته ؟ .. آه يا أبنتي أي وطن هذا الذي سيحتظنك و تكملين فيه مشوار حياتك .. و هل ستعودين يوماً الى (أور)؟ ... لا أحد يعلم .. ثم ألتفت الى زوجته قائلا ً..

_ هل تعرفين شيئأ عن أرض (مارتو)؟
_ يقولون أن الحياة الحقيقية هناك , حيث يعيش الناس بسلام و لا يظلم فيها أحد , فالجميع لهم كرامتهم في العيش .... بل يقولون أنه حتى لايسمح لأحد بضرب الحمار .
_ حميرهم لها كرامة و أهل (أور) تنهش بجثثهم الكلاب ... أهذا يعني أننا سنغدوا كحميراً بكرامة هناك؟ .. يالسخرية القدر .. وكأنك تشبهين أرض (مارتو) ب(دلمون)7؟
_ لاأريد أن أحلم بأن أعيش في تلك الأرض المقدسة .. لقد أستحوذت الألهة منذ زمن بعيد على (دلمون) وجعلتها وطناً لها .
_ كما أستحوذ العيلاميون على (أور) ... هو أحتلال و محو ٍ للآخر أي ٍ كان .... بالنسبة لي فالحياة الحقيقية هي في وطني يا (كًشتن أنا) .
_ منذ أن تزوجتك و أنا أعرف بمحبتك للوطن ولكن هناك سر غريب بينك و بينه حتى الآن لا أعلمه.
_ صدقيني حتى أنا... هل هذا الوطن هو الذي أحتواني أم أنا الذي أحتويته ؟ فهو أكبر من أن يكون جزئاً مني و أصغر من أن أكون جزئاً منه.
_ لكنك حتماً ستنساه يوماً . أن دوامة الزمن كفيلة ً بذلك .
_ ماذا أنسى و أنسى ... قالها وهو يهزّ رأسه ناضراً الى ألأرض ...ثم أردف ... هو كل شئ لنا .. أنه الزوارق الجميلة وهي تعبر نهر الفرات .. هو النخيل الشامخ الذي تلامس هاماته أطراف القمر ..هو الأدب و الفن , المنشدون والممثلون و العازفون والكتبة .. أنه الغناء العذب الذي يصدح به بسطاء (أور) ليغسل قلوبهم من الهموم . هو الأجداد العظام الباحثين عن الخلود (كًلكًامش)8 و (أدبا)9 , أنه الذكريات وليالي السمر والحانات الجميلة المنتشرة بين البساتين , أنه طريق المحبين وملتقى العشاق عند مرسى القوارب .. هو بساتين البرتقال وأشجار الزيتون و الحقول الخيّرة العامرة بسنابل القمح الذهبية .. أنه الأهل و الأحبة و الرفاق الأوفياء الطيبون.. أنه أنت و أنا , أنه أبنتنا (شاسا) ... لا يا (كشتن أنا) محال أن يُنسى كل ذلك... سيبقى فراق الوطن ألماً في ضهورنا فلا هو مفارقنا ولسنا بقادرين على تحمله .
وسمعوا في الخارج حركة ثقيلة لثلةٍ من الجنود يسيرون في الزقاق... فهمست (كشتن أنا) _ جنود عيلام ...
فسارع (آكور كًال) ألى أطفاء القنديل بينما أحتظنت (كشتن أنا) أبنتها النائمة .. ثم أنتظروا بقلق أبتعاد الخطوات عنهم شيئاً فشيئاً حتى تلاشت .. فأعادوا أشعال القنديل ليستعيدوا جلستهم السابقة .
_ شكراً للآلهة التي أبعدتهم عنى .. قالت (كشتن أنا).
_ بل أبعدتهم شيقلات الفضة و جرة النبيذ التي أعطاها لهم (أينمركًار) .
_ منذ أن عرفتك و أنت تكره الآلهة , حتى أنك لم تدخل المعبد ألا مرة ً واحدة في يوم زواجنا , و كنت مرغماً .
_ أثنان لم أحبهما قط في حياتي ... الآلهة و التجار .
_ فلماذا التجار؟
_ هل نسيت ماذا فعلوا ب(أور)10 و بالمسكين (آبي سن)11 , و كيف أنهم أحالوها الى بلدٍ يستجدي الشعير من البلاد ألآخرى .
_ لكنهم ربحوا في النهاية وهاهم يعيشون سوية مع العيلاميين دون خوف مع عوائلهم , و أموالهم و بيوتهم و متاجرهم باقية كما هي .
_ أنهم كما هم في كل زمان و مكان و الحياة بالنسبة لهم معادلة ً للربح و الخسارة .
_ حتى الوطن؟
_ بل وحتى الحب .

فألتفتت أليه وأمسكت وجهه بيديها النحيلتين المرتجفتين ...
_ لقد ذكرّتني بالحب يا (آكوركًال) هل مازلت تذكره ؟
فأبتسم و وضع ذراعه على كتفها ...
_ و هل نسيته يوماً ؟ ... أنه كل ماتبقى لنا بعد أن فقدنا كل شئ في هذا الزمن اللعين و به فقط نشعر أننا لازلنا عائمين على هامش الوجود .
_ أنتم كما أنتم أيها الكتبة , وكما يقول الناس ... أنكم ستعيشون مظلومين و تظلمون معكم عوائلكم .. و ها أنت بعد كل مافعلته طيلة السنوات الماضية في (أور) تغادرها دون أن تحصل منها على أي شي .
_ يكفيني أني أقتطفت منها أجمل زهرتين ... قال هذا و أشار بعينيه اليها و الى أبنته النائمة.
_ و يقولون أيضاً أنكم ستظلون بدون آلهة و لا معابد ولا كهنة , وستبقون لاتملكون غير عقولكم , و القصبة و اللوح12.
_ أنا لا أحتاج الى آلهة ولا أؤمن ألا بشعبي . أن آلهتي هي أرض سومر و معبدي هو (أور) وكهنتي هم جميع ذوي الرؤوس السود .
_ ومن يحدد المصائر اليست الآلهة ؟
_ أن الشعوب هي التي تحدد مصائرها وليست الآلهة .
_ لكني سأظل أؤمن بها و أقدم لها القرابين وأنا متأكدة أنها ستعيننا .
_ لاتنسي أن تزيدي الملح قليلا ً على قرابينك ... قال (آكوركًال) هازئاً ... ثم أردف .. تباً لتلك الآلهة المتخمة دوماً على حساب الفقراء و المظلومين دون أن تستمع لدعواتهم أو تحرك ساكناً بشأنهم .

_ لكنها ستتحرك يوماً .
_ و متى سيكون ذلك ؟ ... أن آهات الثكالى في (أور) تكفي لتحريك كل أعاصير الأرض ألا تكفي لتحريك تلك الآلهة ؟ لقد نستنا آلهتك يا (كشتن أنا) و باعتنا الى المجهول .
عندها فتح (أينمركًار) الباب بسرعة قائلا ً....
_ لقد حانت ساعة الرحيل .. أن الرجل الذي سينقلكم ينتظر الآن مع حميره وعربته قريباً من هنا .. أن الطريق ألآن سالكة وخالية من جولات الجنود , فهلموا بسرعة فاليلة مقمرة و أخشى أن يكشف رحيلكم ضياء القمر .
و بعُجالة لملموا حوائجهم البسيطة و متاع سفرهم وحملت (كشتن أنا) أبنتها النائمة.. ليسيروا ببطأ و حذر حيث ينتظرهم الرجل .. و بعد أن وضعوا حملهم على الحمير , جلست (كشتن أنا) في العربة الى جانب (شاسا) الجميلة النائمة التي رفضت الاستيقاض من نومها و كأنها ترفض مغادرة وطنها الحُلم ... و ودعوا على عجل صديقهم الوفي (أينمركًار) الذي رفض مغادرة المدينة رغم ما فيها من خطر على أمل اللقاء يوماً .
و سارت القافلة الصغيرة بهدوء تقطع الزقاق تلو الزقاق الى خارج المدينة الصامتة الباكية .... و في مسيرهم أنتبه (آكوركًال) الى قرنفلةٍ بيضاء جميلة أزاحت بعناد الرماد السميك الذي يغطي الطريق , سافرة ًوجهها الى السماء وكأنها تريد غسل وجهها بضوء القمر .. فأبتسم متمتماً مع نفسه .... ستعودين يوما يا (أور) حتماً أنك ستعودين .
و أخذوا يبتعدون شيئأ فشيئأً عن المدينة المكللة بالسواد .. وعند أحد الروابي المحيطة بها ألتفت (آكوركًال) الى (أور) ليلقي عليها النظرة الأخيرة فرأى القمر وهو يشع بضيائهِ عليها ليزيح عنها سواداً لايليق بها , و كأنه أب حنون يحتظن أبنته المفجوعة بأبنائها ... فصاحت به (كشتن أنا) .....
_ أنظر الى الأمام يا (آكور كًال) ودَع الماضي ورائك .
لكنها ودون أن تشعرالتفتت هي الأخرى الى مدينتها, و دون أن تدري سقطت دمعتين منها ... لقد كانت آخر دمعات تذرفها على أرض (أور) .

أيضاحات

*تدور أحداث هذه القصة المفترضة عام 2006 ق.م .. بعد أحتلال مدينة (أور) من قبل (العيلاميين) , و ماصاحب ذلك الأحتلال من دمار شامل في كافة أرجاء البلاد ... وأسماء شخوص القصة هي أسماء سومرية . أما (العيلاميون) فهم من الأقوام التي سكنت الهضبة الأيرانية . وفي منتصف الألف الثالث ق.م أسسوا دولة قوية في المناطق المحاذية لأرض سومر عاصمتها (سوسة) أو (سوسيانة)... حالياً (الشوش) .. كانوا على مدى تاريخهم في حالة صراع مع مدن وادي الرافدين و خاصة المدن السومرية .. و أستمروا هكذا حتى قضى عليهم الملك الآشوري (آشور بانيبال) عام 639ق.م و أزال دولتهم من الوجود .
1(الأله ننار).. إله القمر في السومرية , ويقابله في الأكدية (سِن) .. وهو الأله الحامي لمدينة (أور) ..و في النصوص الأدبية تسمى (أور) مدينة القمر.
2(أرض مارتو).. في السومرية وفي الأكدية (أمورو) .. وتعني جهة الغرب و يراد منها أرض الشام .. وفي النصوص الأدبية تطلق مجازاً عن أرض الغربة.
3(الكًوتيون).. قبائل بربرية كانت تعيش في منطقة جبال زاكًروس .. تمكنت من أسقاط الأمبراطورية الأكدية عام 2230ق.م و سيطرت على أرض سومر و أكد لما يقارب المئة عام .. وكانت فترة سيطرتهم من الفترات المظلمة في التاريخ. أطلق عليهم السومريون أسم (أفاعي الجبال) كرهاً لهم و لتخلفهم حضارياً عن سكان وادي الرافدين.
4(أوتوحيكًال).. أمير سومري وحد المدن السومرية و قادهم بجيش كبير لمحاربة (الكًوتيين) و تمكن من القضاء عليهم و تحرير أرض سومر و أكد عام 2120ق.م.
5(ذوي الؤوس السود).. تسمية تطلق في النصوص الأدبية دلالة على السومريين .
6(الشيقل).. مقياس لوزن المعادن و المواد الثمينة .. أستخدم منذ فترة مبكرة في وادي الرافدين .. ويعادل تقريباً 5,6 غم و أحياناً 3,8 غم .
7(دلمون).. أو (تلمون)و يعتقد أنها جزيرة البحرين الحالية .. كانت مركزاً أقتصاديا ًمهماً خلال الألفين الثالث و الثاني ق.م .. وترد في الأساطير السومرية على أنها أرض خير لا تعرف الشر , لذلك أتخذتها الآلهة موطناً لها .
8(كًلكًامش) .. الباحث عن الخلود , و بطل الملحمة الخالدة المسماة بأسمه .. وهو الملك الخامس في سلالة الوركاء الأولى .. حكم بحدود 2600ق.م .
9(أدبا) .. حكيم سومري .. تقول الأسطورة أنه عَرج على ظهر نسر كبير الى السماء حيث موطن الألهة ليحصل منهم على سر الخلود , لكنه فشل في مسعاه .

10... في السنوات الأخيرة من عمر سلالة أور الثالثة (2113_2006)ق.م أحدّثَ تجار المدينة أزمة أقتصادية كبيرة .. حين قاموا وبالتواطئ مع العيلاميين بأحتكار و تخزين الحبوب ثم بيعها الى البلاد الآخرى .. مما أوصل (أور) الى حافة المجاعة.

11(آبي سِن) .. الملك الخامس والأخير من سلالة أور الثالثة .. حكم 23سنة .. واجهت البلاد خلال سنوات حكمه الأخيرة أزمة أقتصادية كبيرة .. أنهي حكمه بعد أحتلال (أور) من قبل العيلاميين .. و أخذ أسيراً الى (سوسة) عاصمة عيلام .
12(القصبة و اللوح).. و بالسومرية (كًي إي دُب) تعبير سومري شائع في الأدبيات السومرية .. ويقصد به أدوات الكتابة المستخدمة آنذاك (قلم القصب و اللوح الطيني) .. و يضاهي بالعربية القول (الورقة و القلم) أو (الدواة و القرطاس) .

نشرت في قصة
الإثنين, 27 أيار 2013 18:35

مقلب

عندما قرع جرس المنبه كالعادة صباحاً فزع من نومه لينهض مرعوب الاطراف,أسير أللحظًة من بداية سيطرة المجال الوظيفي في حياته صاحب أكبر رصيد من الروتين اليومي. سالم ألموظًف في دائرة ألسكك الحديدية,لم يتجاوز سن الاربعين,هاديء لا يستعجل في أموره ألعامة والشخصية خاصة.مظهره ينم عن أنسان غير مبالي يميل إلى ألسمنة قليلاً ويحب أكل المعجنات وشرب ألقهوة وثلاثة سكائر حسب وجبات ألاكل وكأنها حبات دواء جاءت حسب وصفة طبيب.رغم حرارة ألشمس ألساطعة وشدة ألحر يتمتع بلون بشرة بيضاء فسفورية تسبب نوع من الغيرة أتجاه ألبعض. حسب لوائح ألعمل وسجلات الدائرة تبقى صفحة سالم نظيفة جداً من ألغياب والعقوبات وألمشاكل وماشابه ذلك,بل ألعكس هناك جملة من ألتكريم وألترقيات ألتي أهلته أن يصبح مسؤولاً في ألدائرة. لأول مرة في تأريخ حياته المهنية ومن بداية تسنمه ألوظيفة يدق جرس ألمنبه وهو نائم,لذلك هرع مجنوناً من فراشه يقاتل ألوقت حتى لا يتأخر عن موعد وصوله أليومي إلى دائرته وليس متأخراً! هذه ألدربكة ألغير مسبوقة وألجلبة التي أحدثـها سالم سببت بعض ألازعاج إلى زوجته التي تفاجأة بحالة ألفوضى,لتفتح عينيها بصعوبة بالغة من أثر حالة ألنعاس فجراً. وداد ألمعلمة في مادة التأريخ والتي تصرف كلام لو أوزنوه لشكل أطناناً من أللغو .قصيرة ألقامة تحب ألنوم تحت ألاغطية المكثفة,ضعيفة ألبنية بسبب الرجيم ألقاسي وألمشي ألمستمر,لم تحصل على طفل لعدم رغبتها, وخوفها من ألولادة وكي تحافظ على وزنها ورشاقتها. دمدمت قليلاً ولأنها في حالة نعاس شديد لم يفهم كلامها,سحبت ألغطاء فوق رأسها وذهبت في سبات عميق.تملكه ألعجب وأستغرب لعدم نهوض زوجته من ألفراش وألتهيؤ, للذهاب إلى ألعمل. أليوم يمر بغرابة تامة.فتح ستارة ألنافذة ألمطلة على الشارع ألازدحام على غير عادته وألحركة بطيئة جداً,ولأنه مشغول بترتيب نفسه لم يلاحظ بأن زوجته تركت عدة ألخياطة على أرضية غرفة ألضيوف مما تناثرت بعض ألاشياء بشكل عشوائي,ونصيبه ألاغبر أن يصرخ بقوة أثر وغزة أبرة أخترقت مجال قدمه لتستقر في وسطها حتى بلغ به ألالم ذروته وسالت ألدماء من قدمه.جلس وبكل هدؤ لينتزع ألابرة ويضمد قدمه ويستمر في برنامجه أليومي ألمعتاد.أنهى حلاقة وجهه.رتب نفسه وأنهى حاجته في ألحمام لينعطف إلى ألدولاب الكبير ويغير ملابسه. كل شيء بات وشيكاً ولم تبقى سوى بضعة دقائق أخرى حتى يخرج من البيت متجهاً إًلى مكان عمله. أثناء أنشغاله رمى بطرف عين أتجاه ألنافذة لكي يطمئن على حاله وأن يرى نشاطاً ونوع من ألحركة في ألشارع...غريبة..هذا ما قاله!في طريقه إلى ألمطبخ وذهابه إلى موقع تجهيز ألشاي وألقهوة أنعطف بنظره أتجاه ألطاولة ليزداد غرابة ودهشة لعدم وجود ألمعجنات ألمفضلة لديه صباحاً..ترى هل نسيت وداد أمره ولماذا لم تنهض لحد ألان من فراشها? أستمر بهدؤه وفتح باب البراد ليجد جميع حقوقه محفوظة ومرتبة وكل شيء في مكانه.ملأت ألابتسامة وجهه وردت فيه ألروح وهو يتناول بعضاً من ألمعجنات.

أصبح كل شيء جاهز ولم تبقى سوى بضع ثوان حتى يحين موعد ألمغادرة. نظًرة أخيرة أتجاه ألشارع لعل ألوضع أصابه بعض ألتغيير,عجيب!!!لا حركة.حتى جاره لم يلتقيه كالعادة ليقول له صباح ألخير يا جاري,عندها راودته فكرة أن يقرص يده لعله في حلم لا يفيق منه.وقف أمام موقف ألباص,نظر يمينا ويساراً وألتف من حوله ليجد نفسه وحيداً في موقف ألانتظار!تمعن في ساعته وإلى طريقة حركة عقاربها ليجدها نشيطة مثله تماماً. تأخر ألباص وشعر بألم وغزة ألابرة ألتي أخترقت قدمه,ولكن عمله أفضل من وجعه.ترى ماذا أصاب ألحافلة في هذا أليوم ألغريب وأحداثـه ولماذا هذا التأخير?مرت نصف ساعة ,بدأت ألشمس ألحارقة تلسع وجهه وألعرق يصب من جبينه ووجنتيه ولكنه صامد وينتظر هناك خطب ما وحالة لم يعهدها سابقاً..لحظًات وسوف ينجلي كل شيء.

جاء صوت قوي من دار ألعبادة في ألمنطقة لينبأ ألناس بالتقوى وألايمان وحضور ألصلاة لأن هذا أليوم يوما مباركا يوم ألجمعة عندها تذكر دمدمة وكلام زوجته وهي في غفوتها..سالم أليوم جمعة لا يوجد دوام أخيرا عرف المشكلة (الجرس المنبه) وألروتين أليومي

__._,_.___

نشرت في قصة
الأحد, 26 أيار 2013 11:52

قلب أمّي

كان الطقس دافئاً نوعا ما عندما إستقلينا الحافلة التي تذهب الى مدينة نورتاليا الواقعة في الشمال الشرقي من مدينة ستوكهولم والتي تبعد عنها حَوالي مائة كيلو متر ,ونظرت الى السماء الملبدة بالغيوم وودتُ لو إنها غادرتْ السماء لنُنعم بيوم مشمس فنحن في شهر مايس وقد إبتدأت الأرض بإرتداء حلَّتها الخضراء بعدما أرهقتها ثلوج الشتاء الكثيفة وبدأت الحياة تدب في الكائنات والأشجار,وكنا ننوي الذهاب الى جزيرة أولاند الواقعة في أوستر خيون والتي تعني البحيرة الشرقية وتلك البحيرة تتصل إتصال مباشر ببحر البلطيق. كانت الحافلة تجتازطريقاً محفوفاً بأشجار الغابات الكثيفة والتي تُسرْ النفس وتبعث على الراحة والهدوء والإسترخاء . وعند وصولنا لمدينة نورتاليا ركبنا السفينة التي تُبحِر بنا الى تلك الجزيرة والتي تبعد أيضاً حوالي مائة كيلو متر عنها .

وإبتدأت رحلتنا ونظرت الى السماء فقد بدأت الغيوم بالإنقشاع تدريجياً وبدأ الدفء يتسرب الى أوصالنا وتفاءلت بيوم جميل نريح فيه أنفسنا من متاعب الحياة اليومية ونلقي بأحزاننا في هذا البحر الكبير . وصعدت في الطابق العلوي للسفينة وإستمتعت بمنظر إقلاعها وتنسمت ملء صدري الهواء العليل الذي لايخلو من البرودة وبدأت السفينة تمخرُ عباب الماء ووقفت أتأمل منظر البحر الذي تتجسد فيه عظمة الخالق سبحانه .

وبينما كنت في لحظة التأمل هذه والنظر الى الأمواج التي تنشق وتفسح الطريق لمرور السفينة هتف بي صوت إمرأة كان آتياً من خلفي :

ـ هل معك ولاّعة ؟

كان صوتاً متسلطاً ولا يخلو من الفضاضة فلقد تعودت أن أسمع من فضلك أو ممكن أسألك وإلتفتُ ناحية الصوت خلفي ووجدت إمرأة شقراء في منتصف الأربعينات من العمرتقريباً وملامحها لاتخلو من القسوة والعنفوان والتسلط وكان الإرهاق بادياً عليها ومظهرها يوحي وكإنها إستيقظت تواً من النوم...

أجبتها بنعم وأخرجت الولاّعة من حقيبتي وناولتها إيّاها,أشعلت سيكارتها ثم باغتتني بالسؤال:

ـ هل تدخنين؟

ــ نعم أُدخن أحياناً

فردت عليّ وكأنها تنصحني عن معلومة لأول مرَّة أسمعها في حياتي ...

ــ ألا تعلمين إن التدخين مضر بالصحة؟

فتعجبت لكلامها وسألتها :

ــ ولماذا تدخنين أنت إذن؟

ــ نُجبرُ أحياناً على فِعل أشياء بالرغم من قناعتنا بأنها سيئة ومضرَّة..

كانت تلك المرأة غريبة الأطوار ومشتتة الذهن ولم أستطع تفسير مابداخلها,وكانت تنظر لطفلة صغيرة تمرح بالقرب منّا عِندما ردّت علي وقد عرفت فيما بعد إنها إبنتها ,عمرها ست سنواتٍ تقريباً ,جميلة كالملاك,شقراء ,وشعرها مسدول على كتفيها كشرائط من الذهب,وسألتني بفضول :

ــ من أي بلد أنتِ؟

ــ من العراق ومن أي بلدٍ أنت؟

ــ أنا سويدية

وما هي سوى لحظات حتى صاحت الطفلة الصغيرة:

ــ ماما لقد إنسكب العصير على ملابسي

نهرتها بقوة وصاحت بها :

ــ أيتها الغبية كم مرة قلت لك لاتوسخي ملابسك ولكن من الظاهر إنك غبية لدرجة إنك لاتدركين هذا ..

نظرت إليها محاولة تهدئتها

ــ إنها لازالت صغيرة وكل الصغار هكذا

ــ لا لا ليس كل الصغار بل فقط هي فقط لإنها غبية ,ونظرت لي بتفحص وسألتني:

ــ هل أتيتِ لوحدك ؟

ــ لا أتيت مع عائلتي..

ــ كم ولد لديك

ــ إثنان

ــ هل أنت سعيدة معهم ؟

ــ بالتأكيد

ــ وأين هم الآن

ــ نزلوا الى المطعم لإحضار الطعام لنا , وعادت لأسئلتها الغريبة

ــ هل فكَّرتِ مرَّة بالإبتعاد عنهم ؟

فأجبتها بكل تأكيد لا

وعادت تسألني بعدما صمتت برهة:

ــ هل والدتك على قيد الحياة ؟

ــ لا لقد توفيت منذ عشر سنوات

ــ هل تذكريها دائماً ؟

فتعجبت لسؤالها هذا وقلت في داخلي لقد وقعت اليوم بين أيدي تلك المعتوهه وأجبتها :

ــ مَنْ مِنّا ينسى أمه فهي السعادة والعطاء والحنان والأمل ....

مللت من كثر أسئلتها وغرابتها وتملكني الفضول لأعرف عنها بعض التفاصيل لعلي أجدُ تفسيراً شافياً عما يدور بخلدها والأفضل أن أبدأ بنفس سؤالها إن كانت متزوجة أم لا كما سألتني ولكني ترددت في سؤالي هذا لأني أعلم علم اليقين بأن الأغلبية ينجبون أبناءهم بدون زواج وغيرت صيغة السؤال في ذهني وسألتها :

ــ هل رافقك والد الطفلة في تلك الرحلة ؟

ــ لقد تركني عندما كان عمر إبنتنا ثلاث سنوات وأنا الآن أعيش معها لوحدي.

كانت نظرات الأسى بادية ً في عينيها وأحسست من ثقلِ كلماتها إنها كانت متألمة فبالكاد نطقت بتلك الكلمات وفي قلبها غصة ظهرت جلية على ملامحها .

صمتنا لحظة ثم قُطِعَ صمتنا بصراخ إبنتها التي وقعت أرضاً من المصطبة الخشبية المجاورة أثناء اللعب وركضنا نحوها وكان هناك جرح صغير في أحدى ركبتيها فأخذت منديل من الورق ومسحت الدماء,وكنت أنتظر أن تفعل هذا أمها بنفسها ولكن أذهلتني بتصرفها فقد أمسكت بيدها بقوة وأخذت تهزها بعنف وتخاطبها بلهجة ملأت قلب الطفلة خوفاً وقالت لها:

ــ أيتها الغبية لم أعد أحتملك وسأقتلك إن فعلت أي خطأ آخر..

إرتعبت الطفلة المسكينة ومن شدة رعبها أخذت تبكي بصوت خافت ودموعها تسيل بغزارة وجسمها يرتجف من شدَّة خوفها, هدأتُ الطفلة وأجلَسْتها على كرسي بالقرب مناّ وعدت الى أمها التي إبتعدت لتُشعل سيكارة أخرى...

وسألتها بإستغراب:

ــ لماذا تفعلين هذا بإبنتك..ألا تخافين من أن تكرهك,نظرت لي ببؤس وأجابت :

ــ أنا أريدها أن تكرهني

ــ أنا مستغربة جداً ..لماذا؟ أيعقل ؟ هل توجد أم في الكون تريد لإبنتها أن تكرهها؟

أجابت والعبرات تخنقها : نعم أنا أريد ذلك ,ثم أجهشت بالبكاء وأختفت منها كل ملامح القسوة والعنفوان والجبروت وكإنها ليست هي نفس المرأة التي قابلتها من لحظات وخاطبتها:

ــ أرجوك إهدأي وإسمحي لي أن أسألكِ ماالأمر؟؟ إن كنت تريدين البوح فأنا أستمعُ لكِ فأجابتني بصوت منخفض لتتحاشى أن تسمعها إبنتها:

ــ أنا مريضة جداً وربما أيامي في الحياة معدودة فقد تعالجت منذ سنوات من مرض السرطان وإستقرتْ حالتي لثلاث سنوات تقريباً ولكن عاد المرض مجدداً لينتشر في كل أنحاء جسمي وأخبرني الطبيب بأنه لايستطيع إنقاذ حياتي و من الواضح إن العلاج لايجدي هذه المرة فأنا مرهقةً جداً والآلام الشديدة المبرحة تمكنتْ مني ,أشعر بدنوِ أجلي وأريد لإبنتي أن تحب والدها وتكرهني حتى لاتشعر بغيابي إن رحلت.

كان وقع كلماتها كالصاعقة عليّ ودبت في جسمي قشعريرة رهيبة من النادر ماأشعر بها وإنهمرت دموعي وأحتضنتها وأنا أهمس في أذنها والعبرات تكاد تخنقني :

ــ هل تؤمنين بوجود الله ؟

فردَّت عليَّ :

ــ نعم

ــ إذن آمني بمشيئته والعمر بيده وليس بيد الطبيب , وشيء آخر أقوله لك ,نحن نؤمن بأن الله حدد لكل منّا عمره الصغير والكبير فكثير من الناس توفوا في حوادث وآخرون لم يمرضوا لكنهم ماتوا فجأة, إنها الأقدار ياعزيزتي ...أريد أن أخبرك إنك أمٌ عظيمة وسيكافئك الرب على ماتفعلينه ,لكن لاتقسي على إبنتك أرجوك فمهما فعَلتِ فلن تكرهك .

حضنتني بقوة وقالت لي : كنت محتاجة الى إنسانة مثلك أبوح لها عمّا في داخلي وقد بعثك الله لمساعدتي فشكراً لك ...ثم حملت إبنتها وذهبت بعد أن ودعتني ولكنها تركت في قلبي جرح غائر عن معنى من أسمى معاني الأنسانية..إنه الأمومة... ما أعظم تلك السيدة والتي على الرغم من طريقة تفكيرها الغريبة لكنها تريد لأبنتها أن لاتتألم إنْ رحلت عن الدنيا .........فما أعظم قلب الأم...

نشرت في قصة
الجمعة, 19 نيسان/أبريل 2013 03:57

النافذة

كان العشب يتوهج تحت الشمس الشقراء بعد زخة من المطر والزهور البيضاء اتخذت خطا مائلا تحت نسيم نيسان. وعلى مقربة كان ثمة اطفال يجرون خلف كرة ملونة وقد اختلط ضجيجهم مع ضجيج الطيور التي كانت مختبئة بسسب المطر ..وعادت بها تلك الموسيقى اللذيذة الى سنوات الطفولة ‘ الى زمن كانت فيه تجري وتلهو مثلهم تماما منتشية بالشمس التي كانت تظهر بعد المطر وراحت تستعيد تلك السعادة التي بهتت مع الايام .. الايام التي تركتها بلا حراك هنا  ‘ قدمين وساقين ماتت فيهماالحياة ومات معهما كل شيء وكأن الستار انزل على آخر الرواية واخفى كل شيء لتبقى وحيدة في غربة قاتلة ليس فيها ما يربطها بتلك الحياة الممتدة غير هذه النافذة .. ! 

 في كل صباح تأتيها قريبة طيبة أبقتها الدنيا وفية مخلصة لم تتغير ‘ تفتح الباب بالمفتاح ‘  وتدخل على أطراف قدميها ‘ فتعد لها الفطور وتوقظها وتأخذها لدورة المياه ثم تقودها بمقعدها ذي العجلات الى النافذه ‘ في الصيف تفتحتها الى آخر مدى وفي الايام الباردة تدفع بالستائر الى الجانبين وتتركها تسهم بنظرها من خلف الزجاج وتتحدث اليها عما معها من أمور‘  وما تعلمت من أصناف جديدة من الطعام  واخبار ابنائها وبناتها  ‘ ونادرا ما تصطحب اصغرهم معها فهي تخشى من شقاو..

 وبعد ما تتناول طعام الفطور وتأخذها من جديد الى الحمام  وتعد لها غداء خفيفا وتتركه قريبا منها ‘ وفي المساء تعود لتسأل عنها وتأخذها الى الفراش ثانية وتودعها لتختلط دعواتها بدعوات المرأة الكهلة الخارجة من قلب أتعبه الزمن وصوت أتعبته الايام فامسى حشرجة غير واضحة .

 النافذة بستائرها الزرقاء التي غيرها الزمن فتحول لونها من ازرق زاه الى رمادي باهت ‘ وتحول لون الخشب من لون بني لامع يضج بالحياة الى لون شاحب لا يبين ‘ غير ان عالمها كان يتجمع في هذه الفتحة المستطيلة ويتألق بألوان خضراء وزرقاء وبنفسجية وكانت تراقب تعاقب الفصول وهي تترك بصماتها على كل شيء ‘ الارض  والشجر والورد والاطفال لم تنس يوما مكانها والوقت الذي تجلس فيه الى النافذه وحين تجلس هنا تنسى الزمن واليوم والشهر والفصل ‘ لكن الذكريات تغزورأسها ‘ الذكريات الحميمة والجميلة والتي تحملها اجنحة وتحلق بها بعيدا الى تلك السنوات التي كانت فيها صبية صغيرة جميلة  مليئة بالحياة والحب ‘ وتذكر كيف التقيا وكيف أخبرها باسمه واين يتلقى علومه واخبرته باسمها واصبح الطريق الى مدرستها طريقهما معاوطريق احلامهما وتذكر باي ثياب كانت تراه وباي شعر كان يراهاوكيف رفض فكرة قص شعرها الطويل مهددا بفراقهما وتذكر مناسباتها وكيف يتبادلان الهدايا وكيف يستمعان الى أغاني تلك الايام. كان الحب يشرق في حياتهما ويسافر في حدقات أعينهما وكانت الايام جميلة خضراء ولكن رفض من قبل اسرتها لانه لم يكن سوى طالب بسيط بعيد عن قناعات الاسر التي كانت تريد لأبنتها الرجل الذي يتكفل بكل شيء لا طالبا بسيطا مثله وظل الرفض يشير لتعاسة وشقاء وتنتهي قصة الحب تلك على مذبح العبودية والتسلط الظالم من يعترف بحب كذاك وانتهت الرواية بنهاية مأساوية وأسدل الستار على تلك الفترة الجميلة التي كانت تحمل مواسم الحب الرائعة.تزوجت بالذي اختير لهاولعل القدر انهى فصول الرواية بتلك الكارثة التي قتل فيها الزوج ‘ وتركها قعيدة بلا حركة على مقعد متحرك طوال حياتها‘ لكن الذكريات لم تفارقها ولا وجه ذلك الحبيب الرائع الذيعرفته منذ بدايات صباها‘ ولم تعرف أخباره أو تسمع عنه شيئا بعد ما سفره تغيرت الدنيا ووجدت نفسها وحيدة تواجه الحياة من غير رحمة لا تعرف أحدا غير قريبتها

 وأخذت الذكريات تتلاشى والصور تبهت والحلام تموت والايام هي وحدها تمضي لتغير تركيبة الحياة كلها

 النافذة الاشياء تتغير كما تراها هي هنا يشقون طريقا هنا  تبنى مدرسة جديدة هنا ينشئون مستشفى أشجار تقطع وشوارع جديدة ترصفومساحات خضراء تتقلص وحدائق جديدة تولد .. يأتي الصباح ويعيد ترتيب الاشياء التي تعودت عليها ويمضي النهار لتذهب الشمس الى مخدعها تاركة جراحا حزينة في الافق في أيام الصحو ثم الظلمة والليل وتنغلق الباب لتستسلم لنوم لا تجد فيه حتى الاحلام

 ماذا يعمل العمال هنا  ؟ بعد أيام كان البناء يرتفع قريبا من النافذة ‘ البناء الذي سيغلق كل شيء ‘ يا الهي عرفت هذا من قريبتها وعرفت ان النافذة لن تكون ذات جدوى وستاتي ايام لن تجد كل النافذة

الايام تمضي والبناء بدأ يحجب كل شيء . وفي صباح خريفي والمرأة التي تساعدها تدخل وقد عم البيت ظلام غريب والستائر تحركها الريح وكان الصمت رهيبا رأتها دون حراك ويدها تقبض على شيء ما عرفته كان بطاقة صغيرة  رسمت عليها  حزمة ورد كأنه بطاقة لمناسبة ما في يوم بعيد جدا وتاريخ انتهى من سنين

كان هناك شيئا يملأ المكان ..  لعله الحب

 

نشرت في قصة

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014