• Default
  • Title
  • Date
السبت, 26 تشرين1/أكتوير 2013 02:17

اكلة السباكيتي الايطالية اصولها عربية

 

ايطاليا هي بلد السباكيتي والزلازل السياسية، وكل شيء في هذه البلاد يدعو للمحبة ، ويستفز اهتمام الزائر للمتابعة، ابتداء من الاثار العظيمة التي تشكل نحو 40 في المئة من الموروث العالمي، وانتهاء باطباق السباكيتي والمعكرونة التي تتعدد انواعها لتصل الى اكثر من 500 نوع باشكالها واحجامها ووصفات طبخها.

وتوجد عشرات الطرق والاساليب لاعداد هذه المادة اللذيذة، ويطلق الطليان على هذا الطبق اسم " الطبق الاول"، اذ لايمكن للايطالي ان يستغني عنه في وجبات طعامه، وكل مدينة لها خصائصها في اعداده وتقديمه الى مائدة الطعام، ، فالى كونه يخلط مع الطماطم بعد سلقه بالماء الحار، الا انه يؤكل مع اللحم المثروم، والقشطة والجبن واللبن والخضروات بشتى انواعها والسجق والسمك واللوز والجوز والبندق والصنوبر والفطر والكمأ.. الخ. الا ان اشهر طباخاته تلك التي تعتمد على مرق الطماطم المركز مضافا اليه قطع صغيرة من الريحان.

وما هو شائع عن السباكيتي" المعكرونة" بانها جلبت من بلاد الصين الى ايطاليا بعد عودة

" ماركو بوللو" من جولته الشهيرة الى تلك البلاد البعيدة ليس صحيحا، اذ عثر في السنوات الاخيرة على عدة وثائق جديدة كشف النقاب عنها، وتعود الى ورثة الرحالة الايطالي ماركو بوللو ، بان احد الاشخاص الذين سافروا مع الرحالة الايطالي وكان يدعى" اوكينو سكاربا" بانه ترك وثيقة مؤرخة في الثاني من شهر شباط( فبراير) عام 1279، وفيها تعداد لما تركه" سكاربا" من حوائج ومواد والبسة بحوزة احد الجنود من معارفه وكان يدعى" بونسيو باستونا" ومن تلك المواد اكياس من المعكرونة المحفوظة. ومعروف بان ماركو بوللو لم يكن قد عاد من سفرته في الشرق قبل ذلك التاريخ، حسب ما تذكره وتؤكده جميع المصادر والوثائق التاريخية المحفوظة في متحف مدينة البندقية، فمن اين جاءت هذه المعكرونة؟

هناك كلمة عربية متداولة تكشف عن ماهية هذه العجينة الجافة المثقوبة، والكلمة العربية القديمة هي " ايتريا" والتي اصبحت فيما بعد كلمة متداولة في جزيرة صقلية الايطالية التي فتحها العرب عام 727 وبقوا فيها حتى عام 1091 ميلادية، بعد ان حورت قليلا لتكون" تـّري" وتعني اعواد من العجينة الجافة المثقوبة، فالعرب هم اول من جلبها الى جزيرة صقلية، جنبا الى جنب فسائل النخيل والررز والفواكهة وانواع من البقول والحبوب ، وذلك اثناء فترة الفتح العربي التي قادها القائد العربي القاضي " اسد ابن فرات" وقامت دولة عربية امتدت نحو 250 عاما من الزمن. وقد عرف العرب منذ زمن طويل صنع هذه العجينة الجافة، فكما هو معلوم فان العرب الاوائل كانوا يعيشون حياة تنقل لا يستقرون في مكان ولا يتصلون بالارض التي يسكونونها اتصالا وثيقا كما يفعل الزراع. وبعد انتشار الديانة الاسلامية نشأت وتطورت الحضارة العربية وبدأت تشق لنفسها وسائل التغلغل والانتشار، وكان لحاجة القوافل العربية وهي تطوف البلدان والامصار عن طريق الحرير القديم، محمّلة بالبخور والعطور واقمشة الحرير والسيوف المسقّاة التي كانت مرغوبة في اوربا التي كانت تعبر اليها عن طريق امارة البندقية( فينسيا)، الى خزين من الطعام تتزود به في رحلاتها التجارية هذه، فكان ما يجلب من الطحين يتعرض للتلف والتحلل، في ضوء ذلك ولدت فكرة عمل العجينة الجافة وذلك بمزاوجة الماء للطحين وتعرضها للهواء من ان اجل ان تجف، اما الثقب فكان نتيجة فكرة عربية صائبة ايضا وذلك لجعل العجينة اليابسة لاتتعرض للتعفن، بل تبقى فترات طويلة جدا صالحة للطبخ، حيث ان الثقب يساعد على دخول الهواء من الداخل، اضافة الى انه يحيط تلك الاعواد العجينية اليابسة من الخارج مما يساعد على حفظها وسلامتها من التلف.

وهذه الاعواد العجينية التي اصبحت بمرور الزمن رقيقة وبدأت تخلط مع عجينتها بعض الدهون الحيوانية وصلت الى اماكن عديدة وخصوصا تلك المدن والامصار التي تقع على البحر الابيض المتوسط، بل ان بعض المؤرخين الايطاليين يؤكد وصولها الى جمهورية البندقية( فينسيا) مع بدايات اتساع حركة التبادل التجاري والحضاري بينها وبين العالم الاسلامي وبالذات بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية منذ بدايات القرن الثامن عشر وحتى سقوط هذه الجمهورية التي غزاها نابليون عام 1797. ويؤكد المؤرخون على ان هذه العجينة التي كانت منتشرة في جميع انحاء صقلية العربية وخلال الفترة النورماندية التي اعقبت الوجود العربي، منتشرة ايضا  في مناطق اخرى من ايطاليا، كمنطقة " بوليا" التي شهدت عاصمتها الاقليمية " باري" وجود امارة عربية مستقلة استمرت نحو 33 عاما، ومنطقة " سالرينو" و" لوكوريا" الشمالية" وكذلك في معاقل العرب الاخيرة داخل العمق الايطالي مثل مدينة" لوشيرة" ومدينة" جيلانو"، اذ لايزال والى يومنا هذا يوجد طبق شعبي مشهور في مدن" بينفينتو" و" سالينتو" و" كاتسينو" و"بيترلشينا" يدعى" جيجري وتـّري" وهو مؤلف من الحمص ونوع من السباكيتي المصمنوع باليد. علما بان كلمة " تـّري" العامية القديمة تطلق والى يومنا هذا في اغلب مناطق الجنوب الايطالي على كل انواع العجينة الجافة. وتشير المصادر على ان العرب القدماء استخدموا في طعامهم هذا الطبق الذي يتألف من اعواد العجينة اليابسة مضافا اليها الحمص المسلوق بمائه الطيب.

وهذه الاعواد اليابسة وصلت ايضا الى اسبانيا وهي تحمل اسم" تريا" وتسمى في الوقت الحاضرفي العديد من المناطق الجنوبية الاسبانية من الاندلس القديمة مفردة" فيديار" ومأخوذة من كلمة عربية قديمة" فاد" وتعني الاكلات الباردة السريعة الطبخ والانكسار. وقد اصبحت هذه الاعواد اليابسة تصنع بمهارة ودقة ويضاف اليها السمن النباتي مع البيض وتأخذ احجاما مرقمة بعد ان اتسعت وتعددت معامل تصنيعها المتخصصة. وقد بدأ الايطاليون في بدايات القرن السادس عشر باستخدام الطماطم( البندورة) مع السباكيتي بعد ان جلبت من المكسيك والبيرو لاول مرة، وزرعها اهالي نابولي واشتهروا منذ ذلك الحين باعداد اشهى وارخص اطباق السباكيتي والمعكرونة.

ولا يعرف للان من اين جاءت كلمة " سباكيتي" الا ان البعض يعتقد بانها من اصل اغريقي ومأخوذة من كلمة " اوفيز" وتعني الحية.

 

       السباكيتي الإيطالية ورفيقاتها من المعجنات تحتفظ رغم الأزمة بالصدارة العالمية للاستهلاك والتصدير

 

لا تعاني المعجنات الإيطالية من الأزمة الاقتصادية بل تقاومها رغم تراجع الاستهلاك، وتواصل تصدرها قائمة الصادرات. ما من منافس في الأسواق للسباكيتي الإيطالية ورفيقاتها، وتتستمر إيطاليا المنتج الأول في العالم للمعجنات حيث يبلغ انتاجها السنوي 3,3 مليون طن ما تبلغ قيمته 4,6 بليون يورو. إيطاليا هي أيضاً البلد الأول من حيث الاستهلاك حيث متوسط استهلاك الفرد 26 كيلوغراما، ومن حيث التصدير البالغ 1,9 بليون طن. هذا ما تؤكد بيانات رابطة المزارعين الإيطالية بمناسبة الاحتفال بيوم المعجنات الدولي 2013، وأشارت الرابطة إلى أن انخفاض شراء المعجنات بنسبة 1% خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي بسبب الأزمة الاقتصادية لم يسلب إيطاليا ريادتها. تتحدث الرابطة أيضا عن تفضيل العائلات الإيطالية شراء المعجنات الأقل سعراً بدلا من الاستغناء عن هذه الوجبة المفضلة، ما يمَكن الإيطاليين من الاحتفاظ بالصدارة العاليمة في الاستهلاك، 26 كيلوغراما للفرد. يليهم بفارق كبير سكان فنزويلا 13 كيلوغراما، تونس 11,9، اليونان 10,4، سويسرا 9,7، السويد 9، الولايات المتحدة 8,8، تشيلي 8,4، بيرو 8,3 وفرنسا 8 كيلوغرامات.

 

 

نشرت في وجهة نظر
الأحد, 29 أيلول/سبتمبر 2013 11:56

الحضارة الاتروسكية

      دراسات ومعارض وندوات  حضرها العديد من علماء الآثار من كل ارجاء العالم لتسليط الضوء على غموض اصول الشعب الاتروسكي وحضارته العظيمة، والتي مثلت واحدة من اولى الحضارات على الارض الايطالية. تمخضت في عقد التسعينات من القرن الماضي عن نتائج حاسمة ومهمة ،وسلطت الانوار على اقدم وادهش حضارة صاحبها الغمور والنسيان، وظلت مغلفة بطلاسمها ولغتها حتى سنوات قريبة، بعد ان عاشت قبل اكثر من الفي سنة على شبه الجزيرة الايطالية ولفترة امتدت اكثر من عشرة قرون، فمن هم الاتروسكيون؟

 

في اغلب الاحيان يعتبر الايطالي المعاصر الاتروسكيون وكأنهم مخلوقات من المريخ بسبب قلة المعلومات والدراسات، وبسبب الغموض الذي احاط بأصلهم ولغتهم ومنبع مجيئهم الى الارض الايطالية. والدراسات الاخيرة تؤكد على ان اولى هجراتهم جاءت من آسيا الوسطى، ويعود تاريخ نشوئهم الى منتصف العصر الحديدي. وقد استطاعوا التعبير عن ثقافة اصيلة خاصة بهم وتركوا اثرا محددا في الانتقال من عصر ما قبل التاريخ الى التاريخ.

 

يكشف لنا الدارسون عن الاستمرارية التاريخية التي تربط المرحلة الاخيرة من وجودهم والتي تمتد اكثر من 1000 سنة قبل الميلاد بزمن نشوء مدينة روما.

 

وتتحدث الاساطير الرومانية عن المعارك التي دارت بين الجيوش الاتروسكية والهجمات المتكررة على روما. وقد عرف الاتروسكيون بناء المدن النموذجية على شكل ( بولس) اي المدينة الاغريقية وذلك من خلال رحلاتهم البحرية في مناطق الكولينا الايطالية الجنوبية التي كانت تابعة للاغريق. كما تؤكد الدراسات على الميزات الارستقراطية في الحياة الاجتماعية. والان ترفض كل الطروحات التي  شاعت فترة طويلة من الزمن بانهم قد اختفوا بشكل مفاجىء، اذ تؤكد النظريات الجديدة على ان اسباب اختفائهم تعود الى التوسع الكبير لوسائل الاتصالات الداخلية وتعزز مواقع القوة، وتطور مراقبة التجارة البحرية، نحو الشمال وروما التي مثلت المركز، ونحو الجنوب حيث المستعمرات الاغريقية مما اضطر الاتروسكيين الى الاستسلام بعد ان زادت حدة الصراع ما بينهم وبين الاقوام الجديدة مثل الاسنيين واللاتين والمارسيين وغيرهم، وظلوا ملاحقين بالعبودية والحروب الدموية، فتداخلوا بالازمنة الجديدة، فكانت بمثابة الوسيلة لتشتيتهم بالاندماج بالحياة الاجتماعية الجديدة.

 

لقد بنت القرصنة والتجارة البحرية عظمة الاتروسكيين، الا ان توسع مدينة ( سيراقوصة) في جزيرة صقلية وخصومتها مع مدينة اثينا اليونانية عجل في انهيار ذلك المد التجاري والمهم، ورسم بذلك بداية الاندحار الحلزوني من دون رجعة، ولم ينفع الاتروسكيين تحالفاتهم مع القرطاجيين ولابحثهم لايجاد منفذ تجاري عن طريق البحر الادرياتيكي، فقد اغلق عليهم شعب( الجيلتيون) من الشمال وحاصرتهم روما التي احكمت بسيطرتها على نهر التيفر، وهو الطريق الحيوي للاتصالات داخل ايطاليا القديمة مما اجبرهم على الموت اختناقا.

 

ان مدينة( تشيفتري) الموجودة على التلال الشمالية في مدينة روما هي احدى ابرز المعالم الحضارية التي بامكانها ان تقود المشاهد الى معرفة  ذلك الظل الحضاري العظيم، وقدرة هذا الشعب الذي لو كانت قد اتيحت له ظروف اخرى لانتشل من روما العظيمة هيمنتها الايطالية.

 

ان مقاطعتهم الصغيرة لم تكن متحدة، وغالبا ما كانت في صراع دائم فيما بينها، مما سهل على قوم ( اللاتين) فرض سيطرتهم على الاماكن الاستراتيجية من نهر ( التيفير) وبعد ذلك لم يتحمل هؤلاء وجود خصوم لهم على الضفاف المقابلة.

 

لقد انتهى القرن الرابع قبل الميلاد من دون منتصرين او خاسرين من كل الاطراف، ودخلت روما في معاهدات وتحالفات مع العديد من المقاطعات الصغيرة التي كانت تحت سيطرة الاتروسكيين، الا ان تلك التحالفات كانت بمثابة المهد الاساسي لالغاء الشخصية الاتروسكية التي انفصلت عن مجتمعها القديم وبدات تشعر بانها عاجزة ومنعزلة عن مواجهة سطوة الواقع الجديد، حيث كان القرن الاول قبل الميلاد شاهدا على نمط ايطالي جديد في الحياة اتحدت فيه اقوام وشعوب كثيرة كانت تعيش على شبه الجزيرة الايطالية.

 

في قرى منطقة ( تركونيا) الخضراء التي شهدت العصر الذهبي للشعب الاتروسكي لاتزال الى زمننا هذا العديد من الرموز الحضارية المتقدمة التي تشهد على العلائق الانتاجية واساطير الخصب والاولادة والاساطير التي تفسر احداثا تاريخية او طبيعية متمثلة بالمنحوتات والرسوم الجدارية التي تنتشر على جدران القبور التي اكتشفت مؤخرا والتي فتح قسم منها للزائرين والقسم الاخر مازال تحت الترميم والصيانة.

 

منذ احقاب طويلة والعلماء يحاولون كشف النقاب عن لغز الرموز اللغوية لهذا الشعب، حتى استطاعت اخيرا مجموعة من علماء اللغات القديمة كشف هذا السر العظيم لهذا الشعب الحضاري، ولم تكن عملية البحث والترجمة امرا سهلا، فقد وقفت امامها عوائق عديدة خاصة فيما يتعلق باسماء اسياد وحكام ومدن وحقب.

 

وقد اكتشفت ثلاث شيفرات هي عبارة عن الواح ذهبية مكتوبة باللغة الاتروسكية، ويعتقد بان هذه الالواح من الممكن ان تكون المفتاح الجديد لمعرفة لغة هذا الشعب، حيث يعتقد بان حروف هذه اللغة هي قريبة الى اللغة الاغريقية من جهة والاشورية من جهة اخرى، الا ان المشكلة التي اعاقت العديد من الباحثين فيما مضى لحل رموز هذه اللغة هي عدم توفر نصوص طويلة كافية لغرض تشكيل اللغة، وتعدد لهجات القبائل المختلفة، كما ان تغيرات كبيرة طرأت على نظام الكتابة الاتروسكية، وهذا بالضبط مالم يحسب العلماء له حسابا في عمليات رصد اللغة، فعلى سبيل المثال كان الاتروسكيون القدماء يخلطون في اسماء العديد من الفواكه والمعاول الزراعية وادوات الزراعة والحدادة، وهذه الاخطاء اوقعت علماء الآثار اللغويين باخطاء كبيرة جعلتهم ولسنوات طويلة امام الغاز. وقد بحثت مجموعة من علماء الآثار عن نصوص متقاربة زمنيا وطويلة نسبيا، وبهذه الطريقة استطاعوا ان يجدوا الرموز المتشابهة والمترابطة من خلال النصوص.

 

واللغة الاتروسكية كانت لغة منطوقة في منطقة حوض البحر الابيض المتوسط قبل الغزو الهند- اوربي في العصر البرونزي في الالفين سنة قبل الميلاد، ويعتقد العلماء بهذا الخصوص بان شيئا من هذا القبيل قد حصل مع اللغة الباسكية.

 

ويوجد العديد من الآثار الفنية تضمها متاحف متخصصة ومتفرقة في مناطق الوسط الايطالي وخصوصا في مدن مثل روما وفلورنسا وفولتيرا وجيفيتا فيكيا وكيوزي وتشرفيتيري وغيرها. وتضم هذه المتاحف التماثيل الصغيرة والكبيرة والمصوغات الذهبية بالغة الدقة في صنعتها والذي تفرد لها المتاحف صلات خاصة، كذلك الصناديق الحجرية المنقوشة لدفن الموتى، وهناك شواهد حجرية منقوشة تبين جميعها التأثيرات الشرقية الاشورية والاغريقية والفرعونية، وهذه الآثار اضافة الى صناعاتهم الحديدية للاواني والاسلحة والتي كانت احدى الوسائل الكبيرة التي دعمت سلطتهم، تكشف لنا عن اساليب الحياة اليومية التي كانت متطورة وكذلك عن الواقع الطبقي في العلاقات الاجتماعية، كذلك تحكي لنا عن الاساطير والاعتقادات والمآسي والانكسارت التي حلت بهم.

 

وتبين العديد من منحوتاتهم على سطوح الرليف الحجري، استخداماتهم في حقول معرفية كثيرة تتعلق بالولادة والموت والبعث ومعالجة الامراض والاوبئة، كما اشتهروا بالطب والمعرفة البيولوجية الدقيقة وكذلك اشتهروا بمستواهم العلمي وبكل ما يتعلق بالارقام، فهم كانوا علماء بالجبر والحسابات والمنجزات الفلكية الباهرة كتشخيص ظاهرتي الكسوف والخسوف، ومراقبة مجرى العديد من الكواكب والاجرام السماوية، وانجازات مرموقة في مجال التقويم السنوي. وتصور العديد من الجداريات الكبيرة المنقوشة وهي من اللوائح الحجرية الفخمة التي يبلغ طول بعضها اكثر من ثلاثة امتار، العديد من الكوارث الطبيعية والحروب والانتصارات وتاريخ واعمال وانجازات الاسياد، والاحتفالات الدينية، وتنصيب الرؤوساء، وطرق واساليب استخداماتهم للسلاح.

 

لقد تمكن البحث الآثاري والاثني في السنوات الاخيرة من تحقيق ثورة حقيقية في معرفة وفهم هذه الحضارة الهامة، فدارسو هذه الحضارة يدركون اليوم على سبيل المثال- ان المناطق التي احتلتها حضارة الاتروسكيون كانت بمثابة القاعدة التي هيأت لحضارات عظيمة ابرزها الحضارة الرومانية، وان الاتروسكيين كانت لهم صلاتهم وتداخلاتهم الاقتصادية والسياسية والايدويولوجية الضخمة مع شعوب مناطق آسيا الصغرى التي نزحوا منها.

نشرت في وجهة نظر
الأحد, 01 أيلول/سبتمبر 2013 14:26

انه تأريخنا المندائي

نعم، نحن فخورين به، ولانُريده إلا كما كان، تأريخاً حقيقياً ، بكلِّ أفكاره النيّرة وطقوسهِ ، وإرهاصاته.

إنه ماضينا  ،بانتصاراتهِ  وانكساراته ؛ ففيه تكمُن أفراحنُا وأحزانُنا، ومن ماضيِنا نأخذُ النور؛ لنُنير به سبلَ المستقبل  ، وليس الرمادَ الذي يُعمي العيون  ويغلّف الأفئدة  .

اما الذين يحاولون أن يُسقطوا علينا هزائمِهم ويحرقونَنا بمواقفِهم المتشككة باخلاصنا وحقائقنا ؛ ليُقيموا مجداً على ما يحلمون به فنقول لهم :

أيها الأخوة، ليس كلُّ من طاله زلزالُ التشتتِ الذي أصاب المندائيين، وخرج بجلدِه ، سيكون بالضرورة أكثر ديمقراطية واخلاصاً بمندائيته من غيره، وأكثر تحضراً من الذي تأرجح وترنح ، لكنه صمد منتصبا ًعلى قدميه.

نعم ، لقد تغيّر العالم ، وسقطت الكثيرُ من الكتب السميكة من رفوفها  والتي قد علاها ترابُ الزمن ، كما سقطت أفكارٌ ورؤوسٌ فاشية وعنصرية. ولكن هذا ليس كلُّ العالم.  يحاولُ البعضُ من إخوتِنا أن يُغلق عينيهِ أمام حقائقَ ملموسة ، حقائقَ تتعلق بمصيرنا ومصير الملايين من الناس الذين تهزهم الزلازلُ كلَّ يوم، وتدفعهم الى مواجهة الذات والتاريخ بكل صدق وشجاعة.

لايمكن لهؤلاءِ الأخوة أن يعلقوا على صدورهم دائما وأبدا زهرة النرجس، ويحلمون بمُثلهم العليا  الزائفة ،التي عافها الزمن، ولا يأبهون بالدعوات المخلصة التي طالبت ولا تزال بالصفح والتسامح والإعتدال، من إجل وحدة المندائية وسلامة مسيرتها، بدلاً من إشغال النفس بالبحث في معاجم الخيانة والاتهام.

نحن في إتحاد الجمعيات المندائية في المهجر :

لانستكثر على هذا البعض من إخوتنا، تلك الورود النرجسية التي يعلقونها على صدورهم، ويتمشدقون بها ليلَ نهار، ويريدونها حية ً أبدية.

إنما نتمنى، من أجلهم و من أجلِ مصلحة الجميع، أن ينزعوا عن أنفسهم سمات الحدس و الضغينة والنميمة، والمزايدات الرخصية،والخروج من معابد الشعوذة التي يستنسخون فيها شعاراتٍ ، أكل الدهرُ عليها وشرِب، رافضين أيَّ رأي لايتفق مع آرائهم، و أن ينظروا إلى الدنيا بعيون اُخرى أكثر صفاءاً ونقاءً ؛ فالموقف النقي للإنسان، لاتزال  سوقُــه عامرةً بالجمال الأخلاقي والروحي في عصور التشتت والأعاصير التي تُحيط بنا من كلِّ الجهات .

                                                                               

نشرت في كلمة الأتحاد
الأحد, 16 حزيران/يونيو 2013 15:48

الحداثة والهوية في التجمعات البشرية

ليست الحداثة التي ننشدها هدفا لذاتها ، وإنما عندما تقتنع بها التجمعات البشرية ، طائفتنا المندائية نموذجا ، فان هذا امر لابد منه ، فان هذه المجتمعات تمضي في الطريق الصحيح الذي عليها ان تسلكه لبناء نفسها ومستقبلها. والحداثة من حيث كونها إحدى الاشكاليات دائمة الجذب للمفكرين والمصلحين الاجتماعيين عبر الازمنة ، ترتبط بها إشكالية الهوية التي هي الاخرى ظلت وما تزال منذ زمن بعيد ، تحمل معها اسئلتها الخاصة التي تتعلق بالملامح والغايات والاهداف ، وكل ما يقع في السياق الاجتماعي التاريخي في مسيرة هذه التجمعات البشرية ، على اعتبار ان المتحول منها بسبب تغيرات الظروف والمستجدات في حياتها وحياة ابنائها، لاتقل مساحته عن الثابت الذي توارثته هذه التجمعات البشرية على مدى قرون طويلة من تاريخ وجودها ، فالهوية التي تدافع عنها وتقر بوجودها هذه التجمعات اينما كانت تتم مقارنتها وتاخذ شرعيتها مع اقرارها ببعض مفاهيم الحداثة ، والتي لايمكن لاي تجمع بشري ، ان يقوم بدونها ، وعلى اقل تقدير على الحد الادنى منها.

من هذا المنطلق فاننا نعترف ، بان الحديث عن الهوية المندائية ، سوف نضع انفسنا في محيط لايخلو من الالتباس ، بسبب اختلاف التعريفات التي يتناولها عادة عدد من المفكرين والباحثين، وخاصة في الجوانب الفكرية والاجتماعية والثقافية . لقد احتدم الجدل بعد تحلل احزاب ودول وانظمة ، واندفعت شعوبا وامما وطوائف وجماعات لتخوض صراعا حادا باسم الدين احيانا ، وباسم القومية او اللغة في احيان اخرى ، وفي كل الاحوال كانت الخصوصية امرا ملازما لكل الاحاديث عن الهوية ، إذ سرعان ما طفحت كيانات وكتل على السطح بعد طول كبت وشعور بالتمييز والظلم ، في مجتمعات كانت صورة الواحدية تطغي عليها . ومن هنا احتدم الجدل حول الهوية عند كل جماعة بشرية ، وارتفعت وتيرته في ظل مفاهيم العولمة ومعطياتها الاجتماعية وتاثيراتها على كل تجمع بشري اينما كان.

نحن نعلم بان الهوية هي جزء هام من فطرة الانسان ، وهو ما يدعو الى احترامها والدفاع عنها ، باعتبارها حقا من حقوق الانسان اينما وجد في المكان والزمان . لكن السؤال الهام الذي يثيره وضعنا الحالي ، هل يمكننا الحديث عن هوية ثابتة او متكاملة دون تغيير، باعتبارها عطاء سومدي غير قابل للتغيير، حتى وإن كانت لدينا عناصر ثابتة في الدين نحمل لها الاحترام والقدسية ، وندافع عن وجودها واستمرارها ، لانها تعكس ديمومتنا.

بالطبع فإن الاجابة سوف تتحدد بالنفي ، وهناك كما نرى ثلاثة مستويات لتشكيل الهوية : الفردي والجماعي، والمستوى الوطني القومي ، والهوية ، وفق هذا التصور، يتجسد في جانب منها على اساس وعي الانسان وإحساسه بذاته وإنتمائه الى جماعة بشرية قومية او دينية ، وبالتالي فانها ليست معطى نهائي ، كما يحلو للبعض من اخوتنا الحديث عنه ، وانما هي ، اي الهوية ، عمل يجب اكماله على الدوام ، وبالتالي فإن التغيير هو الذي يطبع الهوية وليس الثبات ، ومن نتائج هذا التحول يندفع الناس الى التفاعل مع بعضهم ، بحكم علاقة الانسان بالاخر، ليس الانعزال عنه ، وبهذا فان الهوية لاتتكون بمجرد النشأة والانتماء فقط ، وهما موروثان طبيعيان، بل تتكون من خلال عملية الخلق والعمل والصيرورة ، وهذه عملية ابداعية مستمرة ومفتوحة ، فالهوية على هذا الاساس لاتعد منجزا مكتملا ، وإنما هي في حالة من التطور والتغيير المستمرين.

وهويتنا المندائية في هذه الحالة ، هي في حالة تمثل وتعلم ، واحتدام واحتواء ، في حالة حوار دائم ، تدفعنا الى فضاء الانسان بوصفه انسانا، وتدفع الذات الى ابتكار اشكال جديدة لفهم الاخر، وبهذا فهي ليست معطى جاهز ونهائي، وانما تحمل عناصر بعضها متحركة ومتحولة على الصعيدين الفردي والعام ، وهو ما يجب إكماله واستكماله دائما في إطار منفتح بقبول التفاعل مع الاخر.

الشعور بالهوية على الاسس التي ذكرناها يجعلنا ندرك ، باننا ضد الافكار اليقينية الثابة التي لاتعرف التحرك والتغيير ، ونقف بالضد من الفكر الامحائي الذي لايؤمن بالاخر، ولايؤمن بالفروقات داخل المجتمع الواحد ، وضد وضع التعددية الذي تعيشه هذه الجماعة البشرية او تلك ، وايضا ضد إقصاء الخصوصيات ، ولهذا نرى عن كثب بان جدل الهويات داخل مجتمعنا العراقي يكشف وبوضوح اختيار الصراع بدل التعايش ، والصدام بدل الحلول الانسانية ، وبقدر ما يحمل هذا الواقع من ضرر كبير على المكونات الرئيسية داخل المجتمع فانه يحمل ضررا على الهويات الصغيرة ، وهذه الاخيرة إن لم يتم احترامها وتأمين حقوقها المساوية لحقوق تلك التي تسمى بالهويات الكبرى ، ستكون عنصر ضعف كبير تزدا خطورته على الهوية العامة للمجتمع. فالطريق الصحيح هو اتباع طريق المعرفة ، واشراك الناس جميعهم في المسؤولية.

الا ان العديد من الهويات الكبرى ، تشكو للاسف ظاهرة غياب المعرفة ، اذ لازالت الهويات الصغرى في واقعنا تشكو عدم الاهتمام بالتنوع الثقافي والديني ، وعدم الاعتراف بكياناتها، وايضا الجهل الواضح بمسالة التعددية ، وعدم الاعتراف بها والتقليل من شأنها.

غايتنا كمؤسسة مدنية حقوقية تتمثل باتحاد الجمعيات المندائية في المهجر، إعادة اللحمة المندائية ، والوحدة الجامعة والهوية المشتركة بتعزيز انتماءاتنا ، فمثل هذا الانتماء هو الجوهر في نهجنا وتوجهنا ، وعلينا ان نعترف بضرورة ما ينمو ويتطور ويتغيير حولنا ، بدون اقصاء رأي الاخر الذي بيننا ، لاننا نخشى انهيار هويتنا. نتعامل من واقع الاعتراف بالاخر، باعتبار هذا الاعتراف حتى بهويته الثقافية ، نمو وتطور، لان ثمة عوامل مشتركة ذات بعد انساني ، تتمثل بقيم التعايش والتفاعل بين جميع المكونات المندائية التي تسير على حافات الخطر في هذا الزمن الحرج.

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 27 أيار 2013 19:21

مسؤولية المثقف المندائي

الناس يريدون شيئا من المثقفين والمبدعين والمفكرين المندائيين. والهم السياسي او المعاشي اليومي، في عالم مقلوب، ربيع هنا، وحريق هناك، حرب اهلية، وفرق للموت، وازمات تعصف بالدنيا، من شرق مشرذم الى غرب يقرع ناقوس ازمات حولت بلدان عريقة الى حضارات غريقة، تبحث عن طوق نجاة. وكل هذا لايلغي الاهتمام بالغذاء الروحي الذي تشكله الثقافة والفنون. والالتزام في الثقافة سياسي واخلاقي، والسياسي لم يعد غريبا، فالسياسة اليوم هي مهنة المثقف المندائي اينما كان، وهي اصبحت كذلك لانها لم تظل كما كانت شأنا يختص بفئة معينة من الناس، وانما قد تعممت فصارت مصدر بقاء لمن اعوزتهم الحرفة. والاشكال هو في المنحى الاخلاقي للالتزام، إن بعض مثقفينا يعتبر انتماءه السياسي لهذه الجهة او تلك، كافيا لراحة الضمير، لكي يبقى حرا من الالتزامات الاخرى، الا اننا نعرف بان الاخلاق ليست مجرد علاقة فردية مع الغير، فهي مسلك إنساني اشمل، ومع ان المثقف لايعفى من اخلاقيات العلاقة الفردية ، فهو مطالب، ربما اكثر من سواه، بهذا المسلك، لانه بذلك يزاول سلطته الخاصة به ضد مصدر الانتهاك للعلاقات الاخلاقية التي تتمتع به هذه الجماعة البشرية او تلك ، ولكل من يقود العمل المدني التطوعي فيها.

المثقف يجب ان يكون حقيقيا بعفته ونزاهته، ان يقف مع الاسير ضد الاسر ، وان يكون على استعداد لتأكيد سلطة الثقافة ضد السلطة السياسية، وليس ضد سلطة الضعفاء الذين لاسلطة لهم. فشرف المثقف يقع في حساسيته الاخلاقية، وليس بالضرورة في الوقوف الانتهازي مع صاحب هذه المصلحة او تلك، فالحساسية الاخلاقية التي نريدها للبعض من اخوتنا المثقفين، هي نمط من الحساسية الشعرية يقويها ويتقوى بها المثقف الحقيقي، وهذا ما يمنح المثقف سلطته الخاصة به.

وعلى ضوء هذه الاعتبارات، فان غاية ما يمكن ان يطلب من المثقف المندائي في زمن التشتت والتبعثر، هو ان لايخلع نفسه، في ان لايتنازل عن سلطته لارضاء صاحب القوة في الحكم او المال، الذي يريد اعادة صياغة حالة التمزق من جديد وعلى مقاساته الشخصية.

نشرت في كلمة الأتحاد
الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2013 05:04

نافذتنا الاعلامية بحلتها الجديدة

محطة أخرى في مسيرتنا الثقافية، محطة للانطلاق، لا للتوقف

 أرضها المندائية وسماؤها ثقافتنا المفتوحة على العالم

ضرورتها تتأكد الان أكثر من أي وقت مضى

لان هذه الضرورة هي ممارستنا الديمقراطية التي اعتمدها اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر طيلة مسيرة عمله الديمقراطي.


هي التعبير عن الرغبة عند جميع المندائيين في الداخل والخارج في تجاوز ما هو معطى باتجاه حلم الجميع، بسلامة المسيرة المندائية، وهي تعيش فترة إنعطافية حرجة، من تاريخها المعاصر.
اتحاد الجمعيات المندائية في المهجر، منذ بداية عمله، أعلن وبكل وضوح في برامجه الثقافية، السير قدما ،بثقافة حية محركها الاساسي الديمقراطية النابعة من ادراكه لمسؤوليته ازاء ما جرى ويجري لابناء طائفتنا المندائية المسالمة.

لقد وضعنا الاسس الصحيحة لعملنا القادم الذي نريده ان يكون تعبيرا عن الحرية، لاننا نشعر بان ما ينتظرنا أوسع من إطار يحتوينا، لان الثقافة نفسها التي نسعى لتعميمها بابهى صورها التقدمية، تتجاوز كل ما يحدها. 

المندائيون في كل مكان يواصلون إبداعهم وصلاتهم بالوطن، لانهم يشعرون بانهم اصحاب قضية انسانية عميقة، وثقافة أشمل، وافق اوسع ،هاجس كل منهم يتجاوز التفاصيل ويتحد بالوطن، ويحتضن كل ما هو جديد واصيل وانساني في العالم.

لقد تغلبنا بثقافتنا المنفتحة، كل قهر، وتواصلنا ولا نزال مع جذورنا، وحتى وان حملت الهجرة العديد منّا الى اوطان جديدة، فلا زلنا نعتبر بان الثقافة الديمقراطية اينما كانت هي امتداد لجذورها داخل الوطن، فالديمقراطية هي المحور الاساسي الذي سيخترق عملنا القادم، في كل خطواته وتفاصيله.


لقاؤنا الجديد بهذه المحطة الاعلامية بحلتها الجديدة، ستفتح حوارا غنيا مع الاخر، حوار الابداع والاهتمام، والمشاركة ، وتبادل الرأي، بمحتوى ثقافي فكري فاعل وشفاف.

ان تجربة السنوات الماضية لهذا الموقع( النافذة) فتحت اسئلة محورية كثيرة وجديدة تتعلق بجوهر عملنا الاعلامي في اتحاد الجمعيات المندائية، وعمله القادم، حرصنا من خلالها على التعددية والوحدة في اطر حيوية مرنة، ونشعر بان أجوبة كثيرة يتحتم علينا الاجابة عليها خلال فترة عملنا القادم، التي ستجد صيغ نقدية جادة تستند اليها كل توجهاتنا ومواقفنا.


موقع الاتحاد بحلته الجديدة، هو فرصة نموذجية للمبدعين ليقدموا نتاجاتهم الى اصدقاء واعداء، اكاديميات وجامعات، مفكرين وباحثين، منظمات واحزاب ومؤسسات، فذلك سيتيح لنا ان نرى ويروا ما فعلناه وأبدعناه في منافينا المتباعدة، وفي وطننا العراق.
وهذا يتطلب جهود وافكار جديدة، تتمثل في خلق محاور وإسهامات ،ملفات وتحقيقات ولقاءات ، ثقافية وفكرية ومهنية ،ستغني، بلا شك تجربتنا الاعلامية القادمة.

نرحب بكتابات ابناء المندائية، ونرحب بكل ما يكتب عن المندائية من خارج تجمعنا البشري المندائي.

نشرت في كلمة الأتحاد

 يبدو ان العقل التآمري الكيدي الذي تتلبسه حالة الغرور والغطرسة الدينية الممزوجة بالتعصب، وتغليب روح الغنائم على روح المنطق والعقل والكفاءة والمساواة، لازال سائدا داخل المجتمع العراقي حتى بعد سقوط نظام القهر والموت والمعاناة الذي امتد اكثر من أربعة عقود من الزمن.

 فما ان تخلص شعبنا من الحكم القومي الشمولي حتى رأى نفسه مهددا باستبداد حكم شمولي من نمط اخر، لتستفيد بعض من الفئات الدينية من ظلم النظام الفاشي السابق وتصاعد المشاعر الدينية في الشارع العراقي، فتزيد استغلالها لتحقيق المكاسب.

 من غير المعقول ان نطالب من دولة ومؤسساتها التي عاشت الانهيار ان تعيد بناء ذاتها في سنة، ويتم مقارنتها بنظام استمر سنوات طويلة ، الا اننا كطائفة مندائية كنا على الدوام من دعاة الوحدة الوطنية والتعايش والحفاظ على مصالح الاقليات داخل نسيج اجتماعي، عملنا وناضلنا وكافحنا ودفع العديد من أبنائنا حياته ثمنا لهذه الأهداف ، من اجل ان تسود سياسة التسامح وان نكتسب جميعا الصفة الحضارية اللائقة لدخولنا معترك العصر الحديث وتحدياته العلمية والحضارية. وناضل أبناؤنا ولا يزالوا ضد من يحتبس في دواخله المريضة السلوكيات الهمجية المريضة بداء التعصب الذي يؤمن بمبدأ أولوية الامتيازات وإقصاء الآخر.

 ان ظاهرة الانخراط في تجليات إلغاء الآخر والعمل على ترسيخ ظاهرة التفرد والتخصيص لم يجعلنا قادرين على اغلاق أعيننا ونحن نرى استمرارية وجود نوع من الإرهاب الفكري والديني من بعض الفئات والجماعات كوسيلة لردع الطوائف القومية والدينية الصغيرة، وان هناك العديد من الظواهر التي يقحم الدين فيها في المزايدات السياسية ، تحمل ضررا على المجتمع كونها تتسم بالابتزاز الديني وبمسوح قومية مزيفة وبحقيقة عشائرية وطائفية مقيتة.

 ان بناء مجتمع متسامح تترسخ فيه مفاهيم العدل والمساواة وتتقدم فيه المواطنة على ما عداها باعتبارها أساس العيش المشترك لكل الأديان والطوائف والقوميات، لايمكن لمثل هذا المجتمع ان تقوم فيه بعض الفئات بفرض وصايتها وفرض تعتيمها وأساليب قسرها بإلغاء فكرة التعاقد الاجتماعي التي عاشها العراق منذ مئات السنين، ليتخذ من التشدد والتطرف والتكفير والتحريض أسلوبا ومنهاجا تتحول أساليبه مع الأيام الى أداة قسوة وجفاء وظلم واعتداء، ويحاول فرض شرعية القوة والسيطرة، واجبار الناس من ديانات عراقية أخرى بالارتداد عن معتقداتها الدينية، وإشاعة ثقافة الجهل المستندة لكم كبير من الموروثات البعيدة عن ثقافة الديانات المقدسة الكبرى التي لا تؤمن بمثل هذا التوحش والافتراس اللاإنساني، ولا تؤمن بالتدخل والهيمنة وإذلال الآخرين بذريعة الكثرة ، بل حثت هذه الديانات السماوية على التعايش والانسجام مع الأديان والمذاهب الأخرى داخل وحدة نسيج المجتمع العراقي.

  ان الصابئة المندائيين وهم القدماء في المكان، يحسون الآن قبل أي وقت مضى بانبعاث ماضيهم الحي من تحت ركام الحجارة في هذا البلد كونهم السكان الأصليين، يتعرض العديد من أبنائهم في مدن الجنوب والوسط للقتل، وتختطف بناتهم اللواتي يتعرضن للاغتصاب ، وتتعرض محلاتهم للسرقة والابتزاز المافيوزي، ويطلق عليهم تسمية أهل الذمة، وكأنهم يعيشون في عزلة كوكبية او قارية بعيدا عن وطنهم الذين سكنوه منذ آلاف السنين.

 العراق وحدة حضارية حيوية واحدة ، الا ان الوطن في ظل التخريجات الطائفية الحالية، اصبح هدف معلن لجعل الطائفة بديلا للوطن من خلال السعي لتعميق الهوة بين الطوائف ، إذ تسعى الطوائف الكبرى بمجتمعنا، للاستحواذ والهيمنة على حقوق أبناء الطوائف الصغيرة الأخرى، وان تكون حصصها اكبر من حصص غيرها، كما يمارس عدد من أبناء الطوائف الكبرى المتنفذة في مؤسسات الدولة الرسمية تغييب وتهميش أبناء الطوائف الصغيرة، ومنهم أبناء طائفتنا المندائية، فتلغى الكفاءة وتتفشى المحسوبية والمنسوبية والمناطقية، لتسود في النتيجة الجهالة .

 

المندائيون يطالبون بحماية الأرواح والأملاك وحرية العبادة وتخصيص قانون خاص بهم بدلا من تهميشهم ضمن قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959، يكفل الدستور العراقي القادم كل الحقوق بما يتناسب مع ما قدمه المندائيون ضمن الحركة الوطنية العراقية وما قدمته هذه الطائفة للعراق .

نشرت في وجهة نظر

لعل مقاربة هنا بين الحالتين الإيطالية والعراقية ستبدو للبعض إشكالية الى حد ما، نظرا لبعض الفروق النوعية بين الدولة الفاشية الإيطالية وطبيعة وتاريخ ثقافتها التي تعتبر متقدمة مقابل ما استورده البعثيون وأضافوا أليه من قيمهم المتخلفة وقمعهم الشرقي الممسوخ. بمعنى ان الثقافة العراقية في الفترة الفاشية لم تشهد المراحل والاتجاهات والمدارس التي مهدت لظهور الثقافة الفاشية الإيطالية ، الا ان المقاربة تبدو أكثر وجاهة لمن يطلع على تاريخ العديد من أوجه التماثل في التجربتين ، فعقد مقارنة، او مقاربة على وجه التحديد ، بينهما، سيحيلنا الى الاتفاق بممارسة كلا النظامين وسائل القمع الجسدي المنظم، والتدخل السافر في حياة الأفراد من اجل تأطير أفكارهم وممارساتهم ومصائرهم ضمن إيديولوجية الحزب الواحد الحاكم، التي تقضي بتذويب إرادتهم في إرادة قائد البلاد. كما ان كلا التجربتين قامتا على تحويل كلا الشعبين الى أشبه بالقطيع الأعمى المتعصب والمحروم من أي حس نقدي لإرغامها على الخضوع لسلطة الأعلى في الهرم الذي يتربع عليه قائد "الضرورة التاريخية" .ان قراءة لبعض جوانب هذا التماثل يفضي بنا الى معرفة سجل الصدام العنيف الذي يرتكز على مبدأ إنتاج الخوف واستهلاكه الذي اصطفاه كلا النظامين ليتحول الى دين بعدة مذاهب.

 

بعد زحف بنيتو موسوليني بتظاهرته الكبرى التي شارك فيها نحو أربعين ألفا من أصحاب " القمصان السوداء" الذين جاءوا من مختلف المدن الإيطالية ليحقق مسيرته الكبرى الى روما المهترئة عام 1922 . هؤلاء الذين لم يكن لهم أي وجود غداة الحرب العالمية الأولى، فإذا بهم خلال سنوات قليلة يصل تعدادهم الى عشرات الألوف من المضللين، الذين يحملون هوية الحزب وينعمون بالامتيازات، وسط أوضاع متردية سياسيا واقتصاديا، هيأت لموسوليني الذي تحول من الاشتراكية الى الفاشية من جعل حزبه بديلا لدولة لم تعد ذات وجود ومكنه من القيام بحملة ديماغوجية حرك من خلالها الغرائز المتطرفة لعدد كبير من العاطلين عن العمل من الجنود المسرحين، ومن ذوي السوابق الإجرامية وفلول عصابات الإجرام المنظم" المافيا والكومورا والفايدا"، فجعل لهم إيديولوجية متعصبة حد التطرف ليملأ الفراغ السياسي والأيديولوجي والروحي المأزوم بسبب الهزيمة المريرة في الحرب العالمية الأولى. أصبحت الفاشية في إيطاليا بمثابة وعاء تنظيمي وإرهابي تهيمن عليه "عصابات من حثالة المجتمع" كما وصفها الكاتب اليساري المخضرم اينسو سيشليانو، سعت الى تحطيم مقومات الدولة وتقاليدها التاريخية العريقة، فجرى تدجين قطاعات واسعة من المثقفين وقدمت لهم وجبات هزيلة من الثقافة المفبركة لخدمة أهداف الحزب الفاشي. فبعد ان تربع الدوتشي على أوج القوة والمجد في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي فقد دانت له ايطاليا، بعد ان اخمد أصوات المعارضة التي ارتفعت ضده في أول أعوام حكمه واستطاع ان يحكم البلاد بيد من حديد بحزبه الفاشي، محولا البلاد الى سجن كبير( لاحظ الجرائم التي ارتكبها النظام الفاشي العراقي المتمثلة في شواهد المقابر الجماعية وآثار حرق التجمعات السكانية بالغازات السامة) وحصل في نفس الوقت على تأييد الأغلبية الساحق من الشعب الإيطالي بإنجازاته البارزة في الميدان الداخلي ووسائل دعايته.

 

لم يكن موسوليني يخفي نواياه التوسعية الإمبريالية، كان يحلم علنا بان يسيطر على كل حوض البحر الأبيض المتوسط، ويحوله الى بحيرة إيطالية وان ينشىء إمبراطورية تمتد من الحبشة الى ساحل غينيا الغربي، وكان يدعو الى زيادة النسل ليزيد عدد الإيطاليين فيمكنهم بالتالي استعمار واستيطان هذه الإمبراطورية الشاسعة، وكانت الحبشة أولى ضحاياه، فقد غزاها في أكتوبر 1935، دون إعلان حرب على اعتبار انها اقل من ان تستحق هذا الشرف، وكان لتوه قد انتهى من سحق ثورة عمر المختار في ليبيا بوحشية بالغة. اخذ موسوليني يلوح بقوته الهائلة وقدرته على تعبئة اثني عشر مليونا مسلحين بأحدث الأسلحة، في حين ان الرقم الحقيقي لم يكن يعدو المليونين. اما الطائرات والبوارج والدبابات الثقيلة التي طالما تحدث عنها، فلم يكن لها وجود، فلم تكن قواته تملك سلاحا أثقل من العربات المصفحة التي تزن ثلاثة أطنان. وظل موسوليني يصر على" ان الفاشية لا تؤمن بإمكانية ولا بفائدة السلم الدائم، الفاشية تفهم الحياة كواجب ونضال وقهر". وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 وجد موسوليني نفسه في مأزق حرج فقد كان يأمل ان يكسب بالتهويش ما لا يمكن ان يكسبه بالقتال، ولذلك كان قراره في العاشر من يونيو 1940 بإعلان ايطاليا الحرب قرارا مميتا، وكانت النتيجة ان فقدت ايطاليا عشرات الألوف من الشباب ودمر اقتصادها وسرى الفساد في جسم البنيان الاقتصادي والاجتماعي.

 

يشير الكاتب الراحل البيرتو مورافيا الى ان" الإيطاليين عهدوا بكامل السلطة الى الدوتشي فكانوا يقتصرون على التصفيق له حين يلقي خطبا. كانوا يثقون بموسوليني ونظامه ثقة صبي وارث لا يفقه من الأمور شيئا فيترك لمدير أعماله ان يتكفل بكل شيء، فإذا بالوارث يكتشف ذات صباح، وقد انتابته دهشة سيئة، ان مديره قد دمره تماما.. هذا ما حدث في ايطاليا. وجد الإيطاليون أنفسهم ذات يوم وقد دخلوا الحرب من غير ان يعرفوا ما حدث.."

بدأت حرب الفاشية في الميدان الثقافي وذلك بتأسيس وتكريس الثقافة الفاشية التي اعتمدت على أفضل أساليب التضليل الجماهيري، من قبل كاريزما بنيتو موسوليني الذي حمل على أكتافه إيديولوجية اقل ما يقال عنها انها تبسيطية تحمل مضامين مدمرة ليصل بايطاليا من خلالها الى الحضيض، ومن بعد ان استوطنت في مشروعية القمع في كل المحافل، بدأت الحرب على الثقافة المضادة التي ترفض طروحات" علم الجمال الفاشي " الذي طالب به شاعر الفاشية غابرييلة د نوتسيو وصاحب ذلك حملة مكثفة في ظل الخطاب القومي الزائف الذي أوقع العديد من المثقفين في حبائله لشراء الذمم والمتاجرة بالحقائق ، وإشاعة الزيف وترويجه، كما عمت صورة الخراب الشامل التي تتحدث عن دخان المعارك والقتل والابادة الجماعية ووأد الثقافة التقدمية بشقيها اليساري والكاثوليكي، فانزوت غالبية المثقفين تنشد لقمة العيش والسلامة. لم تتوقف الحملة على الكتاب والفنانين الذي ناهضوا الفاشية منذ أول يوم للصعود، فأعلنوا شعارهم الذي يفيض بالفجاجة وقلة المهارة" جئنا لنبقى"، كما سادت ثقافة العنف المجاني الضاربة إطنابها في أرجاء البلاد بقوة وإلحاح. في عام 1923 أدرك الحزب الفاشي ما يمثله قطاع التربية والتعليم من رافد حيوي تستمد منه الأمة الإيطالية كل قيمها ومبادئها ومثلها العليا، فجاء بيان كتبه وزير التربية جوفاني جنتيله الذي تحول من الاشتراكية الى الفاشية، يطالب فيه تغيير المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، لتعم عمليات تشويه مقصودة لكل الجوانب المعنوية والفكرية الإيطالية،( لاحظ الانهيار والخراب للبنى التحتية في قطاع التربية والتعليم في العراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة) وامتلأت الساحات والشوارع بتماثيل موسوليني وبجداريات كبيرة تخلد أفعاله، كما بدأت حركة تنظيم شاملة للأطفال والفتيان وطلبة المدارس والجامعات على استخدام السلاح وحفظ الأناشيد القومية الفاشية، وبدأت حملة تجريد العشرات من الصحفيين من هوياتهم في النقابات الصحفية، كما أغلقت جميع الصحف والمجلات الأدبية مثل( الحرية الليبرالية( و( المقهى) و( العالم) و( لا تتحرك) و( السلطة الرابع) و( الصخرة) وعشرات غيرها. وسنت قوانين جديدة لمن يريد إصدار صحيفة تشترط الحصول على تزكية من منظمات الحزب الفاشي في المدن الإيطالية. يقول الكاتب" البيرتو مورافيا" كان الفاشيون ينظمون غارات في الأرياف وهم في شاحناتهم، يدخلون المزارع المعروفة بانها اشتراكية، فيقتلون الناس او يعذبونهم" . فبعد ان شتتوا الحزب الشيوعي واغتالوا العديد من قادته، وأزاحوا مؤسساته النقابية وجمعياته التعاونية، بدأوا حربهم الثقافية، في طبخ كل النزعات والاتجاهات والأساليب في الأدب والفن في وعاء الاتجاهات القومية ، الذي تختلط فيه الفنون والآداب والدعاية، باتجاه منغلق ومعاد لأية قومية أخرى، او اتجاه آخر وبهدف معلن هو تحرير الثقافة الإيطالية وتوحيد إشكالها ومقاييسها لتتطابق وتتجانس مع فكر الدوتشي.

 

تميزت النزعة الفاشية الإيطالية كما هي الحال في أجزائها الممسوخة للفاشية العراقية بنزعة الاستعراض، وإظهار رموز القوة والتفوق وتمجيد التقاليد السلفية، وإثارة الحماس والانفعال الموجه الذي يمجد التقاليد المتخلفة وإرادة القائد، فأصبحت التحية الفاشية، ولبس القميص الأسود وإطلاق اسم بنيتو على المواليد، ظاهرة ملموسة في الحياة اليومية للناس، كما هو الحال في فترة حكم البعث العراقي في إطالة الشوارب الذكورية على الطريقة الصدامية، وإطلاق أسماء صدام، عدي، وقصي على الأبناء، وتقليد حركات الجسد والأذرع أثناء السير رمزا مشاد به بالتعامل اليومي، مثلما أصبح ترديد بعض المفردات العامية من مدينة تكريت التي يتفوه بها رئيس النظام الفاشي العراقي السابق تقليدا شائعا، فخلقت عبادة جديدة تتسم بالعادية والضعة لهذه الرموز المنحطة في الحياة اليومية . واستخدم الإعلام الفاشي العراقي مبدأ " العنف الثوري" الذي بنى جوهره على منطق الإرهاب ليجر الى مطحنته مئات الألوف من البشر لإرغام المستمر للجمهور على مشاهدة إخبار الرئيس وتنقلاته ولقاءاته التي تمتد ساعات طويلة خلال النهار من على شاشات التلفزة المحلية. مثلما فعل من قبله موسوليني بتعمده مبدأ التكرار ليحمل الناس على تقبل شعاراته وأفكاره من خلال تسخير البث الإذاعي للمحطات المتعددة التي كانت ملك الدولة . فعم منطق إرهاب الثقافة وثقافة الإرهاب، حيث يتبادل الفنان والرجل الفاشي الأدوار فيصبح المبدع فاشيا والفاشي فنانا ليتبادلوا الأدوار في أساليب القمع والاحتيال والتسلط وابتزاز الآخرين. ومثلما تبعثر عدد كبير من المثقفين الإيطاليين في المنافي وخاصة فرنسا بسبب خوفهم من حملة التصفيات الفاشية ، فان العراقيين الذين اجتمعوا على محبة الوطن وأرادتهم الفاشية العراقية ان يكونوا صوتا بعيدا لتستطيع تثبيت جهلها القائم على فراغ لم يستطع ملؤه الا ضجيجها الإعلامي الذي حاصر الإنسان في حياته اليومية التي اصطبغت بفصول دموية امتدت نحو ثلاثة عقود، فهم غادروا نحو المنافي البعيدة ليصل تعدادهم بالآلاف. ومثلما فعل موسوليني بإجبار الناس على وضع صوره في غرف النوم وان توقد العوائل الشموع بعيد ميلاده وانتزع رجاله الحلي الذهبية من النساء ودبل ( حلقات) الزواج من أصابع المتزوجين في احتفالية لصوصية ، فقد قام صدام حسين بمسخ هذه الفعلة الفاشية الشائنة بابتزاز الناس بطريقة مماثلة تحت ذريعة التبرع لحروبه التي كان يحرس من خلالها بوابات العروبة . ومثلما فعل الفاشيست بتأكيدهم على مقولة العرق الروماني وتفوقه من خلال إقامة التحريض الذي يقوم على كراهية الآخر واحتقاره وتكرارها بابتذال شديد خلال فترة الحرب وبعدها، فان النظام البعثي هو الآخر صنف البشر الى أنواع عرقية متعددة آخذا الجوانب العدوانية المنغلقة في تفوق العرق العربي على العرق المجوسي الفارسي، وهي نفس الجوانب التي ادعى بها موسوليني ومن بعده هتلر والتي تقوم على نقاوة العرق الروماني والآري المتفوق على الأعراق الأخرى التي لا تمتلك من وجهة نظرهم الا الحقد والكراهية والحسد . والحروب التي أشعلها الطاغية موسوليني لم تولد الا الخراب للوطن والإنسان حاول من خلال رجال ثقافته ان يوحي بان الحرب فرضت على ايطاليا بعد ان كان يدعي في البداية يريد إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية ، مثلما ادعى صدام حسين بان حرب الخليج فرضت عليه للدفاع عن الجناح الشرقي للأمة العربية! وظل يستوحي الطقوس الفاشية في التعبئة الناس في أماكن عملها وفي المدارس والجامعات والمعامل، فالحرب لكلا الدكتاتورين كانت مطلوبة لذاتها، يتحتم تمجيدها باعتبارها مدرسة أخلاقية لتجديد قيم الإنسان وبعث الأمة من جديد من خلال التضحية والاستشهاد التي على المثقف ان يبررها ويبشر بها ويوظفها في كل ما يبدعه . مثلما تشكلت لجان في طول البلاد الإيطالية وعرضها من كتاب الدولة وأساتذتها لإصدار قوائم سوداء بالمثقفين المحظورين، وبأسماء الكتب المعادية التي يجب حرقها وإتلافها ومنعها من التداول، ومثلما قامت التجمعات الفاشية من أصحاب القمصان السوداء تقوم بالدخول الى المكتبات العامة لتخرج من رفوفها الكتب المعادية للدوتشي لتقيم كرنفالات الحرق في الساحات العامة، فقد قام مثقفو صدام حسين بحملاتهم التأديبية في تصفية أعداء فكر القائد الذين لم يندرجوا في تنظيمات حزب البعث، .( قتل أكثر من 200 كاتبا وفنانا عراقيا معرضا، بالثاليوم والاسيد والمسدس كاتم الصوت، إضافة الى ستة وزراء ثقافة وإعلام من السلطة نفسها، والرئيس السابق لاتحاد الأدباء العرب،كما تعرض أكثر من 600 شاعر وموسيقي ومسرحي وفنان تشكيلي للتعذيب بالصدمات الكهربائية والخازوق والفلقة. وفيه اغتصب الشاعر بحرفية التعبير لا مجازه. وغاب عن هذا البلد أكثر من 200 من العلماء والأدباء، هربا من قمع يندر ان شهد العالم نظيرا له).

 

وفي يوم 18 نيسان ( ابريل) 1945 ، بينما الحلفاء على وشك دخول بولندا والروس يزحفون نحو برلين، غادر موسوليني مقر اقامته رغم اعتراضات حراسه الألمان، فظهر في 25 ابريل في ميلانو ليطلب من أسقف المدينة ان يكون وسيطا بينه وبين الأنصار للاتفاق على شروط التسليم التي تضمن إنقاذ رقبته، الا ان قيادة الأنصار أصدرت أمرا بإعدامه، وتابع هو رحلته بالسيارة متخفيا ومعه عشيقته كلارا ليخوض ما اسماه بمعركة الشرف الكبرى والأخيرة، وعندما وصل الى مدينة كومو القريبة من الحدود السويسرية تبين بأنه كان واهما وان أنصاره المخلصين لا يزيدون على عدة عشرات من الأشخاص، اخذوا ينفضون من حوله بسرعة عندما شاهدوه( الزعيم) يهذي وبه مس من الجنون، وعندما رفض السويسريون دخوله الى بلادهم، فكر في ان يختبأ في أي مكان، وفي المساء من نفس اليوم وصلت مجموعة عابرة من الجنود الألمان كانت تريد اختراق خطوط الأنصار في طريقها الى النمسا، فتصور موسوليني انه قد جاءه الفرج وتخفى في زي جندي ألماني والتحق بها، وترك الحفنة الأخيرة من رجاله ليحاول كل منهم النجاة بنفسه، ولكن بالقرب من مدينة دونجو الحدودية على رأس البحيرة استوقفت كتيبة من قوات الأنصار الطابور الألماني لتفتيشه قبل السماح له بالمرور واكتشفت أمر موسوليني الذي كان يرجف من الخوف، وألقت القبض عليه، وفي يوم 28 ابريل 1945 تم إعدام موسوليني الذي كان يبلغ 61 عاما من قبل وحدة من رجال المقاومة اليسارية قبل وصول الأمريكيين بساعات قلائل ،لاحظ( هرب صدام حسين وكيف دحس نفسه في حجر الاختباء الذليل خشية مواجهة العدالة). في التجربتين الفاشستيين الإيطالية والعراقية الممسوخة عنها، لم تتوقف حملة القمع الدامي الذي أصبح قدر العراقيين أينما كانوا على الناشطين المعادين ، بل شملت حتى عدد كبير من المثقفين الذين احتموا بصمتهم، لان الفاشية أينما كانت لا تتيح للمثقف أمان الحياد، بل وعلى النيات المحفوظة في الرؤوس، فهي باعتقادهم تحمل أخطار فكرية بعيدة عن مبدأ الإخلاص للقائد لا ترتضي بالصمت الذي تعتبره تورطا غير محايد، فهي كل ما تريده دمج المثقف في الجماعة وتهيج مشاعره القومية لتصطف مع الزعيم او الرئيس.

نشرت في وجهة نظر

تجنح الحداثة الفنية اليوم الى النأي عن الكثير من المفاهيم السابقة بما يمكن أن يعتبر حالة تجريب تصاعدية في البحث عن شجون فنية جوهرها اللذة التفريغية كما هو ديدن البشر، لكنها تأخذ منحى يعتمد مهارة الخيال والعقل أكثر من مهارة الأنامل ومطاوعة الخامات. ويمكن أن يكون ذلك مسعى مستقبلي لتكريس الفكر المجرد الذي سوف يجد له مكانا في ثنايا حياتنا المنظورة. وفي خضم البحث عن العقل وتلاقحه مع الخيال يجرب الفنانون اليوم خامات عدة، يخشى من خلال التمادي بها أن تجنح الى إخراج الفن من الروح الى المادة ، وتحاول أن تجد بينهما صلة وصل متكافأة و كفتين كالميزان.

 

والفنان الدكتور يحيى الشيخ قد حمل هواجس الموهبة الروحية والخيال الجامح والحس المرهف المدرك لجمال الأشياء في مكنونها التي سجى عليها، وكذلك ما أكتسب من علم ومنطق وتقانة خامات وعناصر ومعالجات وخلطات وطرق تصنيعية أكتسبها خلال رحلته الطويلة مع السفر الأكاديمي والتجريب النظري، الذي أكسبه رؤية فلسفية لأسباب الأمور قبل نتائجها ومضمونها قبل شكلها وغاياتها بالإستعانة بوسائلها ومارس روية في تفهم الأمور وتجريبها للوصول الى أكفأ النتائج من ناحية المحتوى والتشكيل والتركيب والرمز واللون والملمس ،كل ذلك يشرأب الى ثراء وعمق روحي مصدره ثراء الجذور التي أنبتت بذرته الأولى.

 

لم يبتعد الفنان الشيخ في معرضه الاخير الذي أقامه في جامعة السلطان قابوس في سلطنة عمان بسبب مذهبه الأكاديمي عما يدور اليوم في فنون الدنيا التي جنحت وبتأثير من خطاب فكري شامل وهواجس للإنسان المعاصر أثرت في كل مناكب الإبداع ومنها الأدب والفن. نحن أمام مشرب يرفض الإنتاج الصناعي ويحن الى نتاج ماتخلقه اليدين،و يكره المواد المصنعة ويميل للمواد الطبيعية غير المعالجة، ويسعى الى تكريس البيئوية حتى في عمله الفني فأنحى نحو المواد البيئية وأنساق الى مبدأ دورة الحياة في الطبيعة التي أفسد الإنسان حلقيتها وكمالها حينما تاق الى الحداثة بعيدا عن إملاءاتها وسطوتها. أنه منحى لرأب الصدع مع المحيط البيئي كي يقبل الإنسان من جديد ويضمه لصدره ويهبه الأمان ويودعه الأسرار الجالبة لصفاء الخاطر والتي دونها وجد الإنسان نفسه أمام مجهول أسرارها يكابد في خضمها الغربة والقلق .

 

ومن جانب أخر يمكن أن نسمي هذا التيار الذي تبناه الشيخ عودة الى الفطرية في الخامات والأشكال والمعالجات. وربما يكون هذا وسيلة غايتها تلمس الآليات التي أنتجت فنونه في رحلة التطور،وهو بحد ذاته غاية فلسفية تسعى الى فهم التراث من خلال البحث عن آليات إنتاجه ونشوئه وتطوره، وليس من خلال نتائجه كأشكال ومسميات تنتقل بين الأنامل مثلما الأصوات ببغاويا. أنه صراع الحداثة والتراث وتقمص لإحدى طروحات النقلة بينهما والواسطة في تواصلهما التي أختلف فيها الفرقاء. وبالرغم من الفهم السطحي للتراث هو الغالب اليوم، لكن ثمة شواذ يشكلون القاعدة التي سوف تأخذ مداها من خلال رجاحتها تصاعديا حينما يتكرس العقل ويدحض النقل.

 

أستخدم الفنان الشيخ في معرضه اللباد أو الصوف المكدس كخامة في أحدث تجربة فنية له هنا، ويمكن أن يكون مبرره هو تلك النزعة الى تلمس المواد البيئية والنأي عن الصناعيات من المواد،ومنها الألوان الصناعية بأنواعها، ناهيك عن كون تلك الخامة لديها تداخل مع الموروث الإنساني عامة والمحلي بالخصوص، فقد كان النسيج الصوفي من أكثر العناصر التي سخرها الإنسان في مقتضيات حياته.

 

ويمكن أن تكون هذه التجربة نتاجا لرحلة الفنان الطويلة مع اللوحة بحواملها وخامات إنتاجها المتعددة التي لم ترسخ في موروثنا الشعبي، فاللوحة والحامل (support) هي نتاج عصر النهضة الأوربية الذي عم الدنيا وأصبح سمة لعصر غطى ثقافات العالم ، ولكن مازالت العقلية الشعبية لدينا متعلقة بموروث البساط والسجادة والمدة التي تزين الحائط أو تفرش على الأرض أو تنتقل بين شوطيهما وضيفيا وحسيا، مما غرس في العقلية المحلية فحواها التكويني وجدواها الجمالي المتداخل مع مداها الوظيفي.

 

وهكذا أراد الفنان الشيخ أن يجد للحداثة الجانحة نحو البيئوية طريقا الى فنوننا مستندا على موروث أنقطعت الصلات به لجيل أو جيلين على الأقل، كان يوما متجانسا ومسترسلا مع السجايا النفسية الموروثة والتي لم تختف بالرغم من حلول عنصر اللوحة شكليا في حياتنا. أما أشكاله وألوانه التي نرصدها على لوحاته فهي مختلفة كل الإختلاف عن الأشكال المتراكبة والمتناظرة المتجانسة أو المزدحمة أحيانا أو حتى البهرج اللوني الأتي من سجايا التراث وذوقه واعرافه، الى خطوط وكتل لونية مجردة لا تحمل إلا حسا وثراء من الخيال الجامح الحداثي النائي عن التجسيد والأشكال التراثية.

 

لقد جسد تراكباته اللونية وخطوطه فوق صفحة اللباد المعلق على بعدين وحاول أن يجد له حلولا لتشكيلات ثلاثية الأبعاد من خلال لصق عناصر حجمية وجيوب نائة يمكن أن تجسد تلك المحاولة. كل ذلك لايخلو من حس عميق ينم عن تجربة طويلة مع اللون والخطوط التي مارسها الفنان الشيخ خلال رحلته الطويلة مع الإنتاج الفني.

 

واللباد المستخدم في هذه التجربة التي تحاكي صناعة الطرابيش التراثية، هو خامة الصوف المنفوش و المصنع عن طريق دعكه وتسخيره من خلال معالجته بالماء والصابون ثم ضغطه في حصيرة من القصب أو الخوص،بما يجعله يأخذ هيئة مسطحة ومتماسكة قابلة للفرش . ويمكن اعتبار ذلك الفراش أو النسيج "حاملا" يكتنف تباعا تدخلات الفنان التشكيلية من خلال اللصق أو الفرش بالضغط أو الخياطة أو التعليق.

 

وفي زاوية أخرى من معرض الفنان الشيخ نجد تجربتين سابقتين له أولهما وأقدمهما تعامله مع الزنك بأشكاله التفصيلية وشخوصه المجردة المنمنمة، بينما نلمس في مرحلة لاحقة وفي تجربة" لصقية" أو ماندعوه (الكولاج) تبدوا أحدث عهدا بما أتسمت به من تجريد بعيد عن التفاصيل التي لمسناها في (الكرافك) السابق. حيث وهب نوع من الورق الرقيق الفنان الحرية في تقطيعه ولصقه وتركيب أجزائه وتشكيل شخوصه المجردة بما يوحي بهواجس من التجريد الروحي الذي اراد أن يختزل حالة تيه لشخوص مقطعة الأوصال،منخورة ، ومنهكة القوى،و تائهة الإتجاهات ،وفي حالة من حركة لاتريد الثبات .

 

وهكذا نلمس في هذا المعرض ثلاث مراحل تطورية في العمق الفني العاكس للسجايا، تشرح للرائي التطور الفكري والحسي والذوقي والتجريبي للفنان، بما يوحي بقراءة لهواجس إنسان يبحث عن سكون ويمتعض من غربة الروح التي هدها الترحال الطويل والقلق. 

نشرت في فنون

المشاهد لبينالي الفنون التشكيلية الدولي الـ 52 الذي يقام فى مدينة فينسيا(البندقية) والذي افتتح رسميا يوم 10 جون/ حزيران وحتى21 نوفمبر/ تشرين ثاني من هذا العام، وشارك به اكثر من 500 فنانا من القارات الخمس في 76 جناحا دوليا، وكلف الدولة الايطالية نحو ثلاثين مليون دولار، سيدرك على الفور بأن الفنان الأوربي يحمل مشاعر عظيمة ازاء ما يجري في العالم، فهو منشغل بالوقائع التي تطحن العالم، لتهبه الافكار ومادة الخيال الفني. يحتضنها العمل الفني او يجسدها لينطلق بحرية اكبر في توضيح العديد من المفاهيم المتعلقة بالشيء، والاداة، والمادة والشكل. الفنان الغربي على وجه الخصوص وهو يتناول هذه المفاهيم، فهو يرمي الى تقديم رؤيته الى كيفية حضور الاشياء في عمله الفني،

 

وثانيا الى تحديد مفهومه لشيئية الاشياء، وهو يختار الاداة، ليس لتتطابق مع الواقع ويكون لها حضور حقيقي، بل ان الفنان يصنع من خلالها حقائقه هو بكون الفن يبتكر حقيقة الشيء.

التكنولوجيا مقابل التقليدية

ومع ان بعض الفنانين المعاصرين التقليديين مصابين بحركة جزر وانكفاء ازاء الكشف عن جوهر الاشياء نتيجة ما اصابهم من عجز لتجاوز ازماتهم الوجودية المعاصرة والمتمثلة بهيمنة التكنولوجيا وقيم العولمة الجديدة وطغيانها على القيم الجمالية التي اعتادوا ممارستها، كما ان بعض من هؤلاء يعايش تجربات مستقرة نسبيا جعلت قسما منهم عديمي الاهتمام بما يدور حولهم في العالم الخارجي، وكأن هذا العالم معطى شبه مطلق، عديم القدرة على الاستثارة، ممتنع من التفاعل والمشاركة، فقد اصبحت المناخات المفتوحة ومعها المدارك الحسية والبصرية والفكرية، جنبا الى جنب تطور الفكر البشري وتطور آليات تفكيره، حيث تغيرت اشكال تعبيره، ومن ثم تغيرت ادراكاته للاشياء ورؤيته للحياة والعالم، فان هذا الفنان الذي يجد تراكما ثقافيا هائلا متعدد المصادر، نتيجة ما يشهده زمننا الراهن من اشكال جديدة في التمظهر، بسبب تطور الثقافة التكنولوجية، التي سرعت ايقاع الحياة الفردية والجماعية، كما سمحت بوسائطها الالكترونية والرقمية بجعل الكل منفتحا على بعضه، فقد ساهم الى حد كبير في تحرير الابداعية الفردية لتجد فضاءات جديدة خصبة لاستثمار قدراتها والتعبير عن رغباتها. واصبح الفنان معذبا بالمعرفة اكثر من حرفيات العمل الفني التقليدية، حتى اصبحنا كمتلقين نرى هذا التحول السريع المتواتر يولد اشكاله التعبيرية الجديدة التي تعبر عن حالة وعي جديد ومختلف. ان الفنان يحاول الاتجاه نحو الداخل، نحو التجربات التي اوجدها الفن الفقير والمفاهيمية بكل اساليبها منذ عقد من السنين، يبحث عن ضالته في غنى الذاكرة وعوالم الخيال، الا انه ايضا لايحتمل اية اعاقة في عملية الاسراع في الانخراط الفعال والمنتج في الزمن التكنولوجي. لقد انتعشت القدرة على الادهاش والاستفزاز في السنوات الاخيرة، واصبح هذا الاستفزاز لمشاعر المتلقي مفتتحا جديدا فتح معه افاق مغايرة لما اعتدنا عليه من قبل تمثل باحتمالات التغيير الجذري، ليتحول شيئا فشيئا الى مجرد ابتكارات تعتمد جسد الانسان وحركته وعلاقاته، وفوق كل هذا فهو يعكس الرعب الذي يعانيه هذا الانسان نتيجة الكوارث والحروب وصدمة التكنولوجيا وثقافتها وشبكاتها العنكبوتية. انه المحور الذي تدور وتتحرك عليه الاعمال الفنية المفاهيمية الجديدة لتسمح بكل ما هو مبدع ومختلف وغير مألوف.

موضوع هذا المعرض العالمي الذي يشكل مرجعية ومركزا عالميا للاشاع الفني الاكثر تجديدا في العالم التشكيلي، والذي اختاره مديره العام الناقد الاميركي روبيرت ستور (فكر بمشاعرك.. واشعر بعقلك/ الفن والحاضر) يمثل في أحد جوانبه إعادة البحث في كل هدف جدي للنشاط الفني، والتوجه نحو الإنسان ومحاولة التعرف الى دواخله من خلال الصلات المباشرة التي تعكسها الفنون التشكيلية عن أزمنة الحروب التي تقضي أول ما تقضي على إنجازات الإنسان أينما كان. كما انه يقع تحت واجهة الأحداث الساخنة التي تعصف بالعالم، الا ان أعمال الرسم على قلتها التابعة لاجنحة الدول الغربية، تكاد تخلو من مضامين الهدف المعلن للبيناله، اذ ان جماح المخيلة التشكيلية الإنسانية في سعيها لتوليد الصورة لمشهديات العصر وآلآمه وقهره، غابت عن اغلب المشاركات الدولية التي كان من المفترض استيعابها للحقيقة التدميرية للحروب والصراعات التي تسلط قهريتها على الإنسان، فانخرطت اغلب المشاركات في تداعيات وإرهاصات ذاتية تمحورت حول الكشف عن آخر الصرعات المراوحة على السطوح التكنيكية وتقنياته المتجددة، وهي تعكس تحرر الفنان تماما إزاء الموضوع، إذ تعبّر اغلب اللوحات عن تبدل كبير فى رؤية الفنان الذي بات يتعامل مع الشعور والحس الإنساني بعيدا عن واقع ظروفه التاريخية والاجتماعية. لقد ألغى صلته بهذا الواقع، وارتبط مباشرة بالمادة ليحولها الى نتاج فني بطرق مختبريه. أصبحت هذه الطرق هي الأساس لعملية الخلق الفني، فالطابع الارتجالي فى الفن جعل الفنان الغربي يدور في مواقع الرفض القاطع للمقولة التي تدعي ان الفن انعكاسا لواقع ما. انه يقف بحزم ضد الموروث الفني، وضد الإيقاعات الثابتة العناصر لعملية إعادة الخلق. انه يدور وخاصة خلال السنوات الأخيرة بداخل دوائر الاختبارية والتي يلعب بها عامل المصادفة حيزا كبيرا.

عزلة العديد من الفنانين المساهمين عن الأحداث الإنسانية المتعاقبة التي تتولد في تجربة الحياة الواقعية، أخضعتهم لعمليات العرض والطلب فى السوق التجارية. واصبح العمل الفني يعاد إنتاجه على درجات ومستويات متعددة، وهذه المسألة لا تخص المتلقي فقط، بل تخضع لاعتبارات في العمل الفني نفسه. ولهذا فان اصحاب النزعات المفاهيمية انحسرت مبيعاتهم، في الوقت الذي زادت انفتاحات السوق التجارية للوحة الفنية، وبدأت الكلريات تفتح ابوابها من جديد في عدد كبير من المدن الغربية لتعيد مجد الثمانينيات من القرن الماضي في عمليات البيع والشراء.

تتميز أعمال الرسم الغربي بتقنية عالية. وعدد غير قليل من الرسامين عادوا الى التشخيصية، الا ان (تشخيصيتهم) تعود بذاكرة المرء الى نتاجات معارض الهواء الطلق المنتشرة في ساحات المدن الأوربية التى يقيمها العديد من الفنانين التجاريين لاجل البيع السهل. الأمر الذي يطرح سؤالا مهما هو ماذا يحدث عندما لايجد الفنان شيئا يرسمه؟ والإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، لانه عندما لا تظهر أية فكرة جديدة فالرسام يظل يراوح فى مواقعه، وهذا هو الحاصل. 

ما علق على حيطان الصالات قليل، وما ركب على الارض هو الغالب، جنبا الى جنب غزو اعمال الفيديو التي حملتها شاشات العرض الصغيرة والكبيرة في كل مكان، بعضه ثقيل مثل الرصاص، وباردا مثل الثلج، والغالب هو الاستفزازي الموغل بالسادية والتمزقات والقيء والنزف والدماء، وكأن ما معروض يخرج لايذاء المشاهد ورعبه ويستفزاز قلقه ليخلق ذائقة جمالية مختلفة عما اعتدنا عليه من معايير في رؤية العمل الفني. ولما كانت الأعمال على هذا الأساس هي (بدائل) وخبرة اكثر ارباكا وتكثيفا في رؤية قهر الانسان من الخبرات الأخرى ويمكن لها ان تكون معبرا جديدا لمعايير جمالية جديدة لم تتعود عليها بعد ذائقتنا الجمالية بعد، فهي إنها للأسف لا تعدو ان تكون أساليب متأنقة لتشوهات تعبيرية لحالات الجسد الانساني وما يصاحبه من خط ولون وحركة مبالغ بها عن عمد، لا يخلق الا انفعالات وتوترات نفسية حادة، الأمر الذي جعل بينالي هذا العام تكرارا لتجربات بينالي الدورتين السابقين، مثله مثل الشجرة التي حرمت من النسخ. 

عودة للتصوير التقليدي

بينالي الفنون العالمي يمثل بحق عودة كاسحة للاستعاضة عن اللوحة المسطحة بكل ما هو متاح ومتوفر فى الواقع من وسائل للتصوير التقليدي. مادام أي إنتاج يحمل التساؤل حول إنتاج المدلول والقيمة، وحول الشيء الذي يجعل من الموضوع أو الممارسة عملا فنيا لا يخضع لقوانين او أنظمة اختبار. لقد دخل نطاق الدينامية التشكيلية من خلال دفع المشاهد للمشاركة حسيا وفنيا. وتمتد هذه الاتجاهات التي أصبحت سائدة الآن لتعود الى النشاطات الفنية الأولى التى ظهرت فى بدايات القرن العشرين. فمع الانتشار التاريخي للنزعة الحديثة، بدأ الفنانون يتجاوزون الأطر التقليدية المقيدة للممارسة الفنية. وحينما شرع كل من المستقبلي (مارينيتي) والفنان (دوشامب) والفنان(مانزوني) الى جانب الائتلافات العديدة للاتجاهات الطليعية بتهشيم العرضية التقليدية للمدلول، تخلى معظم الفنانين عن وسائل البحث المورفولوجي، مثل إعطاء شكل مغاير للوحة او التمثال واخذوا يتساءلون حول إنتاج المدلول والقيمة، وحول الشيء الذي يجعل من الموضوع او الممارسة عملا فنيا.

تعين على كبار فناني الستينيات والسبعينيات، الإذعان لثقافة تكاد تكون بكاملها مؤسساتية، والاستعاضة عنها بعلاقة تهكمية وتأملية إزاء العمل الفني. ورافق هذه التحولات فى الموقف، الإدراك بان العمل الفني مهما يكن مجددا، فانه يبقى أسيراً لحدود فن ليس هو الا شكلا من أشكال (الثقافة العمياء التي تشيعها متغيرات التكنولوجيا الحديثة وما تحمله من قوى هدم لكل الموروث الفني الانساني).

تفكيك الاساليب

ومع بروز تيارات المستقبلية الفنية المجددة، مثل الدادائية والسريالية والبوب أرت..الخ فان فاعلية العمل الفني الجديد تعزى الى وسائل الاستلام والتوزيع التي يقوم بها جهاز فني تجاري متطور. في مطلع السبعينيات برز هذا الجهاز الفني وصلب عوده بفضل التيارات التجريبية بفروعها المختلفة. لقد أراد هذا الفن ولا يزال ان يلفت الانتباه نحو عالمنا اليوم وما يشهده من تفكك واسع النطاق فى البني الأيديولوجية والمؤسسات التقليدية والفنون البصرية على اعتبار ان الممارسة (المفاهيمية) انتقادية تنازعيه حيوية فى تعاملها مع المؤسسات الجمالية للإنتاج الفني. وان عطاء هذه الممارسة إنما هو اكبر من مجرد تداول لحاجات جمالية فنية.

التيارات الجديدة التي صنفت على أنها(فن مفاهيمي) وتضم فن الأرض والفن الفقير، والاختزالي، والى حد ما الفن الشعبي،.. تضاف أليها أعمال كل من جاسبجونس، ايف كلين، بيرو مانزوني، روبرت راوشنبرغ فهي تجارب التقاليد. تحاول التحرر من القيود الاجتماعية والثقافية، وتسعى من منطلقات فكرية خاصة للتخلص لامن الفن بحد ذاته، بل من أشكاله وطرق استهلاكه، ذلك لان الواقع يصبح بالنسبة للفنان المفاهيمي، هو المجال الأساسي لاي مقابلة جمالية، بعد ان اختصرت المسافة لاقصى درجة بين الفن والحياة. وتحرر الفنان من كل الوسائل وتوجه مباشرة لاكتشاف نفسه والعالم.

يمكن القول ان استمرار بعض بقايا النزعة الحديثة غير المنسجمة مع الفن المفاهيمي، كان عامل يحمل الكثير من الفشل، فرغم انتقادات الفن المفاهيمي للشكلية ولمثالية النزعة الحديثة، الا انه لم يجد حلا لمسألة كيفية اكتساب الفن للمدلول، وان مقاربة الفنانين المفاهيمين من بناء المدلول هو نموذج لخلاصة مواقعهم إزاء الفلسفة التحليلية وبشكل خاص أزاء فلسفة(ويتيغستن) التي تعتبر اللغة وبالتالي الفن، هما نسقان مستقلان. فقرار العديد من الفنانين المفاهيميين الذين اكتسبوا الشهرة في السنوات الأخيرة باستخدامهم المواد المكلفة عوضا عن الموجودات اليومية، هو محاولة لابراز واقع ان التمثيل ناتج عن القناعات السائدة. كما يثبت ذلك قول ويتيغستن (المعنى هو الممارسة).

ازمة اللوحة.. ازمة القصيدة

بينالي العام الحالي اتسعت فيه المشاركة العالمية، وقدم صورة واضحة عن أزمة اللوحة الفنية التي وصفها أحد النقاد بأنها(تحتضر بعد ان دفنت أختها القصيدة الشعرية) فهي أزمة لايمكن القول عنها الا إنها ظاهرة تشي بالاندحار، وان روح الفنان الغربي تكاد تكون قد توقفت عن مناهل الإبداع التقليدي التي اعتدنا عليها زمنا طويلا، أو انها فقدت سحرها الاول، لتحل مرحلة جديدة، هي مرحلة نضج من نوع اخر متمثلة بالعلم والتكنولوجيا. وان هذا الفنان بات يفتقر الى ملاحم الفن التقليدي الذي عايشناه ودرسناه واحببناه آلتي لم تجد لها أثرا فى مثل هذه التظاهرات العالمية.

لاول مرة يمنح البيناله جائزته الاولى وهي اسد فينسيا الذهبي، الى فنان افريقي هو الفوتوغرافي المبدع مالك سيبيدا. كما شارك عدد كبير من فناني العالم من المخضرمين في هذا المعرض العالمي الا ان المشاركة الاكبر كانت للجناح الامريكي، الذي استحوذ فنانوه على ربع المشاركة العالمية. وجنبا الى جنب العدد الكبير من الفنانين الشباب كان هناك حضور متميز لعدد من المعاصرين العالميين مثل: جوفاني انسيلمو، لويس بورخوس، ليون فيراري، ايلزوت كيللي، نانسي سبيرو، روبرت رايمان، جيرارد ريختير، اضافة الى آباء الفن المعاصر الذين غادروا ساحة الفن والحياة خلال السنوات الاخيرة امثال: فيلكس غونزالس، مارتن كيبنبرجر، جاسون رودايس، فريد ساندبان، فيليب توماس وسول لويت الذي توفي قبل ثلاثة اشهر. البينالي وجه الدعوة الى سبعة اسماء فنية ايطالية هم: انجلو فيلومينو، لوكا بوفيلي، جماعة" بدائل الفيديو"، باولو كانيفاري، اسيلمو، تيتيانا تروفوا، والفوتوغرافي البارع غابريله بازيليكو. وشارك في البادليون غير الرسمي عدد من الفنانين الايطاليين الذين وصل عددهم نحو خمسين اسما.

نشرت في فنون

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014