سيرتي الذاتية - الجزء الاول

المشاهدات: 7330
تقييم المستخدم: / 5
ضعيفممتاز 

قراءة

كُتب بواسطة سحر ميزر

معلم عاصر الحرب العالمية الاولى 1914
والحرب العالمية الثانية 1939
وشهد ثورة عام 1958
بأم عينيه في بغداد وشهد
تشكيل الجمهورية العراقية والاحداث
اللاحقة بها ودون مذكراته حتى عام
1981

الفصل الاول 1


يذكرون بأني ولدت في السنة التي شبت الحرب فيها بين عشائر بني لام وعشائر البو محمد. وكان اذ ذاك رئيس عشائر بني لام غضبان البنية، وتسكن بين الكحلاء والعمارة. في تلك الحرب ولدت. ولما كان غضبان هو الغالب، فقد سماني والدي المرحوم رومي بن عكلة ابن عران بن خيري بن ناشي بن عبد الله ابن الشيخ بهرام الكبير. وبعد التدقيق ثبت لي ان تلك الحرب وقعت عام 1905 على هذا يقدر ان ولادتي كانت في تلك السنة. سكن الصابئة قلعة صالح التي اسست عام 1865 وفي العمارة التي اسست 1860 . كانت الاحوال مضطربة والحكم بيد الشيوخ، قبل ان تكون بيد الحكومة العثمانية.
كبرت في قلعة صالح وترعرت في طفولتي هناك. واول شيء اذكره وهو راسخ في ذهني هو زواج اختي الكبرى المرحومة نوفة على المرحوم شيخ عبد الله الشيخ سام. وقد كانوا يسكنون في بيوت طينية واقعة في مقدمة البساتين. كانت الحالة الاجتماعية للناس متأخرة جدا والمعيشة بسيطة. وكانت النقود المستعملة هي نقود ايرانية اسمها القران ويساوي عشرون فلسا، والربع والبارة أي الفلس والربع خمس بارات، وكانت هناك عملة اخرى تركية تسمى المجيدي وقيمتها عشر قرانات. سكن الصابئة قلعة صالح وقد اعطت الحكومة العثمانية ارض محلة الصابئة المالية الى عائلة كرسوع، وهو من الخميسية. وبدأ كرسوع بتوزيع اراضي المحلة على ابناء الصابئة، وكرسوع جد والدي لأنه ابو امه المسماة صينية. كان يسكن قلعة صالح كثير من الاسلام الذين هاجروا اليها ايضا وكذلك عدد من يهود العزير. وسكان قلعة صالح محاطون بعشائر البو محمد وبني مالك، وهؤلاء الاقوام لايعرفون من الحياة الا الزراعة والسطو والنهب ليلا. وكثيرا ما يقتل الناس في الشوارع بدون حساب او مسؤولية. القائمقامية والحكومة التركية بواسطة الجندرمة لاتهتم بما يقع في البلدة. كانت معيشة الحكام على الرشوة.


سكن اهلنا في محلة خاصة سميت محلة الصابئة. على الضفة اليسرى من نهر دجلة في قلعة صالح. والنهر هناك كثير التعاريج. وكان افراد طائفة الصابئة يحيون حياة بسيطة ملتصقين بعضهم مع بعض خوفا من هجمات او دفعا لهجمات العشائر المحيطة بنا من كل جانب، كنا نعيش اول الامر في بيوت قصبية داخل حيطان من طين، وهذه البيوت مبنية من قصب الاهوار وحصران ( البواري) مصنوعة من القصب ايضا يغطى بها البيت من اعلاه، وشكل الاكواخ شبيه بما هو موجود في الاهوار حاليا. وبيت القصب من خمسة شباب او اكثر تقوس من الاعلى ثم يوضع عليها عرضيا بين الشباب حزم من القصب تسمى هطر ثم تربط الهطر مع بعضها ومع الشباب. والهطر حزمة من القصب على طول البيت تربط على الشباب ثم يوضع فوقها بردي على طول البيت بشكل عمودي وتشد وتوضع فوقها البواري. في بيت والدي كان هناك بيت قصب كبير يستعمل للنوم، والثاني يسمى المضيف لأستقبال الضيوف، اما الحيوانات فتحفظ في الطين، ولكن بعيدا عن بيوت القصب ويعمل من سرجين البقر ( المطال) وهي مدورة الشكل تجفف وتخزن في غرفة (المطال) وتستعمل ايضا للوقود مع سعف النخيل، وكرب النخيل والشوك والتي تلتقطها النساء من البرية. ولم يكن هناك وسائل للتدفئة اوللطببخ من وقود آخر غير ما ذكر. ويستعمل هذا الوقود اما في التنور لعمل الخبز او في المواقد لطبخ الطعام.
يعمل التنور من الطين المخدوم كثيرا، وهو على شكل مدور ذو فوهة ضيقة يوضع على احجار ثم يغطى بطيقة طينية، وتبنى على جهتي اليمين والشمال منه وسائد طينية عالية ليوضع عليها العجين او الخبز. والنساء يقمن بعمل التنور بأنفسهن او ايضا يعملن (السدامجة) وهي اصغر من التنور حجما ولها غطاء وفيها ثقب صغير يستعمل لحفظ التمن او الطحين او الملح. والميدة هي التي توضع فيها الرحة، وتستعمل لجمع الطحين بعد طحنه في الرحة.
قلعة صالح
كما اتذكرها من طفولتي تقع على الجهة اليسرى من نهر دجلة وتمتد من الغرب الى الشرق الجنوبي على ساحل دجلة، ويبلغ طولها حوالي الكيلو متر. وكانت تتكون من مجموعة من البيوت الطينية والقصبية كما وصفناها. والبيوت مبنية مباشرة على ضفاف النهر، وخلفها البساتين، ومن الجانب الثاني لنهر دجلة أي الجهة اليمنى لاتوجد بيوت وانما بساتين نخل فقط، وهي تعود الى العشائر المذكورة سابقا. ولم يكن هناك جسر يربط الضفتين، وانما العبور بلبلام ويطلق على منطقة العبور المعيبر. وكان هناك اثنان واحدة في الجهة الشرقية والثانية في الغربية. والمعيبر عبارة عن بلم كبير يسع اكثر من خمسة عشر شخصا تعبر ايضا الناس والحيوانات. وكان يؤخذ على كل شخص يعبر بالبلم مبلغ ربع اوخمس بارات. ثم زادت الى نصف قران أي عشرة بارات. وفي الحرب العالمية الاولى وضعت طبقة مقابلة الى مركز البلدية، وهي عبارة عن دوبتين مربوطتين مع بعضهما ومسمر عليهما خشب مثبت على الجهتين وتشابه الجسر المتحرك. وكان العبور ملتزم من قبل اشخاص يلتزمونه من البلدية. وفي وقت الاحتلال البريطاني تبدلت العملة وصارت الروبية. فكانت العبرة بعشرة فلوس. واستمرت الحالة الى اواخر الستينات حيث بني جسر ثابت في موضع الطبكة.
مركز مدينة القلعة كان يتكون على ما اذكر من بناية مبنية من الطابوق وهي مركز الشرطة وبيت القائم مقام والمدرسة الابتدائية التركية ودائرة البرق والبريد ومركز القائمقامية نفسها وجامع السنة وجامع الشيعة وجميعها كانت مبنية من الطابوق. اما مندي المندائية فكان مبني من القصب.
ويقع السوق في مركز المدينة ويمتد من الشمال الى الجنوب متقاطعا مع البنايات الحكومية والمدرسة وجامع السنة ومنارته في الجهة الجنوبية وبعده جامع الشيعة. والسوق بحد ذاته يشبه اسواق العراق الاخرى في كونه متكون من دكانين صغيرة متلاصقة لبعضها البعض مربوطة من الاعلى بسقف جمالي يمنع المطر وكذلك يقي الناس من شدة الحر. معظم الدكاكين في وسط السوق للبزازين وتجارها من الاسلام واليهود والصابئة كما تباع فيه الخضرة والبهارات والسكاير والسكر والشاي وفي المقدمة مقابل جامع السنة دكاكين للصياغ منهم دكان رمان بن دوار الصابئي كذلك لامي بن عبود الدهيمس وغيرهما وفي الجنوب عدة دكاكين للصياغ وفي الوسط اهل الزجاج والفوانيس ويقع مقهى الاسلام في المقدمة القريبة من النهر ويقابله مقهى اليهود، وفي آخر السوق ايضا مقهى للشيعة وهذا يعكس الانقسام الاجتماعي بين الطوائف الدينية المختلفة حيث كان الاختلاط محدودا فقط على الدوائر الحكومية والمعاملات العامة، وكان الاختلاط الاجتماعي معدوم تقريبا. فأذا جلس صابئي في المقهى فأن صاحب المقهى يكسر الاستكان او يطهره بالماء لأنه يعتبر نجس. كذلك يحرم على الطوائف الآخرى مد ايديهم الى اكل الطوائف الاخرى عدا الذي يغسل. لم يكن هناك اسالة ماء، فالناس تأخذ الماء مباشرة من نهر دجلة، ينقل بالقرب ثم بالتنكات عموما بواسطة شخص يسمى السقاء. اما الصابئة فكانت نساءهم تنقل الماء بالقدور او التنكات والمصاخن او السطول الى اوعية تسمى" الحب" او التنك او الاباريق او القدور، والتنك والحب مصنوعة من الفخار تسمح لتسرب الماء مما يساعد على تبردته وكذلك يتجمع الطين الغرين في قعر الحب والذي شكله في البداية كان مدور، ويصنع باليد من الغرين ويسمى "كوز" ثم بدأ يأتي من المدن ويسمى "الحب" وتحته " الحبانة" ومع الحب ماعون صغير يغرف به الماء من الحب ليشرب. اما الماء المستعمل للطبخ والخبز فيصفى بالقدور الكبيرة ويؤخذ للاستعمال ولم يكن في كل بيت مطبخ خاص ولا حتى تواليت. فالطبخ يتم في نفس الغرف او البيوت او خارجها في ساحة الدار. اما في ضوء الليل فكنا نستعمل الفوانيس او البطل. طبعا قنينة اوبطل من الزجاج يملأ بالنفط وتوضع في داخله فتيلة اما من البردي او من القطن وعلى الاغلب كان يستعمل لب البردي، وفي اعالي البطل توضع قطعة تمر او عجينة وتخرج من وسطها الفتيلة وتشتعل، واذا تعذر وجود البطل فتستعمل قوطية من التنك (tin) وتملأ بالنفط وتوضع لها فتيلة مثل البطل. ومن ثمة استعملت الفوانيس والفتائل القطنية وتركب على شيشة، وبالطبع يكون ضؤها اكثر شدة وقوة ولمعان. وكثير ما كانت تحدث بعض الحرائق من جراء البطل خاصة اذا كان البيت من قصب لأنه اذا حدث وانقلب البطل او دهسته قطة او كلب فأنه يشعل بيت القصب.


وفي الحرب العالمية الاولى أي بعد عام 1914 بدأت تنتشر الفوانيس النفطية بكثرة، وفي الثلاثينات اضيئت قصبة قلعة صالح بالكهرباء، وعم استعمالها بين الناس.
لقد تقدمت حالة السكن بعد الحرب العالمية الاولى وقل استعمال البيوت القصبية، وبدأت الناس تسكن الغرف الطينية او البيوت المبنية من الطابوق. واول بيت بني من الطابوق في محلة الصابئة هو بيت" الشيخ سام" وهو بيت الرؤساء الروحانيين لطائفة الصابئة.
اما بيوت سكان العشائر خارج القصبة فهي من القصب، وبقيت على حالها السابق ولم تزل حتى وانا اكتب هذه المذكرات عام 1981 مبنية من القصب.
ومع وجود الكهرباء اوجد مشروع المياه. والشيء المؤسف جدا ان معظم بيوت الصابئة كانت خالية من المرافق الصحية والمراحيض. فكان الرجال والنساء يخرجون اما الى البساتين لقضاء حاجتهم او انهم يقضونها على ساحل النهر عدا بعض العوائل المسلمة واليهودية والتي تسكن في قلب المدينة فقط كانت بيوتهم مجهزة بالمرافق الصحية.
لم تكن وسائل الصحة موجودة قبل الحرب العالمية الاولى واتذكر انه في الزمن العثماني ارسل الينا رجل صحي اسمه "ما مندي" وهو يوناني الاصل وليس طبيبا بل شبه صيدلي او موظف صحي. وقد وضع ادوية على ما اتذكر على رفوف داخل غرفة طينية. وكان يعطي الناس منها بعض الادوية خاصة للحمى او الاسهال، وكانت حمى الملاريا تنتشر بين الناس وكنا نسميها" الرجافة" اذ يصاب المريض بأرتجاف شديد يعقبه حرارة وعرق ثم تنقطع لتعود في اليوم الثاني. ولم نكن نعرف الا ان تكتب لها بعض التمائم ونعلقها في رقابنا.

الملاريا في المدرسة ، وامراض الاهوار


آه من الملاريا. ذلك المرض اللعين الذي كان منتشرا بيننا، يفتك بالصغار والكبار على السواء فلم يسلم منه بيت ولم تسلم منه نفس. انه المرض اللعين الذي كان يصيبنا جميعا، ترتجف منه اجسامناوتضعف منه حياتنا. لقد كنا في الصفوف الابتدائية حين نرتجف نترك الدرس لنعود الى بيوتنا لنقضي فيها ساعة الرجافة وفترة الحمى.وحين اصبت بها ضعفت مقاومتي وقل انتباهي، وميلي الى التعلم واصفر لوني، لست وحدي وانما كلنا في المدرسة كل في دوره وكل في ساعته المحددة لدوره.
لم يقف مدير مدرستنا المصري الجنسية والمدعو قسطنطين البيلاوي، مكتوف اليدين فهو وطبيب قلعة صالح الهندي الجنسية كانوا يجمعوننا وقت الصباح ويطلبون وقوفنا ليسقونا مادة وردية اللون مرة كالحنظل تسمى القنقينة او "الكينينة" وذلك بعد ان استفحل لدينا مرض تورم الطحال. كان يعطي لكل واحد منا ملأ استكان صباحا ومثله عصرا، ومعظمنا يتقيأ من شدة مرارته، استمرت هذه الحال معنا طيلة الصيف، وحينئذ بدأت الحمى تفارقنا وبدأنا نشعر بتحسن صحتنا وتقدم احوالنا، ولم يكن الحال منطبقا علينا نحن الصغار طلاب المدرسة، انما كان الحال مع اهلنا في بيوتنا ومع اخوتنا وآبائنا فكانت بيوتنا واهلنا مراكز لأنتشار هذا الوباء.
لم تكن الاهوار قريبة من قلعة صالح، ومع هذا فمرض البول الدموي (البلهارزيا) كان كثير الانتشار، والناس لا تهتم به كما تهتم بغيره من الامراض المتوطنة. وينتشر بين العشائر مرض البشل. والبشل نوع من الامراض الجنسية كالزهري الا انه ثبت اخيرا وبالتحاليل المختبرية اقل خطرا. اما الجدري فكان يصيب الناس الا اننا ونحن اطفال كنا نذهب الى احدى عجائزنا فتدق لنا بالابرة الجدري والعملية في ذلك ان العجوز المذكورة تأخذ بعض قشور دمامل الجدري وتضع فوقها قليل من الماء وقليلا من الملح وتغليهم على النار، ثم تأخذ من المادة المغلية قليلا وتضعه بين اصابع اليد اليسرى من الطفل بين السبابة والابهام وتدقه بالابرة فيختلط الدواء بالدم وبعد يوم او ثلاثة تخرج من جسم الانسان بعض دمامل الجدري وهي قليلة جدا وكثيرا تكون الدمامل حول المحل المضروب بالابرة.
اما دواء البشل المستعمل فهو عمل حبوب من مادة الزئبق معجونة مع مواد اخرى ومحضرة جيدا. يبدأ المريض بتناولها مدة اربعين يوما مع امتناع عن الطعام على مختلف اشكاله عدا الخبز غير المملح، وكثير ما يشفى الانسان بعد الفترة المحددة وهي اربعين يوما.
وكان الجرب من الامراض المنتشرة ايضا. والجرب هو دمامل قيحية تبدأ بحكة شديدة ثم ظهور تلك الدمامل بين اصابع اليدين ثم تنتشر بالجسم والمؤلم فيها شدة الحكة وكنا نستعمل الكبريت المطحون والممزوج بالزبدة ثم يشفى منه الانسان.


والسلابيح من الامراض المنتشرة بين الاطفال فتشاهد الطفل المصاب بها وقد كبر كرشه واصفر لونه وضعفت قوته. واكبر علامة لها هو خروج بعضها مع البراز. وكنا نشرب له دواء يسمى ( وريجة) نمزج الدواء مع قليل من الدبس ويلطعه المصاب وبعد فترة ساعة او اقل يبدأ المصاب بالمرض بكثرة التبرز وتخرج السلابيح من امعائه وقد يعاد الدواء بعد فترة فيما اذا لم تخلو امعاء المصاب من السلابيح.
والاصابة المستمرة بوجع الرأس تعالج بالدق بالابرة على جهتي الجبين بين الاذن والعين. وهناك امراض كثيرة اخرى كنا نستعمل لها كثيرا من الحشائش لعلاجها.
اما الجروح التي قد يصاب بها الانسان فقد كانت تعالج بذر الرماد عليها، او ان تحرق خرقة ويوضع رمادها على الجرح ويشد. اما الكي بالنار فقد كان شائعا، وكثيرا ما كانت تحمى بعض الادوات كالسكين الطويلة او المنجل ويكوى فيها محل الاصابة خاصة مع بعض الدمامل التي يخاف من نتائجها كالقوباء والاورام التي تصيب اليد او أي مكان آخر من الجسم، وفي كل بلد رجل خاص لمعالجة الكسور وكثيرا ما كان (الميزيينين جمع مزين) الحلاقون يقومون بقلع الاسنان وذلك بعد ربطها بخيط قوي ومن ثمة قلعها.
ولعل من الاحداث الماثلة في ذهني هو اصابة اصبع والدي الايسر بثقب من مزرف، ورم الاصبع ثم اليد فأخذناه الى الطبيب الانكليزي عام(1916) فأبقوه في المستشفى وهو بيت بسيط مستأجر وبعد علاجه مدة اسبوع قال الطبيب بأنه من الواجب قطع اليد اليسرى لأن الورم سيمتد الى جسمه ويقتله الا ان " ذهن" بنت شاكر كرسوع خالة والدي كانت ساهرة على راحته ابت ان تقطع يده فأخرجته من المستشفى وبدأت تأتي بلحم السمك وتدقه جيدا يوميا ثم تلف به يده وبعد فترة اسبوع بدأ لون اليد يتغير نحو الاحمرار وبدأ الورم يهبط واخيرا شفيت اليد مما بها.
كانت امراض الاطفال المنتشرة هي الاسهال في الصيف خاصة للاطفال الذين تتراوح اعمارهم بين الشهر الثامن والشهر الثاني عشر او بعده بقليل وكثيرا ما يؤدي المرض بحياة الاطفال ولم نكن نعرف له دواء سوى منع الطفل من الاكل.
من الامراض الاكثر انتشارا فهو البول الدموي والذي لا نعرف له علاجا. والزحار او الدوسنتري فهو كذلك من الامراض المتفشية وكنا نستعمل له اكل الروبة. وهناك مرض البشل وهو نوع من السفلس الا انه اخف منه وهذا المرض منتشر بين العشائر وكان يعالج بشرب الغليون وهو حبوب من الزئبق مخلوط مع شيء ثاني ويبقى المرء معزول في غرفة لمدة 40 يوما ولا يأكل سوى خبز بدون ملح وماء اما الرمد فكان منتشرا وكان يعالج بالحمرة، والحمرة نوع من الصبغ يوضع له ويذر في العيون وكذلك الصيّد وهو نوع من نترات الفضة ويدق ناعما وتذر به العيون، وكثيرا ما كان الناس تعمى من جراء ذلك. وهناك كثيرا من الامراض الاخرى التي تصيب الناس وهم لايعرفون عنها شيئا، وكان علاجهم قبل الطب ان يذهبوا الى علماء الدين كي يكتبوا لهم رقية تحميهم وتشفيهم ومن الذكريات المؤلمة 1918 انتشر في قلعة صالح وباء الطاعون الدملي والذي يسميه الناس ابو ربية، وقد توفي فيه احد اخوتي المدعو جاسب رومي وهو في اول شهر زواجه من ابنة عمي سهر والمسماة غنيدة. كانت السلطات الصحية البريطانية قد طلبت من الناس ان يتطعموا واتذكر انه جاء الطبيب وهو جندي انكليزي وطعمه امامنا فقبل من قبل ورفض من رفض، اما الرافضون فكانوا يقولون ان الوباء شر يأتي به الجن والشياطين ليقتلوا من يريدون من الافراد اما الآخر فقد آمنوا بشيء من الطب ووافقوا على التطعيم. فقد امرت السلطات الصحية ان نترك البيوت ونقيم في البساتين وقد عمل البعض بالنصيحة.في سنة 1923 حزيران انتقل الى قلعة صالح وباء الكوليرا وكان يسمى ابو زوعة أي ان الانسان يبدأ بالتقيء الكثير والاسهال الكثير ثم يموت. وبدأ الناس يشعرون بأن التطعيم ضروري فتهافتوا على الدوائر الصحية، وكان هناك طبيب واحد اسمه قسطنطين بالفلو وهو يوناني درس في بيروت وعين في قلعة صالح ولم يكن يجيد العربية، فكنت ارافقه بصفتي احد المعلمين في الكثير من جولاته في القرى لمكافحة المرض. ان دخول الجيش الانكليزي الى العراق قد سهل للناس فتح المدارس، لقد اغلقت المدرسة العثمانية بعد 1914 وحين احتل الجيش الانكليزي قلعة صالح في حزيران 1915 وتمركز فيها واحتل العمارة بعد يوم واحد من قلعة صالح وبعد فترة وجيزة تعقب الجيش العثماني حتى علي الغربي، ووقف هناك. كان الجيش البريطاني يأتي من البصرة مشيا على الاقدام واكثره مكون من الجنود الافغانيين والاستراليين، وقد تمركز قسم منهم في قلعة صالح ليكون مركزا لأمرار الجيش الى العمارة فما فوق. وبدخول الانكليز سنة 1915 تغيرت العملة، فجاءت الروبية بدلا من المجيدي والقران والبارة . واجزاء الربية كانت نصف ربية و25 بيزة والعشر بيزات و4 بيزات وبيزة واحدة وبدخول الجيش الانكليزي دخلت العملة الورقية وقبلها كانت الليرة الذهبية مع المجيدي والقران، ثم جاء الباون الذهبي وفيه صورة الملكة فكتوريا وادورد ووزنه حوالي 10 غرامات وذهبه صافي بنحو 22 حباية، اما الروبية فكانت من فضة ونصف الروبية من فضة كذلك والقران من الفضة، اما الاربع بيزات وال10 بيزات فمن النيكل والبيزة من الشبة او النحاس. وفي سنة 19 دخل الدينار العراقي واستعمل بدلا من تلك العملة، فصارت الروبيةتساوي75 فلسا وابدل الناس فلوسهم الى العملة العراقية.


ولنعد او لنرجع لنماشي الحرب العالمية الاولى. كان حكام البلد من الانكليز واتذكر منهم Hatchcock الذي تقدم اليه والدي رومي بطلب يرجو منه فيه ان يفتح لاولاد الصابئة مدرسة. وفي يوم السبت المصادف 16 حزيران 1916 فتحت مدرسة قلعة صالح الابتدائية، وعين لها معلم اسمه عباس افندي. فدخلها عدد كبير من ابناء قلعة صالح من مختلف الاديان. وكانت المدرسة تقع على شاطيء دجلة وهي نفس المدرسة العثمانية، واتذكر انني تقدمت اليه في صباح احد الايام مع كل من فرحان سيف وعزيز لامي ومجيد عزت لتسجيلنا ، فنظر الينا وخاطبني بصورة خاصة قائلا كيف تدخل المدرسة وانت اكبرهم سنا ، فأجبته بأني جدا مشتاق للتعلم وسترى كيف اتقدم واسبق كل من دخل قبلي. وكان عمري حين ذاك عشرة سنوات وفي نصف السنة نقلت الى الصف الثاني لأني كنت متفوقا على اقراني وكنت ادرك كثير من المعلومات لكبر سني بسرعة، مما جعلني اتقدم وانقل الى الصف الثاني . وفي آخر السنة رفعت الى الصف الثالث. كانت وسائل التعليم بسيطة جدا وكنا نتعلم العربية واللغة الانكليزية والحساب والتاريخ والجغرافية بصورة ابتدائية بسيطة وقد الحق بالمعلم عددا آخر من المعلمين جيء بقسم منهم من الدكاكين سدا للفراغ والشواغر. والشيء الثاني المهم ان الحكومة الانكليزية كانت بحاجة ماسة الى عدد كبير من الشباب الذين يقرأون ويكتبون لتسد بهم حاجتها الوظيفية بدلا من طلب الهنود او الاجانب الآخرين وفي سنة 1918 في الشهر الحادي عشر واليوم الحادي عشر والساعة الحادية عشر اعلنت الهدنة وانتهت الحرب وطلب الحاكم السياسي من طلاب المدرسة ان يكتبوا شعورهم بهذا النبأ ليعطيهم جوائز. لم نكن نعرف اللغة الانكليزية وآدابها ومع ذلك كتبت سطرين بالغة الانكليزية قلت فيها، انه لما سمعت الدلال يصيح بأعلان الهدنة فرحت كثيرا وجئت الى اهلي راكضا وبشرتهم بالنبأ، وبضع كلمات اخرى لا اتذكرها وفي اليوم الثاني طلعت النتيجة فكنت الحائز على الجائزة الاولى واعطيت 18 روبية هدية . اما غيري من الطلاب والذين استعانوا بالهنود والانكليز لكتاية الموضوع فلم يصدق بهم الحاكم الانكليزي ولم يعطهم شيئا. وبدأت المدرسة تمتلأ بالطلاب والمعلمين وقد نقلنا الى بيت في آخر المدينة يعود الى الشيخة منيرة وجاء اختياره مدرسة لكونه مكون من بيتين متجاورين ذو طابق واحد تجاوره خرابة كبيرة جعله كساحة.
وكنا نعاني في اثناء المطر بصعوبة كثيرة للوصول لها من كثرة الوحل وبطبيعة الحال كنا نرتدي دشداشة وسترة ونسميها بالطو وعلى رؤوسنا اما عرقجين او كوفية ومن ثمة بدأ بعضنا بأرتداء الملابس الاوربية ، تعلمنا على الملابس الاوربية من مديرنا المصري الجنسية المدعو قسطنطين وكانت لديه "فينة" من مصر. وكنت على ما اعتقد اول من لبس السترة والبنطلون والفينة.


ومن الاحداث التي مازالت عالقة في ذهني هي اصابة اختي الكبرى والمدعوة "نوفة" زوجة شيخ عبد الله الشيخ سام، اصيبت بمرض هي واطفالها الاربعة لم نكن نعرفه اولا. وقد توفيت اولا ابنتها الكبرى المدعوة نسيمة والبالغة من العمر حوالي 12 عاما وبعدها بثلاثة ايام توفيت الوسطى المدعوة ريمة ثم توفيت الوالدة وطفلها عبد الستار ولم يبقى من العائلة سوى عبد الجبار وشارة، كانت مصابة به الا انها نجت منه بأعجوبة. وما زلت اتذكر انها كانت تطلب اللبن ( اللبن الرائب المخظوظ) ولم يكن شيخ عبد الله حاضرا وقتئذ، فقد كان في القرنة وحين عودته وجد ان داره خالية من زوجته واطفاله. لم تمضي على وفاة زوجته اكثر من شهرين حتى خطب ابنة خاله تكية بنت باهر وهي زوجته الحالية وام اطفاله برهم وشاري وبانو ومانو وفيوي.
وقد تبين لدينا اخيرا ان مرض اختي نوفه وبناتها كان يسمى سابقا ابو دمغة ويسميه الطب التايفوئيد. ومن الحوادث الطريفة التي اذكرها في عام 1917 ان الشرطة كانت تلاحق احد اللصوص المدعو مطيلب وفي احد الليالي حوصر اللص المذكور من قبل الحرس الهندي فتسلق حائط الطين ودخل الى بيت شيخ سام اذ كانت مشخولة والدة شيخ رومي وشيخ عبد الله تعرفه فدخل الدار ليلا هربا من الحرس الهندي الذي تعقبه ودق باب الوالدة الام مشخولة وقال لها " خالة احميني لأن الانكليز في ظهري يريدون قتلي" وكان لدى مشخولة صندوق طويل فتحته بسرعة وادخلت فيه اللص وقفلته، وفي اثناء هذه العملية طرق الحراس الباب ففتحت لهم وفتشوا البيت والغرف، فلم يعثروا عليه فأنصرفوا، وبعد انصرافهم فتحت الصندوق فخرج منه. وفي الصباح ذهب الى اهله. وبعد يومين تفقدت مشخولة السلع الذهبية المؤمنة عندها والتي تخص احدى قريباتها فلم تعثر عليها، فصرخت وبسرعة ذهبت الى مطيلب اذ كان يسكن عبر النهر وهو جدول صغير يبعد عن قلعة صالح من الجهة المقابلة بحوالي كيلومتر. وعندما رآها قال لها " خالة يمكن جاية على الخشلات " فضحكت وضحك هو وتأسف على ما حدث منه وسلمها كل الذهب المسروق وقال لها " يا خالة حرامي ووجد امامه ذهب فأمتدت له يديه الا انه لم يعبث بما حفلت يداه" وعادت ومعها الذهب المسروق وبعض الهدايا. وبعد فترة وجيزة حوصر مطيلب وهو يعبر نهر دجلة سباحة فقتل وتخلص الناس من شروره .


أضف تعليق


كود امني
تحديث

كتب جديدة