طبول العذاب في الثمانين العجاف

مؤلفون مندائيون
155
غير موجود
2011
المشاهدات: 3181
تقييم المستخدم: / 3
ضعيفممتاز 

قراءة

كُتب بواسطة Super User

يلاحظ القارىء لدى مطالعته لاي عمل روائي توثيقي يكتبه مفكر او مناضل سياسي عاملين مشتركين يجمعان العمل الكتابي وهما:
اولا، الموضوع، حيث تدور معظم مثل هذه الاعمال التوثقية حول تجربة الكاتب ، وبالتالي فهي تتناول القمع والملاحقة والاضطهاد والاختفاء والسجن والعلاقة مع قوى الشر، وبكلمة اخرى كل ما له علاقة بالعمل النضالي.

ثانيا، التحليل السياسي، فكثيرا ما نطالع في بعض الاعمال التوثيقية تحليلا سياسيا واجتماعيا. ويتضح ذلك في كتاب الاستاذ جبار خضير الحيدر( طبول العذاب في الثمانين العجاف ) الذي صدر عن دار نشر فيشون ميديا بالسويد ،فالمادة التي يتناولها الكاتب غنية وحساسة يستثمرها استثمارا رياديا

هذا الكتاب الصغير الحجم( 155 صفحة من القطع المتوسط).
ليس كتابا لمن يحبون او يرجون خداع النفس او الغير، ليس كتابا في النرجسية او عبادة الذات الوطنية ولا هو محاولة شوفينية او حزبية للتمجيد، ليس قطعة من الغزل العاطفي، وليس دفاعا بالحق او الباطل عن العراق. انما هو تشريح توثيقي لاحداث عراقية صميمة يقرن المحاسن بالاضداد على حد سواء، ويشخص نقاط القوة والضعف سواء بسواء، ففي ايامنا هذه، ايام الشتات والتشتت، لايمكن حتى للمراقب المحايد، الا ان يفزع، وهو يرى الجحم الهائل من هذا الحنين الذي اصبح مصير اغلب العراقيين في المنفى.
احداث عاصفة، حروب ، سجون ومعتقلات، كوارث سياسية واقتصادية، كانت وراء موجات الهجرة الجديدة، الاف الناس بل ملايين البشر وقد غادروا بلدانهم الى اماكن اخرى تمتد من بلدان حدودية، الى قارات مثل استراليا البعيدة،طلبا للامان والحرية وكرامة العيش، هو الدافع الاساسي في حركة هجرة المندائيين الهائلة.
وبسبب من ضخامة الهجرة، اخذت تنشأ تدريجيا، وبصورة طبيعية، علائق، وافكار، وتقاليد، تحمل حقيقة الاوضاع المستجدة، كما تحمل اوهامها ايضا هذه الاوهام التي تنشأ بسبب طول فترة المنفى،في بلاد كان تاريخها طقس دم مستمر، استمرت فيه الحياة باسطورة الموت، وشهدت اطول واقسى دكتاتوريات الارض، فليس عجيبا ان تنمو ثقافة الاستشهاد التي اشار اليها المؤلف في اكثر من موقع.
لمسات شخصية اثيرة، ولقاءات ممتعة، ومرارات واحباطات وانكسارات كثيرة، لفترة حرجة من تاريخ العراق الحديث ، هي شهادة على ولادة الوعي عبر المراحل المتعددة لتجربة النضال والنفي ،تكشف عدد من الاوليات الاساسية لحياة المنفى داخل الوطن.

وطن يتحرق في داخله، وينغم على اساس احباطاته وآماله، ويحيل هذه اللذاعة، هذه اللسعات المتكررة التي تسمى تجارب النضال، الى ذكريات بملامحها الاصيلة وجغرافيتها الاولى ، لتشكل فصول حياة هي الاكثر غنى ورعبا وشراسة في كتاب العراق في عقوده الماضية.

بأية حال، لن يحقق المنفى حصاده اذا لم يتمخض عن عقل جديد، بمعنى فهم اخر مصوغ في لغة جديدة، وهذا ما يرينا إياه المناضل جبار خضير الحيدر وما ترينا إياه تجارب المنافي الكبيرة في زمننا هذا. اذ يمكن ان تكون حكاية المنفى حكاية بحث عن الجذور، او عن الآفاق المبهمة.

كل شبر خارج العراق منفى، حيث صحراء الروح وانكسار الاحلام الاولى. المنفى قهوة ولقاء اصدقاء واوجاع ذكريات الزمن الجميل وذلك الحنين الذي يئن في سرد الحكايات.

انه يعكس بصدق ايمان العراقي بوطنيته، وجرأة المناضل الذي يعرف دوره فيتقدم لادائه دون ان يقف به مطمع او يحرفه هوى، فالكاتب يعي كل الوعي بأن النظام او الحاكم هو بالضرورة والواقع العدو الطبيعي لانسان مناضل حقيقي حملته ظهور البذرة الاولى للعمل الثوري في الريف العراقي في الجنوب الى صفوف الطبقة العاملة ليكون مناضلا في صفوف حزبها، فخاض الصراع الوطني باعتباره هو الطريق امام تطور الريف العراقي في الجنوب. مقترنا بحس مرهف وبصيرة نافذة قادرة على رؤية الاشياء الصغيرة في موقعها من قضية كبيرة، يحمل في جوانحه طاقة ورغبة عارمة في التعلم والاغتراف من حكمة الشعب، استمرت ولازالت تبعث فيه الرغبة الى اكتشاف الافضل لابناء جلدته من المحرومين، ملتزما واضحا وشجاعا، متواضعا في اكتساب المعرفة، منصتا للناس، حكيما في اكتشاف عناصر الملحمة العراقية وسخريتها، جنبا الى جنب انحيازه لنبل الناس وكرمهم وخوفهم.

هي شخصية وطن من الاوطان او مدينة من المدن، وما ادوات دراستها، وهل يتناقض القول بالشخصية الوطنية مع الدعوة الى الاممية، هل يتناقض القول بشخصية عراقية، مع الاعتراف بان جميع مدن العراق هي اجزاء هذا الوطن الكبير، وما هي السمات التي تميز هذه الشخصية التي تتبنى الفكر اليساري، وناضلت وكابدت من اجل عراق ديمقراطي حر وسعيد؟ في الاجابة على هذه الاسئلة، فاني ادعو الجميع لقراءة هذه الرحلة الممتعة التي تحويها صفحات كتاب( طبول العذاب في الثمانين العجاف ) للتعرف عن قرب بشخصية الفرد المناضل التي تنمو وتتطور بعيدا عن الانتماء الطائفي والاثني والجغرافي، لنتعرف على هذه الارض التي اسمها العراق وما تمتلكه من تاريخ حافل، وما تزال ارضا بكرا على المستوى الاكاديمي المتخصص والثقافي معا، وما اقل ما يعرفه العراقيون عن جغرافية بلادهم، لاعجب بعد هذا ما نرى ونلمس من تخبط الرويا عن الاخرين التي صاحبتها تخبطات واحباطات واجهاضات وانكسارات في عديد من المجالات وفي معظم المستويات.

الكتاب يرينا بعد الانتهاء من قراءته ان العراق يجتاز اليوم اخطر عنق زجاجة وتدلف او اتساق الى احرج اختناقاته في تاريخه الحديث وربما القديم كله. ان هناك انقلابا تاريخيا في مكان العراق ومكانته، ولكن الى اسفل والى وراء، نراه جميعا رؤية العين ولكننا فيما يبدو متفاهمون في صمت على ان نتعامى عنه ونتحاشى ان نواجهه.

الكتاب، رحلة الى تلمس ابرز الملامح النضالية في شخصية هذا العراقي الاصيل الذي خاض نضالا طويلا ضد الديكتاتورية وظلت حقيقة الامر عنده كشخصية خصبة، عاش في ارض المتناقضات، وارض الاضداد، تحت تاثير الفروقات الاجتماعية الصارخة، بان شخصية العراقي اي كانت عقيدته الدينية وانتماءه القومي او الطائفي، تجمعه عبقرية المكان، التي تعبر عنها الآمال والقناعات والافكار العظيمة تجمعهم لغة مشتركة وتاريخ ملتحم ومصلحة مترابطة وعقيدة سياسية سائدة، وهذه جميعا اركان متوفرة في فكر وفلسفة ما آمن به الكاتب الاستاذ جبار الحيدر، وهو السبب الذي انعكس ايجابيا على ثراء هذه الشخصية المتبلورة وجعلها متعددة الجوانب والابعاد، وشجع ولاءاتها الوطنية وابعدها عن المحلية والانعزالية الفكرية والسياسية، واكسبها التجانس بعد التكاثف الاخلاقي والمعرفي، والذي شكل المفتاح والنغمة الاساسية داخل هذه البلورة العراقية التي يريد لها هذا المناضل القدير ان ترتفع الى مستوى التحدي والمسؤولية، وان تعطي كل شحنة وطاقة من القوة المادية والمعنوية لتدير بها صراعها القاهر مع قوى التخلف والسلفية والانعزال.

انها شهادة وثائقية لانسان شجاع في زمن التردد والتخللي وحكم الصغار يقدمها وهو يعي تمام الوعي بان العراق الذي هو بعيد عنه الان ملكا له، ضيعته او قريته الكبرى الازلية، هو الوطن، وهو يتبجح بهذا القدر الكبير من الحب، حتى وان تعددت الابعاد وتوسطت الاعتدالات، واستمرت الابتعادات والانقطاعات القسرية الاليمة.

موسى الخميسي


أضف تعليق


كود امني
تحديث

كتب جديدة