• Default
  • Title
  • Date
الأربعاء, 14 كانون2/يناير 2015

هموم بارتوك

  ثائر صالح

يُعتبر الكثير من المؤلفين الموسيقيين العباقرة كائنات غريبة الأطوار أحياناً، وفي هذا شيء من الحقيقية. لربما يعود سبب ذلك إلى نمط التفكير المتقدم والمتشابك لهؤلاء الناس المتميزين، وهو أمر يعصى على الناس العاديين أمثالنا فهمه. فالأولويات عندهم هي غير ما نشعر به نحن، وهم يرون أشياء لا نراها ساعتها، في مختصر العبارة: هؤلاء يتقدمون على زمنهم ويسبقوه، لهذا السبب بالذات نعتبرهم طليعيين ونتشوّف المستقبل فيهم. مثالي على هذا هو رد فعل الموسيقار المجري العبقري بيلا بارتوك على ما رافق العرض الأول لباليه الماندرين العجيب الذي قدم في مدينة كولونيا (كولن) الألمانية سنة 1926. فقد ضج الحاضرون وقاطعوا الموسيقى بالصراخ والصفير وصيحات الاستهجان. حتى أن عمدة المدينة وقتها، كونراد آدناور (1876 – 1967 من الحزب الديقراطي المسيحي، أول مستشار لألمانيا الاتحادية بعد الحرب العالمية الثانية، يعتبر الأب الروحي للاتحاد الأوروبي) طالب بإقالة قائد الفرقة المجري ينو سنكار. عند انتهاء الحفل الذي غلبته أجواء الفضيحة في تلك الامسية، شق بارتوك طريقه إلى غرفة قائد الاوكسترا سنكار بصعوبة، وعندما دخل، قال له: ينو! على الصفحة الرابعة والثلاثين كتبت على جزء الكلارينيت الثاني أن يكون العزف متزوفورته (مرتفع باعتدال)، لكن صوت الكلارينيت لم يكن مسموعاً. من فضلك، غيّر التعليمات إلى فورته (مرتفع) من الآن فصاعداً.
كان سبب الاعتراض والفضيحة "أخلاقي"، فالقصة التي كتبها الكاتب المجري منهيرت لنجل تدور أحداثها في الصين تتحدث عن "علاّسين" يجبرون فتاة جميلة على إغواء الرجال حتى يتمكنون من سرقتهم. كانت الضحية الاولى رجلاً فقيراً، والثانية كذلك. بعدها أوقعت الشباك بماندرين ثري سقط على الفور في غرام المرأة الفاتنة، لكن المجرمين عاجلوه فخنقوه ثم طعنوه بالسيوف وبعدها شنقوه، لكنه لم يمت، أبقاه عشقه واشتهائه المرأة حياً. في الختام تلبي الفتاة الجميلة رغبته فيسقط بعدها ميتاً. والقصة رمزية تصف فساد حياة المدينة في عصر ما بعد الحرب العالمية الاولى، فنرى الموسيقى متوترة والأصوات متنافرة. يكثر بارتوك من استعمال التلوين الموسيقى والايقاع المعقد، واستعمل كذلك أبعاداً موسيقية غير قياسية (يُطلق عليها خطأً ربع تون، وهي معروفة في الموسيقى الشعبية المجرية كذلك).
قُدم العمل لاحقاً في حياة بارتوك دون الباليه، في شكل مختصر. لكن الباليه قدمت مراراً، ولحسن الحظ تمكنت من حضور عرض الباليه كاملاً في العام 1981 في بودابست. بين أهم التسجيلات نذكر تسجيل المجريين أنتل دوراتي (مع فرقة ديترويت) ويوجين اورماندي (فرقة والفيلادلفيا) وإيفان فيشر (مع فرقة بودابست الاحتفالية) بالاضافة إلى تسجيلات الكندي بوليز والياباني اوزاوا والانكليزي راتل وغيرهم.

تسجيل حفل فرقة نيويورك الفيلهارمونية بقيادة الموسيقار بيير بوليز سنة 1971:
https://www.youtube.com/watch?v=-PeJuUoIfeM

في رحاب الموسيقى

Thaier Salih

 

مقالة أسبوعية (كل سبت)
بقلم ثائر صالح

 

شرعت في كانون الأول 2010 بكتابة مقالات اسبوعية عن المقطوعات الموسيقية التي أحبها، والتي أود أن يشاركني متعة الاستماع اليها أصدقائي ومعارفي متذوقي الموسيقى والمجموعة المندائية على الانترنت الياهو الذين أرسلت اليهم هذه الكتابات القصيرة بهيئة رسالة بالبريد الألكتروني. ثم اتفقت مع صحيفة المدى البغدادية على نشرها كزاوية اسبوعية في صفحة ثقافة، فأصبحت لي زاوية صغيرة فيها بعنوان موسيقى السبت منذ خريف 2011.

ولا أخفي سروري لهذه الفسحة في النشر والتوسع في نشر هذه الكتابات القصيرة المتنوعة، إذ أعتبر هذا مجهوداً بسيطاً أُسهم به في إشاعة مفاهيم الجمال ومقاومة انتشار القبح والسطحية والفن الركيك مقابل تراجع مساحة الفن الرصين في كل المنطقة العربية. وقد سعيت إلى أن تكون هذه الكتابات واضحة وبسيطة، وتحوي أقل قدر من المصطلحات الموسيقية التخصصية التي حاولت شرحها بطريقة مبسطة ومفهومة. وقد استعملت في كتاباتي التسجيلات الموسيقية الموجودة على الانترنت، وبنيت هذه الكتابات حول الأعمال الموسيقية المتميزة.

قراءة المزيد