• Default
  • Title
  • Date
  • فاضل فرج خالد
    المزيد
    الثامن من شباط الاسود   **************************************************** في ذاكرتي ان بدايات عام
  • حامد خيري الحيدر
    المزيد
      خلال دراستي الجامعية في قسم الآثار/ كلية الآداب قبل
  • علي كاظم الربيعي
    المزيد
    لعيبي خلف الاميريدجله (يمينها) واهمها هور السنيه وهور عودة واسماء
  • عربي الخميسي
    المزيد
    في مثل هذا اليوم حدثت نقلة نوعيه غيرت طبيعة الحكم
الجمعة, 15 شباط/فبراير 2013

رحلة الى أهوار العراق

  ليدي درور
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

محاضرة ليدي درور في الجمعية الملكية الآسيوية

في شباط 1972 توفيت الباحثة والمستشرقة البريطانية ليدي درور عن عمر قضته في البحث والتأليف وترجمة النصوص المندائية المختلفة الى اللغة الإنكليزية. بدأت درور حياتها ككاتبة روائية نشرت باسم أثل سسل ستيفنس، ومنذ زواجها من سير أدوين درور في العام 1910 بدأت بالنشر بأسم ليدي درور. وقد عمل سير درور مستشاراً في وزارة العدل العراقية في الفترة بين 1922-1946، ورافقته زوجته هناك حيث تعرفت الى هذا البلدوشعبه العريق. وأثار اهتمامها التنوع الاثني والديني، فتوجهت لدراسة الأقليات الدينية مثل الأيزيدية في كردستان العراق، وتخصصت ببحث دين الصابئة المندائيين.

وكانت أول باحث غربي يجري مسحاً ميدانياً لحياة وتقاليد وطقوس هذه الطائفة حيث يعيش أفرادها. فقد كتب علماء الساميات الكبار عن المندائية استناداً الى مؤلفات المندائيين وهم في مكاتبهم في برلين أو لندن، مثل العلامة نولدكة والمستشرق العبقري ليدزبارسكي. بذلك عنيت درور بالفولكلور الحي لهذه الجماعات، ومن هنا جاء اهتمامها بتقاليد الأحراز والتنجيم المندائيين اللذين يعود أصلهما الى الجذور الكلدانية والبابلية مباشرة. كذلك اهتمت بالحياة الاجتماعية للجماعة، وبشكل خاص بدور المرأة الاجتماعي. وهذان الأمران انعكسا في محاضرتها عن حياة سكان أهوار العراق، إذ ركزت على موضوعي السحر وحياة النساء بشكل أساسي، لكنها تناولت مواضيع اخرى لا تقل أهمية، مثل العمارة والطبيعة والعادات والتقاليد.

جمعت درور كل النصوص المندائية الأساسية (وهذه محفوظة في مكتبة بودليان بجامعة اوكسفورد تحت عنوان مجموعة درور، وهي أكبر وأشمل مجموعة نصوص مندائية في مكتبات العالم)، وترجمت العديد منها بعد إتقانها اللغة المندائية، وهي لغة من اللغات الآرامية الشرقية وبذلك فهي قريبة من السريانية والتلمودية (وهي مشتقة من لغة سكان جنوب العراق الآرامية قبل الإسلام كما هو معروف)، وكتبت بالتعاون مع العالم ماتسوخ القاموس المندائي - الانكليزي. وأحد أشهر كتبها "الصابئة المندائيون في العراق وإيران" الذي صدر في العام 1937، وهو في عداد المراجع، وترجمه الى العربية الاستاذان نعيم بدوي وغضبان الرومي، وصدرت منه طبعة انكليزية جديدة مؤخراً.

قدمت ليدي درور محاضرتها عن سكان الأهوار في جنوب العراق في 12 حزيران 1946 بعد عودتها من العراق، وعرضت أثناءها صوراً (سلايدات) عن الحياة في الأهوار. وعكست المحاضرة روحية ونمط تفكير البريطانيين في تلك اللحظة، عقب انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية. وبالتأكيد كان نشاط الوطنيين العراقيين في تربية التلاميذ بروح حب الوطن والعداء للمستعمر البريطاني يمثل تعليماً مشوهاً معادياً للأجانب بنظر الغالبية الساحقة من البريطانيين. لكننا إن أزلنا هذه القشرة الاستعمارية من محاضرة درور، نلمس مدى تعلقها بهذا البلد وإعجابها بشعبه.

ومن المؤسف أن نرى اليوم الحالة المأساوية لمنطقة الأهوار في جنوب العراق (وهي واحدة من أهم وأغني وأكبر المناطق الطبيعية في العالم) بعد المشروع الضخم المشبوه الذي أنجزه النظام الساقط لتجفيف الأهوار ونقل سكانها الى مجمعات سكنية قسرية، مما أدى الى القضاء على نمط الحياة فيها، هذا النمط الذي يعود الى أكثر من خمسة آلاف عام. وكان اسم الشركة المنفذة للمشروع يحمل دلالة بليغة على الهدف من هذه الحملة الهمجية: شركة الأنفال للمقاولات، وهي من شركات مؤسسة التصنيع العسكري.. فهذه الأنفال هي ما أصاب عرب الأهوار بعد أنفال كردستان العراقية العام 1988!!

أخشى أن تكون الرحلة التي سأتحدث عنها مساء اليوم هي الرحلة الأخيرة التي أقوم بها الى الأعماق الحقيقية لأهوار جنوب العراق، وقد جرت قبل زيارتي لبعض أصدقائي القدماء في العمارة وقلعة صالح في الربيع الماضي. إن المرء معرض للتعلق بأصدقائه الذين استضافوه في العديد من المناسبات، ومن الصعب اقتلاع جذور الانسان نهائياً من بلد تنجذب اليه أوتار القلب حيث عاش لثماني وعشرين سنة.

طرت الى الوطن العام 1940، وعدت بحراً في الخريف ووصلت بغداد في كانون الثاني من العام 1941، ولعلكم تذكرون بأن هذا العام شهد دسيسة رشيد عالي [الكيلاني]. وعندما عدت، لاحظت نجاح الدعاية المؤيدة للمحور والمعادية لبريطانيا. واستمرت الدعاية المعادية لبريطانيا بهمة عالية ومن دون تدخل يذكر من قبلنا لفترة طويلة. فقد تربى طلاب المدارس على أن بريطانيا العظمى المجرم الأزلي وعدو الحرية، وأضحى اليوم العديد من هؤلاء التلاميذ شباباً متشرباً بالكراهية للأمة التي تعتبر نظرياً صديقة وحليفة للعراق. وكان السوق، بتأثير من الصحافة المحلية والراديو، يتنبأ بكل صراحة انتصار ألمانيا، وقد بدأ أولئك الواقفون على الحياد بالانزلاق الى الجانب الخاطئ.

لم أجد نقصاً في حميمية أصدقائي في بغداد، ومع ذلك كان تحول الهمهمة الى قرقعة بالغ الوضوح، وكنا نتوقع حدوث ما حدث منذ فترة مسبقة. وقد خططت للقيام برحلتين ربيع ذلك العام، الاولى الى أهوار الجنوب - وهي منطقة "صيد" قديمة بالنسبة لي - والثانية الى الشمال، كمحاولة لتشجيع أصدقائنا أينما وجدوا، كوسيلة متواضعة، ربما ليست ملائمة - لتوصيل قناعاتنا في النصر النهائي الى المترددين والمشككين. وقد أنجزت الرحلة الاولى، لكن الثانية لم تنجز، فقد كنت على وشك السفر عندما تفجرت العاصفة. ونقلنا نحن النساء الى الحبانية [وكانت فيها قاعدة جوية بريطانية ألغتها ثورة 1958 لاحقاً] وابقي علينا هناك لحين نقلنا لاحقاً جواً الى بر الأمان، فأصبحنا لاجئات في الهند. وجاءت زيارتي الاولى الى أهوار وجنوب العراق قبل سنوات عدة أثناء الفترة التي درست خلالها الجماعة المندائية، حيث تعودت الذهاب الى ذلك الجزء من العراق كل ربيع بشكل منتظم.

ومن المعتقد أن هذه الأهوار الواسعة كانت موجودة منذ أزمان سحيقة، إذ أنها تقع في سهل رسوب يتعرض الى الانغمار بالمياه متى ما فاض النهران العظيمان. وكانت المناطق المعروفة يوماً بأرض المياه لدى الكلدانيين، مسكونة منذ الحقبة البابلية، ولربما منذ الحقبة السومرية. وترتفع فوق الماء والقصب هنا وهناك تلال قديمة لم تستكشف بعد. ويطلق السكان المحليون على هذه التلال اسم "ايشان"، ويعتقدون بأنها مسكونة بالجن. وهذا الاعتقاد يوفر نوعاً من الحماية ذد التنقيبات غير القانونية، على رغم أن أسماء مثل "أبو ذهب" التي أطلقوها على أحدها تشير الى احتمال وجود كنوز مدفونة فيها. وتاجر سكان الأهوار الأثرياء أبان العهد البابلي - بالتأكيد كما هي الحال لدى أحفادهم اليوم - بالحبوب والسمك والتبن والقصب والبواري [جمع بارية وهي بساط يحاك من القصب] وغيرها من المنتجات. إن تجفيف وتمليح السمك كان صناعة أساسية على الدوام، ولربما جاءت زراعة الرز على مساحات واسعة في أزمان لاحقة.

في المناطق المزروعة مثل تلك التي على ضفتي الكحلاء والمِجَر وغيرها من الأنهار الصغيرة والممرات المائية، يجد المرء نفسه على أطراف الهور. ومع أن القرى هناك اقيمت من قصب والشوارع ممرات مائية، فإن غالبية هذه القرى متصلة بالبر ويمكن الوصول اليها بالسيارة. وتستعمل السكة الحديدية القديمة بين البصرة والعمارة بمثابة طريق عام لأنها بنيت بمستوى أعلى من المناطق المحيطة بها، وهناك طريق سيارات جيد بين الحلفاية والعمارة.

وكلما توغل الانسان عميقاً في الأهوار، تصبح الممرات المائية الوسيلة الوحيدة للانتقال. وتؤلف هذه الشبكة هنا وهناك متاهة حقيقية، وتروى الكثير من القصص عن تيه أغراب لأيام في هذه المتاهة، فالقصب مرتفع ومتين، بحيث تنحجب الرؤية وتحك صفوف القصب الكثيفة جوانب قوارب الأهوار الرشيقة المرتفعة القيادم والكواثل التي تحرك بالتجذيف وتدفع بالمردي [عصا طويلة من خيزران سميك].

وتنفتح أحياناً صفحات عريضة من الماء، حيث تسبب الرياح أمواجاً كأمواج البحار. وقد حصل الأمر معي أيضاً عندما كادت الرياح المفاجئة أن تغرق الطرادة العائدة لأحد شيوخ الأهوار، فقد كانت مثقلة وبدأ الماء بالتسرب اليها، وعند وصولنا بر الأمان كنا نجلس في بركة من ماء ولا تفصلنا عن الموت سوى بضعة انشات. وأذكر كيف كان الشيخ فالح الصيهود يحمد الله على نجاتنا ثم يعود فيلعن ويسب. ولعل بعضكم يذكره، فقد كان هائل الجثة ويزن ما يزيد عن 130 كيلوغراماً، ولم يستعمل سوى نظارات قراءة على رغم تجاوزه الثمانين. وكان يصوب ببندقيته أفضل من كثير من الشباب، وصنعت هذه البندقية خصيصاً له، ثقيلة يتعذر على غالبية الرجال حملها، كما صنعت له في بريطانيا دراجة هوائية خاصة كان يركبها لبضع خطوات، واعتاد عدد من الرجال إعانته عند الركوب أو النزول. وكعادة شيوخ الأهوار، فقد تزوج لسبعين أو ثمانين مرة .. لكن بنت عمه الوسيمة عفرة كانت الأثيرة لديه. وقد سألتها مرة كيف نجحت في ذلك، فقالت انه السحر: "انهن يأتين ويذهبن" وقد قصدت الزوجات الأخريات، "لكني أتخلص منهن". وحدثتني عن بعض الطرق السحرية التي اعتمدتها، أغلبها ترديد تعاويذ مقفاة تنتهي عاجة بعبارة "انه سليمان ملك الجن من يقول هذا وليس أنا". وهذه إحدى التعاويذ: "خذ هدهداً. قف بين قبرين أحدهما قديم والآخر حديث. سر الى الوراء قارئاً التعويذة ماسكاً الهدهد خلف ظهرك واقطع رقبته. يجب ألا تتحدث الى أي شخص، اسلق الطائر الى أن يهترئ اللحم. خذ عظم الجناح مع عظمتين اخريين وقطعة من الذهب وقطعة من المرجان ولؤلؤة مع قليل من المحلب والعطور، وضعها كلها في منخل واحملها في الماء في جدول أو نهر. إن للعظام التي ستطفو باتجاه التيار قوة عظيمة ضد الضرة". وهناك تعويذة اخرى تتطلب قراءتها عند دهن سرير الضرة أو كوخ القصب بسمن الخنزير. لكن عفرة لا تحتاج المزيد من التعاويذ، فقد توفي الشيخ فالح الأسف منذ سنوات طويلة.

عليّ أن أعود الى سفرتي الى شيوخ الأهوار. كتبت الى كورنيليا والنبرغ في العمارة لأسألها مرافقتي، وكانت تعمل لدى مستشفى البعثة الأميركية هناك لسنوات في حقل رعاية الحوامل والنساء بين العشائر المحيطة بالعمارة. لم تجد غضاضة في أن يوقظوها في الثالثة أو الرابعة من صباح أي يوم شتوي وأن تسير لأميال بسيارتها الصغيرة أو بالقارب الى مناطق نائية لمساعدة إمرأة فقيرة في ولادتها العسيرة أو معالجتها من الأمراض. وكان الناس يعرفونها باسم ست شريفة في كل العمارة وقرى الأهوار. وكنا، ست شريفة وأنها، نعرف بعضنا لسنوات، وهي لم تزر قلب الأهوار بعد، وكنت أعرف بأنها ستسر لمرافقتي في هذه الرحلة. وقد استضافتني في بيتها في العمارة ومن هناك طلبت مساعدة متصرف العمارة ماجد بيك، وهو كردي ثري. وكان ماجد بيك في غاية اللطف ووعد بتقديم المساعدة. وبعد أيام في العمارة * قضيتها في الزيارات وتقديم عرض سينمائي في ساحة دار مس والنبرغ (التي سأسميها شريفة من الآن فصاعداً) - أرسل ماجد بيك في طلبي وعرض علي استعمال مركبه الخاص مع طاقمه وشرطي. وكان للمركب كابينة تتسع لشخصين، جد ملائمة لشريفة ولي. وفي الليل يتدبر خادمي والرجال منامهم على الضفة. وقد خطط ماجد بيك للرحلة معي، ناشراً الخرائط على الأرض موجهاً التعليمات الى رجاله فيما يخص الطريق. وأخيرا، في صباح آذاري، انطلقنا ونحن مسلحين بالأواني والمقالي والمؤن وكمية من الهدايا لنساء العشائر. وكان المركب في انتظارنا عند مدرسة البنين. وبما أنهم كانوا واقعين تحت تشويه التعليم المعادي للأجانب، أصبح الأولاد المتحلقون عند الضفة ميالين الى الازعاج والخشونة. لكن بعض تعليقات المليحة ونكتة أو نكتتين سرعان ما بددت كل هذا، وعندما أرخينا المرساة وانطلقنا مع التيار، ودع جمعهم قاربنا بتلويح حميم.

كان النهر في الفيضان، محمر اللون من الطين، والرف على الجانبين منبسطاً، وقد تحددت الضفتان هنا وهناك بصفصافٍ تفجر لتوه بالأوراق. سرنا بسرعة كبيرة. وعندما تركنا دجلة وانحدرنا في نهر أصفر وجدنا قرى من القصب على الجانبين فطلبت من الطاقم تخفيض السرعة لأن الموج الذي سببه المركب أدى الى ذعر السكان. فقد غرقت أكداس من أقراص الوقود [المطّال] بالماء وانقلبت قوارير الماء [وتسمى المصخنة] وتلاعب الموج بالمشاحيف - زوارق الهور الواطئة المطلية بالقير - مما أرعب أصحابها?، وتطاير الدجاج في كل الاتجاهات وسارعت العجول بالهرب مفزوعة الى الصرائف [جمع صريفة وهي كوخ القصب] التي تعيش فيها مع مربيها.

كلما توغلنا أكثر، بدا المشهد أقرب الى منظر الأهوار الحقيقية. أطفال نصف عراة يتراكضون صائحين على طول الضفاف، كلاب حراسة تنبح بصوت أبح تتزايد كلما توغلنا أعمق وأعمق في وطن القصب. وتبنى منازل سكان الأهوار من القصب بالكامل دون استعمال مسمار أو برغي. وصريفة القصب تشبه الخيمة، والغطاء هو بواري توضع فوق هيكل من حزم مربوطة بعناية. وتسمى هذه الحزم شِباب [مفردها شِبه]. وتربط حزم القصب القوي بحبال من البردي. أما الأكواخ الأكبر حجماً، مثل مضايف الشيوخ، فهي بناء عظيم بحق، فالمضيف الجيد يكون أحياناً بحجم كنيسة صغيرة. وتغرس حزم القصب في الأرض عند البناء بصفين، ثم تحنى لتلتقي أزواجاً عند القمة وتربط بعناية فائقة بحيث يستحيل روية موقع الاتصال بين الحزمتين. ويبلغ سمك هذه الأضلاع القدمين [60 سم]. ويعتقد الكثير من الآثاريين بأن هذه هي أسلاف القوس المعماري.

والضوء يدخل المضيف من الباب، وفي الطقس الحار عبر مشبك من الجوانب. إنها أشعة كهرمانية لينة تتسلل الى برودة وعتمة مضايف الشيوخ، مطعمة بزرقة أشعة الشمس البراقة أحياناً، وإن وقعت على سجادة ثرية بألوانها تتموج في الباطن الوقور للمضيف بحيرة من زمرد وياقوت. ويفضل بعض أثرياء الشيوخ بناء مضايف من الطابوق، وهو تغيير يرثى له بحق. وتؤثث هذه عادة بأثاث أوروبي: كراسي ومناضد رديئة النوعية والذوق. أما في مضايف القصب فيجلس الضيوف على مفروشات على الأرض، ويسندون ظهورهم الى وسائد محشوة بعناية.

وكوخ الفقير أكثر بساطة، فهو يبنى بالطريقة نفسها، بواري فوق هيكل لكنه أصغر حجماً وأقل ترتيباً. ولربما يتم تكديس الأغصان والدغل على جوانب الصريفة للوقاية من ريح الشمال الباردة، وعند المدخل تترك كمية من الحلفاء دون ربطها من القمة، فتتلاعب الريش برؤوسها الريشية. والمدخل يواجه الجنوب عادة، وغالباً ما تجد صفوفاً من أقراص الوقود البنية اللون المسطحة الرقيقة ملتصقة على جدران الصريفة الخارجية لتجفيفها. وهذه تصنع من خليط روث الجواميس مع القصب المفروم. تبنى قرى القصب على الأرض، وأحياناً على حافة الماء مباشرة، وعند الوصول الى قلب الأهوار نجد بيوتاً يقف كل منها على جزيرته الصناعية الخاصة به. في الفصل الجاف، عندما ينخفض منسوب المياه، يوضع أساس من طين وقصب وحصائر القصب على شكل طبقات وتداس كلها بعناية، لحين تكون منصة كبيرة وقوية كفاية لتحمل الصريفة وبعض والمواشي. ويمكن رفع مستوى هذه المنصة عند الفيضان بإضافة مواد اخرى وحلفاء وتراب يجلب بالقارب. وفي قرى مثل الجبايش (جمع جبشة، اسم الجزر الصناعية هذه) تتوزع البيوت كل على جزيرته الصغيرة. والشارع ممرات مائية، والطريقة الوحيدة لزيارة جارك هو التجذيف بالقرب أو على حزمة قصب، أو السباحة. ويتعلم أطفال الأهوار السباحة في نفس الوقت مع تعلمهم السير، وأغلب الأطفال يمسكون بالمجذاف كما لو أنه أحد أطرافهم.

والأثاث مصنوع من الطين والقصب مثل الصريفة. وتعلق الستائر على سكة مصنوعة من حلفاء مبرومة، السرير من قصب، أما سرير الطفل المنسوج من صوف الخروف فهو معلق بحزم القصب. وتصنع أوان حفظ الرز والطحين من طين، وكذلك رحى طحن الحبوب، وتصنع المناول التي تحوك بها النسوة الحصران من الطين والقصب. وهناك على الدوام وعاء طيني مع غطاء - هو العدة - حيث يحفظ براد الشاي والأقداح. وتعرض زوجة الشيخ علينا صندوق مهرها أيضاً وكمية من البسط، تصل أحياناً من الأرض حتى السقف. ولكل بيت على جزيرة صغيرة كلب حراسته الأشعث وقطيع جواميسه الصغير وبعض الدجاجات النحيلات، وبقرات شاحبات قليلات. والأبقار ليست سعيدة البتة في هذه القرى المكونة من العديد من الجزر، لأنها مقيدة الحركة في مكان ضيق، وما لم تخض الى أرض جافة فإنها تطعم الحلفاء، والشيء ذاته ينطبق على الأغنام الموسمية، غير أن الجواميس تجد نفسها في الجنة، فهي تخوض وتعوم بتراخٍ الى أماكن رعيها المفضلة خلال النهار، وتعود في أوقات الحلب حسب مزاجها أو تقاد من قبل طفل صغير يركب على ظهر احداها، وكأنها مخلوقات من قبل التأريخ.

ويعتمد سكان الأهوار عليها في طعامهم، لأنها تزودهم بالقيمر الفاخر واللبن الرائب والزبد والأجبان، ويصنع سكان الأهوار الخبز من طحين الرز بدلاً من طحين الحنطة. وتصنع النسوة نوعين من الخبز، سيحا [في الأصل السِيّاح] والرِصّاع الذي هو أقل سمكاً. ولصنع السلاطة يستعملون أبو خنجر (الكرسون المائي) ونبات له أزهار وردية اللون يسمى لكاط، والذي قدم لنا أحياناً مطعماً بالخل والزيت. ثم هناك نوع من الحلفاء قابل للأكل يسمى عجيل Ageyl، وطلع البردي الذي تصنع منه حلويات [يجمع غبار الطلع ويطبخ بالبخار لتكوين كتلة صلبة صفراء اللون حلوة المذاق تسمى خِرّيط].

أود أن احدثكم المزيد عن رحلتنا. لقد انتقلنا من مضيف الى كضيف، فيرسل مضيف يوم أو وجبة رسولاً الى التالي كي يتهيأ لاستقبالنا. وكرم الشيخ أمر لا يمكن رفضه، لأن كبرياءه سيثلم وسمعته تنتقص عندما يعجز عن تقديم أجود ما يمكن تقديمه لضيفه. لقد وفرت السفرة فرصاً عدة للحديث عن الحرب، الأمر الذي كان وقتها يوافق رغبتي. وفي اللحظة التي يصل المرء يقدم له شاي حلو وسكائر في المضيف، ولا تبدأ التحضيرات واعداد الطعام إلا بعد أن يجلس الضيف. ولا تذبح الخراف والدجاج التي كانت تنتظر إلا في ذلك الوقت، بعدئذ تسلخ الخراف وينتف ريش الدجاج وبعدها تطبخ. ويعد الرز والسمك والحلويات (عادة يقدم المحلبي الذي يصنع من الرز المطحون المطبوخ بالحليب والمطيب بماء الورد)، لذلك تجهز الوجبة خلال ثلاث أو أربع ساعات، ومع ذلك غالباً ما تقدم باردة. وتفوت ساعات الانتظار بالأحاديث، وعرب الأهوار متحدثون ماهرون. وبعد تناول الطعام وغسل الأيدي، نقوم بزيارة النساء في المنزل، ونوزع هدايانا المكونة من بضعة أمتار من الحرير أو القبعات أو الألعاب للأطفال وبعض الحلويات.

وتبذل جهود لتسليتنا، فقد اقترض أحد الشيوخ الراديو القديم لمدير إحدى المدارس وربطناه الى بطارية المركب كي نستمع الى الأخبار. وللأسف، وعلى رغم التدوير الصبور للأزرار، لم نلتقط سوى إذاعات ألمانية أو إيطالية، وبدأ مضيفنا بالاعتذار. أخيراً وفقنا الى التقاط موسيقى قوزاقية وطلبنا الاستماع الى هذه على الأقل. أحيانا كنا نصحب الشيخ الى الرماية أو الى حقول الرز. وفي إحدى الليالي تمتعنا بالاستماع الى "البستة"، وهي حفلة الأهوار الموسيقية. وقدم المطربون أغاني غرامية، وعندما طلبنا أغنية حرب، قدموها مصحوبة بإيقاع طق الاصبعتين، واحياناً استعمل الطبل في مصاحبة الأغاني.

وحاولنا، شريفة وأنا، إصدار صوت عن طريق طق السبابة والوسطى، وهم يفعلونها هكذا، دون أي نجاح. وبعد أن أرانا قائد المشحوف الذي نقلنا في اليوم التالي كيف يجب أن نعمل، ذكر لنا بأنه من المشين على المرأة طق أصابعها أمام الرجال. لقد كان عجوزاً قبيحاً. "لو فعلت زوجتي ذلك، فاني أقطع رقبتها بيدي وأشرب دمها" قال ذلك مؤشراً بيديه. وقد غضبت قليلاً، وعندما سألته لماذا لم يمنعنا من ذلك، قال "آه، أنتن النساء الانكليزيات تختلفن، أنتن كالرجال".

وتتمتع النساء في الأهوار بالرقص عندما يكن وحدهن، لكنهن يعتقدن بأن الرقص أمام الرجال مشين. وهذا يختلف كثيراً عن النساء في شمال العراق، فالمرأة الكردية ترقص مع الرجال الدبكة في كل الاحتفالات.

وتقوم النساء في الأهوار بأداء شكل من أشكال الرقص في مراسيم الحداد. عندئذ يجري تمزيق الثوب وحل الشعر ورميه ذات اليمين والشمال، واللطم على الصدر والترديد في كورس بعد العدادة. والعدادة شخص محترف، يعدد حسنات الميت وأسباب الحزن. وقد حضرت مثل هذه المناسبة قبل سنوات، وكانت العدادة هذه المرة رجلاً بلباس امرأة، بارعاً في ارتجال القافية، ويعمل في أرجاء الأهوار. كان حليق الوجه ويضع المكياج، ويستعمل اسماً نسوياً، وهو مندائي أسلم.

ان الرجال والأولاد الذين يرتدون ملابس النساء شعبيون في أفراح الزواج في الأهوار. وفي الربيع الماضي، عندما حضرت حفل زواج ابن أحد رحال الدين في إحدى قرى الأهوار، كان أحد هؤلاء الراقصين بشعره الطويل وملابس النساء يتندر مع الموسيقيين. كان منظره مقززاً عندما يتلوى ويقوم بحركات تؤديها النساء عادة، لكن ذلك أثار حماساً شديداً لدى الحاضرين كما كان واضحاً.

ذكرت دين المندائيين قبل لحظات، وهناك في الأهوار تجمعات من هؤلاء الناس المثيرين للاهتمام، وعوائل هنا وهناك متفرقة، ويعرفون محلياً باسم الصبة. وهم حرفيون ماهرون، يصنعون القوارب والحلي للعشائر، والفالات وصنارات صيد السمك والمساحي والمحاريث وغيرها من أدوات. ونشاطهم الآخر هو كتابة الرقي، إذ يذهب سكان الأهوار الى الكهنة المندائيين للحصول على تعاويذ باللغة العربية أو المندائية، والأخيرة تعتبر شديدة الفاعلية لأنها تكتب بخط ولغة غير معروفين. فهم يكتبون أحرازاً ضد المرض وسيطرة الأرواح الخبيثة وتعاويذ الحب بمختلف أنواعها، وأدعية لإرباك العدو أو الغريم، وتدفع مبالغ كبيرة لقاء هذه الكتابات.

كنا محظوظتين في النوم في كابينة المركب، فالربيع هو موسم البراغيث، حيث تعج حصائر بيت القصب بها. وقد اشتكى الطاقم وخادمي في البداية: حتى هم الذين تعودوا عليها وجدوا النوم مستحيلاً بسبب البراغيث، وقالوا "جان السمج ينام بالهور إحنا نمنا". وتتآلف تنويمة الربيع في الأهوار من نقيق ملايين الضفادع والنباح الأبح للكلاب، فقد أصر شرطينا على إقامة معسكرنا الليلي قرب مضيفينا.

وفي الليلة الأخيرة قررنا، شريفة وأنا، الانزواء لقضاء ليلة هادئة وتناول وجبة بسيطة على ظهر المركب. لكن الشرطي لم يأكل معنا على رغم توافر الطعام لكل الطاقم، إذ قال ان الشيوخ يبعثون بشخص للمراقبة قرب المركب للتأكد من عدم تعرضنا لأي مكروه. وقد أرسينا مركبنا قرب أحد البيوت التي يمتلكها الشيخ فيصل بن مجيد - وهي دار من طابوق بناها لعائلته، والعائلة هي النساء - حيث يمكننا تناول طعامنا في المركب بهدوء. لكن بعد فترة وجيزة جاء رجل حاملاً دعوة للعشاء مع فيصل الذي يبعد لمسافة عن الموقع الذي نحن فيه. إعتذرنا بأننا جد تعبات حتى نقوم بهذه الرحلة وشكرناه على الدعوة. بعد ذلك جاءت رسالة من الدار: "السيدات يودن رؤيتنا". هذا الأمر لم نستطع رفضه. عبرنا وسرنا على أرض مزروعة بالثيل (وعلمنا لاحقاً بأن مضيفتنا وجيهة هي التي زرعته) ودخلنا الدار بمرافقة عبد أسود. وما كدنا ندخل حتى نهضت السيدة الشابة، وحدقت فيّ لحظة، وصاحت: "أهذه أنت؟" واندفعت نحوي وقبلتني على الخدين. حييتها بحرارة ولكني لم أتذكر من هي وأين التقيتها. وبالتدريج عرفت بأنها وامها كانتا من بين زواري حينما أقمت في كوخ في قلعة صالح، الأمر الذي تعودت القيام به كل ربيع. وقلعة صالح مدينة صغيرة أو قرية كبيرة في منطقة العمارة. ولم تكن البنت من العشائر، بل ابنة تاجر من البصرة. والام أرملة ميسورة الحال سكنت قلعة صالح، في حين كانت البنت تدرس في المدرسة وقد تطلقت من زوجها. وكانت شغوفة بالقراءة والكتابة وكانت مغنية جيدة، وغالباً ما يطلب منها الغناء في الموالد، وهي المناسبات الدينية التي يجري فيها الغناء. وطلبها فيصل لسنوات بعد أن سمع بجمالها ومواهبها، غير أن أقاربها كانوا ضد الزواج العشائري. لكنه في النهاية حصل عليها، من المحتمل بعد دفع مبالغ كبيرة، والآن هي زوجته المفضلة. وهناك المزيد مما يمكن أن أرويه من قصتها، أطول مما يمكن أن يقص هنا لكنه رومانتيكي جداً.

وعدناها بالعودة. وعند زيارتنا لها في المساء، طلبت منها أن تريني خزانة ثيابها بعد أن رأيت ملابسها المختلفة عن ملابس نساء العشائر. أخرجت الثوب بعد الآخر، وبدأت الثياب تتكوم في حضني حتى وصلت حنكي. وكانت تعرف عدداً من الأدعية السحرية التي كتبتها. ان منظرها الحسن وذكاءها يسهلان علينا فهم سبب كونها الزوجة المفضلة لفيصل المزواج. ويشاع أن أبا فيصل، مجيد، اتخذ له زوجة جديدة كل مساء. لربما كان في ذلك مغالاة، لكنه من المعتقد أن كثرة الزوجات والمحظيات دلالة على قوة الرجال وغناهم. وترتدي زوجة الشيخ الحجاب عند ملاقاة الأغراب، لكن نساء الأهوار غير محجبات على العموم. وهن مجدات في عملهن، مرحات ومحبوبات، وجميلات الطلعة غالباً. وحياتهن ليست بسهلة، فأزواجهن يطلقونهن لأتفه الأسباب ويحتفظون بالأولاد الذكور. ولا يمكن للبنت أن تتزوج من دون موافقة ابن عمها. ويمكنه الزواج منها إذا شاء، وإن لم يشأ فانه قادر على منع زواجها من أي شخص كان، وإن تزوجت البنت حبيبها من دون موافقة ابن عمها فإنها تعرض حياتها للخطر، وعدد البنات اللائي خرقن القانون هذا كبير، ولذلك لا غرابة في تحدث الأغاني عن الحب الخائب أو المأساوي.

لكن النساء يواصلن الدرب: يطحن الحبوب ويطبخن ويحلبن الدواب وينسجن ويصبغن الملابس، يعلفن المواشي، ينجبن الكثير من الأطفال ويحملن العبء، الى أن يعجزن قبل أوانهن. والزلم، أزواجهن ومضطهدوهن، هم أولادهن أيضاً، فهم يتوجهون اليهن طلباً للنصح والراحة، والعديد من النساء يحكمن أزواجهن دون معرفتهم.

صدرت في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية

للمشحوف أضلاع داخلية مقوسة تتفرع من محور مركزي ينتهي ببوز طويل يسمى العنق، وهذا يشق الطريق عبر الحلفاء والقصب. ويطلق هذا الاسم عموماً على قوارب الأهوار.وأكبر قوارب الهور البرغش، تليه الطرادة التي تحتضن روابط عرضية مقوسة من الخشب وضعت كي يتكئ عليها الجالسون على حصائر في قاع القارب. وتتسع الطرادة لـ 10-12 راكباً. وتفرش الطرادة بالقصب أو بالبواري أو بالحصائر. ومن الخارج ترصع بالكرصة وهي المسامير المدورة الرأس بمثابة زينة. وأصغر قارب هو الجلبية. وأكثر الأنواع بدائية الشاشة. والطريقة الاعتيادية لتحريك قوارب الأهوار هي التجذيف الذي يقوم به رجل أو رجال جالسون في آخر القارب بينما يقوم رجل في قيدوم القارب بدفعه بالمردي، وهو عصا طويلة من قصب أو من خيزران (يستورد من الهند). والمردي يكفي لتسيير القارب من دون مجذافين إذا كان بيد عارف لمهنته، وكل سكان الهور كذلك.

 

الدخول للتعليق