• Default
  • Title
  • Date
  • فاضل فرج خالد
    المزيد
    الثامن من شباط الاسود   **************************************************** في ذاكرتي ان بدايات عام
  • حامد خيري الحيدر
    المزيد
      خلال دراستي الجامعية في قسم الآثار/ كلية الآداب قبل
  • علي كاظم الربيعي
    المزيد
    لعيبي خلف الاميريدجله (يمينها) واهمها هور السنيه وهور عودة واسماء
  • عربي الخميسي
    المزيد
    في مثل هذا اليوم حدثت نقلة نوعيه غيرت طبيعة الحكم
الأربعاء, 21 تشرين2/نوفمبر 2012

آخر طائفة غنوصية في التاريخ

  عزيز سباهي
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

جزء من مقدمة كتاب عزيز سباهي: أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية

إلى الشمال من القرنة، حيث يلتقي دجلة بأحد مصبي نهر الفرات (المصب الآخر هو كرمة علي، ويصب في شط العرب مباشرة إلى الشمال من البصرة)، يجري نهر صغير، والأصح مبزل صغير، يدعى "السطيح"، يأخذ مياهه من الأهوار التي توازي دجلة إلى الغرب، ليصبها في نهر دجلة إلى الجنوب من ناحية العزير. وفي رأس البرزخ الضيق الذي تحيط به الأهوار من كل جانب تقع قرية صغيرة تدعى السطيح أيضأ. وكما هو شأن قرى ميسان الصغيرة الأخرى، كانت الأكواخ المبنية من القصب والبردي تحتشد في السطيح دون انتظام في بقعة صغيرة من الأرض.

وعند الركن الشمالي من القرية (أو السلف كما يدعونها في ميسان) كان ينفرد كوخ صغير على ضفة نهر دجلة، منعزلأ عن أكواخ الفلاحين الأخرى. كان المارة الذين يسيرون بمحاذاة النهر صوب ناحية العزير أو القادمين منها، يلقون نظرة على رجل ربع القامة، ذي لحية كثة، وهو ينحني على هيكل من الخشب ليصنع منه قاربأ صغيرا لواحد من صيادي القرية. كان من عادة المارة أن يلقوا التحية على ئمئر، وكان هذا هو اسمه، فيرفع رأسه ليرد التحية مشفوعة بابتسامة. وربما أردفها بسؤال عن صحة المار أو أولاده، ثم ينصرف ليتابع عمله على هيكل القارب. وكان (السيباط) (أو الصوباط كما يدعونه هناك، وهو سقيفة من القصب) الذي اتخذه نمير مشغلأ له، ينفتح على كل الجهات، محاذيأ لكوخه. كان ينصرف إلى عمله هناك طوال النهار، حتى إذا جن الليل، انحدر إلى نهر دجلة وقرفص عند حافة النهر وراح يغسل جبهته وأنفه وأذنيه وفمه وما تحت إبطيه بالماء، وهو يرطن بلغة خاصة لا يفهمها السامعون. فإذا فرغ من ذلك، انتصب ويمم وجهه صوب الشمال وشرع يتلو بذات اللغة نصنأ حفظه عن ظهر قلب دون أن يفقه ما يعنيه هذا النص، ليأوي بعد ذلك إلى كوخه... وفي اليوم التالي، وقبل أن تشرق الشمس يكرر ما فعله عند المساء، !صلاته " عند النهر. وكان المارة قد ألفوا منه "صلاته" هذه، ولم يعودوا يشغلون بالهم بأمره.

لقد ورث نمير صناعة قوارب الخشب الصغيرة المطلية بالقار عن أبيه وجده وهذان قد توارثاها ممن سبقهم منذ أجيال بعيدة. ومثلما عاش نمير وزوجته وأطفاله ربما يكون قد عاش هنا أجداده الأقدمون. وفي قرية مجاورة لا تبعد كثير، كان يسكن أقارب له، اتخذوا من أحد أركانها عند النهر مكانأ لهم ليبنوا كوخهم ومشغلهم، وانصرفوا إلى صناعة "المساحي" و"الفول" والمحاريث والمناجل وما إليها من الأدوات ا لتي يحتاجها الفلاحون والصيادون في القرية.

وكان جيرته يدعونهم بـ "الصبة" والواحد منهم بـ "الصبي" وربما على عادة الفلاحين هناك يعمدون إلى تصغير اسمه فيدعونه بـ "الصبيبي"... وكانوا يلاحظون أنه في مناسبات معينة عندهم يتجه إلى القصبة المجاورة، قلعة صالح، حيث يوجد كثرة من أصحابه هناك ليبتاع الخشب والحديد وما يحتاج من مؤن، وليؤدي أيضأ طقوسآ دينية خاصة على أيدي كهنة في معبد خاص لهم يدعونه ب "المندي "، مع أمثاله القادمين من القرى المجاورة.

لم تكن مدن أو قصبات جنوب العراق لتخلو من "الصابئة" هؤلاء، وإن كانوا قلة... وكان أمثال لهم يقطنون المنطقة المجاورة في إيران. كان بعضهم يحترف الحرف التي يحتاجها الفلاحون والصيادون في ذات القرية من حدادة ونجارة وصياغة حلي، ثم اتجه آخرون صوب المدن الكبيرة للعمل كصاغة تاركين عوائلهم وراءهم في المدن والقرى السابقة ليعودوا إليها في مناسباتهم الدينية حيث يمضون معها أيامأ معدودات يقفلون بعدها راجعين إلى مقرات عملهم.

كانت تلك هي حياة الصابئة قبل عقود من السنين. وهي حياة، كررت نفسها، كما يبدو، لمئات السنين... لا أحد يذكر أنهم كانوا على غير هذه الحال. لكنهم منذ أن تزايد النشاط الاقتصادي والاجتماعي الحديث في العراق شرعوا يتجهون بعوائلهم صوب المدن الكبيرة، لاسيما بغداد والبصرة، بأعداد صغيرة أولأ، ثم بمجموعات أكبر حتى خلت القصبات والقرى السابقة منهم واستقرت غالبيتهم في هاتين المدينتين.

لم تكن هذه الانتقالة الجغرافية هى وحدها ما شاهدته المجموعة، بل شهد الصابئة في العقود الماضية حراك من نوع آخر، إذ اتجه أغلب شبابهم نحو التحصيل العلمي الحديث، واجتذبتهم المهن الحديثة وانصرفوا عن ممارسة حرفهم البدائية السابقة وطوروا صنعة الصياغة التي احتفظوا بها إلى صناعة عصرية. ومع هذا التحول الاجتماعي قل اهتمامهم بممارسة طقوسهم الدينية الخاصة، ولم يعودوا يتقيدون بكثير من المحرمات الدينية التي نشأوا عليها من قبل إلى الحد الذي أوجد أزمة حقيقية بالنسبة إلى بقائهم كمجموعة دينية ذات سمات ومعتقدات خاصة. وقد دفع هذا ببعضهم إلى التفكير بتكييف مفاهيمهم وطقوسهم الدينية لتساير الحياة العصرية الراهنة. وهكذا، فإن هذه المجموعة الصغيرة من الناس ما أن كسرت الطوق الذي ظل يعزلها عبر القرون، والذي صانها كطائفة خاصة لألفي عام، حتى وجدت نفسها توشك على الزوال.

لعب الصابئة، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة، دورأ ملحوظآ في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد ما بين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام، ولاسيما بعد ازدهار الحضارة العربية- الإسلامية أيام العباسيين، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية- الإسلامية. لكنهم بعد تدهور هذه الحضارة، والغزو المغولي، والفتح العثماني من بعد، وتعرضهم إلى الإضطهاد في العهود المختلفة، انكمشوا على أنفسهم في القرى المنتشرة عند البطائح الممتدة من جنوب نهر الفرات حتى نهر كارون في جنوب غربي إيران، وكانت هذه المنطقة، لظروفها الجغرافية الخاصة بمنأى- إلى حد ما- عن سطوة الحكام وبطشهم، ولكونهم جماعة مسالمة، لا شأن لها بزراعة الأرض ومشاكلها، ويحترف أفرادها حرفأ ضرورية للفلاحين والصيادين، ولا يطمعون بأكثر من إعطائهم الفرصة لممارسة طقوسهم الدينية الخاصة دون تدخل، ضمنوا البقاء والاستمرار طوال القرون الماضية.

ورغم غرابة هذه الطقوس ما كانوا ليثيروا الوسط الاجتماعي الذي يحيط بهم، الذي هو شيعي المذهب في الأساس، وان ظل ، هذا الوسط الاجتماعي يعاملهم باستعلاء وكأناس دونه في المرتبة الاجتماعية، وهو أمر يخالف ما كان يسير عليه أئمتهم من قبل. وبليغة الدلالة في هذا الشأن قصة الموذة التي كانت تجمع بين الشريف الرضي والشريف المرتضى وابراهيم بن اسحق بن هلال الصابي، وهي قصة معروفة تناولتها كتب التراث. ولكن رغم ذلك لم تسلم المجموعة من الإضطهاد وحملهم على التخلي عن معتقداتهم وعلى ارتكاب ما يخالف محرماتهم الدينية. ومنذ منتصف القرن السادس عشر أصبحوا هدقا لضغط المبشرين المسيحيين الغربيين من مذاهب مختلفة. ولم يتردد هؤلاء المبشرون حتى عن الاستعانة بالباب العالي لحملهم على الانصياع لدعوة المبشرين و"العودة" إلى صفوف المسيحية، إذ كان يصورهم هؤلاء بالمارقين على المسيحية. وقد نجم عن المحاولات المتصلة لحملهم على اعتناق الإسلام والمسيحية، وعن الأوبئة التي كانت تفتك بسكان المنطقة، أن هبط عددهم كثيرا، من 3400 عائلة كما ذهب الملكي صادق تيفنو في خارطته التي نشرها عام 1663 في باريس وحدد فيها مواقع سكناهم إلى 560 عائلة في عام 1854 كما أشار بيترمان أو أربعة آلاف نسمة كما ذكر سيوفي الذي زار مناطقهم وكتب عنهم في عام 1875. غير أن عددهم تضاعف إلى أكثر من أربعة أضعاف ذلك بعد قرن من ذلك إثر تحسن أوضاعهم الاجتماعية.

غير أن هذه الطائفة على قلة عددها، ورغم القهر الذي حاصرها طوال القرون عادت في العقود الأخيرة لتتكشف من جديد عن حيوية لا تخطئها العين، ودخلت الحياة الاجتماعية في العراق الحديث بفاعلية تفوق وزنها السكاني والاقتصادي، وبرهن أبناؤها عن جدارة، أنهم أهل لأن يكونوا حفداء جمهرة المثقفين المندائيين الذين برزوا في الميادين الثقافية والعلمية المختلفة أيام الحضارة العباسية.

من المؤسف أن المسألة المندائية لم تحظ باهتمام مراكز البحث العربية والإسلامية رغم أهميتها في فهم تطور الفكر في المنطقة العربية في حقبة معينة من الزمن، قبل وبعد ظهور الإسلام. وما صدر من دراسات عنها في العربية لا يعدو أن يكون معالجات عامة لا تقذم إجابات جدية للكثرة الكاثرة من الأسئلة المحئيى ة التي تثيرها هذه المسألة المعقدة، ونعني بها البحث في أصولهم وأصول معتقداتهم وأفكارهم عامة. لقد كان يمكن أن ينهض بهذه المهمة مثقفو الطائفة ذاتها، غير أن هؤلاء المثقفين، شأن غيرهم من أبناء الطائفة

لم يعودوا يفقهون جوهر معتقداتهم ويجهلون اللغة التي دون بها أدبهم الديني. إن البحث في المسألة المندائية لا يمكن أن تنهض به الطائفة دون دعم علمي عال ومنظم من مراكز البحث الجامعية، والأهم منه توفير الجو الأكاديمي الحر الذي يسمح بالمعالجة دون خوف الحساسيات الدينية وهي كثيرة.

 

الدخول للتعليق