• Default
  • Title
  • Date
  • فاضل فرج خالد
    المزيد
    الثامن من شباط الاسود   **************************************************** في ذاكرتي ان بدايات عام
  • حامد خيري الحيدر
    المزيد
      خلال دراستي الجامعية في قسم الآثار/ كلية الآداب قبل
  • علي كاظم الربيعي
    المزيد
    لعيبي خلف الاميريدجله (يمينها) واهمها هور السنيه وهور عودة واسماء
  • عربي الخميسي
    المزيد
    في مثل هذا اليوم حدثت نقلة نوعيه غيرت طبيعة الحكم
السبت, 09 شباط/فبراير 2013

المندائيون في الذاكرة الإسلامية - ج 1

  د. رشيد الخيُّون
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

"يا يحيى خُذِ الكتابَ بقُوَّةٍ وآتيَناهُ الُحكمَ صَبيّا وحَنَانَا مِن لَدُنّا وزَكوةً وكانَ تَقيّا وبرَّاً بوالديه ولم يَكُن جَبّاراً عَصِيّا وسلَامٌ عليهِ يَومَ ولِدَ ويَومَ يُموتُ ويَوَمَ يُبعَثُ حَيّا"
(سورة مريم 12-14)

تقديم

يزخر الفقه والتاريخ الإسلاميين بمسائل ومرويات كثيرة حول الصابئيين المندائيين، كان المصدر الأول لهذا الإهتمم القرآن الكريم، وسوره الثلاث: "البقرة"، "المائدة" والحج. ثم حضورهم بحاضرات العراق العباسي مثل: واسط والبصرة وبغداد. يضاف إلى ذلك دورهم في الحياة الثقافية أيام العباسيين، ولا زال لقب الصابئي المندائي أو ابن مندة معروفاً في كتب تراجم الرجال والفقه والقضاء الإسلامية. من هؤلاء: أبو الفتح محمد بن أحمد بن بختيار المندائي (تت605هـ) المعروف بمسند أهل العراق وبالمُعدّل، وكان والده قاضياً، وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد (ت470هـ) ومنده لقب جده الأعلى ، ومنهم الحافظ أبو عبد الله بن منده (ت395هـ) الملقب بجوال الدنيا لكثرة سفره، والمحدث عبد الوهاب بن الحافظ(ت475هـ) وغيرهم، كل هؤلاء تدل ألقابهم أنهم كانوا مندائيين، قبل إسلامهم أو إسلام آبائهم.

وإن طغت تسمية الصابئة على هؤلاء القوم إلا أن اسمهم المندائي هو الأصل، وهو نسبة إلى مندادهي الملاك الأول أو رمز المعرفة أوالحياة الأولى، وبهذا عثرف بيت عبادتهم بالمندي، أي بين المعرفة واي معرفة معرفة الله وكشف عوالم الكون، وبهذا ربما تعود أُصول العرفانية أو الأغنوصية إلى هذا الدين.

وإذا علمنا أن الشيخ معروف الكرخي كان صابئياً علمنا التأثيرات العرفانية في التصوف الإسلامي. قال الخطيب البغدادي: "أخبرنا محمد بن أحمد بن روق قال: سمعتُ أبا بكر محمد بن الحسن المقرئ المعروف بالنقاش، وسئل عن معروف الكرخي، فقال: سمعتُ إدريس بن عبد الكريم يقول: هو معروف بن الفيزران وبيني وبينه قرابة، وكان أبوه صابئاً من أهل نهر بان من قرى واسط"( [1]). وقال ابن تغري: "كان أبواه من أعمال واسط من الصابئة"( [2]).

أتخذ المندائيون الصمت سبيلاً قويماً في الحفاظ على كيانهم الديني، ولغتهم المندائية
أتخذ المندائيون الصمت سبيلاً قويماً في الحفاظ على كيانهم الديني، ولغتهم المندائية عبر دهور طويلة، خدمهم غموض لغتهم الدينية، التي لا يفقهها مواطنوهم من الأديان الأخرى، يتهامسون بها للرد على سخرية جاهل ينال من عقيدتهم، أو معتد قصد ديارهم لفرض ما لا يريدون وما لا يطيقون. فكثيراً ما يحدث الاعتداء عليهم لقلتهم ولشبهات عقائدية تدور حولهم، أقلها أنهم يعبدون الكواكب والنجوم، أو يزهقون أرواح المحتضرين منهم، هذا ما شاع عنهم بجنوبي العراق.

والحقيقة أن من شعائرهم غسل المحتضر واكساؤه الكسوة الدينية البيضاء المعروفة بالرسته، اعتقاداً منهم أن ذلك يمُكن روحه من الصعود إلى مشوني كشطا(المكان السامي أي الجنة) بسلام. وبرر بعض الفقهاء نجاستهم لأنهم مشركون، وحكم هؤلاء حسب الآية القرآنية "إنما المشركون نجس"( [3]). يقال هذا على المندائيين رغم إفراطهم في النظافة والطهر، وأباح البعض الآخر قتلهم، رغم وداعتهم وميلهم للسلم، فلرقتهم يعتذرون ويستغفرون أثر ذباحة الطير والحيوان.

خرق الشيخ دخيل صمت المندائيين عن تجاوزات الآخرين فيما يخص الشأن الديني، يوم تقدم لمقاضاة المؤرخ عبد الرزاق الحسني بسبب ما جاء في كتابه "الصابئون في ماضيهم وحاضرهم". ففي (11 كانون الثاني1931)، فتح الشيخ كتاب "الكنزا ربا" وقرأ أمام هيئة المحكمة ببغداد، باللسان المندائي (الآرامي الشرقي) وكان الأب انستاس الكرملي يترجم إلى العربية، وقد اقتنعت المحكمة أن المندائيين لسيوا عبدة كواكب ونجوم بل يعبدون الحي الأزلي، قرأ الشيخ بوثات (آيات) من الكتاب الأول، تسبيح التوحيد. تحقق ذلك بتعاطف من قبل متصرف بغداد آنذاك أمين الخالص والحاكم الأول لمحكمة الجزاء شهاب الدين الكيلاني مع قضية المندائيين.

وحصل أن اعتذر الحسني من الشيخ ووعده أن لا يعيد نشر الكتاب إلا بعد أخذ ملاحظات وتوصيبات الشيخ، لكنه طبعه عدة طبعات، وحتى السبعينيات كتب في مجلة "التراث الشعبي" مقالاً بعنوان "إذا مات الصبي"( [4])، واضعاً فيه ما يدور بين العامة حول المندائيين، من أنهم يخنقون المحتضر، بينما الصحيح هم يلبسونه الثياب الدينية وهي الرسته، ويطهرون بدنه قبل الوفاة. والعامة التي لم تكشف لها طقوس الدين المندائي لم تحسب حساب خطورة اعتقادها بمواطنيها المندائيين، فما اشاعته عنهم هو القتل بعينه، والسؤال إذا كان المندائيون يقتلون أو يخنقون المحتضر فكيف لا يتعرضون للعقوبة الجنائية، وكيف جرى المؤرخ الحسني خلف هذا الادعاء الباطل؟ ومعلوم أن قتل الرحمة لم يجز إلا في بعض الدول الأوروبية وبعد نقاشات وصراعات حامية في البرلمانات، وهذا لا يجاز إلا بطلب المريض الشخصي، وفي حالة معاناته من قسوة الألم مع اليأس التام من شفائه، فأين ومتى مارسه المندائيون، وهم كما اسلفنا يعتذرون عن ذبح الحيوان والطير!

وخلاف ما قدمه الحسني من اعتذار للمندائيين بعد المحكمة المذكورة كتب في مجلة "الهلال" المصرية (أيار 1932) قائلاً: "فتلقينا من ضجيج الصابئة وإنكارهم ما جرَّنا إلى المرافعات ومحاكمات طال أمدها، ولكنها انتهت بفشل المدعين لعدم وجود مأخذ على ما كتبنا ونشرنا"( [5]). لكن الحسني بعد أكثر من عشرين عاماً من تاريخ مقاضاته كتب إلى الشيخ دخيل يقول: "إكراما لخاطركم وحباً بدوام حسن العلاقة بيني وبينكم لا سيما بعد أن اتضح بأني لا أريد إلا خدمة التاريخ وتحري الحقيقة (20 تشرين الأول 1957). وكانت وزارة المعارف، في عهد الوزير خليل كنة قد ردت طلب عبد الرزاق الحسني، الذي عرض فيه شراء (205) نسخة من هذا الكتاب، وجاء في الرفض: "ذلك لعدم الإفادة منه في مؤساتنا الثقافية"، لكن الطلب نفذ في عهد الوزير منير القاضي( [6]).

إن صحت العبارة المندائيون أثر من آثار التاريخ الحية، فوجودهم يذكر بأنبياء ورسل، حاولت الأديان المتعاقبة نسخ شرائعهم، ولم يبق منهم غير صحف نوح وإبراهيم، والصابئة إن ذكروا في الكتب المقدسة فلم يذكروا بأكثر من تلميح واستشهاد وعبرة من الماضي. فقول المندائيين: إنهم أقدم ديانة سماوية على وجه الأرض، وإن كتبهم هي صحف سادة البشر الأولين: كآدم وشيت وإدريس ونوح، يرفعهم إلى مصاف بدايات الأديان والشرائع الموحدة في التاريخ؟

وأن الكل نحل من منحلهم، لذا من الصعب أن يعرف للصابئة المندائية مؤسساً، وهذه الخاصية، التي ميزتهم عن اليهودية والمجوسية والمسيحية والمانوية والإسلام وغيرها من الديانات العالميةِ، أشارت إلى قدمهم وروحانيتهم الصافية، وكأنهم يوافقون أبا الفتحِ محمد بن عبد الكريم الشهرستاني حينَ قالَ: "إنما مدارُ مذهبِهم على التعصبِ للروحانيينَ"(المللُ والنحلُ) .
ويبدو أن غرض الشهرستاني من نقل، أو إبداع، الحوار بين الصابئة والحنفاء( [7]) هو ميل الصابئة إلى الرسل من الكائنات النورانية، مثل هيبل زيوا(جبرائيل)، فالبشر لخطاياهم وما يتعلق بأبدانهم من فساد، لا يُصلحونَ للوساطةِ بينَ السماء والأرض. قالَ الشهرستاني في مذهب الصابئة: "إن للعالمِ صانعاً، فاطراً، حكيماً، مقدساً عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربينَ لديهِ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهراً، وفعلاً، وحالة"( [8]).

بيد أن ما أتى عليه الشهرستاني، من عدم اعتراف الصابئة بأنبياء من البشر، يفنده ما ورد في كتبهم من الصحف التي نزلت على آدم، والكتاب الذي نزل على أحد النوصرائيين، إدريس (دنانوخت)، ويصدقه، في الوقت نفسه، أنهم لم يسموا أحداً من البشر بالنبي أو الرسول، فالكل عندهم كانوا نوصرائيين، من آدمٍ إلى يحيى بن زكريا. فالكتابات الصابئية المندائية أشارت "إلى الاعتقاد بأن المعرفة أو العلم الرباني –مندادهيي- إنما يؤتيه اللهُ عباده المختارين الصادقينَ (بهيرا زدقا)، إما وحياً وإما إلهاماً، وذلك هو صوت الحي الأقدم (شوت هيا قدمايي)، أو فيضاً سماوياً وكشفاً وهو التجلي، أو بواسطةِ رسلٍ أثيرين نورانيين"( [9]).

أشار المندائيون، ربما لاهتماماتهم الفلكية، إلى وجود بشر خارج كوكب الأرض، فالكواكب السماوية عندهم، ما دون عالم النور، اتخذت سكناً للبشر والكائنات النورية، وكتبهم الدينية تُرشد إلى عوالم "يسكنها بشر مثلُنا، وتركز بالدرجة الأولى على عالمِ العهدِ مشوني كشطا، وتذكرُ أيضاً أن البشرَ في هذا العالمِ لا يختلفونَ عنا كثيراً، وعلى هذا الأساسِ فقد أمر هيي ربي قدمايي، الحي الأزلي، بنقلِ بناتِ آدمَ من هذا العالم (اره اد تبيل)، الأرض، ويجلب زوجات من عالم مشوني كشطا لأولاده"( [10]).

ويصفُ غضبان رومي، وهو واحدُ من بين أبرز المثقفين المندائيين، مستقبل العلاقة بين إنسان الأرض و إنسان الكواكب الأخرى، حسب تصورات ديانته، بالقول: "من ذريتهن تكوّن الإنسان الحالي، الذي أخذ يزحف من عالمنا هذا نحو الكواكب الأخرى، وليس ببعيد أن يصل في آخر المطاف إلى عالم مشوني كشطا، وينـزل ضيفاً على أخواله هناك، مستقبلاً من أبناء عماته"( [11]).

كان آدمُ أباً للبشر وحواء أمهم، لكن البشرية، حسب الكتب المندائية، فنيت مرات بكوارث سببها عالمُ الظلام المنحوس وما فيه من شر أنتقل إلى الآدميين عبر مادة الطين التي منها جُبل جسد آدم، وفي كل فناء يبقى رجل وامرأة يتجدد منهما الجنس البشري. "فبعد شيت قضي على هذا العالمِ بالحرب، ولم يبق منه إلا رجل وامرأتُه، هما رام ورود، وبعد عشرات الألوف من السنين فني العالم بالنار، ولم يبق منه إلا شوربي وزوجته شور هيبل، وبعد عشرات الآلاف من السنين جاء الطوفان، ولم ينج منه إلا نوح وزوجته (انهريتا) وابنه سام"( [12]).

وحسْب أغلب الأديان، ومنها المندائية، إن هذه الكوارث ضرورية لغسلِ الأرض من خطايا البشر، وبهذا قال شاعر البشر أبو العلاء المعري، حسب تسمية معروف عبد الغني الرصافي له، وكأنه قرأَ الكنـزا ربا وتبحر فيها:

والأرضُ للطوفانِ مشتاقةٌ
لعـلها من درنٍ تُغتـسل
قد كثرَ الشرُ على ظهرِها
وأُتهـم المُـرسلُ والمُـرسلُ

إن اعتقادَ المندائيين بوجود بشر يعيشون على الكواكب العليا يقود إلى علاقة ما بنظرية أفلاطون: "المُثل" أو "النماذج"، وبالتالي إلى صلة ما بالفكر اليوناني بشكلٍ عام. ولا ندري، هل كان هذا التوافقُ توارد خواطر أم بتأثيرات فلسفية مباشرة. في هذا المجال قد يكون للحرانيين في نقلهِا دورٌ ما. ولا يستبعد أيضاً في أن يكونَ الأمر امتداداً سومرياً وبابلياً، حيث القول بوجود مجتمع الآلهة، ومكانُه العالم العلوي، وخُلق البشر على هيئتهِ ونظامه. جاء في النصوص المندائية على لسان المتوفى: "أذهب إلى شبيهي، وشبيهي يأتي إليَّ، يتذكرني ويحتضنني، كما لو أنني خارج من السجن".

تناول الفقهاء والمؤرخون المسلمون، شيعة وسنُّة، الدين المندائين، وأختلفوا حوله في أن يكون أصحابه من أهل الكتاب أو شبه الكتاب، واختلفوا أيضاً في جواز أخذ الجزية وبالتالي الاعتراف بهه كديانة لها حق حماية المسلمين والأمن بينهم. إلا أن أكثر المتشددين ضدهم هم فقهاء الشافعية، بينما كان للفقهاء الحنفيين والشيعية فتاوى وآراء إيجابية منهم، اعتامداً على ما ورد في القرآن الكريم بخصوص الصابئة، وما ورد في الكتب الصابئية، حسب قراءة آية الله علي خامنئي لها.

كذلك كانت لرجال الدين الشيعية صلات صداقة ومودة على غرار صداقة العلم الشيعي البارز الشريف الرضي والعلم الصابئي البارز إبراهيم الصابئي. يتناول هذا الكراس معاملة الفقه الإسلامي وروايات التاريخ في أمر قوم لا زالوا يحتفظون باللغة الآرامية ويرون أنفسهم أنهم أتباع آدم أبي البشر.

وبالتالي المندائيون أهل دين سماوي، توجهوا إلى غاية السموات بعقولهم وأفئدتهم، وبفكرة السفن الكونية وبحارتها الكائنات النورية، ولم يجعلوا الكواكب آلهة بل هي عندهم أمكنة لكائنات النور والظلام، والله لديهم متعالٍ عرشه يطوف فوق بحار النور النقية. ومثلما للأديان الأخرى معاريجها لهم معراجهم وجنتهم ونارهم.

غير أن كل هذا كان مخفياً على المحيطين، لم يعرفوا منهم غير أنهم يعبدون الكواكب كامتداد لصابئة حران، أو يسجدون إلى كائن صاغ حروف اسمه الآخرون، عن جهل، من العبارة المندائية المقدسة "بشميهون اد هي ربي"، وتعني باسم الحي ربي، مثلها مثل عبارة المسلمين "بسم الله الرحمن الرحيم". وإذ جعل المسلمون الرحمة صفة الله الأولى، يطلبونها منه في مستهل كل عمل، جعل المندائيون الحياة صفة دائمة يذكرونها في مستهل كل عمل وحركة، فالحياة الأزلية، حسب كتابهم، هي الفارق الأكبر بين الله والبشر.

الدخول للتعليق