• Default
  • Title
  • Date
  • عوني سلمان الخشن
    المزيد
    في لحظات من الخوف والقلق زاد من شدتها احمرار لون
  • بقلم. نعيم عربي ساجت
    المزيد
    اليوم هـو الجمعـة ، عــطـلة ( نـضال ) عـن الـعمل ، الشَّمـسُ تـتأَلـقُ في
  • صلاح جبار عوفي
    المزيد
      رنَّ جرسُ الدار..! تسابقت الصبایا الثلاث ( شھد ، تمارا ، مایا
  • فارس السليم
    المزيد
    في ليلة ممطرة شديدة البرودة والصواعق تنشر الرعب في نفوس
الأحد, 02 شباط/فبراير 2014

وكانَ لقاءُ الحبيبينِ

  فـاروق عبدالجبّـار عبدالإمام
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

أنتِ ..... .... أنتَ

وسكتا فما عاد للكلامِ من معنى

وفي اللحظةِ التاليةِ أحسّـا بأن أقدامَهما ما عادت تتحّملُ كلَّ هذا الموقفِ الرائع و الذي كان كلاهما لينتظرَه خلال سنواتِ الفراقِ والعذاب ، سنواتٍ طويلةٍ كئيبةٍ بلا فرحٍ ، بلا طعم . لونُها بات رمادياً من كثـرة الحزن الذي سربلَ الواقع الذي عاشاه. سنواتُهما مرت ، وكأنها دهورٌ لشدةِ وطأتها وقساوتها ، مرّت وتحمّـلَ كلاهـُما ما يعجزُ الآخرون عن حمله . اللحظةُ تلوحُ ، وهاهي تُلمسُ لمسَ اليدِ المُجردة ، هي لحظةٌ لا تُشبهُ غيرَها ؛ فالإثنان إستمرا يحلمانِ و يحلمانِ ، وينشدانِها ، ويتوقانِ لها ، وهما بعيدان عن بعضِهما ، يفصلُ بينهما المجهولُ الذي لا يُدرَك مداه ، ويتمنى أحدُهما أن يتحقـقَ اللقاءُ في اللحظة التالية ، لكنَّ الفراقَ طالَ ، وطالَ زمنُه، وآلامُ الفراقِ أنحلتِ الجسدين المتعبين ، بيد إنّهما ما يئسـا ، وما تسللَ إليهما اليأسُ والقنوط مطلقـا ، وما أعتقد أحدُهما ألا تلاقيـا . وهاهي ذا اللحظة قد حلّت ، والتي طالما أرادَ أحدُهما أن تكونَ واقعــاً يتجسّدُ ، وحقيقةً ملموسة ، لا سراباً ، ويتبخّـر ، ولا وهـماً ؛ فــيزول ، لقد إلتقيـــــا وكأن بينهما ميعادٌ و ترتيب ، لكنه قد يبدو تأخر أكثر من اللازم قليلا ، إلتقيـــا ، وبلل أحدُهما وجهَ الآخر بدموعٍ إنهمرت بجلالِ الصمتِ ونشيجِ الفراق ، أحدُهما يطبطبُ على كتفِ الآخر يواسيه ، وفي نفس الوقت يتأكدُ من وجودهِ ؛ كيلا يظنَ أنه يحلم ، أو أنها أوهامُ يقظةٍ سرعان ما تزول ، والتي - لربما - أحدثتها شمسُ الظهيرةِ الحارقةِ لرأسيهما اللذينِ أتعبُهما الوجـدُ ، وأرهقـتهما رِحلةُ العذابِ والإنتظارِ المُرّ .

إلتفت كلاهما يسرة ويمنى يبحثانِ عما يُمكنُ أن يُريحُ أقدامَهما مما تعاني من تعبِ الدّهر، و أثقلتُها تُلكم اللحظاتُ التي إجتمعت كلـُّها في ذات اللحظة ، لتصبَّ في رافدٍ جديدٍ من حياتهما عرفاه تواً ، إلتفتا؛ فوجـدا مقعــداً خشبيـاً شاغـرا ، وقعَ نظرُهما عليه في نفس الوقت ؛فأتجهـــا إليهِ بهدوءٍ ، وجعلَها تتقدّمُه ، وكان يلحقُ بها بحذرٍ ؛ ليتأكـدَ وهو غيرَ مصدّقٍ لما يحدث ، وأخاله يُحدّثُ نفسَـه قائــلاً ومتسائلاً : يا خالقَ الكونِ ، ورافعَ السمواتِ وباسطَ الأرض ، أحقـــاً ما يحدث الآن ، أهو حقيقةٌ أم خِداعُ بصرٍ وهلوسةُ محموم ! الشكرُ لك والحمدُ لك ،الشكر لك أيها الحيُّ الأزليُّ الذي لم ينسَ عبادَه ، الحمدُّ والشّكرُ؛ لأنك فرجّت كُربتي وآنست وحشتي ، الشكرُ لك .... وأخذ يتمتمُ بعباراتٍ غيرَ مفهومة كانت أقرب إلى الهمسِ منها إلى الكلامِ المفهوم ؛ فكان ينظرُ إلى السماء ، ويقبّــلُ بعينهِ الأرضَ التي تدوسها وتطأها بتلك القدمين الصغيرتين اللتين كان يعرفهما جيداً أما هي ؛فكانت تسيرُ ببطءٍ غيرَ مُعتادٍ منها ؛ لتتأكد أنه يلحقُها بجسدِه ، وبلحمهِ وبشحمه ، وبعقلهِ وبقلبِه ، وبوجودهِ كاملاً غيرَ منقوص ، وليس وهمـاً أو خيالاً يصّورُه لها عقلـُها المُتعب ، وأخالها تقول في سرِّها : أ حقيقةٌهذا، أم وهـمٌ وسراب ،لا ، لا ، إنه هو حلـمٌ جميـلٌ أعيشُ لحظاتِه ،وسأستيقظُ منه بعد برهة ؛ فيزول كما زال غيرُه من قبل ! ياربِّ : اُلطف بي وإجعله حقيقة ؛ فئن ، لن يكون كذلك، سأموت في اللحظة التالية ، ياربِّ إجعل الأمرَ واقعـاً ؛ لألمسه بيدي .. وأتحسسه بقلبي ؛ فما عادَ في العمر بقيّـة ؛ لأحلمَ من جديد ، ياربّي يا كريماً ولطيفاً بعبده إرحمني والطف بي كما لطفتُ بزكريّا وزوجه أنشبي ؛ اُلطف بي وحقق أملي ؛ وإلّا سأذوى وأموتُ في الحال .

وأخيراً ، جلست على حافة المقعـد الخشبي الطويل ؛ كيلا تضيّعَ فترةَ أطول في الجلوس ، أمّـا هو ؛ فجلسَ ، وأسند ظهرَه ، مُتعبــاً مُنهكـاً، مُرهَـقــا ؛ مما يكابُده ، وما كابده هذا قبلَ اللقاء ؛ جلس على يسراهـا ؛ فلقد كان يعلمُ أنها تستعملُ يدَها اليسرى وهذا أسهل لها ؛ لو أرادت أن تُمسكَ يدَه ، مثلما حصل قبلَ أن يفترقا ، وهذا ما حصل ؛ فلقد إحتضنت يدُه يدَها بحنوٍ ورقـة ؛ مخافةَ أن تنكسِرَ تحتَ ضغطِ أصابعِه التي راحت تُغط على أصابعِها الرقيقةِ النحيفةِ برقةٍ وحنو ، لكنَّ المرأةَ أحست إحساساً غريباً بأن شيئاً غريباً يحصُل ؛ فهذه اليدُ ليستْ كما عهدتَها ؛ فحاولت أن تنظر إليها ، لكنها قمعت هذه الفكرة حالاً ؛ بعد أن قامَ الرجلُ فجأةً ، وعلى غيرِ عادتِه ؛ فغيّـر مكانَ جلسته لأمرٍ لم تتبينه آنذاك ولم تعره أهميةً ؛ لأن المهمَ والأهم ،هو ، نعم (هو ) بالذات ، وليس كيف ولماذا أبدل مكانه ؟

أينَ أنتَ ، أينَ كنتَ، أينَ... ، يامن أهلكتني وجعلت أيامي ليلاً بلا آخر ، لا قمـرَ فيه يُنيرُ ظلمتَه ، ولا شمسُ النهارِ كانت كما كانت ، أينَ كنتَ يامن حولّتَ فرحي حُزناً مُقيماً وسُهاداً بلا منتهى ، أينَ .. يا ..من .... يامن جعلتَ فاجعتي قصصـاً يتناولُها الآخرون ، كما كان قيسُ بنُ الملوح وليلى، كنتُ ليلى المجنونة بحبِّ قيس ، الذي غادر صباحاً ولم يعد إليَّ ، ليلى المُدنفـةُ** في أرضِ العراق وما من مداوٍ لها سواكَ ،أنت قيسي الذي إختفى ، ولم يعد يطلبُ ناراً ولا ماءا ، وكأنه لم يكن يملأُ البيتَ فرحاً وضجيجا ، كنتَ تقلبُ البيتَ حركةً دائبةً ، ما أن تدخلَ بيتنا عصراً إلى أن تخرجَ منه ،والفجرُ يكادُ ديكـهُ يُعلنُ وصولَـه ، أينَ أنت يامن كانت آخرُ كلماته : إنتظريني فأني عائدٌ إليك ، أينَ كنتَ ! يامن لكَ في كلِّ ركنٍ من أركان كياني وجودٌ ، أصابعي يبست ؛ فليس هناك من يُمسكُ بها ؛ لتشعرَ بالحياة تدّبُ فيها ، بالدفءِ الذي كان يغمرُ كياني ويُحيلني ( أمرأةً في لحظـــات ) هل نسيت نزاراً وهو يُنشدُ بصوت (ماجدة الرومي) [كلمات كلمات لاشيءَ سوى الكلمات ] هل تكون قد نسِيتَ ! يديَّ حفّت بها الندوبُ من كثَـرةِ ما ضربتُ بها حيطانَ سجني ؛ لقد سجنتني يا هذا في سجنٍ كبيرٍ بلا أسيجةٍ وبلا سجانين ، خدودي ، ما أتعس خدودي ؛ فلقد تشققت من كثرة اللطمِ ، وصوتي ، أو تسمعُ صوتيَّ الآن ؛ لسنواتٍ طوالٍ وأنا لا أستعمُله ، إلا في النُواحِ والنحيب ، وليست لي رغبةً في أن أتحدث !. وهنا قـّطبت جبينَها وزمّت شفتيها وقالت : ولمن أتحدثُ ، ومن يفهمُ حديثي عداك ، بُحَّ صوتي فكان أجشَ وكأني أغصُّ بكلماتـــي . أنظر، أنظرإلى شعري ، لقد أضحى خشِنَ الملمس ؛ فغيرُ يدُك ما امتدت إليه يـدُ ، وما سمحتُ لأحدٍ لأن يمسّـه ؛حتى أمّي تراجعت مذعورةً ، وأنا أصرخ بجنون أُتركيييي ه..... أتركيـه ؛ فهذا ليس لي، إنه ليس ملكــــاً لأحد ، بل هو ملكٌ لصاحبِه الذي غادر وأضحى في أرضٍ مجهولة بعيداً عنّي ، وكأنه قد سَئِم منّي ، أ و يكون قد سئِم منّي ومن حبِّي له ! شعري ، هو ملكٌ لأصابعِك ، ليـديكَ ، لكَ وحدك ، أنتَ وأنتَ فقط من سمحتُ له ليمسّدَ لي شعري ويرعاه ، ، إيهٍ يامهجةَ قلبي ، لقد رحل نزارقباني ورحلتَ أنتَ معه ، ورحلتْ ذكرياتي معكما ، أين كنتَ ولماذا لم تأخذني معك ، لماذا تركتني وغادرت بصمتٍ ولم أسمع عنك ، وكثيراً ما جلستُ على شاطيءِ دجلةَ ، أنا في عوزٍلوجودِك ؛ فوجودي من وجودك ، بلى ، أنت وجودي وبدون وجدوك سيكون الكونُ عدم ، ، كان شارعُنا خاوٍ أظلم ، بل حالكَ الظـُـلمة ،لا ضوءَ فيه ؛ فلقد إحترقت كلُّ مصابيحَ الشوارعِ والأزقةِ،وانطفأت بغيابك العجيب ، كم كنتَ تحبُّ أن تدخلَ تلك - الدرابين- القديمة الضيقة ، وكنتَ تقول : أن تلك الأزقة لها نكهةُ التاريخِ الذي لن يزولَ إلا بزوال هذه الأزقّة ، وتبدأُ تشرحُ لي أن البغداديين أتجهوا لمثل البناء للتخلصِ من حرارة الصيفِ اللاهب ، وقَـرِّ برد الكوانين ، لقد ملأت عقلي وكياني ، وكيف يخلو قلبي وأنت في كلِّ شرايني وأوردتي ، وأقولُ لليل ، ما تعودتُ أن أكون وحدي ، ولم أكن لوحدي في أي يومٍ من أيام حياتي لكنكَ سافرتَ بِلا رجعة منتظرة ملأت قلبي آهاتِ وأنا في عزِّ شبابي ؛ فهل للآهات نغني أم للحياة ! فحبيبي أنتَ وأنتَ كلُّ حياتي ، وبدونك الموتُ أسهل ؛ فقرصٌ واحدٌ أو أقراصٌ كانت كفيلة بإنهاء حياتي التي خوت من بعدك ، وكان الإنتحارُ أسهلَ الطرقِ للتخلصِ مما إعتراني ، بلى لقد فكّرت به مراراً ، ومنعتني ذكراك ، وأملٌ في لقياك ، ولك وحدك غنّت شادية أجمـل أغانيها( وغاب القمر يابن عمي يالله روحني دا النسمة آخر الليل بتفوت وبتجرحني ) لكن ابن عمي راح ولم يعد ، غادر ولم يعُـد ، يالشقائي وحسرتي ؛ فأنسامُ ليلي باتت سـأمـاً وقرفاً ولوعة، ودموعـاً هطّـالة .

لقد إتصلتُ بالأمن العامة ، بالصليبِ الأحمر ، بالهلالِ الأحمر ، بالأممِ المتحدة ، بكـــلِّ المنظمات الإنسانية والمجتمعِ المدني ، كنت أقــفُ السّـــــاعــاتِ الطِـــــوال ؛أطرقُ أبوابَ تلك المنظمات تحتَ شمسِ تموز الحـرّاقة وشهرِ آب اللهاب والذي كنت تصفه بأنه ( يموّع الحديد اللي بالباب ) لم أأبه بها ، ولا منعـتني أمطارُ تشرين ، ولا رياحُ الكوانين ؛ فلقد ماتت أحاسيسي إلا ما كان يخصُّك أنتَ بالذات ؛ فما عاد شيءٌ يهمُني ويُزيدُ آلامي إلا أنك مفقـودٌ ، مفقـودٌ يامن مُحيَّ إسمهُ من سجلاتِ الأحياء ، لا إسمَ لك ، لا سجلَّ لك ، لا عنوانَ لك ، لا قبرَ لك ، تائهةٌ بين كلِّ مراكز الأغاثة ، حائرةٌ بين مئات الحائرات اللواتي مثلي ، جزعةً ، مجنونةٌ كنتُ أبحث عن إبرةٍ في كومةِ قَـشٍ ، أ و تذكر كيف كنت تقول لي ( أنا حظي كدقيق على شوكِ نثروه وفي يومٍ عاصف قالوا لحفاةٍ أجمعوه ) ،كيف أجمعُ ماءً غارَ في صحراء ؟ أو يمكنُ لنا ، أن نجمعَ ماءً في غربال ! وتعود لتقول ( أنا رجلٌ والرجالُ قليلُ ) وتضربُ بعدَها على صدرك، نعم أنتَ رجلٌ والرجالُ قليلُ ؛ فما وجدتُ مثلَك بين البشر ، أو تذكرُ آخرَ ما سمعناه سويةً قبل أن تختفي وكأنك ما كنت أبداً ، كانت لأمِّ كلثوم ( بأ يوألي وأن أأولو وخلصنا الكلام كلّوَ ) وتترجم لي [ بقى يقول لي وأنا أقول له ، وخلصنا الكلام كلّــه ] وتساءلتُ بعدها : وهل كلامُ المحبين ينتهي ! أو أنه كتابٌ وننتهي من قراءته ونرميه بعيداً ، وكعادتك في المناكدة تبدأ [توقوق ] وكأنك تتحدث باللهجة الموصليّة ، وحينها أتعجب، كيف تعرف تلك الترجمة من اللهجة العربية المصريّـة ،لايهمني الآن لا المصرية ولا الموصلية ولا حتى اليابانية ، أنتَ المُهم ، بل أنت الأهـم ؛ فأين كنت... ، ولماذا لم تُرسل لي ولا كلمة ولا حرفاً ولا فارزة ولا حتى نقطة وراس السطر ! أين كنت ، أين كنت وقد أعميتني وأعماني بعدُك وها أنت الآن أمامـي ، فأين كنتَ ...يا...من ...... وخنقتها العبراتُ ؛ فما عادت تقوى على الكلام ، وأجهشت ببكاءٍ صامتٍ لم يُسمعْ. نشيجُها المتقطعُ أنهكها ؛فما عادت تقوى على التنفّس ، ولم تشأ أن يشاركهَـا أحدٌ غيرُه فيما هي فيه . شهقاتُها تتواصلُ ؛ مما حدى به لضمها إليه مهدئــــاً ومطمئنـــاً بأنه سيبقى إلى جانبها ولن يفرقهما سوى الموت الأكيد . وكانَ ينظرُ إليها ويحدّث روحها بوجدانه : أنتِ ملاكي ، أنتِ الناطري ، أنتِ وأمّي من أبقياني على قيد الحياة ، وآدم أبو الفرج كان قريباً مني يشدُّ من أزري ، والحيُّ الأزلي ما فارقني وما كان إيماني ليضُعف ؛ لإيماني بعقيدتي وبديني ، وبأني لم أقترف ذنباً ، ولم أكن مجرمـا . لكنه لم ينطق ولم يتفوه بكلمة مما دار في رأسه بل كان مؤمناً أن حبيبتَه تعرفُ ما يجولُ بخاطرِه ولا حاجة لأن يتفوه بما ستعرف بعد قليل ، لكنه كان صامتـاً ، منتبهــاً يتلقفُ كلماتِها التي إنطلقت بسرعة لم يتعودها منها ؛ فلقد كانت وهي تسأل وتتساءل ،وتبكي وأحياناً تتكلم ببطءٍ مشوباً باللوعةِ والحُزن ، ورنـــةُ الألمِ تكادُ تخنقُها وتُذيبُ الحروفَ من حرقتها . لم يقاطعها ، ولم يحاول ذلك ؛ فلقد كانت تتكلم بصوتِه هو، بلوعـتِه هـو ، بألمهِ هـو ، بقـلقهِ هـو ، بحزنهِ ، بغضبه ، بعجزه ، بضعفه ، بقوته ، التي إستطاع بها أن يكون هنا ، يشعربأنه هو من يتكلم ، هو من يسأل ، هو من يُريدُ أن يتحققَ مما حدث ، لكنه كان يعرف الإجابات وهي لا ، كان يعرف ماذا حلَّ به ، ولا يعرف ماذا حلَّ بها ، كان يُشعرُبأنها قد إستعارت قلبَه وأخذت تتحدث به إليه، أخذت فؤادَه وبدأت تتعذبُ بـه ؛ فلقد سأل نفسه نفس الأسئلة ، وعرف إجاباتٍ وعرف لماذا هو مفقودٌ في سجلِّ الأحياء !

كانت الشمسُ تلكَ اللحظـة تؤذن بالغروب ؛ فلقد جلســـا لساعاتٍ لم يعيا كم كانت وكم أمضيا وهو صامت وهي تنهمرُ بسردِ ما عانت وما فقدت ،وما أضاعت ؛ لذا وبرفقٍ ضغط على يدها طالبـاً برجاءٍ صامت أن تأخذَ بعضَ أنفاسِها؛ إشفاقـاً عليها وحبــاً بذي المخلوقة التي ذابت وجـداً وحـزنـاً لسنوات طوال .

وبهمسٍ ذابتْ معه الكلمات قال : ( أ و تسمحين لي أن أدعوك لنسيرَ معـا )، وكمن لدغتها أفعـى أنتفضت متساءلة : أ وتطلب مني إذنــــاً بالمسير معك ؟ يالكَ من أحمقَ ، مغفـــلٍ وأعمى، ويالك من قاسٍ ،عديمِ الإحساس ، وإستدركت في الحال بصوتً مرتجفٍ ؛ لكنك أبداً لم تكن عديمَ الإحساس ؛ لقد كنتَ تبكي لمشهدٍ في السينما ، أو لكلمةٍ كنت تقرأها في كتاب ، وفجأةً أسمعُ نشيجُك يعلو، أو تذكررواية ( قصة حب ) لأيرك سيغال ؛ لقد حفظتُها عن ظهر قلب لأنك كنتَ تُحبُّها وإشتريت نسخةً من الفلم الفرنسي ( الموتُ حبــاً ) يا رجلاً قد نسي من يكون ومن أكون ، أنا ، أنا لم أتغيّر ولم تُـثنِ عودي الأيامُ وما لانت عريكتي ، وما وهنت قواي إلا الآن ، أ و تطلبُ أن أسير معك الآن ؛ وكنا نمشي لساعاتٍ طوال وتغني لي ( صباح الخير يا لولوة ) هل تدري ، لقد نسختُها وسمعتُها لوحدي لآلاف المرات هي في البداية تحيةً لكَ ثم أسمعُ لفيروز ( حبيتك بالصيف ، حبيتك بالشتي ، وعيونك الصيف وعيونك الشتي ياحبيبي ) تحية لأبيكَ الذي قضـى كمـــداً وحُزنـــاً لم يُصرّحْ به ؛ كيلا تنهارَ أمـُك وكيلا ..... ماذا تريدُ ( يارجلاُ أبيعُ من أجله الدنيا وما فيها ) - { أو تسمحين لي أن تسيري معي } - قالتها بصوت خافت لا يصدر من أي شخص إلا إياها . هل تطلبُ إذنـاً... يا من لا اُذنَ لك ، أما سمِعتَ ما قلتُ و............. .

قاطعها : لقد ، لقد أردتُ أن أقول : لنسر معـــا الآن ؛ لنكملَ مشوارَ حياتنا ؛ فلم يعد في الزمنِ متسعـــــاً لنهدره .ولا أخالك ستمانعين لو أردتُ أن أقول ، وأكسر كلمتي التي طالما كنت أقولُها لـكِ ، وأرددها ( لنبقَ حبيبين ؛ لأن الزواج يقتـلُ الحب ) لكني سأركع على ركبتيَّ الآن لأقول : يا مهجةَ القلبِ وبلسمَ الروح ، يا من تركتِ في روحي جُرحـــاً غائراً لم يندمل إلا الآن ، لوقلتُ وكررت القول أنا احبك ، أحبك ،اُحــ ب كِ ك ك كِ وأنتِ تعرفين هذا قبل أن تولدي وقبل أن أولد ،لو قلت أحببتُ البنفسج لأنه لونك المفضّل ، لــو صحتُ بأعلى صوتي أحبك ، لن تكفي كلَّ الأيام والشهور، ولكِ أقول أودعت الطيرَ أرق التحيات لكني لم أرَ طيراً لثلاث سنوات ، لم أر طيراً أو عصفوراً أو حمامة ؛ ليلي نهاري ، نهاري ليلي ؛ فسيّان عندي الليل أو النهار ؛ فلو قلتُ أعبدك بعد الله لن يكفي ، لو .. ماذا في لو ....لو تسيرين معي الآن .... أو تعلمين من اُسبوع كنت أسير في الشوارع ولا أنظر بعينيَّ بل كان قلبي هو من يرى ،وهو من يشعر ، كانت عيوني تنظر إلى النساء، وقلبي يرفضهن ؛ فمن خلقك لم يخلق لكِ توأمــــاً من جنسك ؛ بل خلقني أنا ، نعم يا توأم روحي ، قلبي من كان ينظرُ وهو من يُنبئني بأن من أريدُ سيراها هو لا أنا ، تفحّصت وجوهاً ، مئات السحنات ، وما كانت إحداهن تُشبهكِ ، تجولتُ في شوارعَ لا أعرفُها ، ودخلت أزقةً مغلقةَ النهايات ، مفتوحة النهايات ، سهرتُ أسيرُ وأسير لعلي أجدك بين الجموع ، لكنكِ بعيدة ، أعرفُ إنك بعيدة ؛ فلم يسمحوا لي بالإتصال ،بأيٍّ من البشر ، هل تعرفين : بعد أن علموا أني أكتب اليكِ كل يوم رسالة في دفاتر حصلتُ عليها منهم وقلمــــاً بل أقلامـاً كثيرة ودفاتر كثيرة سطرتها إليك بدلاً من أكتب ما أعرف وما لا أعرف عن الفيزياء وعن الذرة ، أو أكتب ما يريدون ، لكني بدلَ ذلك كنتُ إليك أكتُب ، إليكِ وحدك ، ولمنعي قطعوا إبهام يدي اليمنى ؛ كيلا أمسكُ قلماً .....

وشهقتْ حبيبتُه ؛ باكيةً مولولةً : لقد أحسستُ بأن هنالك شيءٌ لم تشأ أن أعرفه وأنت تمسّدُ شعري ،منعتني من أن أُمسكَ يدَك ؛ فمسكتَ يدي ، وضعتُها على رأسي كيلا أراها وأرى العذاب الذي كنتَ فيه ، لقد غيّـرتَ مكانك المعتاد ؛ كيلا اُمسكَ يدَك اليمنى ، فيالك ، يالك من ..... وأسكتتها عبراتٌ كادت أن تخنقها !

نعم يا توأم روحي ونفسي ، نفسي فداكِ ، دمـي أسفحه لأجلكِ ، و لا أترددُ في أن أهبكِ حياتي وقلبي وكلَّ ما أملك لأجلكِ أنتِ ، أنتِ وما مَن سواكِ يستحقُّ هذا .

لا، لا تقولها ؛ وهل تريدينني أن أفقدكَ ثانية ، فقدتُكَ أول مرة رُغمـــاً عني ، ولن أترككَ رُغماً عنك . بلى يا غالتي لئن أبتعدَ عنكِ ؛ فذلك يعني هلاكي .

! والآن قــُـلْ لي : أين كُنـــــــــــت ؟ أينَ ، يا من حملّتني ما لا أطيق

كنتُ مختطفـــاً ....خطفتُ ممن لا أعلم من هُـم ! وفي لحظاتٍ شُطب إسمي من قوائم الأحياء ، وشُطب معهُ كلُّ كياني ووجودي بعدما علموا أني أعرفُ شيئاً عن الفيزياء الذريّة ؛ بعد أن وشى أحدهم – سامحة المولى – بي ؛ فأردوا إستغلالي أو إلافادة مني ، إستعملوا كلَّ الوسائل الترغيبية والتهديدية ، بالغرف المضاءة جيداً وبالأكل ،من أجود الأنواع والأصناف وعندما يئسوا من الحصول على ما يُريدون ، ألقوني في زنزانةٍ رطبةٍ ، ضيقةٍ ، سقفُها عالٍ ،ونافــــذةٌ واحدٌ فقط في أعلى السقف ، وكثيرأ ما كانت تُغلق ؛ فلا أعدُ أعرفُ ليلي من نهاري ، معصوبُ العينينِ اُقاد ، مكبلاً بالحديد اُجر ، عارٍ في أشد الأيام برودة ، مُلقى في المجاري الوسخة في أشد الأيام حرارة ، لكني أبداً لم أنحنِ لهم ، ولم اُظهر لهم إني خائف ، مهما عملوا ومهما تمادوا، وأوغلوا في تعذيبي ، لم يتركوا مليمتراً من جسدي ولم يحصل منهم على وشمٍ أو على ندبةٍ أو جرحٍ غائر ، أو حرقٍ بالسكائر ومارسوا معي الإيهام بالتغريق ، عزيمتي تقوى ، كلما مارسوا معي أصناف التعذيب والتنكيل ؛ فما كنت بالسجينِ الخائف ، بل كان السجانون هم الخائفين مني ؛ لما وهبني الحي الأزلي من القوةِ، ومن الثبات ؛ ما جعلني أشعر بأنهم هم السجناء ولستُ أنا؛ كنتُ مفقوداً بنظركم ، لكني موجودٌ بينكم لأن روحي كانت معكم ، وأنتِ بالذات من كانت تمــدُّ فيَّ الأملَ في اللقاء ؛ لأني متيقنٌ بأننا سنلتقي ، لقدأطلقوا سراحي قبل أيامٍ ثمان ورموني هنا لا أعرفُ أين أنا ، وكم مضى من الوقت ، وكيفَ يشعرُ بالوقت من لا يعرفُ ليلهَ من نهارهِ . بالصناديقِ نُقلت ، بالطائراتِ نُقلت ، بالقطارات حُشرت ، الصناديقُ دائماً موجودة، توابيتٌ هي بلا كفنٍ ، وواسطة لنقلي ، أُخرَجُ منها معصوبَ العينين ، مقيّدَ اليدين ،اُجرُّ جراً ، واُدفعُ واُضرب بالأحذية الثقيلة ؛ عندما لا يحصلون على ما يريدون مني.

وأخيراً ألقوني في مكانٍ مهجورٍ خارج هذا المكان من سيارةٍ مسرعةٍ بعد أن وضعوا في جيبي بعض النقود وأعادوا لي هويتي .

لقد امتلأت فرحاً لسببين أولهما: إني هزمتهم والثانية بأني أعلم بأننا سنلتقي هنـــا ، نعم هنــا .

كانت تنظرُ في عينيهِ ، وعيناها مغرورقةٌ بالدّمعِ المنسكبِ بلا إنقطاع ، ومدت يدَها إليه تشدُّ على يدهِ اليُمنى ذاتِ الأصابعِ الأربع ؛ متفاخرةً ، ولتُعلنَ له إنها ستمحو الثلاث سنوات من ذاكرتها ، لأنها قد وُلِدَت من جديد ، في أرضٍ جديدة لم تطأها إلا من إسبوعٍ واحد ؛ جاءت تبحثُ فيها عن توأم روحِها ، وقلبـُها قــد وجد ما كانت تبحث

عنه .

**المُدنف : المريض من شدة الحبِّ

الدخول للتعليق

مسابقة القصة القصيرة جداً

فارس السليم - حال الدنيا - 2.4%
إلهام زكي خابط - حبات اللؤلؤ - 4.9%
عزيز عربي ساجت - اليمامة - 0%
جمال حكمت عبيد - لمسة إصبع - 17.1%
فاروق عبد الجبار - موسيقى - 56.1%
هيثم نافل والي - الراقص - 19.5%
د. نصير عطا - حادثة تحصل يومياً - 0%

Total votes: 41
The voting for this poll has ended on: حزيران/يونيو 15, 2014