من أثلج قلبي !
الساعةُ الثانية بعد منتصف الليل... أعلنتها دقاتُ الساعة المعلقة على جدار الغرفة... وانا ما زلت أتمشّى ذهاباً وإياباً في الممر القريب من باب الشقة ..مرتدياً معطفي الأزرق الثقيل، ودقاتُ قلبي تزداد خفقاناً وتكاد تكون طبلاً مسموعاً تخرج مع أنفاسي الممزوجة بأحزاني المختنقة... لقد حانت ساعةُ الهروب الأخيرة لتحملني إلى بلد اللجوء المجهول ،خوفٌ من هذه اللحظة لازمني طوال ايام رحلتي.. وكثيرة هي الأفكار التي أخذت تجول في رأسي مابين القلقِ والأرق ، والمصيرِ المجهولِ، وبين النجاحِ والفشل ...لقد تركتُ جميعَ حاجياتي ،عدا قطعتين من ملابسي وضعتهما في حقيبةٍ سوداءَ صغيرة ،كانت هذه وصيّة المسؤولين عن عملية التهريب ؛ فكنت لا أعرفهم ولكنهم أوصّوا عادل ليبلغني بها . (عادل هو أحد أقربائي و مضيّفي، يبلغُ الخامسة والثلاثين من العمر) .. إختار (وارشو) محطةً له للعيش بها بشكل مؤقت .
لحظة لطالما تمنيتها كثيراً وخفت منها كثيراً... ها هي البابُ تُقرع وصوتُها يهزّ بدني ،خطواتي تعثّرت وأخذت ترتطم ببعضها ، وحركات لا إِراديّة من جسمي النحيل ؛ تارة أتجه به نحو الباب وتارة أرجع به إلى الخلف ؛وكأني أبحثُ عن شئٍ كان بيدي منذ لحظة وأضعته عندما قُرعت الباب . كتِفاي يرقصان على إيقاعِ سمفونية الخوفِ والبردِ القارص ، الذي حطّ ضيفاً منذ يومين، وجعل السماءَ تنثر قصاصاتٍ بيضاءَ، كأنها رسائلُ وداعٍ هبطت من السماء ،بعد أن اثقلتها كلماتُ الحب والحزنِ اللزج في صدري ،وإختارت قلبي الحائرَ عنواناً لها؛ فسقطت فوق اسطحِ البنايات وغطت أوراق الشجر،وفرشت الطرقات بساطاً ابيض.. عانقتُ عادلَ وكان آخر من اوّدِعه من أهلي بعد أن ودّعت من قبلُ وفي بلدي اُمي وزوجتي وأطفالي وإخوتي وأصدقائي
- فتحتُ البابَ وحقيبتي معلقةً على كتفي وإذا به عدنان ،والذي كنتُ في صباح الأمس قد تعرفت عليه في محل عادل وهو شابٌ عراقيٌّ في الثلاثين من العمر أسمر البشرة قصيرُ القامة نحيفُ الجسم سيجارته لاتفارق فمه لم أرتح لطلعتهِ ورائحتهِ؛ وكأنه ثعلبٌ جاء متستراً ؛ ليسرقَ أحلامي ..
هل أنت جاهز يافرات ؟ قالها قبل إلقاء التحية - قلت: نعم .
- لنذهب في الحال فالوقتُ ضيقٌ ؛لذا تبعته حيث يهبط من سلم العمارة ..والتفتُ إلى عادل ولوّحت له بيدي حينما حطت قدمي فوق اول دركة من السلم فكان واقفاً عند باب الشقة.
ها نحنُ نخرج من البناية ،واذا بعدنان يُشيرُلي أن أتجه نحو سيارته؛ففتح أبوابها وجلستُ معه وانطلق..
لحظة صمت أخذتني ،وعيناي جامدتان ساكنتان، أنظر إلى الشارع وكأنه بحرٌ ثلجيٌّ غاصت به متاهاتُ افكاري وذكرياتي... وأدعيتي الصامتة؛ كانت شفتاي تهمسُ بها ( يا ماري يا شرشاي) يسّر لي أمري وسهّل لي طريقي..( يا بيت هيّ) لا تخذلني فهذه ساعةُ الحسم في معركة الهروب إلى وطن اللجوء .
كان البردُ قارصاً والظلامُ موحِشاً، كسر عَتمتهَ بياضُ الثلجِ المفترشِ الأرض.. بينما عدنان يتحدث معي ، وأنا أُجاوبه بابتسامةٍ زائفةٍ وأهزّ له رأسي وكأني دميةٌ، دون أن ألتف إليه ...وكان لايعرف إنها اِبتسامةُ الخوف أو لربما كان يعرفها...
- فجأةً إنحرفَ بسيارتهِ إلى شارعٍ فرعي وأوقف سيارته بجانب سيارةٍ اُخرى.. كل ما رأيته إنها كانت أكبر حجماً من سيارته وعلى شكل صندوق وكأنها سيارةُ حملٍ صغيرة ليس بها نوافذ خلفية ووقف بجانبها شخصٌ قصيرُالقامة لمْ أستطع تمييز ملامحه ؛لعَتمة المكان . سحب باب السيارة الجانبي بسرعة وقال لي: اُدخل اُدخل بسرعة... لم يكن هناك ضوءٌ داخل السيارة دخلت مسرعاً واُغلق الباب خلفي .
- سمعت أصواتاً لأشخاصٍ ٍيتكلمون همساً تعثرتُ باقدامِهم حين دخلت؛ ففسحوا لي مجالاً للجلوس وإفترشت أرضَ
السيارة معهم ، لمْ اميّز أيِّ واحد منهم من شدة الظُلمة ،وحيطةِ المهرب .
- تحرك : لقد اكتمل العدد.. قالها عدنان للسائق .
- أدار السائقُ محرّكَ السيارة ... وإذا بأصوات خفيفة من الجالسين تَهممُ بالدعاءِ همساً ،وسمعت منها من قال( يا علي) وسمعت أيضاً من قال( يا مريم العذراء) ثم جاءتني مِلء مسامعي كلمات ( يا أدم أبو الفرج يا مندادهيّ)، فرحتُ كثيراً في تلك اللحظة ، ها أنا بين أهلي فقلت : (يا مندادهيّ)... قال لي صوتُ أحدهم: هل أنت مندائي ؟ قلت: نعم..وأنت ؟ قال :أكيد وصوتُ شخصٍ آخر يقول : وانا كذلك... وتحدثنا جميعاً دون أن يرى أحدُنا وجه الآخر ؛وشعرت وكأني أعرفهم منذ سنين ونسيت في تلك اللحظة كل مخاوفي وأحزاني ؛ لقد أثلج قلبي وجودي مع .... .