• Default
  • Title
  • Date
  • عوني سلمان الخشن
    المزيد
    في لحظات من الخوف والقلق زاد من شدتها احمرار لون
  • بقلم. نعيم عربي ساجت
    المزيد
    اليوم هـو الجمعـة ، عــطـلة ( نـضال ) عـن الـعمل ، الشَّمـسُ تـتأَلـقُ في
  • صلاح جبار عوفي
    المزيد
      رنَّ جرسُ الدار..! تسابقت الصبایا الثلاث ( شھد ، تمارا ، مایا
  • فارس السليم
    المزيد
    في ليلة ممطرة شديدة البرودة والصواعق تنشر الرعب في نفوس
الجمعة, 29 كانون2/يناير 2016

خراب البصية

  عماد حياوي
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

قبل عام 1991، كان حالي كحال معظم العراقيين، لا أعرف ما هي (البصيّة)، وحين سألتُ عنها، قالوا أنها مدينة عراقية، فزادني ذلك استغراباً، فبأي طرف وفي أية زاوية من خريطته تقع؟
جاءت الإجابة عمّا وددتُ معرفته من قبل ( فرقة أم علي)*...

ماذا تعني كلمة (فرقة)؟
العسكري يقول أنها تشكيل لألوية مشاة أو مدرعة تسندها كتائب مدفعية... سنقاطعه قائلين شكراً لقد وصلت الفكرة.
أما الفنان فيقول أنها تعني مجموعة لموسيقيين أو مسرحيين أو مغنين وراقصين تؤدي أعمالاً فنية... مثلاً فرقة (أم علي) البصرية المعروفة.

لكن هناك (فرقة أم علي) العسكرية، وهي تجمع الاثنين... كيف؟
وُلدتْ (أم علاوي) عام 90 للدفاع عن (المحافظة 19)، وكان الجيش يَضرب بها المثل بها لتسينها وتميعها لدرجة أن أي عسكري لا يُحب الالتحاق بها خشيةً على (سمعته)!
× × ×

البصية، أصغر من أن تكون مدينة، تقع جنوب بادية الغرب على بُعد أكثر من مئتي كلم عن الناصرية والبصرة ومثلها عن الحدود المُقفرة الموحشة مع السعودية والكويت، وعليه فهي تتوسط بادية جنوب العراق.
وكانت تُعتبر (ناحية) بحكم موقعها لا حجمها، إلا إنها وعند (ترشيق) وزارة الحكم المحلي في الثمانينات أعيدت قرية، وأحتفظتْ بمركز أنواء جوية بدائي وآخر يقولون أنه صحي ومخفر شرطة، حتى سُميت المدينة أحياناً بمخفر البصيّة.
ورغم وقوعها على ملتقى طرق ترابية للرعيان والبدو وسياراتهم الحوضية، إلا أنه ليس فيها سوى شارع قصير مُبلط واحد تقع عليه مدرسة ابتدائية مهجورة ودار سابق لمدير الناحية وبعض البيوتات العشوائية ومولدة ديزل تُجهز الكهرباء لمضخة بئر ماء قامت هذه القرية عليه، توجد عنده شجرتي (يوكالبتوز) عملاقتان تـُـشاهدان من مسافة بضعة أميال ليَستدلُ بهما مَن يقصد البئر للتزود بالماء، وفيها دكان واحد ومخزن صوف، يقطنها بضع مئات، وهم أناس مسالمون معزولون عن العالم وعن الحضارة.
بقيتْ (البصية) غير معروفة لأحد حتى (أحتلها) الجيش العراقي خريف عام 90، حينها تضافرت كل من بطش وقسوة الأمريكان مع غباء ورعونة النظام العراقي، في إزالة هذه المدينة الوديعة من الوجود...

زرت المدينة لأول مرة حين أرادني الآمر التعرف على الفرقة التي تسندها وحدتي (معمل ميدان) وكان عليّ تهيئة ملجأ مناسب لي ولجنودي نحتمي فيه فيما لو قامت حرب، ولسوء حظي أنه كان عليّ العمل هناك مع...فرقة أم علي).

ومع إني كنت على يقين بأنه لو هناك ذرة عقل برأس قادة العراق، لَم يـَقـْدِموا على هكذا حماقة ولا يخوضوا مغامرة خاسرة ويدمرون بلد بكامله، ولا أنّ عرّاب السياسة الخارجية للنظام (طارق عزيز) يتحدى (جيمس بيكر) حين هدد الأخير بإعادة البلد (مائة) سنة للوراء، وكأن مستقبل العراق كان (ورق بوكر) يقامر به بأجتماع (فينا) حين أشترط بمقابل الإنسحاب من الكويت... خروج اليهود من فلسطين!
وحتى لو أن الصهيونية استجابتْ لكلامه وشدتْ رحالها، لعاد وطلب بإنزال العلم الأمريكي من على سطح القمر!

إنا وكل عاقل كان على يقين بأن العراق غير جاد بالحرب، وما يقوم به حكامه، ما هو إلا استعراض عضلات، وتبجحوا بان لديهم 30 فرقة مقابل 25 لتحالف بوش، أيقنتُ بأنهم لا يزالوا يعيشوا في العصور الوسطى، ويَحسبون فرص النصر بالعُدّة والعَدد.
ولأجل تأكيد ما يتصوروه تفوق، قامت وزارة الدفاع بتشكيل فرق مكونة من (شيّاب) حرب إيران ومن (سكراب الشعيبة)، فرق ليس فيها إدارة ولا أركان ولا خرائط ولا ولا ولا... يسبح أكبر ضابط حتى أصغر جندي في خيال المجهول.
حتى أنه عندما (زحفت جحافل أم علي) من السماوة لتتخندق بالبصيّة، تاهت بالصحراء وهدد العطش (خير ما فيهم) حتى تم إسعافهم وبالصدفة من سائق تنكر، سقاهم من ماء الدواب وأرشدهم على ضالتهم.
تصوروا فرقة كاملة تائهة في الصحراء، أين اتصالاتهم... أين خرائطهم؟

كنت آمر مفرزة إنقاذ تابعة لمعمل ميدان يقع على أطراف الناصرية، وثكنته عبارة عن أنقاض مدرسة طينية هجرها الأولاد منذ زمان وسكنتها العقارب والأفاعي والخفافيش، يؤلف موقعه مع كتيبة مقاومة طائرات مجاورة أحد زوايا مربع، زواياه الأخرى هي قاعدة الإمام علي بن أبي طالب الجوية ومحطة كهرباء الناصرية على نهر الفرات ومركز السيطرة والتوجيه والاتصالات للمنطقة الجنوبية، وفيه رادارات (متطورة) وقواعد صواريخ سام...
× × ×

في ليلة 17 كانون ثاني... بدأ القصف الأمريكي هناك، مستهدفاً فقط وبتخطيط مُحكم مركز السيطرة دون التعرض لأي هدف آخر، وكنـّا نـُـشاهد الاستعراض الجوي الأمريكي بأم أعيُننا، أستمر حتى الفجر لتـُـجهز طائراتهم بصوره شبه تامة على هذا الموقع الكبير والهام، مما سهل عليهم لاحقاً امتلاك الأجواء دون (إزعاج).

وبينما أمتصصنا الصدمة الأولى وأقتنعنا بأن الحرب صارت حقيقة واقعة، رحنا (نُعمق) ملاجئنا، المفارقة أننا كنا (كضباط) نحفر الأرض حالنا حال الجنود بعد أن رفضوا الأوامر وراحوا يحصّنون ملاجئهم على رأي المثل (ياروح ما بعدك روح).

إلا أن جيراننا كتيبة مدفعية مقاومة طائرات (م. ط.) كانوا (أشجع) منا بكثير، ويبدو بأن خوضهم سنين حرب إيران الطويلة قد أعطاهم (وقاية) من الخوف، فراحوا يلمّعون مدافعهم ويزيتوها وهم مبتهجين يغنّون، ولم يَضرب أياً منهم (كرك) واحد على الأرض!
جاء العصر وعادت بعض الطائرات للإجهاز على ما تبقى من القاعدة وبطيران أستعراضي منخفض جداً متحدياً فلولنا المرتبكة، فصَعدتْ (الحميـّة) لدى جيراننا كتيبة م. ط. وأطلقوا وابل قذائف 57 ملم، والتي تنفلق في الجو مُحدثة دوي قوي وتشظية يمكنها أن تُمزق الطائرة لو توفر لها الحظ والهدف السهل، لكن في هكذا منازلة فلا أظن إلا أنهم كانوا يلعبون بالنار... أي لعب!
أنسحبت الطائرات من حيث جاءت، فابتهجت الجماعة وتعالت هتافاتهم بهزيمة طائرات العدو... حتى دنت ساعة المغرب ليستهدفنا سيل من القذائف العنقودية التي هي عبارة عن ألوف القنابل الصغيرة تنفجر بكل ناحية وصوب، في الجو وعلى الأرض ويبقى قسماً منها غير منفلقاً لبعد حين، فتعمل كمصائد مغفلين تنفجر بمجرد ملامستها، لتعيق أية حركة أو مسعى إنقاذ.

بعد ساعة غلف الظلام المكان، وزال غبار الغارة الأمريكية، خرجنا من جحورنا بحذر، وإذا بصوت عشرات الشباب من كتيبة مقاومة الطائرات يستغيث ويحتضر، فمنهم من (يعيّط) وآخر (يون) وثالث يصرح باسمه ويرجو إبلاغ أهله بموته، هذا يُسلم على الوالدة الغالية وذاك يبعث بقبلاته لأطفاله وآخر يرجو دفنه وعدم ترك جثته تنهشها الكلاب...

مَنعَنا الآمر بشكل قطعي من التحرك لإسعافهم، وعشنا مَشاهد موت مُروّعة أمامنا، ففيهم من أستقبل مصيره بشجاعة ومنهم بكى وندب حظه وحظ أهله... حتى الفجر، عندها جاءت سيارات الإسعاف لتجد ما لا تحمله، فقد نفق الجميع بساعات الليل الشتوية الطويلة.

صرختُ بالآمر وانتقدته وحمّلته ذنبهم مما أستفزه، لكنه برر ذلك ـ وتبين أنه كان على حق ـ بسبب خطر انتشار القنابل فوق الأرض، فلو تحركنا بالظلام، لأنفجرت فينا وزاد الطين بلّة.
وكردة فعل منه ضدي، أمرني بالتوجه حالاً بمفرزتي مع علبتي صبغ (بوية) للمتقدم بحجة تبديل لون المدافع من الزيتوني للون الصحراء (الكاكي) وكأن طيارهم (سيطلُ برأسه) باحثاً على مدافعنا.

ذهبتُ مُكرهاً وعلى عَجل ـ حسب قاعدة نفذ ثم ناقش ـ مع جنودي وقليل من التموين (ماء وخبز وتمر زهدي) برحلة الأربع ساعات من الناصرية للبصية حيث ينتظرنا المجهول...
وحين وصلنا قلت للجنود:
حُفروا الخنادق زين... وعمقوا مساحيها...
خاف القصف يزداد... ونطب نحتمي بيها!

الأوامر التي أنيطت بنا من (قيادة أم علاوي) ليس بصبغ المدفعية ولا بتزييتها، وإنما في (وَئدها) خِشية قصفنا جراء مخالفة الأوامر وأستخدامها من بعض الجنود كرد فعل.

مرّت أيام والوضع هادئ بالبصية، لا يكسره سوى صوت محركات (البي 52) القاصفة العملاقة (تـَـقبض الروح) وهي حاملة الموت والدمار لأهلنا وبلدنا...
لكن وبنفس الوقت كان لصرخات الأطفال وهم يلعبون على الطرقات، وقعاً مغايراً تماماً، فضجيجهم كان يبعث بالنفس البهجة والأمان.

كان العسكر قد أتمّ احتلاله معظم أبنية البصيّة، وقد أمطرت السماء فاكتست الوديان ببعض الخضرة وجو ليل الصحراء صار أدفأ، مما دفعني أن أدعو للعشاء ضابط مشاة يُعسكر بالقرب منا ويقدّم لمفرزتي الدعم والمساعدة.
وصلني حوالي الثامنة مساءاً بينما بقي سائقه بسيارة (واز) بالانتظار خارج ملجئي المتواضع، وبينما كنا نتحدث، وإذا به وبسرعة خاطفة يقفز عليّ ويُسقطني أرضاً ويمتد فوقي واضعاً يديه على أذنيه...
في تلك اللحظة، تعرضتْ القطعات لغارة جوية شديدة، فدمّرت صواريخ الطائرات المباني المتواضعة، تبِعَهُ عنقودي (عوّق) جميع الآليات وجعل أرض القرية حقل ألغام كبير.

كان لخبرته كضابط مشاة ورد فعله السريع الفضل في بقاءنا أحياءً، في وقت امتلأت عيوننا وأفواهنا وآذاننا وحتى جيوبنا تراب مفخور رمادي اللون كان قد تسلل إلينا من شدة العصف.

... بعد الغارة سمعنا (ونين) سائقه حيث مزّقته الشظايا بالكامل، ولم نعد نلمس بتلك الظلمة الحالكة من نصف جسده الأسفل شيء، كان يحتضر ويطلب تبليغ أهله حبه وقبلاته لأطفاله، وما أن تَشاهدَ حتى كانت روحه تـتـزاحم مع مئات الأرواح الأخرى من هذا المكان في الصعود لخالقها...

نقلناه لملجأ الجنود وصرنا نبحث عن عجلة صالحة وسط صدمة الجيش بتدميره عن بكرة أبيه وتكدُس الجثث وصياح الجرحى، وتصاعد بكاء الأطفال وعويل ذويهم، وكأن مشهد كتيبة (م.ط.) في الناصرية يتكرر بشكل أقسى وأشد.

ومع أني أدركُ خطورة أي حركة وسط أنتشار القنابل العنقودية، إلا أنني كنتُ لا أستطع فعل شيئاً، فقد كنتُ عاجزاً تماماً عن ثني من يبغي، فأكتفيتُ بالصياح منبهاً من خطر القنابل الغير منفلقة حتى نتعامل معها حين يطلع النهار.

لكن كيف أستطيع أن أمنع أماً يستصرخها أطفالها وقد أحالهم القصف أشلاء ممزقة، أو أن أردع أب يحاول تهيئة سيارة صالحة للذهاب بأكوام جرحاهم لمستشفى الناصرية البعيد؟

وراح في كل حينْ بتلك الليلة الحالكة السواد، ينفجر لغم على أحداً هنا أو يعلو صراخ آخر هناك، فتتعمق المأساة وتتسع الكارثة التي تحيقُ بهم وبأطفالهم وماشيتهم وحتى كلابهم السائبة...
أصرخ في الظلام، ولا من مجيب...

كان لأحتراق مولدة الكهرباء وأشتعال النار ببراميل (الكاز) قد سلط الضوء وأضفى على مشهد تدمير هذه المدينة الساكنة بأهلها... رومانسية الموت!


كانون ثاني 1991

*(فرقة ام علي): فرقة غناء شعبية بصرية نسوية، يضرب العسكر المثل بها حين يراد انتقاد أداء الجيش أو ضعفه وتميعه.
ا

الدخول للتعليق

مسابقة القصة القصيرة جداً

فارس السليم - حال الدنيا - 2.4%
إلهام زكي خابط - حبات اللؤلؤ - 4.9%
عزيز عربي ساجت - اليمامة - 0%
جمال حكمت عبيد - لمسة إصبع - 17.1%
فاروق عبد الجبار - موسيقى - 56.1%
هيثم نافل والي - الراقص - 19.5%
د. نصير عطا - حادثة تحصل يومياً - 0%

Total votes: 41
The voting for this poll has ended on: حزيران/يونيو 15, 2014