• Default
  • Title
  • Date
  • عدي حزام عيال
    المزيد
      الجزء الثاني تزوج جدنا عيّال مرة ثانية من (مالية
  • عبد المنعم الاعسم
    المزيد
    بين عزيز سباهي وبيني سرّ ما يحدث للمندائيين هذه الايام،
  • رشيد الخيون
    المزيد
    يطلعك غضبان رومي في مذكراته، وبتفاصيل دقيقة، على سرعة تطور
الخميس, 18 نيسان/أبريل 2013

الفنان مكي البدري

  قاسم حول
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

عرفته في معهد الفنون الجميلة بداية الستينات. إشترى أرضا ليبني عليها دارا. رسم هو مخطط الدار، وباشر بشراء مواد البناء وكلف البنائين لبنائها. وعندما أتمنها إفتتحناها عائلته وأنا. زرع فيها نخلتين.
مكي البدري أصررت أنا كمؤسس للمشروع أن يقوم بدور البطولة في فيلم الحارس وقد أبدع فيه. وعندما أخرجت أول فيلم روائي طويل لي أعطيته بطولة الفيلم لأنه يستحقها.
مكي فنان موهوب .. ممثل من طراز خاص .. تلقائي في الأداء وحنون في العلاقة. لكن تعب الأيام أنعكس عليه وأراه الآن عصبيا وعاتبا في مقابلاته .. يعتب على المخرجين لأنهم لا يعطونه الفرصة التي يستحق.
شاهدته في مقابلة تلفزيونية وكان غاضبا على الجميع. شعرت أيضا أنه غاضب مني بضرورة الرفض المطلق.
الوضع صعب يا مكي والحالة توحي بالإكتئاب فعندما يقع الوطن مرة تحت وطأة الدكتاتور وثانية تحت وطأة الإحتلال ويجبر المبدع على ترك وطنه تقل فرص العطاء وفرص العمل والساسة يشعرون بأن الوطن صار مصرفا مفتوح الخزائن والأبواب ويبقى الفنان يرى البلاد عرضة للنهب والإغتصاب وهو غير قادر أن يقول كلمة في ما يجري أمام عينيه عندها تصعب المعاناة مضاعفة.
ادرك همومك أيها الصديق وجميل أن الناس الذين يحبونك سواء من طائفتك المائية الصافية أو من أبناء شعبك وأعرف أنهم يحتفون بك ويفتخرون بإبداعك وفي هذا جانب من راحة النفس. بودي لو يستعيد العراق عافيته ونحن لما نزل في قدرة الإبداع والعطاء حتى ننتج شيئا جديدا مختلفا.
أحباءك يقدرونك يا مكي وأنت مبدع متميز فلا تحزن .. هناك مثل قاله الأغريق:
لا تندم على الأخطاء التي يمكن إصلاحها .. وأيضا التي لا يمكن إصلاحها.
هل تتذكر أنني عدت ذات ليلة من دعوة لصديق في داره قريبا من بيتكم وعندما عدت لم أعثر على دارك في الشارع مع أن فيه علامة مميزة .. نخلتين زرعناهما سوية وكبرتا ومع ذلك ضيعت الطريق إلى داركم وكان ذلك آخر لقاء لي في منزلكم العامر .. سلم على أم أنور وبوركت يداها اللتان أطعمتنا أشهى الأكلات العراقية .. والمندائية.
قال السيد المسيح .. المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المحبة.

يوما كتبت قصة وأنا على جبل في منطقة (عبي) في لبنان وكنت أحد شخوصها وعنوانها زائرو الليلة الأخيرة .. أهديك هذه القصة .. قاسم حول

زائرو الليلة الأخيرة

تلتمع من بعيد خضرة الشارع المضاء على قمة الجبل حيث الضيعة التي أسكنها. أتطلع نحوها إذ لا أحد. قبل ساعات، ربما في الساعة الرابعة، كانت الشمس المؤنسة الحزينة الوحيدة التي تتألق بين الأرض والسماء. عرفت حينها أنني كنت رحلت منذ زمن. السنوات الأربع ليست حلما ولا حكاية، إذا ما عددتها بالأيام أو بالساعات وبالدقائق، تبدو فعلا واجهة كثيفة من الإنتباهات المتلاحقة.

البيوت المتناثرة في الضيعة التي تبدو مثل القبور، إذ يندر أن تشاهد فيها مخلوقا .. ولكن عندما يحرك الهواء طرف الستارة الرمادية الطويلة تحس أن ثمة حياة في هذه الضيعة.

هذه هي وجوه أصدقاء الأمس تقف أمامي بكل ملامحها. أعرفها وجها وجها، وأقرأ فيها كل تعب الأيام الماضية.

وجه ممسوح بالصفاء والتعب، وآخر بلون الكهرمان خائف من الشيخوخة، وثالث يعرفل أنه غير راض عن كل ممارساته. كان يريد أن يصبح أديبا وفنانا، فأرتمى في كابوس الحسابات.

عندما أبحرنا سوية في عالم الطموح وفي وجدان الغد، قلنا لبعضنا أكداسا من الكلمات الواضحة.

وها نحن نلتقي ثانية، في هذه الضيعة – المقبرة، ونبدو منهكي القوى. الأصدقاء الثلاثة الذين هم في زيارة لي فوق الجيل لا يعرفون إنني مسافر غدا من هذه الضيعة، وجميل أنهم زاروني في الليلة الأخيرة، وإلا كيف سيكون بإمكانهم تحقيق هذه الرغبة في مثل شوارع بيروت، حيث لا فرصة للسكون ولتبادل الأحاديث الودية.

حمل منير خصلة من شعره الأسود، وأحس بملوحة الدمعة التي طفرت من عينه وقال لي:

- كان من الممكن أن يكون وضعنا أفضل من هذا بكثير.

وعندما قلت له (لا مجال للإختيار) ضحك مثل الطفل، وكنت أعرف أنه كان يبكي، ثم أضاف محاولا أن ينسى همومه ( إن هذا البيت واسع لدرجة أنه يتسع لشعب الصين). ناولت منير سيكارة، فيما كان الزائر الثاني (الفارسي) يبتسم، متذكرا كل تلك الجلسات القديمة، وأعدت إلى ذاكرته يوم سرقنا سجل الغيابات من الصف ورميناه في قناة الجيش لننقذ أنفسنا من الفصل من المدرسة تلك السنة.

سألني الفارسي:

- كيف هي حياتك هنا؟ هل تعيش قناعات كاملة وحقيقية؟

- الحديث عن القناعات شيء نسبي. ولكن ألم يكن أفضل لو أننا تحركنا وفق قناعاتنا الأولى. من الذي أنتصر في معركة الطموح؟ ليس سهلا يا فارسي أن تعيش وسط مجموعة من القوادين واللصوص . أنهم يحيطون بك مثل البرغش.

قفز البدري الزائر الثالث، من مكانه بحيوية محاولا أن يمنح سنوات عمره الطويلة روحا شابة، وأدار شيئا من العرق في كؤوسنا، وألقى حوارا من أحدى المسرحيات التي يحبها.

كان البدري ممثلا جيدا، ولكنه كاد ينتهي في غمرة العمل الفني العادي. ولم يبق له إلا التمثل ببطل مسرحية (أغنية التم) لتشيخوف.

الضيعة الساكتة والبيت الواسع، وإلتماعة الضوء الأخضر في الشارع البعيد فوق الجبل، والهواء البارد .. ونحن جميعا نكاد نسقط في هوة الذكريات.

سكرنا حتى الثمالة، وغفونا قرنا من الزمن، وعشنا قرنامن الزمن تلك الليلة، التي هي هذه الليلة .. الأمس ليس قريبا، حتى نستطيع أن نتذكر كل تلك التفاضيل، لأن التفاصيل تبقى أطول من التأريخ.

على ظهر الباخرة وهي تنساب فوق مياه البحر الأسود صيفا. وفي الكوة المحفورة في الفضاء وأنا داخل الطائرة .. وعلى سواحل بحر مرمرة .. وفي أقبية براغ وبرنو، أنا أشم رائحة الشموع .. وقريب من الكنائس الذهبية في الكرملين .. ومع الصيادين في غابات سوقطرة .. وفي كل لمحة قبل هذه الزيارة المفاجئة للأصدقاء كنت أتساءل:

ما هي حدود الطموح!؟

أننا نكاد نفقد حتى طعم التأمل وطعم العطاء.

ويعود الأصدقاء في زيارتهم المفاجئة للضيعة ليسألوا معي ذات السؤال ويرددوا ذات الجواب.

(إننا نكاد نفقد حتى طعم التأمل وطعم العطاء)

إنها مهمة عسيرة .. الحياة، وأنت تريد أن تمسك بزمام الأمور كي لا تفلت منك، فيما يحيط بك اللصوص والقوادون مثل البرغش، ولا خيار لك. فأين نقطة البداية؟ هل يستطيع أحدكم أن يتذكرها بالتحديد؟ لقد تلاشت. هي لحظة صفاء كاملة. تذكروها .. حاولوا أن تتذكروا. لا أحد يتتذكر.

- كنت أريد أن أكون في غير هذا الطريق (صرخ الفارسي) أنتم تعرفون ذلك جيدا (وأشار بإصبعه نحونا) .. أنت وأنت وأنت. كلكم تعرفون (وأكد بإشارته نحوي) .. ولعلها حياة صعبة هذه التي ندور فيها مثل المروحة داخل الأسلاك. الحسابات والأرقام عالم سافل يتحدث دائما عن الربح والخسارة .. ونحن فقط الخسارة الحقيقية الوحيدة.

سكتنا جميعا. وأدهشنا فعلا سكون الضيعة. (أين سكان هذه الضيعة؟) قال منير. وهل أن جميع البيوت بمثل سعة هذا البيت التي يتسع لشعب الصين!؟

أراد البدري أن يبرر مواصلته للعمل في المسرح في غير الخط الذي رسمه لنفسه .. ثم كيف يعيش الممثل دونما مسرح .. شيء أفضل من لا شيء.

من منكم خاف ذات ليلة؟ كنت وإياه في سيارة عمومية، وكنت ثملا يوم صرخت أمام الجميع (كلما شاهدت رجل مخابرات إقتله. لأنك إذا قتلته تنجو من الموت، وإذا قتلك تنجو من الحياة)

- كل هذا الكلام ثرثرة في ثرثرة. (قال منير)

فأجاب الفارسي:

- لا يزال هناك متسع من الوقت . لنبدأ من جديد (وبكي)

فقال البدري:

- وكيف نبدأ من جديد .. أنها مجرد زيارة لليلة واحدة (وبكى)

فإنتبه منير إلى مصباح الزيت القابع فوق المنضدة وقال ( ولم هذا الفانوس في عهد الكهرباء اللعين)

- إنه ينتظر من يولعه عندما تنقطع الكهرباء عن الضيعة. مثل رواياتك يا منير.

- وهل يستطيع هذا المصباح أن ينير كل هذا البيت الكبير الذي يتسع لشعب الصين. صحيح، الصينيون كيف يعرفون بعضهم. أنهم متشابهون. مرة، قدم لي طالب صيني بدرس اللغة العربية في جامعة بغداد قنينة بيبسي كولا ودعوته للغداء في اليوم التالي, وعندما إلى المطعم، وخلال الحديث إكتشفت أنه غير الطالب الذي دعوته .. إنه شخص آخر.

ما بوسعي أن أفعل .. أنهم متشابهون.

إتركوا الحديث عن الطموح. ماذا بوسعنا أن نفعل. لو ذهب الفارسي إلى الصين لحقق شهرة. أتعرفون لماذا؟ لأنه سيكون الوحيد المختلف بين مليار صيني متشابه.

إنقطعت ضحكاتنا نحن الأربعة عندما فوجئنا بالناس وهم يسيرون في كل شوارع القرية التي نطل عليها. أربع نساء ورجل يتحركون أمامنا من بعيد .. يختفون خلف أغضان التين على حافة الشارع ويظهرون . رجل كهل يسير ببطء مستندا على عصاه، وتسمع ضربة عكازته على الإسفلت البارد. ومن أحد البيوت ظهرت إمرأتان وطفلان، وهناك في الشارع المرتفع ثلاثة شباب يسيرون مسرعين. حركة دائبة في هذه الساعة المتأخرة من الليل. الضيعة بكاملها تسير مرة واحدة مثل النمل.

لماذا دبت الحياة فجأة في هذه الضيعة الميتة لأول مرة منذ سكنتها قبل شهرين. سمعنا همهمات الناس، وكأنها تتحدى السكون.

كان ناقوس الكنيسة يدق معلنا موت أحد أبناء الضيعة.

هنا، وفي مثل كل الضيعات الصغيرة، بإمكانك أن تعرف كل ميلاد وكل موت. الميلاد لايمنح الحركة لأبناء الضيعة، وإنما الموت يعطيها حيوية ونشاطا غير مألوفين.

الزائرون الثلاثة ليسوا هنا في هذا البيت الكبير الذي يتسع لشعب الصين.

إنهم في العراق

ولست ملزما أن أخرج مع أبناء الضيعة، لأنني الزائر الوحيد بينهم. والليلة هي الساعات الأخيرة من أجازتي.

ها هي حقيبتي الحمراء وسط الغرفة. وعلى المنضدة الخشبية يقف بائسا مصباح الزيت. البنطلون والقميص مرميان على السرير الآخر .. وكذلك هويتي.

في صالة البيت يلتف غصن أخضر طويل. طوال مكوثي في البيت لم يكن يعني شيئا عندي.

الغرفة الثانية الكبيرة .. لا أحد.

الغرفة الثالثة الكبيرة .. لا أحد.

مجرد أسرة ووسائد وشراشف بيضاء مثل الأكفان.

وصرت أتنقل في البيت الكبير من زاوية لأخرى، ومن غرفة لأخرى، والمصابيح تدفع بظلي على الجدارن، وتارة على الأرض، وأخرى يصبح ظلي ظلين.

وفي مكان ما من هذه الضيعة شخص لا يعرفه سوى أبناء هذه الضيعة يسحب الحبل، وينوء تحت ضخامة ناقوس الكنيسة. والجميع يتحركون في الشوارع، وآخر مثل قالب الثلج ممدد في الصندوق الخشبي وقد منح الحياة لهذه الضيعة لأول مرة منذ زيارتي لها قبل شهرين.

الزيارة .. الطموح .. الغربة .. الوطن، وتعب الأيام الماضية والقادمة، كلها يمكن أن تكون محض إفتراء، وحالة من الخوف لا يعرفها الصغار الذين يرافقون أهلهم الآن وهم في طريقهم إلى حيث يرن الناقوس.

إنسحبت همهمات الناس ووقع أقدامهم ونباح الكلاب ورنين الناقوس وحفيف أوراق الأشجار والنسمات الباردة، وكانت وجوه الأصدقاء الثلاثة حزينة مثلي .. وساكتة، ومرمية فوق الحقيبة الحمراء التي تتوسط الغرفة.

الدخول للتعليق