• Default
  • Title
  • Date
  • نعيم عربي ساجت
    المزيد
    استيقظت من النوم على اثر هزة خفيفة لرأسي ، وصوت امي
  • مؤسسة الذاكرة المندائية
    المزيد
    the Foundation for the Preservation and Riviving of Mandaean Memory
  • عبد الحميد الشيخ دخيل
    المزيد
    كان التجمع في شارع ابي نؤاس عصرا وكما اتذكر مساء
  • همام عبد الغني
    المزيد
      تواصلت رحلتنا , متنقلين بين قرى كردستان , التي كانت آمنة
الأحد, 22 كانون1/ديسمبر 2013

العم توفيق وعبق التاريـخ

  عماد حياوي المبارك
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

يحـــلُّ بيننا هذه الأيام وعلى الرحبِ والسَّعة ، العمُّ الطيب توفيق بقال الخدادي (أبو منتصر) ، قادماً من إنكلترا لزيارة أهله وأصدقائه وأولاده في هولندا ، وقد إنتهزتها فرصة لترتيب أكثر من لقاء معه ، ليتحفنا بما تحويه ذاكرته الحديدية الممتدة بأعماق عمره المديد ، بعضها يغوصُ في زمن يمتدُّ أكثر من تسعين عاماً ، نستشف من خلالها ، عبق الماضي وبراءة الطفولة وحُسن سلوك أهلنا الأقدمين ، وهي فرصة أن نُلقي الأضواء على تاريخ مُشـرّف للطائفة المتميزة ، بطيب شخصياتها من شيوخ إلى ( اُسطوات ) حرفيين مَهرَة واُمهات حنونات...
وقد وجدتُ وكمساهمة مني على هذا الموقع المندائي المبارك ان اساهم ولو بشكل للجيل الجديد ، مما إحتفظتْ به ذاكرة رجل غنيّة مختصرٍ، متوخياً الدقة اقدمها كمادة أرشيفية اُقدمها للاخوة المعنيين بالذاكرة المندائية ، مع الإعتذار عن بعض الهفوات إن أكن قد وقعت بها
عماد حياوي المبارك

دعونا أولاً أن نكون بضيافة العائلة المندائية المثالية في الاخلاق والتربية وفي الثقافة ، عائلة الرجل الطيب ... عمو توفيق

يسألني سائلٌ : من عَلـّمك شغل المينة الحارة ، والنقش على الذهب ، و(تطبـيك) الزردة بشكل مُحكم ؟
بهدوئه المعتاد ، وفي (طبكة) محله بالكرادة عام 1985 كانت اُولى الدروس بهذا العمل المميز ، ترِدْنا من قبل رجلٍ طيبٍ مُسالمٍ هادئٍ جداً ونَصوح جـــداً ،إعتدنا أن نُناديه ...( عمو توفيق ) .

ـ ليش عمّو تفضّل تركيب المينة (الحارة) على ذهب عيار 18 ؟ هكذا بدأنا إطلاق اسئلتنا ...
ـ حتى المينة ما تتكسّر ، يكون ذهب 18 عيار أنسب لأنه أصلب من ذهب 21 ، وبالتالي ما نحتاج سبيكة ثقيلة أي (كيج) عالي .
ـ ليش نُستعمل حجر المسن وأيدينا بداخل الماء ؟
ـ حتى تنعم المينة أحسن ونشوف أوضح ونسيطّـر على الطايح .
ـ ليش إنموطر السلعة بدل ما نجليها ؟
ـ الجلاية تشلع المينة وتبدّل لونها ، والماطور يُعطي لمعة قوية مثل المراية على السطح الأملس ...
نستفزه بخباثة : ليش ما نحط مينة باردة ونخلص ، أسهل وأسرع ؟
ـ عفية عليك، ورة كل هالحجي تريد تحط مينة باردة ، هاي مجرد صبغ !
اذاً جميع ما في جُعبتنا من (لـيشات) تجد لها جواباً وافٍ من رجل حِرفي إكتسب خبرة بعد أن توارث الصنعة عن أبيه (حجي بقال) وعن معلمه الفنان القدير حسني زهرون ملا خضر ...

اذاً هو العم (أبو منتصر) توفيق بقال خنجر الخدّادي ...
لنبدأ بمملكته ، من زوجته المرحومة طيبة الذكر (ام منتصر ـ رازقية رشيد ملا خضر) ، هذه السيدة ، ربما بسبب عشقها لعائلتها ، فقد إختار لها الله المنيـّة قرب أولادها بعد رحلة علاج قصيرة في إنكلترا ضد مرض خبيث لم يمهلها طويلاً ، فدفنت بالقرب منهم منذ عشر سنوات خلت .
كانت اُمّـــــاً صالحةً ،وربةَ بيتٍ ماهرة ، همّها الوحيد سعادة أبنائها و ... النظافة ، كلُّ شيٍءٍ لديها يجب أن يكون في نظافته (سوبر) ، من البيت للحديقة ، وكنا نلاحظ ذلك جلياً حتى على الرصيف والشارع أمام بيتها وأمام (بيتـُمْجان) ، أقصد (بيت اُم جان) جارتها المسيحية الطيبة ، حيث يقُمْنَ في مشوار غسل صباحي (يومياً) بغسل الشارع أمام داريهنّ ، لدرجة أنه كان حتى الاسفلت يزهو بسواده

كان لإنتقالة العم توفيق في شبابه ـ بداية الثلاثينات ـ من العمارة لبغداد الطفرة النوعية الاولى ، ثم زواجه وسكنه بالإيجار بالكرادة ثم شراءه دار بالدورة والسكن فيه ، ثم بدار المأمون ، مُستقره الأخير ببغداد حتى هجرته لإنكلترا ، هي المحطات الأهم بمسيرة حياته .
خلال تلك السنوات وُلِد ابناؤه جميعاً ، عدى إبنته (ندى) التي رُزق بها في بيروت ، خلال فترة معيشته وعمله بين نهاية الأربعينات حتى منتصف الخمسينات ...

ولده البِكر (منتصر) مواليد 48 ، مهندس مدني ومقاول يعمل لحسابه ، رجل عصامي يحب عمله ويُتقنه ، عرفْتَه ـ كباقي إخوته ـ طيب القلب لايتفوه (العيب) مطلقاً ، وزوجته ماجستير علوم ، بنت خالته (عوالي) ام بسام وحسام ، مجتهدة خدومة بسيطة ، و ولديهما اليوم مهندسان خريجا لندن ، والعائلة هاجرت لانكلترا منتصف التسعينات .
(ضياء) خريج هندسة طيران اميركا ، هاوي وعاشق (بالوراثة) إصلاح وادامة الاجهزة والمكائن ببراعة نادرة وصبر ، زوجته (مواهب) عيدانية الاب مباركية الام ، ناشطة في شؤون المرأة وعضو فعال في الفيدرالية المندائية بهولندا ، لهم ولد (فادي) طبيب وسيم ومحبوب ومجتهد ، وبنت (تانا) مهندسة معمارية شاطرة ، يسكنون بقلب هولندا وفي (قلوبنا) لتواضعهم وبساطتهم

و(جمال) كان ملازم إحتياط ، أسير تسع سنوات في حرب ايران ، لم يُمهل نفسه كثيراً في العراق بعد اطلاق سراحه قبل أيام من حرب الكويت ، فهجَر البلد بعد أقل من سنتين من تحرره حين يأس في وضع لا رجاء فيه ، ولده (قيصر) من زوجته وبنت خالته (بلقيس) محبوب لطيف وهاديء ، ومدلل لدى جده توفيق .

آخر العنقود (وهبي) متزوج من (سمر) ابنة بنت خالته ، سليلة عائلة شيوخ ، وهو أوسم الاخوان وأهدأهم ، لهما ولدان وبنت بكر حلوة كوالديها ، يعيشون بالسويد ، هجر البلد وهو في قمة العطاء والنجاح ، بعد أن أدركته الغربة وهو في عقر داره

إبنته الكبرى ، هاجرت مع زوجها منذ عام 80 لإنكلترا ، (ندى) إنسانٌ مُضيافةٌ وتحبُّ مدَّ يدَ العون كزوجها الودود الغالي على الطائفة إبن الاهل الطيبين الغني عن التعريف (د . حسام صبيح دابس) ، هما لا يتوانان بتقديم المعروف ولمِّ شمل العوائل المندائية ببريطانيا سنوياً في دارهم المعمورة في لندن ، دون إن تدفعهم مصلحة أو حب ذات ، وهم محطُّ حب وتقدير الجميع ، لهم ولد وبنت ، ويعيش العم توفيق عندهم منذ ست سنين أو أكثر

والبنت الصغرى (هدى) أم الولد الشقي وصديقي المقرّب (سيوفي) ، زوجة اخي طيب القلب صلاح ولهم ثلاث اولاد وصلوا ، استراليا منذ فترة قصيرة ، وهي اخت غالية عاشت معنا اولاً ببيت أهلي ، ألمس منها خلال 28 عام إلا كل خير حتى يومنا هذا

مملكة العم توفيق الطيبة هذه ، يجمعها الهدوء والطيبة والتي إكتسبوها من أبيهم ، مربيهم ومعلمهم ، ولم تميل العائلة للتطعيم (بأغراب) ، ولم يحدث ذلك الا ثلاث مرات ، بزواج ندى من حسام ، وبعنصرين مباركيين ـ مواهب وصلاح ـ الذين اضافوا (بهارات) حارة سخّنت أجواء العائلة ، وصار يُسمع (أحياناً) في بيتهم ... صوت !

للعم إبي منتصر ولعٌ بتصليحِ أيِّ جهاز نعجز أو (نتعاجز) عن إصلاحه ، ويتفوق علينا بمهارته ، ويؤدي واجبه بحرصٍ متناهٍ ، ويحترم عمله وغالباً ما يُعيد الجهاز ـ رغماً عنه ـ للعمل ، و كما كان حتى لو لم يشتغل ، وهو أمر لا يفعله الكثيرون !

غرفة مكتبهِ بمنزلهِ الكائن في المأمون نسميها (صندوق الولايات) ، وهي مقدسة لديه ؛ ففيها كان يقضي وقته ويمارس هواياته ، يحتفظ فيها بمئات الأجهزة وإلوف العُدد ، منها منذ خمسين أو ستين عام مضى ، ويضع كلَّ شيء بمحلة بعناية ويُدرِك ذلك جيداً ، ولم يصادف أن بحث يوماً عن حاجةٍ ما ، بل بالعكس يذهب إليها مباشرة ويجدها رغم الزحمة ، وما أكثر الساعات التي تستجيب لأنامله فتجدها تدور وتتناغم فيما بينها . بورشتنا في شارع النهر ، إحتجنا (تيغ ) للمناشير لان المتوفر في السوق رديء جداً ، هبّ وسألنا ما النوع والدرجة يومياً التي نحتاجها ، حين كنا (ننشر) كعمال مئات القطع ، ثم فتح دُرج مكتبه وأخرج لنا (سيتات ) انكليزية قديمة ذات نوعية فاخرة قاومت الزمن ، لأنها ... لا تِعمة ولا تزنجر ولا تنكسر، وأنجزنا كلَّ القطع بأيدينا حين إستخدمناها ودامت زمناً أضعاف الحديثة) .)

منذ فترة صمم العم على زيارة العراق رغم صعوبة ذلك ، وأمام (عناده) استسلم له اخاه (ابو زهيرجهاد بقال) وابنه منتصر ، واصطحباه في العام الماضي وزار (فردوسه) رغم حالة اللا أمان والتربان ، تحركَ وتنقل وشحن لانكلترا عارضة سينمائية وافلامـاً تعود لأربعين عام خلت ، لكنه يعتبرها ذاكرة الزمان ، وعـزَل قوالب نادرة لاتزل محفوظة بالزيت ، منها لمصاحف ذات نقشاتٍ دقيقة جداً كان قد حفرها بيده ، لكنه لم يسلم في ذهابه هذا ؛ فلقد اُصيب بإنفلاونزا أقعدته الفراش ، رغم ذلك كان سعيداً جداً ؛ لذا أعاد ترتيب مكتبه وكأنه سيباشر تواجده من جديد ، و ودع رفاقه بالعراق على أمل أن يلتقيهم ثانيةً .

كان يحب متابعة مسلسلات التلفزيون ، ويعيش أحداثها ، ويُحب حديقته الخلفية ببرحياتها ، ويُعدُّ لنفسه الطعام الصحي ، ويؤكد على الإنتظام بكمية وتوقيت الوجبات بضمنها وجبة العشاء ، والإهتمام بنوعيته ومضغه جيداً ، وأكل التمر يومياً ، ويعتبرها أسرار تمتعه بالعمر المديد .
وينصح بأن لا (تغث) او تنغث . لانها أساس الصحة ، إضافة لذلك كان يحتفظ بصداقة مع الجيران ومع (شياب) المنطقة ، ويلعب الدومينو والطاولي والورق معهم .
قليل الكلام ، كثير الافعال ، يتمتع بذاكرة متينة .

في عام 91 ولما فتحنا أنا واخي صلاح محل صياغة في شارع النهر ، وكنا لانزال (لحيمية) كان سعر المحل (سرقفلية) ثمانون الف دينار ، تُعادل كيلو وربع ذهب ، فكان هو والمرحومين طيبي الذكر عمو عجيل زهرون (ابو خالد) واخي طارق قد ساهموا (مشكورين) بنصف المبلغ (كدين) ، وكان هو آخر من أعدنا لهم الدين ، لكن كان المبلغ حينها لا يكفي لشراء (ذبيحة) !

والجدير ذكره هنا ما قاله بانه (تنين) أي بنفس عمُر والدي طيب الذكر المرحوم حياوي مريبط ، ولما كان أبي من مواليد عام 1917 ، فعليه يكون سنّهُ اقل من المئة ، إلا ان التجنيد (في الثلاثينات) دفع البعض ـ للحفاظ على أبنائهم ـ من (التلاعب) بمواليدهم ، وهو حدث للكثير في وقتها .

سأل أخي صلاح يوم خطوبة إبنته : عمّي خو ما تشرب بيرة ؟
ـ لا والله عمو .
في حفلة الزواج في بيت أهلي ، شاهد العم توفيق أخي يشرب الوسكي : ليش عمو مو تكول ما أشرب !
ـ اي والله عمو ، كتلك ما أشرب بيرة !
وجدنا يوماً بطل (وسكي) مفتوح ومتروك لأنه لا يشرب مطلقاً ، منذ سنين ومنسي ، تصوروا مفتوح فظننا أنه (مُعتّق) ، فقمنا كشباب في يومها و(سحكناه) ، لكن بعد ذلك (اتزوهرنا) وذبيناه من راسنا .
أقصى ما يتفوه به (لتأنيب) أحدٍ ما : عاشت إيدك أو عفية عليك !
كلمتان تحمل معاني واسعة ، كل ٌ يُفصّلها حسب ذنبه ، وكما تقول المقولة بأن ... الحُر تكفيه الاشارة !

الكلام عنك يطول يا عمنا الغالي ، لكن سنترك الحديث لك ولحكاياتك الممتعة ، تحياتي لك ايها الرجل الطيب ، واتمنى لك دوام الصحة ... والعمر المديد .

 

ملاحظة : أغلب أبطال قصص العم توفيق الواردة أسمائهم في حكاياته ، هم اليوم في ذمة الخلود ، فليرحمهم الله ويتغمدهم برحمته الواسعة .

حكايات العم توفيق كثيرة ومتشعبة وفيها روح الشباب ونكهة الماضي ، وفرصة زيارته الأخيرة لهولندا لا تُعوّض بأن نلتقيه ، وهو الصديق الذي خبرناه منذ ثلاثين عام ، الرجل الحكيم المتزن صاحب الروح المرحة والحس الرفيع .
ولكي نستخرج قصص الماضي ، كان علينا أن نُثير فيه الشجون كي يحكي حكاية هنا أو حادثة هناك ، تمتد بعض جذورها لثمانين عام وربما اكثر ، أتمنى أن يتم أرشفتها ، كي تكون عوناً ومصدر هام وموثوق للذاكرة المندائية ، لما يتسم به العم من قوة ذاكرة وتركيز برغم سنه الذي شارف على المائة .

عمو توفيق والتدخين

هذه الحكاية قصها لي العم توفيق بعد أن واجهته بسؤال عما لو كان يدخّن بحياته أم لا ، وما حكاية الساعات التي يعشقها ؟

... يقُص لنا العم توفيق وهو بكامل نشاطه وقوة ذاكرته ، بأن حياته مع العمل والإبداع والتميُز بدأت مبكرة في مدينة العمارة ، وكان لرفاقه طيبي الذكر (حُسني زهرون ، صالح باحور ، حنا صالح) وآخرون الكثير من المواقف الجميلة والصعبة ، وبعض الشراكات في العمل ، كما جرى مع العم (ناجي مريبط) حيث عملا لفترة معاً وكان العمل الفني من مسؤولية العم توفيق والاداري للعم ناجي ، وكان جدنا مريبط المباركي يجلس أحياناً عند عتبة المحل متمنياً أن تجلب دعواته وتواجده بالقرب منهم الرزق الوفير
ويتميز العم توفيق وكلُّ أصحابه بمهارتهم بفنون الصياغة ، خصوصاً النقش ، كما هو الحال مع حسني زهرون ، التي تتحدث أعماله حتى يومنا هذا ، لتصفه بالمعجزة بأعمال النقش وتصوير الوجوه على المعدن ، وعن ذلك يحدثني العم توفيق بأن أحد الأجانب طلب من حسني نقش صورته على لوح فضي خلال ثلاثة أيام ، ولكن لم ينتهِ حسني من إنجازها و أدركه السفر ؛ لذا إحتفظ العم توفيق بالقطعة ليومنا هذا واصفاً إياها بالتحفة .
وقد تميّز أبو منتصر ـ العم توفيق ـ بالنشر وعمل القوالب بيده ، ومن ثم يقوم بأعمال النقش على الفضة وحشوها بالمينة ، وكان يحتاج في عمله لمعاونين كي يصبوا ويسحبوا الفضة بطرقهم اليدوية (البدائية) المتاحة ، فمثلاً كان سحب السبيكة كـ ( بطانة) يجري بالحمي والطرق بمراحل متعددة لعدم توفر آلة سحب .يدوية أو ميكانيكية ( كهربائية )

وتطور به الحال فأجّر محل بمدينة العمارة بربع دينار شهرياً وقسّمه لنصفين ،
أخذ النصف الأكبر وأجر الآخر الى جايجي مدة الشهر نضير طلبات الشاي له ولضيوفه

ولأنها فترة شبابه ؛فلقد أحَبّ تقليد الغير بتدخين السيجائر الانكليزية الفاخرة ماركة (كولدن فلاك) أي العلم الذهبي ، وكانت العلبة تحوي عشرة سيجائر فقط ، تعبق منها رائحة طيبة حتى قبل أيقادها ، وهي ميّزة ـ كما يقول ـ لم يَرَها بسيجائر أخرى ، هذه النكهات كلّفت الشركة المنتجة مبالغ طائلة ؛ للحفاظ على سمعتها ، لكن أدى ذلك لاحقاً ... لإفلاسها !

ومع آخر علبة سكائر دخنها بحياته ، كانت له ذكرى ، فيقول أنه بدأ التدخين عندما تحسنت حالته المعيشية ، ذلك بعد أن إتقن تصليح الساعات وبواعز من ذاته بعد ان إستهوته كهواية باديء الأمر ، ثم إتخذها مهنةً إضافية ، ووصلت سمعته بهذا المجال إلى خارج مدينته (العمارة) ، فتوافد عليه الزبائن من الكوت والناصرية والبصرة ، وقام على أثر ذلك بجمع بعض الساعات الثمينة أو النادرة محتفظاً بها ليومنا هذا ، وصار يشتري المواد الإحتياطية الأصلية من وكلائها بالبصرة ، وفاقت سمعته مصلّحي الساعات الثلاث الآخرين بالعمارة .

وكان في تلك الفترة شديد التدين (متهيمن) ، فكان ملتحٍ ويرتدي الدشداشة ، ويذهب إلى ضفة النهر يوم الأحد ليمارس طقوسه المندائية (البراخة والرشامة) مع جدّته ، فصادفه عند عودته أحد الزبائن كان قادم خصيصاً له من مدينة بعيدة ، وطلب أن يفتح له المحل لإصلاح ساعته التي توضع بالجيب ، وأمام إلحاحه ، لم يجدِ العم توفيق بُداً إلا أن يفتح المحل خصيصاً له ، ونجح بتصليح الساعة لقاء أجر ، كان قد حسبه العم توفيق بأنه يكفي لشراء علبة سيجائر ... كولدن فلاك

لم يتردد الزبون بتأدية الأُجرة ، بل بالعكس دفعها بكل ممنونية ، وإضافة لذلك أسدى نصيحة بأن يقلع ـ توفيق ـ عن التدخين لما معروف بأنها عادة سيئة مقرفة ومُضرّة بالصحة ، خصوصاً لشاب بمقتبل العمر .
وبعد إستماع العم توفيق له وقناعته بما سمع ، شعر بذلك الأحد المبارك بأن الله قد أرسل له الواعز لنصحه ترك السيجارة ، فوعَدهُ خيراً بأن يتوقف حالاً عن التدخين ، فطلب أن يحلف يمين على ذلك ... ففعل .

شكره الرجل لتقديره إياه وتصليح ساعته وإستضافته رغم اليوم هو الأحد ، ولوَعدهِ بالاقلاع عن التدخين ، وفي مقابل ذلك أعاد العم توفيق مبلغ التصليح بإلحاح ، قائلاً بأنه لو إستوفاه الآن لذهب لشراء علبة جديدة

والمفارقة أن العم توفيق وجد أن ثلاث سيجائر لاتزال بعلبته القديمة ، فإمتنع عن تدخينها ، وقرر توزيعها على رفاقه (حسني وصالح وحنا) حينما إلتقاهم على ناصية الشارع ، متحدياً إياهم والجميع بأنه سيلتزم بوعده وبيمينه ، وظل حتى يومنا هذا لم يمسك السيجارة أبداً .

 

خمس مرات (يعيش) عمو توفيق لحظات موت !

برغم سن العم توفيق الذي تجاوز المائة ، فإنه يتمتع بذاكرة حديدية ، حتى في أحيان كثيرة تحْضَره أسماءُ أشخاص حكاياته التي مر عليها زُهاء الثمانين عام وأكثر
وقصصه واقعية سلسة بسيطة ، ربما نكون جميعاً قد مررنا بها ، لكن لقدمها أصبحت ذي نكهة خاصة ، وهي تنم على دماثة خلقه وإتزانه وقناعته ، وسلوكه
الحكايات التالية التي تتعلق بلحظات تفصل االحياة عن الموت ، وكثيراً ما يقصّها علينا حين يُعقب على نعمة طول العمر ، وبأنه ولخمسة مرات رأى الموت أو وقع به ولو خلال رمشة جفن ، أي أنه (عاش الموت) بما تتضمنه الكلمة من تناقض ...

الاولى ... كانت عندما كان صبيّاً ، وقد تأثر بتَقوى جدته كثيراً (فتهيمن) لدرجة كبيرة ، وكان على الدوام يرافقتها للشريعة حتى فترة شبابه ، سيما أيام الأحد حيث الطقوس أوسع .
وكان لايتذوق طعاماً إلا إذا (طمش) يديه والطعام والأواني النحاسية بماء النهر ، ويتذكر أنه في شتاءٍ باردٍ تجمدت برك المياه بالعمارة ، عندئذ مسّتْ ملابسه (نجاسةٍ ما) فتحتمَ عليه أن (يطمش) نفسه بالنهر لثلاث (غطّات) ، وبعد أن إستكملها بشق الأنفس ، تفاجأ من إبن عمه: يقول له بأن عليه (طمش) الدشداشة قبل إرتدائها لأنها (نجسة) حين مسكَ أزرارها ، فتحتم عليه العودة لضفة النهر وطمش الدشداشة أولاً وتكرار (غطاته) الثلاث ، ويتذكر أنه فعل ذلك بطيب خاطر بينما كان كل شيء حوله ... يتجمّد !

وصادف يوماً في صغره أن ناوله رجل ثلاث حبات عنب ، فأسرع ـ كعادته ـ الى ضفة النهر التي تبعد عن بيتهم عدة مئات من الأمتار كي (يطمشها) لأنها من غريب قبل أن يتناولها ، فشاهد بلم صغير مربوط الى الجرف الطيني ، ووجدها فرصة أن يصل الى تيار الماء الأنظف فيما لو صعده ، لكنه وحين مد يديه من جانب البلم الى الماء ، فقدَ توازنه حين مال البلم وقذفه وسط التيار ، فصاح صيحة نصفها في الهواء ونصفها في الماء ، ثم بدأ يستنشق ويبتلع المياه دون إرادته ، فدفعت المروءة والرجولة أحد الرجال الذي صادف تواجده قرب ضفة النهرتلك الصفات التي يتمتع بها الناس البسطاء ـ أن ينزع دشداشته ويلقي بنفسه لقاع النهر لنجدته وإنقاذه ، بعد دقائق كان الماء يخرج من أنفه بحرقة شديدة ليحل هواء طلق بدلاً عنه

يقول العم توفيق ، أنها لحظات كنت أهيم في عالم آخر ، وأستمع لأصوات غريبة وأشياء تُداعب وجهي ، أنه ـ يقول ـ عالم غير الذي نعيشه حتماً ، أبواب تجتذبني كانت مُشرعة أمامي لدخولها ، لولا أن خطفني منقذي من براثن الموت ؛
فبكيت ذعراً من المشهد مما ساعدني على إخراج الماء ، وأدركتُ مبكراً بأن الموت ملازم للانسان في صغره ، كما هو الأمر في الكبر !

والمرّة الثانية ... أنه كان وإبن خاله يلعبون حول الدار ، وكانت المرافق الصحية في بيوت أجدادنا عبارة عن جدران تُشكل ثلاث أضلاع لمربع والضلع الرابع مفتوح بإتجاه العراء ، أي ظهر البناء الطيني للبيت ، وكان لدى بيت خاله بقرة ، يُسميها العم توفيق (هايشة) ، بقرنين مدببين صغيرين ، وكالعادة فإنهم يكتفون بالإيحاء لها بواسطة عصا صغيرة كي تبتعد ريثما ينتهي الفرد من قضاء حاجته ، وقام الصبي توفيق بهذه المهمة بينما دخل إبن خاله المرافق ، وبسهوةٍ منه إقتربت (الهايشة) لتنطحه محاولة رفعه عن الأرض ، وأصابه قرنها أسفل ظهرهِ مُتسببة له صدمة وألم شديد ، وكانت البقرة بصدد أن تدوس عليه ـ كما حكى له إبن خاله ـ الذي بدأ بالصراخ مذعوراً ...
عند ذاك كان خاله (ابو أحمد) في الدار ، فجاء مسرعاً ،وضرب البقرة وأخرجه من تحتها ، فحلف الخال بأن يذبحها في ذلك اليوم ، فبعث بمن قام بالمهمة ، وقام بتوزيع بعضاً من لحمها (قرباناً) لنجاته .
يؤكد العم توفيق بأنه حين فقدَ الوعي ، كان بإمكانه سماع فوضى من حوله ، وصوت اُمه وخالاته ونحيبهُنّ الذي يعلو شيئاً فشيئاً، لكنه كان يميل لأن يودعهم لعالم آخر غلبت فيه أصوات تستدعيه ، وإستسلم لسماعها مُكرهاً ، لولا أنه إستطاع تمييز صوت إبن خاله يحاكيه بعبارات كانا يتبادلانها عندما يلهَون بإستمرار ، فأنعشت فيه روح العودة له واللعب معه ، وجعلته يتحكم من جديد بإرادته وبِردّة فعله ، ففتح عيونه وإستقبل الحياة وكأنه ولد من جديد، لكنه بقي إسبوعـاً بالفراش وأخذ يتحسن ببطء شديد .
يقول العم وقد وضع يده على أسفل ظهره ، بأن أثر (نطحة الهايشة) لايزال على شكل ندبة بين فقراته ...

والمشهد الثالث ، في مشهد غرق ثانٍ ...
عن السباحة في النهر ، لكن لسِن المراهقة ومرافقة الأولاد أحكام إلزامية بأن يلهون ويسبحون في الماء ، ومن المخجل حقاً أن ولداً يكتفي بالنظر إليهم ، فشاركهم العم توفيق بلهفة ، وأحبّ أن يَعبر غطساً من تحت (دوبة) صغيرة متوقفة وسط نهر العمارة الموفور المياه ، لكن ولسببٍ مـا، دار به التيار وهو تحت المركب ففقدَ التركيز بالإتجاهات ، وأخذ يسبح بإتجاه طوله ، وكلما يرفع رأسه يجد بأن قاع المركب لايزل ممتداً هناك ، حتى فقد قوته من كثر المحاولة وتعب وإضطر لإستنشاق الماء الخابط التي أربكه وحرمه الرؤيا ، في هذا الوقت الحرج ومنازعته الموت ، كان لايزال يستمع لصيحات و(تشجيع) أصحابه عند الجرف ، ظناً منهم بأنه يُبلي بلاءاً حسناً ، فإستطاع تحديد إتجاههم ، فدفع بكل ما بقي فيه من طاقة وقوة نحوهم ، ليجد نفسه وسط أصدقائه غير المبالين بما حل به ، وكأنه كان يقوم بمغامرة تكللت بالنجاح ليس إلا
لكن العم قرر بأنه لن يقترب من نهر ثانيةً ولايسبح ... حتى يومنا هذا

والرابع ، حين نجحَ بعمله في بغداد كعامل ، شاركه بمحل جديد (خاله وخلف جابر وناجي هرمز وآخر قريب لاُمه) وفتحوا لهم محل مستقل في شارع النهر ، وما أن إنتهت أعمال تبييض وكهربة المحل ، حتى شغلاه بسعادة غامرة .
في الصباح الباكر ، حضر توفيق وخلف وفتحا المحل ، فلاحظ خلف أن (سويج) الكهرباء يلسع وتوقّع أن تياراً يسري فيه ، لكن العم توفيق سَخر منه وقال بأن ذلك إحتمال ضعيف كون التأسيس جديد والسويج مُغلق ، فوضع العم توفيق قدمه اليسرى على خشبة المنضدة ، بينما مسك بيده اليُمنى مفتاح الكهرباء ، فمسه التيار وجعله يتيبّس جسمه ويده اليُمنى ترتعش .
يؤكد العم توفيق بأن من حسن حظه أن رجله اليسرى هي كانت بمنأى عن سريان التيار وإلا لتأثر قلبه ، وربما لتوقف !
في باديء الأمر لم ينتبه صاحبه لمعاناته ، وما زاد الأمرُ سوءً أنه قد إرتبك حين لاحظ ما حل بتوفيق ، وصار يبحث عن وسيلة يمكن بواسطتها فصله عن الأسلاك
هي دقيقة واحدة إستسلم فيها العم توفيق لأمره ، واُعيد فيلم حياته بسرعة أمامه وكأنه يريد به أن يودع أهله ومحبيه ...
لم يتذكر بدقة ما حصل لأن حالة إغماء قد لفته ، وحين فاق كانت ساعة من الزمن قد مرت عاد خلالها نبضه لينتظم ، كون التيار المتردد ـ كما هو معروف ـ يتسبب بإرباك نبض القلب بحسب تردده ، ويؤدي لتوقف القلب لأنهما لايتوافقان مطلقاً ، وهكذا ظل يخاف ويتجنب الكهرباء .
لكن قلبه جاهد بنجاح مبشراً إياه بأن الله يريد أن يستمر ينبض عمراً مديداً .

في مشهد أخير ، في وقت متقدم من عمره المديد، وكان قد رُزق بأبنائه الست ويسكن الدورة ، حين شعر بآلام شديدة ببطنه ، فنقله ـ أخوه الأصغر (جهاد) وزوجته(رازقيـة الى مستشفى اليرموك ، وهناك اُجري له اللازم خصوصاً لما علم الدكتور مدير المستشفى به ، وكانا ذو علاقة طيبة ، لكن سرعان ما تدهور ضغطه ليفقد الوعي ، ومن ثم توقف نبضه جزئياً وإزرقت أصابعه ، وبينما حضر الأطباء كان قد فقدَ ردة الفعل ، وأصبح دون حراك

بدا لأخيه وزوجته أن إيقاع الأطباء كان شبه يائساً ، وتصرفوا وكأن المريض أمامهم قد فارق الحياة ، لسبب يجهلوه كي يتعاملون معه ، ومن بين فوضى المكان ، وتوسلات أخيه (جهاد) بهم ، وتبادل كلمات إنكليزية بينهم ، سمع صوت صرخة قوية من زوجته بوجهه مع هزّه بقوة ، نفثت في نفسه حب أن يستجيب لها ، وأن يستفيق من سبات
فإستطاع تحريك أصابع يده ، والغريب أن كل العيون كانت بإنتظار تلك الحركة ، وما هي إلا دقائق كان العم قد تغلب على الموت وفتح عيونه للزوجة الطيبة مستجيباً لندائها ، وكأنه لقاء بعد غياب !

دائماً يتذكر العم توفيق هذه المواقف الخمسة ويقول بأنه ربما حتى البشر ـ مثل القط ـ بعدّة أرواح ! ! ! ...

 

عمو توفيق يحلف بأنه سوف لن يُغني يوماً ، وأن لا يمسك ربابة

يقول العم توفيق بأن أحد أهم أسباب تركه مدينته العمارة مبكراً ، أنه وبعمر 15 سنة ، كان قد ودع أخيه الأصغر (صبيح) البالغ 13 عام .
ويصف أخاه ـ بحسرة شديدة ـ بأنه كان مُطيع وذكي ووسيم للغاية .

كان العم توفيق يعمل بالصياغة وقد خطّ له طريق بكل ثقة ، بعد أن تتلمذ على يد أستاذه (حسني زهرون) باكراً .
وكان يكسب جيداً ويتكفّل بمصاريف أخيه (صبيح) لأنه كان يحبه جداً ، فيدفع له نفقات المدرسة ، وقاما بشراء الكتب والكراريس والقرطاسية ، وجهزوا كل شيء إيذاناً ببدء العام الجديد ، وأي عام ، فحياة (صبيح) ستتغيّر جذرياً بدخوله المتوسطة ...
وكان (صبيح) طول فترة العطلة يساعد (توفيق) في العمل ، ويعُد له مستلزمات الصب والجلاية ، والتنظيف ولم الطايح ، وبسبب ذلك كان يرفض اللعب مع أقرانه كي يبقى بجانب أخيه ، وكان يعمل ويترقب العمل بحرص وإهتمام شديدين دون كلل أو ملل ، بل بالعكس فقد كان يتمتع بدافع للعمل ، لم يجاريه في ذلك أحد .

ولم تُفِد توسلات العم توفيق بأن يتجنب أخوه الأصغر العمل الشاق ، فقد كان يُثبت بأنه قادر على أدائه ، ويؤكد له بأن العمل أهم من مجرد اللهو مع أقرانه .

في المساءات الجميلة لأيام الصيف الطويلة ، كان الأخوين يلتقيان بمعية والدتهما ، فيقوم العم توفيق بإستكمال عمله الصباحي بمشوار مسائي ، كان ـ آنذاك ـ يتضمن نقش ثلاث ملاعق فضة يُكلفه بها الصائغ (سلمان) ، حيث يتلقى اجرة (عشر فلوس) عن كل واحدة ، وبين كل وجبة عمل (إتمام ملعقة) واُخرى، يقوم العم توفيق بالغناء على أنغام الربابة ، ويرى بعيون صبيح السعادة والمتعة والطرب
العم توفيق يجيد غناء البوذية والعتاب ، كلمات وأداء رائع ، إستقطب صوته وعَزفه الجيران والأصدقاء ، فطاب لهم سماعه .
ويقول بأنه هو من صنع الربابة بيده وإعتزّ بها كثيراً ، ولم يعُد بمستطاعه هو أو سواه صناعة شبيهة لها ، لدقة صنعها وعذوبة صوتها ، ولإجادته العزف عليها ، حتى غدت الشقيق التوئم لصوته .

وفي صباح يوم من أيام الصيف ، وبينما العم توفيق ينام في السطح ، كان صبيح ووالدتهما ينامان في غرفة وسط الدار ، فوجدت الام أن إبنها النائم على تخت ، لم ينهض باكراً كعادته ، بل ولم يتحرك ، فدب فيها قلقٌ ؛ بسبب سكونه ، فندهت (توفيق) كي يتفقّد أخاه وصديقه ... صبيح
ويتذكر جيداً أنه عاش مشهد مُرعب لم يغِب عن باله رغم مرور ثمانين عام عليه ،فلقد وجد أخاه جثة هامدة دون حراك ، دون أن يسبق ذلك أية شكوى أو إستغاثة ، وأنه رأى أن تلك البشرة الوردية الجميلة ... غدت صفراء شاحبة !
لم يعلم أحدٌ حتى اليوم ، لِمَ مات الصبي ، فلا أثر للدغة عقرب أو حيّة ، ولا أثر لأي فعل خارجي ، ولا شكوى سبقت ذلك اليوم المشؤوم .

لكن المشهد ما غاب ولشهرين عن مخيلة العم توفيق ، فقد ظل يعيش الصدمة ويعاني ، وكل يوم يجده أمامه وقلبه وبطنه توجعانه باستمرار ، حتى وجدها الفرصة متاحة بالإبتعاد والسفر لبغداد وأن يبرح مصدر الألم الذي رافقه الى غير رجعة .

الغريب بأن العم توفيق حين يقص علينا هذه الحادثة ، كانت عيونه تغرورق بالدمع ، لتكشف لنا مشاعره الأليمة تلك ، فيتألم لفقد أخ وصديق حنون لم تـُعوضه الأيام ولا السنين مهما طالت !

في خضم تلك اللحظات العصيبة ، وبينما يتجمع الأهل والجيرات على وقع صراخ الام ، وبكائه وحسرته لفقدانه رفيق عزيز على قلبه ، كانت أيادٍ خبيثة تتسلل الى رفيقته الغالية ، ربابته الحزينة ، فقد قام أحدهم بسرِقتها غير مبالٍ بما تعنيه لتوفيق ، ولا كيف أنها ترتبط روحياً بصوته دون سواه !

حلف العم توفيق بأن لا يصنع ولا يمسك ربابة ، وأن لا يُغني ما دام يسري في عروقه دم ، رافضاً دعوة أحد المهتمين من السعي ـ بسبب عذوبة صوته ـ لإنظمامه لكورَس الإذاعة ببغداد حين اُعجب بصوته وأدائه الجميل .


عمو توفيق يحلف بأنه سوف لن يمسك (ستيرن) ولن يسوق سيارة

قرر العم توفيق بعد إستقراره مطلع الخمسينات ببغداد وتحسن حالته المعيشية من شراء سيارة ، وكان صاحب شركة (بد فورد) ببغداد المرحوم (فايق عبيدة) يرتبط بصداقة مع العم توفيق ، فوعده بأن السيارة الفورد البيضاء الجميلة الواقفة في المعرض ستكون من نصيب العم بمجرد تعلمه قيادة السيارة وحصوله على الرخصة .
وكان سعر السيارة ـ على ما يتذكر ـ هي بسعر تفاضلي يبلغ 800 دينار .

إستهوت العم توفيق الفكرة ، ودفع مقدم إجور تدريب وإستحصال إجازة ، وكان هذا المبلغ 200 دينار .
وبعد أول درس وأول جلوس له خلف (الستيرن) شعر بالسعادة وبأن العملية سهلة وتستحق بذل الجهد وإنفاق المال ، سيما وإمتلاك وقيادة سيارة يُعتبر طفرة نوعية في حياة الشخص في المجتمع البغدادي آنذاك .

وبينما كان يسير بالطريق عائداً للبيت ، بنفس يوم تدريبه الأول ، راحت عيونه تترقب ـ بالصدفة ـ مشهد بناورامي ، فقد كاد صاحب سيارة أن يدهس شاب من بين شابين آخرين كانا يعبران نهر الطريق .
وتطور الإحتكاك البسيط بين السائق والرفاق الثلاث ، فتبادلوا الشتائم ، متهماً كل طرف الآخر بالتقصير .

ورغم أنه لن تكون هنالك حادثة ولا خسائر أو أذى للطرفين ، لكنه سرعان ماتحولت الشتائم لعراك بالأيادي، بعد أن توعد الرفاق الثلاث السائق بمعاقبته مستغلين الفرق العددي ، ولم تُفد محاولات العم توفيق فض الإشتباك أو تفريقهم ، حتى حين
دعا السائق أن ينسحب وأن يهرب
صار السائق ضحية تهور الآخرين وليس تهوره ، ولم يكن الإشتباك في صالحه أبداً ، لأنهم مسكوا به جيداً وأشبعوه ضرباً .

هكذا مشهد ، لم يكن مألوف لدى العم توفيق أبداً ، وبينما إبتعد الجميع وفض النزاع بما لا تُحمد عقباه ، تراءى لذهنه فيما لو كان هو السائق ، وتصوّر لو أنه الجالس خلف (الستيرن) بدل الضحية ، لكان قد تلقى الضرب والإهانة .

ولما كان (عود) العم توفيق ورزانته وهندامه لا تسمح بأن يكون هو الضحية ، فكر في تلك اليلة بالحادثة ، وقرر بأن لايستمر بالدروس وأن لا يقتني السيارة ، فإعتذر لصديقه (فايق عبيدة) ، وأقسم (حلف) يمين له بأنه سوف لن يجلس خلف (ستيرن) يوماً وأن لا يسوق سيارة ، ما دام قلبه ينبض

((صدق العم توفيق مع نفسه ، فلم يمسك يوماً الربابة ولم يُغنِ ، ولم يستحصل إجازة سوق ولم يجلس خلف ستيرن ويقود سيارة حتى يومنا هذا ))

 

عمو توفيق يتزوج

اقترح عليه أحد أقرب ألأصدقاء وهو (خلف جابر) التحول للعمل ببغداد ، وَعَدَهُ بأنه سيرسل له برقية حالما يستحصل موافقة صاغة بغداد على إحتضانه ، وفعلاً لم تمر سوى (يومين) فقط ، كانت برقية من بغداد ترحب بمجيئه ، حيث تبيّن أن سمعته الطيبة سبقته الى هناك .

في منتصف الثلاثينات ، كانت مسألة السفر من العمارة لبغداد بالِغة الصعوبة ، فلا شوارع معبدة ولا وسائط نقل سريعة أو مريحة ، والسيارات كانت بهياكل خشبية وبدون زجاج نوافذ ، وبعضها مكشوف ، يتكدس المسافرون بداخلها وعلى ظهرها ، يركبون وينزلون من كافة الجهات مع بضائعهم ومقتنياتهم وحتى مع حيواناتهم
وكان اليوم الأول قد إنقضى بوصوله مدينة الكوت ومبيته عند أحد الأقارب ، ثم معاودة الرحلة بإتجاه الفردوس المنشود ... بغداد

إنتقالة بهكذا حجم تُعتبر نوعية بحياة صبي في سن السادسة عشر ، حيث التغيير بكلِّ شيء ، المدينة حديثة ، إنارة كهربائية وشوارع معبدة وبنايات متعددة الطوابق ، فنادق ومطاعم ومياه بالأنابيب ، والأهم ما وجده في طرُق وإسلوب السوق وأنظمته وقواعده ، وأولها أنه سيتعامل مع معدن أصفر ثمين يَغلب على المعدن الفضي الذي سبق أن خَبِرهُ وطوّعه .

إشتغل أولاً تحت يد (ناجي هرمز) في شارع النهر ، ثم سرعان ما شق طريقه بثبات وتميُز ، فإحتظنه الصاغة اليهود ، وشيئاً فشيئاً منحوه راتباً مجزياً ثم أضافوا له نسبة من الأرباح ، وهو ما كانوا يرفضون مجرد مناقشته مع آخرين .

والصاغة اليهود يتميزون بذكاء ودهاء ، فيقومون بإمتحان نزاهة وصدق وأمانة العامل الحَدث من خلال إستدراجه بإعطائه الذهب دون وزن ، لكن بالمقابل يكون بإمكانهم وبطريقتهم الخاصة عِبرَ حسابات اُخرى ، الوصول للوزن بدقة دون دراية العامل ، ومن خلال ذلك ، يحكمون على أمانة العامل من عدمها ، وبالتالي يُقررون فيما لو يستمر بالعمل معهم .
ويقول العم توفيق أنه ـ وللأسف ـ كثير من العمال المُستجدين ، برغم كفاءتهم بالعمل ، يخسرون فرصة العمل لأنهم (يرسبون) بالإختبار .

كان إيقاع الحياة ببغداد قد إبتعد بالعم توفيق عن التديّن المُفرط الذي تحلّى به في يفاعته بمسقط رأسه ـ مدينته العمارة ـ وأخذهُ العمل والسوق الى حياة الجد ، وشوارع بغداد وميادينها لحياة اللهو ، وكان في الدخل الوفير الذي يدره عمله ، ما يكفيه ويفيض ، فيبعث به صوب أهله ...

وقد أبدع العم توفيق بصياغة سوارات (الدبابة) المنقوشة والمطعمة بالميناء الحارة ، وهي إنتقالة هامة ليست بإسلوب العمل فقط ، بل في صياغة الذهب بدل الفضة أيضاً ، ووصلت درجة تقديره الى أنهم قربوه منهم ووعدوه بالزواج من أحد بناتهم التي وصفوها بأنها غاية في الجمال .

التقاليد اليهودية آنذاك ـ يُخبرنا العم توفيق ـ تُحتم على العريس إعطاء الموافقة قبل أن يرى عروسه ، لكن ومع صعوبة هكذا شرط ، كان العرض في عمومه قد أغراه لدرجة مُسايرتهم والبحث عن وسيلة للقياها ، أو مشاهدتها على الأقل ، لكن ولأنه وحيد في المدينة ، تعذّر أن يرسل مرسالة من طرفه لها ، كأن تكون ام او اخت او خالة

في هذه الأثناء ، كان قد وصله (طارش) يُخبره بضرورة العودة لدياره لحضور مناسبة زواج أحد أقربائه ، فإتجه دون تردد لحضور تلك المراسيم ولقاء أصدقائه الطيبين بمدينته .

كانت تربطه بالعم (رشيد ملا خضر) صداقة رغم أنه أكبر سناً منه ، ويَعتبرُ ـ الشاب توفيق ـ بأن العم رشيد هو أول من علـّمه وأدخله ومن نعومة اظفاره لعالم الصياغة قبل الآخرين
هكذا بدأ العم توفيق حكايته عن رفيقة دربه ( ظفيرتها على أحد كتفيهـا ، تنوّر مجموعة البنات من حولها ) ولما سأل الرّفاق عنها يوم الزفّة ، قائلاً : من هذه ؟ ، قالوا بانها ... إبنة العم رشيد
كانت لحظات أنـْـسَـتْهُ (مخطوبته) ببغداد ، وأنسته شارع النهر ، بل بغداد بمن فيها

لم يتردد والدها لحظة بإعطائه الضوء الأخضر ، ولتكون بين ليلة وضحاها ، الزوجة والصديقة ، ومن ثم الام لأولاده الأربع وبناته الاثنتين ، عاشت (رازقية) على الحلو والمر معه أكثر من نصف قرن ، وقد أفنتْ حياتها في خدمته وأطفالها الست ، حتى رحيلها لجنة الله .
كانت تلك (الظفيرة) التي داعبت أحاسيس توفيق ومشاعره ، لم تفارقها يوماً حتى رحيلها ، وهي الإمرأة المعروفة بمثابرتها وحرصها على اُسرتها ، كما عَرف كل من زار بيتها ، شدة نظافتها وتقواها ... رحمها الله .

... يتذكر العم توفيق اللحظة التي جمعته بالفتاة اليهودية بعد زواجه وعودته لبغداد ، ويضحك حينما يقول بأنها اللحظة الوحيدة ـ بسبب شدة جمالها ـ التي تجعل كل رجل يشعُر بالندم لو لم يحصل عليها ، وبأنه (تسرّع) بالزواج التقليدي ، ويأسف لرحيله للعمارة قبل حسم موضوعها !

لكن ... الحمد لله والشكر ـ يقول ـ أن اقترانه بطيّبة الذكر المرحومة أُمِّ منتصر (رازقية رشيد ملا خضر) كان له (فأل) حسن طيلة مَسيرة حياته ، وبوجودها حقق جميع ما يتمناه إنسان .

 

عمو توفيق بالمدرسة

كان حسني زهرون يكبر بقية (ربعه) ، وكان يقوم بإختبارهم بحزورات مساء كلِّ يوم كوسيلة للهو ، ومن بين هؤلاء الرَبع إبن عمه سليم زهرون وزكوري جبوري وتوفيق بقال ، وهم جميعاً أصغر منه بعدة سنين ، وكان يمكن لتوفيق أن يُجيب على الحزورات قبل أقرانه
ويتذكر منها أن حسني يريد أن يكرر الأولاد بعض المقولات ثلاث مراتٍ بسرعة وبدون إخطاء ، فمثلاً
بيدي صم شيص
بيدك صم شيص
مدري صم شيصي أحسن من صم شيصك ؟
لو صم شيصك أحسن من صم شيصي ؟
(الشيص : التمر الساقط تحت النخلة قبل نضَجَه) .

ولما إنتبه أهله إلى تفوقه وذكائه ، قرروا تسجيله بالمدرسة الإبتدائية التي كانت بعيدة أول الأمر ، ثم بعد حين إنتقل مع أصحابه وجيرانه لمدرسة (السّنيّة) حين تم إفتتاحها بالقرب من دارهم
وعند إلقاء نشيد الصباح ، طلب المدير ـ ويتذكر العم توفيق أن إسمه المرحوم (هاشم السعدي) ـ من الطلاب غير المسلمين ، الإصطفاف على حِدة ليتعرف على أعدادهم ، فوجد فيهم ست أو سبع مسيح وأربعة يهود وستة عشر مندائي ، ومن أسماء زملائه المندائيين ... (عزة زهرون ملا خضر ، نصرت باحور ، حنا عايش ، أحمد عبد الله ، نجم عبد الله ، عبد الله الشيخ ، صالح باحور ... وآخرين) وكانوا بأعمار متفاوتة ومراحل عدّة ، لكن أصغرهم كان صالح ، وأكبرهم عزّة .

فطلب المدير وبمبادرة شخصية منه ، من الطلبة المندائيين بسبب عددهم الكثير ، تكليف مُدرس ديانة ولغة مندائية ليعطيهم حصة يومية عند الظهر ، وخصص لهم صف مناسب في المدرسة
وقام متطوعان ـ هما الشيخ ضيدان والشيخ زهرون ـ بإعطائهم دروساً عن الديانة المندائية وأنبيائها وتاريخها ، وعن اللغة المندائية وحروفها وطريقة كتابتها ودروساً اُخرى
ويتذكر العم توفيق طيبة شيوخنا الأفاضل ، ويقول بأن الشيخ ضيدان رحمه الله كان كريماً عزيز نفس ، حتى أنه بعد سنين حين فتح العم توفيق محلاً له ، كان يزوره على الدوام ويجالسه ، لكن في أيام الأعياد لم يتواجد في السوق ، فيقوم العم توفيق بالبحث عنه كي يُعطيه إكرامية العيد (ربع دينار) بينما الشيخ الفاضل كان يأبى أن يطلبها بلسانه ، لأنه كان غني نفس ولا يطالب أحداً بشيء .

وفي المدرسة ، وبينما كانت حصص الديانة المندائية تجري بشكل سلس ، وقد حفظ الطلاب الحروف المندائية وطريقة كتابتها ولفظها ، ومعلومات مفيدة اخرى عن البراخة والرشامة بتفاصيلها ، حصل أن تجمَعَ بعض الطلبة المتسكعون يراقبون ويتطفلون على الدرس من خلال النوافذ ، وأخذوا شيئاً فشيئاً يُشاغبون ، فدعاهم الشيخ ضيدان بحكمته المعروفة أن يجلسوا ويستمعوا للدرس ، مَثلهم مَثل زملائهم الصابئة
لكن كان عددهم يزداد ، وإزعاجهم يكبر ، وصدرت منهم مضايقات ، تطورت لكلام بذيء ، وحتى لما إشتكى الشيخ للمدير ، باءت محاولات المدير بتشتيتهم بالفشل ، لأنه وما أن يبتعد ، حتى يعودون و يتجمعون من جديد .
ولم تـَدُم المحاضرات إلا شهرين إثنين لتتوقف ، وكانت خسارة كبيرة وفرصة لا تُعوض لطلبة مجتهدين ،وأساتذه متميزين

لكنه يؤكد بأنها تجربة ناجحة ، لاتزال تلك المعلومات الغنيّة راسخة في ذهنه ، ويُردد ألف باء المندائية ( آ با جا دا ها ... وهكذا) التي يتذكرها بنُطقها الصحيح وتسلسلها حتى يومنا هذا ، وظل الطلاب في وقتها يتبادلون كلماتها فيما بينهم

 

عمو توفيق في بيروت

بعد زواجه وولادة إبنه البكر (منتصر) في أواخر الأربعينات ، قرر السفر الى لبنان ، بسبب سمعة لبنان الطيبة في مجال صياغة الذهب ، وبالتالي إستغلال الفرصة لتقديم فنه المميز في أعمال المينة
والطريق وجدها العم ـ كما توقع ـ متيسرة له ، حيث لم يجد منافساً له في مهارة النقش ووضع المينة أحداً ، وتزامل بسرعة مع (الصنايعيّة) الذين كان معظمهم سوريين
وعلى أثر تقدمه بالعمل وإكتسابه السمعة الجيدة ، عاد للعراق سريعاً لإصطحاب زوجته وولده ، وأجّر سكن مناسب ومحل في وسط بيروت ، ورُزق ببنته ندى

كان العم يميل للقيام بإستكمال عمله مساءاً في البيت في سبيل المحافظة على أسرار المهنة ، وكان لـ (رنّة) السندان وإهتزاز الأرض ما شكى الجيران منه ، فعمدَ لطريقة ذكية بأن فصَلَ السندان عن قاعدته وجعل عدة طبقات من قماش الجوت (الكونيّة) بينهما ، وحل بذلك ما أقلق جيرانة وحافظ على علاقة حُسن الجوار معهم .

ورغم أن العمال السوريين أصدقاء وزملاء له ، لكنهم كانوا يراقبونه في طريقة النقش التي تـَميز بها ، وراحوا يقلدون الأشكال التي كان ينتجها ، وهي المصاحف (القرائين) المطعمة بالميناء ، وصاروا منافسين له وبأسعار متدنية بالسوق
مما إضطره لأكثر من مرة لتغيير قوالبه التي يُصنّعها بنفسه ، ولأنه كان يُنوّع بإسلوب العمل والإنتاج ، نجح بذلك ، لكن بقي (زملاء) المهنة يتجسسون على عمله ، فتحول لوضع الميناء بالبيت ، ذلك بعد أن كان ينقشها بالمحل ، وبهذا كان إنتاجه يُباع ، وكان بمعدل عشرة مصاحف أسبوعياً .

ومن بين زبائنه ، كانت إحدى أخوات الملك فاروق ، التي طلبت كلَّ إنتاجه لتقوم بتوزيعه على أخواتها كهدايا من بيروت للقاهرة .
وجاء وقت ، أغرق العمال السوريون السوق بإنتاج مُقلد ، ورغم أن العم كان يعلم بأن إنتاج سواه كان يفتقد اللمسة الأخيرة بفن تركيب المينة الحارة ، لكنه فضّل الصبر وعدم الإصطدام بأحد ، وهو أحد أهم مباديء حياته ، وراهن على الزمن الذي سيكون في صالحه وصالح المينة الحارة ...

وصدق حدسه حينما جاءت إحدى معميلاته تشكو بضاعة غيره ، مُعتذرة كون إسعار السوق قد أغرتها فإشترت قرآن من صائغ آخر ، وكانت هذه السيدة من النوع الذي يلبس المصحف بإستمرار ، فلاحظت أن المينة عند ملامستها الماء ، بدءت تتلاشى ، ولما شكت الأمر للصاغة ، أخبروها بأن الألوان الجميلة هذه ماكانت سوى أصباغ صناعية .
فعادت لتعتذر منه بسبب إغراءات رخص اُجرة الصياغة ، ثم إشترت منه مصحفاً ، يقول واثقاً بأنه ولربما لحد يومنا هذا ، لا يزال يزهو بمينته ، حيث أن صياغته معروفة على مر السنين بجودتها العالية ودقة عياراتها ، وبمينتها التي لا تزول أو تتكسّر ، إلا بلَي السلعة أو طرقها

 

العم توفيق وأسرار المهنة


لأن مهنة الصياغة إجتذبته وأحبها ، وكان لها المردود الإيجابي في تحسين مستوى معيشته ، فقد أراد أن يُطور فنونها بما يستطيع ، وكان فن وضع المينة السوداء الحارّة بعد نقش السلعة فن معروف ومتوارث عن أجيال سبقته ، وقد توارث الآباء من الأجداد فنونها .
لكن المينة الملونة ، كانت في مدينة العمارة تقتصر على صائغ واحد أو إثنين ، وقد إحتكروا هذه الصّنعة وبرزوا بها ، فحاول العم توفيق تقليدهم بطحن قطع الزجاج الملون النقي الذي يحصل عليه من قناني الأدوية الأجنبية وغيرها ، وبعد طحنها كان يعاملها معاملة المينة السوداء بحشوها في أماكن النقش ، لكن محاولاته باءت بالفشل ، ولما سأل في الشام قالوا أن البودرة المطلوبة تجدها فقط لدى أحد عطاري حلب .
ذهب وبحث ووجد الرجل ، وكانت مفاجئة ما بعدها أن يرى مواد وأدوات حديثة في عالم الصياغة .
إشترى من كل لون بودرة المينة ، و مماكانت قد وقعت عيناه عليه ، وزن (كيلوغرام كامل) ـ وهو وزن كبير ـ أن يحملها البغداد ... لكنه فعل ونجح وعلّم أقرانه ودلّهم على ضالتهم .
ويعتبر العم توفيق ، أول من نقل لسوق العمل بالعراق ، بعد أن سافر وإطلع في الشام وبيروت ، على جملةمن الأمور ، فقد كانت عملية السباكة والتصفية تعتمد على نار من الفحم ، لكنه لاحظ ببيروت أن الصاغة يستخدمون (البريمز أو العفريت) الذي يعتمد على النفط ، وما أن بدأ بإستخدامه ، حتى ثارت عليه ثائرة الصاغة ، مُشككين بقُدرة نار تتأتى من (فم) جهاز حديدي على الوفاء بالغرض ورفع الحرارة لمئات الدرجات ، كما هو حال عملية إيقاد الفحم والنفخ بالمنفاخ التقليدي ، ذلك العمل المُجرب والموثوق .
وببناء (كورة) من الطين لحجز الحرارة ، نجحت مساعيه بإذابة المعدن الجميل ، وصار طوع يده ، فإنتشر بسرعة ، وصار الطلب لدى الحدادين ببغداد والمناطق الاُخرى على (الابريمزات) وصار الحدادون يُصنّعونها مخصوص للصاغة ويعرضوها بواجهة محلاتهم .
أما بعد ذلك ، فأن لإدخال الغاز نفس المعاناة ، لكن كان أحد صاغة بغداد يستخدم قنينة الغاز دون الإفصاح عنها ، وكان كل الظن يدور على أن الغاز خطيرٌ جداً وغير إقتصادي ، لكن العم توفيق لاحظ أن صائغاً يُدخل قنينة الغاز ببيته ، ويسبك الذهب على السطح بعيد عن (العيون) ، وأن القنينة لن يبدلها طيلة الإسبوع ، مما يدل على أنها إقتصادية ، فراقب عمل الصائغ وإسترق النظر ليُتابع خرطوم طويل يبدء برأس القنينة ، وينتهي بالرأس المُشتعل ، فبحث بالسوق لدى مصلحي أجهزة الطبخ الغازية ، ووجد ظالته !
وماهي إلا أيام كان الطلب على أشُده على قناني الغاز ورؤوسها التي أمست نادرة بالسوق ، وصار العمل أنظف وأسرع وخالٍ من اية خطورة !

عمو توفيق لايحب الشرب

في حياة الرجل ، لو يتجاوز في جلسة عائلية أن يشرب (بيك بيرة) !
نعم ، فهو ليس من مُحبي ( التشييت )أبداً ، ويعزو ذلك الى أيام صغره ...
وفي مناسبة عرس داخل الشيخ جودة في صباه ، تجمع مجموعة الأصدقاء (كومبني) فيهم زملاء ومن بينهم فرانس سكران و عبد الله عبد الشيخ وعزّة زهرون ... وآخرين ، وهم نفس رفاق محلته ، أغلبهم شباب أكبر منه سناً .
فجلسوا على (بارية من القصب) تحت قمرية ووزعوا (قرّابية العرق) على الموجودين ، فكان له حصة معهم ، ولأنه لم يستذوقه ، بقي يجاهد كي ينتهي من قدحه ، مُقلداً بذلك الأكبر منه حتى إنتهى منه .
وفي طريق عودته الى البيت ، كان يرى أن كل من حوله يترنّح ، البيوت والنخيل ... وحتى البشر !
بقي ليلته يعاني ويكبت الأمر ، وقد تخوف أن صار بعقله الراشد آنذاك ما لا تُحمد عقباه وخاف أن لايعود له عقله ويصير غبياً ، فأزاده ذلك قلقاً ، دون أن يشكو أمره لأحد !
ولما جاء الصباح وجد رغم صغره أن فلسفة أن يفقد الإنسان تركيزه ويتعرض للمقالب والسخرية ، هو من غير المعقول ، حيث (يشتري) الإنسان الغباء وقلة العقل
كره نفسه للحظات ، ووجد أنه غير مستعد أن (يَسكر) من جديد .
المفارقة أنه حافظ على زمالته معهم ، وفي بارات الباب الشرقي ، كان يلتقيهم و(ينصب) البيك معهم كلما ألحّوا عليه ، لكنه يضحك ليقول بأن السبب ما كان كي يشاركهم الجلسة بقدر ما كانوا (يظنون) أنهم يستغفلوه ، فيشربوه من أمامه .
إلا أنه كانم يعلم بأن غير مرئية تمتد من تحت المناضد لتسرق مشروبه ، وكان سعيداً بأنهم كانوا يجعلوه يتخلص منه !
ولكنه أحب شُرب البراندي ، وكانت القنينة بحجم (نص ربع) يضعها في جيب السترة الداخلية في أيام الشتاء الباردة ، وبينما يغادر محله ـ بشارع النهر ـ الى سكنه كعازب في حافظ القاضي ـ كان يسحب القنينة فيرتشف منها ما يُزوده بالطاقة والدفأ ويُنعشه دون أن يُصاب بالدوار .
وبقي على هذه الحال حتى بعد مجيء أهله للسكن معه ، ويتذكر حادثة طريفة أن اُمه تحسُّ بألم برأسها وتشعُر ببرد ، فنصحوها أن تشرب (بقبغ) براندي سادة ، وكانت الى جانبها إحدى قريباتهم التي كانت تشرب الكحول ، حالها حال الرجل ، فلما أعطاها توفيق البطل وكان (سر مُهُر) طلب أن تُعيده بعد أن تشعر اُمه بالتحسن ...
في اليوم التالي كان البطل فارغاً ، ولما سأل اُمه عما شعرت به حين شربت البراندي ، قالت بأنها لم ترَ البراندي وأن (ام ...) قد (نسفتْ) البطل وبكل شجاعة !

شكر وتقدير

أود وبكلِّ محبة ، نيابةً عن كلِّ من تمتع بهذه الرحلة مع الرجل الطيب ، الذي يسميه الكبير قبل الصغير ـ {{عمو توفيق }} ـ أن أتقدم بالشكر الجزيل له وهذه الفرصة الثمينة بالتوثيق البسيط لسيرة حياته الحافلة بالعطاء والتميّز ،متمنياً له الإقامة الطيبة بين أهله وأولاده بهولندا ، ومن ثم العودة الميمونة لدياره بخير وأمان ، داعياً من الله اًن يكتب لنا اللقيا معه أو مع أحد أخيار الطائفة الآخرين وهم كُثر ، وسأعمل جاهداَعلى إقتناص أية فرصة يُمكن أن تتهيأ أمامي من أجل التعريف برجالٍ أفذاذ كان لهم قصب السبق والريادة
ولن أنسَى أن أشكر كلَّ مَن راسلني ممتناً وسعيداً في تعرفه عن قُرب بأحد أعلام الطائفة الذين عرفناهم بسمو الأخلاق وطيب المعشر وغنى النفس

الدخول للتعليق