• Default
  • Title
  • Date
  • نعيم عربي ساجت
    المزيد
    استيقظت من النوم على اثر هزة خفيفة لرأسي ، وصوت امي
  • مؤسسة الذاكرة المندائية
    المزيد
    the Foundation for the Preservation and Riviving of Mandaean Memory
  • عبد الحميد الشيخ دخيل
    المزيد
    كان التجمع في شارع ابي نؤاس عصرا وكما اتذكر مساء
  • همام عبد الغني
    المزيد
      تواصلت رحلتنا , متنقلين بين قرى كردستان , التي كانت آمنة
الخميس, 21 تشرين2/نوفمبر 2013

سوق حانون

  عماد حياوي المبارك
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

 

 

في (مجرد كلام) بهذه الجمعة المباركة والتي تصادف الـ 45 لرحيل أخي طارق ، ساسرد لكم حكاية طريفة قصها عليّ قبل قصيرة من رحيله ، وكان هو شخصياً بطلها ، وذلك في منتصف الخمسينات عندما كان فتاً صغيراً

  عماد حياوي المبارك

 

سوق حانون

 

 ســوق حانون في بغــداد في الخمسينات.

 

 

 

سوق حانون ... منطقة بغدادية عريقة ، وهي واحدة من بين الأحياء المتلاصقة ببعض كالمهدية وأبو سيفين وقمبر علي والفضل والدهانة والشيخ عمر ... وغيرها 

 

المنطقة تقع بين قمبر علي والمدرسة المحمدية ، ويحد محلة (سوق حانون) شارع الخلفاء وشارع الملك غازي ، أنشأها وكان يقطنها أغلبية يهودية منذ الحكم العثماني حتى الهجرة القسرية لليهود في الـعام 48 

 

لا تزال لمسات التجار اليهود ، وهم وجهاء المنطقة لعدة عقود ، شاخصة من خلال الفنون المعمارية على مبانيها وشناشيلها البغدادية والتي بقيتْ ظاهرة للعيان برغم الغبن والتجريف والإهمال الذي أصابها حيث عوملت كـ (أموال مجمدة)* .

 

ما يميز بناء الدور فيها ، أن تربطها ممرات غير ظاهرة للعيان ، تكون مداخلها على شكل أقواس تسمى (مزاغل) ، كان سكنتها يستخدمونها للإتصال ببعض والتجمع في جلساتهم في الأماسي دون الحاجة لمغادرة باب الدار ، وقد رُدمت أو اُغلقت لاحقاً عندما تم (هَجرها) وإسكان عوائل دخيلة فيها . 

نسيجها الإجتماعي قبل سبعة عقود من الزمان أو أكثر ، يشكل فسيفساء عراقية مُصغّرة ، خليط من التجار اليهود مع ساكنون من (الكسَبة) المسلمين وخليط من المنداي والمسيح ، وقد عَرفتْ المنطقة قمة العلاقات الإجتماعية المتوازنة ، ففي أزقتها عُزفت واُنشدت أجمل الألحان ، و وُلدَ بعض من الرجال البغادلة المعروفين بفنهم الأصيل .

ولاتزال تحتفظ المنطقة ببعض تقاليدها الشعبية وأداء المقامات الشعبية والجالغي البغدادي والمناقب النبوية .  

 

(حانون) ـ يقول تاريخ المنطقة ـ أنه أحد اليهود العراقيين ، وكان يجلب البيض من الريف ليبيعه في المدينة ، سرعان ما توسع بعمله وإستقطب تجار اللحوم المرموقين ، فتحولت بعض الدور (ولا تزال) لمكاتب بيع الدجاج الحي واللحوم والاسماك .

تجار اللحوم هؤلاء هم قاطنو هذه الجادّة العريقة ، وأول من شيّد أبنية فيها من الطابوق ، وكان (حانون) أحدهم ، فذهبت التسمية بنشوء سوق وسط البيوتات تـُـنسب إليه ، وبمرور الوقت ولتسهيل اللفظ أو (لأسباب) اُخرى معروفة ، تغيرت التسمية لـ ... (سوق حنون) . 

 

في هذه المناطق يـَكتبُ الزمن تاريخ عريق لبغداد ، ولنا فيها وبالقرب منها أكثر من ذكرى ، كلها تُشير لطيبة أهلها وكرمهم ، وكلما يسوقني الحظ بالمرور من هناك ، أتذكر اُناسٌ طيبون لي معهم ذكريات جميلة ...

 

× × ×

 

في ساحة سينما الفردوس الواقعة على تقاطع الطريق النازل من جسر الأحرار بشارع الملك غازي (الكفاح) ، تقع في الركن الأيمن منها مقهى من الصفيح صاخبة بروادها ، كان غالبيتهم (شيّاب) ، وأما تواجد بعض الشباب في وقتها في السبعينات فكان لأغراض بيع وشراء السيكائر والعملات ، وحتى الدور والأراضي .

 

وسبب تواجدي حينها ومجالستي لهم ليس لشرب الشاي ولا للعب الطاولي ، لإني أكره النرد (الزّار) لأنه لعبة حظ ، وأنا ما عندي ـ على الأقل فيه ـ حظ ، ولكن كنتُ أنتظر مقاول (قنطرجي) من أهالي سوق حانون كان لي موعد معه في المقهى للإتفاق على بناء مشتمل ببيت أهلي بحي القادسية في العام 1977 

تحدثنا معاً بوجود الشخص الذي عرّفني عليه ، إبن العم المرحوم طيب الذكر (عارف رشيد عبد المباركي) حيث كانت صيدليته قريبة ، وتحدثنا عن جملة اُمور تتعلق بالبناء ، وحتى أدق التفاصيل ، و وصلنا الى نوعية الشبابيك والأبواب ، فقلت له ...

ـ عمو أبو طه ، أريد الأبواب ...

إستوقفني بإبتسامة بينما كان يصب الشاي في الصحن ، قائلاً ...

ـ عمو ... إحنة البغادلة أخذناها من اليهود ، مانكول أبواب ولا بيبان ...

ـ لعد شتسموها  ... ؟

ـ نسميها بوب .

حديثه وبغداديته الأصيلة وتزكية إبن العم له ، زرَع فيّ ثقة به ، وتم الأتفاق وسلمته العربون دون ورقة ولا قلم !

وكما معروف فإن (قنطرجية) البناء غالباً مايتخلفوا بمواعيدهم ، لكنه سار بنا وتعاون معنا ودخل هو وعماله ـ وهم جميعاً أبناء منطقته سوق حنون ـ بيتنا بحكم أن البناء يجري في أحد أضلاع الدار الذي نقطنه ، وتقاسمناهم الزاد والماء ، وكانوا ـ والحمد لله ـ صادقون ملتزمون خلوقون لأبعد حدود .

هي فرصة أن أتعرف على تاريخ مناطقهم ، حيث كنت عند عودتي من الكلية ، أجده ينتظرني ليخبرني عن تقدم العمل ، وخير السُبل لتذليل المعوقات ، ونشأتْ صداقة بيننا برغم فارق عمر يبلغ نصف قرن !

 

× × ×

 

تحت سقائف سوق حانون المعدنية المتهالكة ... وزحمة السوق وفوضى المتبضعين ، أتذكّر (سالفة) منذ ستون عام كان قد قصّهاعليّ بسعادة ، أخي الراحل ... طارق

 

 كان العتّال (معروف الكردي) يقوم وعلى مدى سنوات بتحميل ونقل كل متطلبات العوائل داخل سوق حنون ، رجل بسيط خجول وقنوع (مقطوع من شجرة)* مُنحدر من قرى الشمال النائية ، فضّل الإنعزال بنفسه ، ربما بسبب صعوبة اللغة العربية التي لم يتمكن منها مطلقاً ، وهو واحد من قلـّة إستقدمهم التجار اليهود و وثقوا بهم ، فدخل بيوتات المنطقة بهدوءه الذي لا يفارقه ، شاركهم الطعام والشراب ، أفراحهم وأتراحهم ، وصار الرجل محط ثقة الجميع وواحداً منهم ...

 

 لكن التغيرات (الديمغرافية) بداية الخمسينات على المنطقة وهجرة زبائنه اليهود القسرية ، جعلته يعيش في الظل ، ففسح المجال لجيل جديد يتمتع بالشباب والصحة أن ينافسه ويحل محله ، ودفعته ضروفه الصحية أن يشتري عربة خشبية بعجلتين يقوم بدفعها لتلبية بعض الطلبات التي أمست شحيحة . 

 

× × ×

 

إنه شهر تموز منتصف الخمسينات وجميع المنداي يتهيأ لأيام الكرصة والعيد الكبير ، تذبح العوائل الذبائح وتشتري الفواكه والخضر وتُهيء مستلزمات ممارسة طقوس العيد الكبير .

قبل كل شيء ، تقوم العائلة بإرسال مرسال الى الكريمات ، وبالتحديد الى بيت الشيخ المرحوم أبو سلوم (الشيخ فرج الشيخ سام) وأخيه المرحوم أبو عبد الجبار (شيخ عبد الله الشيخ سام) للتأكد من يوم الكراص ...

وكان الجواب يأتيهم بشكل حاسم وجازم : بوية الكنشي وزهلي الثلاث وتلبدون الأربع والطلعة الخِميس !

 

كل شيء مهم ويجب أن يتم حسب الإصول ، لكن المهمة الأصعب هي كيفية جلب الماء من النهر ، فهو سيكون الشغل الشاغل (لأمهاتنا) في سبيل (طمش) الفواكه والخضر أولاً ، ثم عزل المتبقي منه لجميع الإستخدامات المنزلية وطبعاً للشرب .

 

سيدتان مندائيتان ، تسكن أحداهن غرفة مؤجرة في أحد المساكن الصغيرة في سوق حانون مع إبنها في المدرسة الإبتدائية ، هي واُختها التي تزورها مشغولتان بوضع اللمسات الأخيرة في يوم (كنشي وزهلي) ، ولم يبقَ سوى جلب الماء من الشريعة القريبة ، وأي قُرب ، فهي شريعة شارع النهر قرب الإطفاء !

 ولمّا كان (الحيـْل) قد أخذته الأيام وإستنزفته المحن ، كان من الواجب الإستعانة ... بالعم معروف .

وضعَ الرجل المستلزمات ، مساخن نحاسية وأوانٍ فضية نظيفة لماعة ، وصعد الصبي العربة لموازنتها وطار بهم (معروف) ليثبت بأنه لايزال صاحب القدرة والمقدرة ، تسيران خلفه السيدتين وقد إنشغلنَ بحديث وكأنهن إلتقين لتوهن بعد فراق أشهُر !

ما لبثت أن تزاحمت بفكر الصبي جملة أسئلة ودفعته لأن يقفز ، جاعلاً العربة تفقد توازنها ، مهرولاً لخالته مستفسراً ...

ـ شنو ياخالة الكنشي والكرصة والطلعة وليش تهتمّن كلـّـش بيه ؟

ودون إنتظار ، إستكمل بقية أسئلته لاُمه ...

ـ يُمّة ... ليش نروح للنهر إذا مي أكو بالبيت ؟ !

وكانت الفرصة مؤاتية أن تشرحان الام والخالة له طوال الطريق هذه الطقوس الجميلة والتقاليد المميزة التي ينفرد بها المندائيون ...

ـ يُمّة يا بعد خالتك ، إحنة نلـْـبد ببيوتنا لأن الملائكة اللي تحمينا تصعد بيوم الكراص للسما ، نبقى بالبيت حتى محّد يأذي المنداي حتى يرجعن بيوم الطلعة الصبح ، وإحنة نسد بوبنا حتى ما يطبلنا الشر.

أضافت اُمه : باجر كل شيء بالبيت نظيف والكل تبرخ وترشم ، وكل شيء برّة البيت نَجس وما يصير نطخـّـة لأن ما تحرسة الملائكة الأثريين . 

كان حديث طويل و وافٍ له وإستهلك دقائق الطريق الطويلة حتى وصل الجميع النهر ، وهناك حرصْنَ السيدتين أن لا أحد غيرهن يمسك بأدواتهن بعد (الطمش) على شريعة النهر .

 وبينما استمرت النسوة عملهن ، بقي (معروف) بعيداً منزوياً كعادته ، يترقب الأمر ويسترق نظرات وَجدها الصبي فضولية وفيها تساؤلات ، فسرها بأنه ربما في خجل أن يطرح أسئلته بشكل مباشر على اُمهاته ...

إقترب منه الصبي ، بينما الأم والخالة لا يزلـْنَ منهمكات هناك عند (الجرف) ، وإستقام بجسمه وبكل جرءة ...

ـ جدّو أكيد تريد تعرف شديسون اًمهاتي وليش نجي الشط وناخذ المي منه ... ؟

 

نظر (معروف) له وإبتسم وهز رأسه (مُرحباً) بالطفل الذكي ، إبتسامة فتحت للطفل الباب على مصراعيها لإثبات ذاته ، فإستطرق ...

ـ جدو ... أحنة الصُبة نآمن بألله وحتى يقبل صلاتنا وتوبتنا لازم نغتسل بمي النهر الجاري النظيف ...

لم يتوقف الطفل ولم تُزعجه أشعة الشمس المائلة عند العصر حيث أغمض جفنيه لتلافيها وإستمر بالكلام ...

ـ على طول يومين تصعد الملائكة الى السما ونبقى بلا أمان حتى ترجع ، لهذا نبقى بالبيت .

 لم يشعر الصبي بجوع ولا عطش وهو يستغرق بالحديث ، بينما وقف (معروف) أمامه متبسمراً دون همس (لا يعوص ولا ينوص) ...

 

في هذه الأثناء ، إستكملتا الوالدة والخالة إجراءاتهن على أكمل وجه ، أشـارت الخالة لـ (معروف) بالعودة قبل إنقضاء العصر ، لكن الولد لا يزل بجعبته الكثير مما يريد أن يُخبر (الجد معروف) به ...

ـ إحنة نجيب المي هذا اليوم من النهر لأن المي نظيف ومحروس  من الملائكة ، بس باجر ...

قاطعته الخالة دون جدوى ، بينما (معروف) يترقب الطرفان دون أي ردة فعل ...

ـ جدّو ، باجر ماكو ملائكة تحرس المكان ، وتكون الشياطين موجودة ...

 

وهنا جاء نداء أخير للصبي بضرورة السكوت وعدم إشغال الجد ، ولما لم ينجح مسعاها ، إقتربت الام من ولدها ومسكت بكتفه ...

ـ يلـّة يا يمّة راح يجي الليل ، صار ساعة تحجي ويّة عمّك (معروف) ، جا أنت يا يمّة ما تدري هذا الرجّال كردي ما يعرف يحجي ولاطكة عربي !     !! !!!

 

عماد حياوي المبارك 

 

 

 

× يقول بعض مثقفي منطقة (سوق حانون) ، بأن روح (حانون) لا تزال قابعة اليوم في هذا السوق ، لكن جسده هو الذي هاجر الى ... تل أبيب !

× وقد عَرف (سوق حانون) زيارات عدّة للزعيم الراحل (عبد الكريم قاسم) كونه ينتمي لمنطقة شعبية شبيهة .

× (مقطوع من شجرة) يُطلقها أهلنا على مَن لا أهل أو نسب له ، وتذهب التسمية أحياناً ، للتشكي من الزمان وغدره بالبشر .

 

 

الدخول للتعليق