• Default
  • Title
  • Date
الجمعة, 15 شباط/فبراير 2013

الصابئة المندائيون وسوق الشيوخ وتشريفات القصور الرئاسية

  نعيم عبد مهلهل
تقييم هذا الموضوع
(2 عدد الأصوات)

الطور الصبي ..طور غنائي نشأ من قصة طريفة حدثت لواحدٍ من أبناء الطائفة المندائية في العراق ، كان ذلك في القرن التاسع عشر وفي مدينة جنوبية ، تمصرت وتحضرت من خلال اختيارها مكاناً لتجمع القبائل العربية التي كانت تمتد ببساط مراعيها قرب ضفاف نهر الفرات وبطائح الاهوار في جنوب العراق تسمى سوق الشيوخ.
وكأثر فالمدينة هي من بقايا طلل الزمن الغابر ايام سلالات سومر ، عندما كانت العاصمة اور تمتد بخارطتها الادارية من مكان المدينة الحالي وزقورتها ومقبرتها الملكية وحتى اطراف الأهوار شمالاً قرب مدينة الجابيش ، هذه المدينة حباها الله بخاصية عجيبة هو أن أغلب بيوتها الاصيلة تضع في مدخلها مكانا وناصية لتداول الشعر وقرضه ، بين أن يكون هذا المكان ديواناً كبيراً أو غرفة صغيرة .المهم أن يكون في كل بيت ( سقشخي ) شيئاً من الشعر ومكتبة لدواوين كتب الأدب..وفي جلسة خاصة ( وما أكثرها ) مع الشاعر المرحوم الشيخ ( جميل حيدر ) ، أجابني حول هذه الظاهرة أن يكون كل شيء في المدينة يتنفس شعراً حتى طابوق البيوت ..؟
قال : السبب هو أن المدينة محاطة بطبيعة تمنحك الطاقة لتعبر ،البساتين والاهوار والنهر الخالد والصحراء ، أضافة على انها ولدت جغرافياً من فكرة أن تكون ملتقى لتجمع القبائل كما أسواق العرب في الجاهلية مثل عكاظ والمربد ..وغيرها .
نأتي على قصة هذا الطور ونشأته كما في الروي الشعبي المتداول وكالآتي (( الطور الصبي ( ضمة على الصاد ) وينسب الى الطائفة الصابئية ــ المندائية ، وهو من أشهر الأطوار الغنائية الشعبية العراقية ، ونشأ تأريخيا وفق الرواية التالية : أن ناصر السعدون رئيس عشائر المنتفك وهو أول متصرف لمدينة الناصرية التي سميت بأسمه يوم بناها الوالي العثماني مدحت باشا في عام 1873.قد أرسل على روحي شعلان وهو صابئي يسكن قضاء سوق الشيوخ ــ محلة الصابئة والقائمة الى يومنا هذا( 390 كم جنوب مدينة بغداد ) وكان حداداً وطلب منه أن يغني بيتا من الأبوذية وبسرعة وإلا قطع رأسه ، وشهر سيفهُ عليه ، فأرتجف ( روحي الشعلان ) خوفاً وقال : ( أيا ويلي ) ، فنظم بيتاً وغناه خوفاً من قطع رأسه والبيت يقول :( جلد لاجن جفاني النوم جلداي .. وحل اليوم بين الخلك جلداي .. أغني لو يذر الشيخ جلداي ..لو امشي وتظل داري خليه ..)، ومن هذه الحادثة نشأ الطور الصبي والذي يبدأ ب( أيا ويلي ) وقد غناه بأجادة تامه المطربين المرحومين جبار ونيسة وولده ستار جبار ونيسة.))
هذا الطور كما بقية اطوار الغناء في كل العالم يكتب ولادته من الحدث التاريخي لحياة الشعوب ومجتمعاتها ، ودائما هناك حدث يتسم بالفطرة والبراءة ليولد نقياً صادقاً كما قصص الحب المؤسطرة منذ زمن سمير اميس ومرورا بقيسٍ وليلاه وانتهاء برميو وجوليت ، ويبدو أن البنية الأجتماعية والروحية والجغرافية لطائفة المندائيين كانت مهيأت دائماً لصناعة هكذا نمط من التراث الجمالي في حياة هذه الطائفة ، لما تتميز به من شفافية التعامل مع الموجود الحياتي وحرصها الدائم على عدم جلب حداثات الفكر والتقليد والمكتسب الى أرث ديني وروحي واجتماعي تعودت عليه منذ الاف السنين ، وعليه فأن علاقة المندائي بالمحيط الآخر المختلف معه من الناحية الدينية تقوم على اساس الترابط المجتمعي والاحترام المتبادل والنأي عن كل ما يحدث من التفاعل الصاخب بين المكونات الطائفية والمذهبية كما حدث للمكونات العراقية على طوال المسيرة الحضارية والتاريخية لهذا البلد.وحتى عندما كانوا يتعرضون الى الأذى والمذابح والتهجير في ظل موجات التعصب الديني لا ( السياسي ) كانوا يتفاعلون بصمت وبأصرار مع العودة والتجديد الى حياتهم الخاصة ، حتى أجبر صمتهم واصرارهم للابقاء على ازلية الذات في الممارسة الطقوسية ،الانظمة الحاكمة لبسط حمايتها على هذه الطائفة بالرغم من أن دساتير هذه الانظمة تتحاشى منح هذا المكون حقوقه الدستورية كواحد من مكونات المجتمع العراقي الذي يمتد اصالة الى عصور ما قبل التاريخ ، ولكنهم كانوا ينالون التقدير والاحترام في المقابلات الرسمية التي تتم بين كبار رجال الدين المندائيين وملوك ورؤساء الدولة العثمانية والعراقية منذ زمن الملك فيصل الاول وحتى اليوم. وقد اتيح لهم في نهاية تسعينيات القرن الماضي أن يصدروا مجلة شهرية بعنوان ( آفاق مندائية ) تصدر عن لجنة الثقافة والاعلام في المجلس المندائي ومقره في حي القادسية في بغداد ، وكنت مساهما شهريا فيها ولا ادري أن ظلت تصدرالى اليوم أم توقفت عن الصدور ، بعد آخر عهد لي فيها عندما وزعت اعداداً منها في المؤتمر الثقافي العراقي الذي اقامته منظمة اليونسكو بالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية في فندق بابل 2005 ، وكنت قد تسلمت من الناشط المندائي السيد علاء دهلة قمر اعدادا كثيرة من هذه المجلة ، واعطيتها الى الكاتب العراقي الشهيد ( كامل شياع ) الذي كان يعمل منسقاً عاماً لهذا المؤتمر، وقام بدوره بتوزيعها على الكثير من المثقفين العراقيين واغلبهم من المغتربين.
لقد خلدت هذه الطائفة طورها الخاص بها والذي لم يولد من فطرة بدائية او صدفة حياتية ، بل هو نتاج التمازج الحضاري والبيئي مع جغرافية وطبيعة المكان واقصد بلاد ( سوق الشيوخ ) ، وعدا اكتشافهم لهذا الطور الخالد ، فالتاريخ يتحدث عن تألق شخصيات بارزة من هذه الطائفة ، عدا ابداعهم في حرفتهم الشهيرة وهي صياغة الذهب والفضة ، كما أعتقد أن معول الحراثة الزراعي ومنجل الحصاد الأول في العراق والعالم مكتشفهُ وصانعهُ ليس سوى واحد من أولئك المندائين الاوائل الذين عاشوا مع السومريين الذي امتلكوا ريادة الوعي الاول في المسيرة التاريخية للحضارة العراقية ، والدليل انهم أي المندائيون ، كانوا وحتى وقت قريب من أمهر حدادي صناعة الآلات الزراعية من معاول ومناجل وسلاسل وغيرها ، وحتى مكتشف الطور الصبي ( روحي الشعلان ) كان حداداً..
غير اني اضيف الى هذا الموجز التاريخي عن تلك الطائفة الأزلية ما أشار اليه المفكر العراقي هادي العلوي في لقاء تلفزيوني من أن المندائيين هم من كانوا يقومون بترتيبات الاتكيت وتشريفات الاستقبال في قصور بني العباس من عهد المنصور باني بغداد وصاعداً ، وهو مايشابه اليوم عمل تشريفات القصور الرئاسية.أخذت هذه المعلومة وذهبت الى المحرك البحثي الضخم ( كوكول ) لأتابع تاريخ هذه المعلومة ، فعرفت أن المندائيين في العصور الغابرة ومنذ زمن الاكاسرة والايوانات الفخمة ، ورثوا حسن تدبير المكان والضيافة من الأتكيت الفارسي في استقبال الملوك والامراء والسفراء ، ومنها مهنة الحاجب الذي ينادي بقدوم الضيف.ولهذا كان لبعض صابئة العراق المكانة الشرفية اللائقة في مناصب الدولة العباسية وهما كما الروم والفرس ساهموا في اغناء المكتبة العربية بترجمات الثقافة السريانية والارامية التي غصت بها رفوف دار الحكمة في زمن الخليفة العباسي المأمون، وكان لهم في المجتمع مكانة لائقة من الحكمة والمشورة والنديم ، حتى أن نقيب الأشراف الطالبيين الشريف الرضي كان أعز صديق له في الجلسة والاستشارة كان مندائياً.من طور الصبي الى تشريفات القصور الرئاسية أيام كسرى ومن بعده بني العباس ، عاشت المندائية ديانة تناى عن الشعوبية والسياسية والاحتكاك المجتمعي السلبي ..عاشت بهدوء وصمت وعزلة ..فقط لتحافظ على نقاء ابديتها وصفاء حسها وديمومة وجودها العرقي والروحي والسماوي ..وقد نجحت في ذلك الى ابعد حد.

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014