ليس هناك أدنى شك بأن (شادي)* أسمٌ سهل بلفظه وبحروفه، والاهم من ذلك فهو ذا معنى جميل يأخذك إلى عالم الصوت الجميل واللحن الحالم، وقد اُخذ منه التأنيث (شادية)، فتداولته العرب كثيراً، ومن يشدو ـ طيراً كان ام أنسان ـ إنما يغذي فينا النفس والروح بما يعجز طعام، أي طعام، عن تحقيقه.
الأسم وارد ومنتشر في كل بلد ناطق بالعربية، إلا نحن بالعراق، فأن لم اكن مخطئاً، ليس هناك عراقي يحمل هذا الاسم إلا نادراً، ونادراً جداً، وأقل حتى من عدد الأصابع باليد !
ذلك لأن في العراق ـ وللأسف ـ بدل ما يأخذنا لعالم الغناء والطرب، يذهب بنا الى (الزوراء) وبالتحديد لحديقة الحيوان، وبدل أن نتعلق بالألحان الحالمة، تجدنا نتعلق ... بغصن شجرة !
قد يجزم البعض بعدم سماعه هذا الاسم بالعراق نهائياً، ويقول أنني أخطأت حين قلت أنما يوجد القليل، وكي لا نختلف فأن ما متأكد منه هو وجود واحداً، وهو ـ للأسف ـ قد هاجر منذ زمن بعيد ولا ادري اليوم أين أراضيه، أو أية جنسيته يحمل، أو هل (يتذكر) أن أصله عراقي أم لا !
× × ×
كان والدهُ أستاذ (ألبير) هو مدرس الموسيقى الوحيد في المديرية العامة لتربية (ديالى) في الستينات، يتجول بين المدارس الابتدائية النموذجية في مدينة بعقوبة ليعطي دروس بالعزف والغناء، وفي كل يوم أربعاء ندخل بسعادة إلى قاعة المسرح لنتلقى درساً في الموسيقى، نحن طلبة الصف الثالث، ونبدأ نتدرب على العزف على آلة الأوكرديون وآلات النفخ والإيقاع.
وكنا نردد بأشرافه موشحات أندلسية وأغانٍ وطنية عن العراق، علمه وأرضه وأعياده وحتى عن مياهه وشجره، ويقوم (ألبير) بحشر أذنه بين شفاهنا بالتسلسل، وكلما أحسّ بصوت نشاز، أو (تغريد) خارج السرب، يربّت بنعومة على الكتف، فيتوقف الطالب أو الطالبة بينما يستمر الآخرون ... وهكذا حتى يتبقى فقط عشرة من بين ثلاثين، ويكونوا هم الفائزين.
والغريب أن له حساً شديداً بتلقي الصوت، فكنت ورغم صغري اُلاحظ من هم الفائزون، وأجد (تسعة) منهم على الأقل هم ذاتهم يتبقون في كل جلسة إستماع، ولم أكن يوماً ـ لسوء حظي ـ حتى ولو ... العاشر بينهم !
اُستاذنا هذا أرمني أبيض البشرة، بعينين عسليتين وشعر خفيف جداً يكاد يجعله أصلعاً، يسكن وعائلته في دار بحديقة وارفة تمتد على نهر (ديالى) بعيداً عن المدينة بقليل، ويمتلك ـ من بين قلائل ـ سيارة (ببعقوبة) يصطحب بها أولاده كل صباح، فقد كان له بنت وولد، البنت أكبر منا أسمها (ألحان)، أما الولد ـ تعيس الحظ ـ فأسمه ... (شادي) !
أستاذ (ألبير) رجل مسيحي مصلاوي بصراوي، كيف ؟
والداه مصلاويان، فقد عمل أبوه في شركة نفط العراق (الآي بي سي) بكركوك، ثم نُقل للبصرة كمترجم مع الانكليز، حيث كان باستطاعته أن يتكلم ويفهم لكنه لا يقرأ ولا يكتب، أسكنه الانكليز معهم بالبصرة، نشأ ألبير هناك، يتكلم انكليزي مع الجيران، وبصراوي بالمدرسة، ومصلاوي ... في البيت !
سافر لمصر بعد الإعدادية لإستكمال دراسة الموسيقى التي زاد ولعه بالآلات الغربية على يد الانكليز، وهناك حصل على شهادته بالموسيقى، وكان وسيماً خلال أيام شبابه وطيشه، وحالفه الحظ ـ فيما يبدو ـ فتزوج هناك بآنسة قبطية بنت عائلة غنية، فعاد بها بعد سنوات للعراق ومعهم (ألحان وشادي).
أولى الصدمات التي تلقاها (ألبير) في العراق، تعيينه بمدينة (بعقوبة)، مجتمع وناس بينهم وبين الموسيقى (الغربية) بحر، لم يجد الرجل أجهزة موسيقية أو معدات صوت وتسجيل، ولا قاعة ولا أي شيء ...
وحين طلب مقابلة (المتصرف)، كان يحمل قائمة طلبات (للنهوض والارتقاء) بالواقع الموسيقي بالمدينة، أستعجل بطيّها ودسها بجيبه قبل أن يقدمها، بعد سماعه إمكانيات المتصرفية وكمية الأموال المخصصة لهكذا نشاط !
فقد سمعته يُخبر أحدى المعلمات بأن قائمته للمتصرف كان يتصدرها شراء (بيانو) !
ومع ذلك فقد وعد أبنه (شادي) بالاستمرار بتدريبه على ما متاح، بعد أن لاحظ بمصر أن الموسيقى واللعب على هذا الجهاز الأنيق قد إستهوى ولده الصغير.
× × ×
نعود (لشادي)، فقد كان هذا الطفل يعاني كلما يندهه المعلم، ولاحظ أن (عاصفة) من الضحك ترافق أسمه من دون كل الأسماء كلما نُطق إسمه، وحين عاد ليسأل أمه في بادئ الأمر، لم تعرف ما تجيبه، وبدل أن تسأل أبيه، راحت (هدادة) للمدير تشكو معلميه وثلاثون طالب، هم جميع زملائه، لتعود متحيرة، فبدل أن يحل المدير مشكلة أبنها، وَضعها بدوامة أصعب لتُدرك بأن المشكلة أكبر من أن تُطوّق بوعود !
وزادت عزلة الولد المسكين رغم قيام أبوه بنقله لمدرستنا (النموذجية)، ولم يجد إلا متطوعاً واحداً رضي أن يزامله، هو الآخر كان (يرتل) بحرف السين فيقلبه ثاء، حينها هزت معلمتنا يدها واطلقت مثلاً لم أفهمه بوقته لكنني حفظته لأنها لم تكف عن ترديده كلما التقت معلمة اخرى.
تقول وأصبعها يصوب ناحيتهما : إلتم المكرود على خايب الرجا !
وعقبت احد المطبقات يوماً، أن مشكلة زميله ستتكفل الأيام بحلها، حيث سيكبر وسيتمكن من تحسين لفظ السين، لكن مشكلة (شادي) ستكبر معه ولا سبيل لحلها !
بقينا نحن نكبر، شادي معنا يكبر، وآلامه أيضاً تكبر، واستمررنا نضحك ولم يقدر الولد أن يقاوم التيار، فإستسلم لأمره وانزوى بعيداً ...
أخيراً (اخذت الأم بعضها) كما يقول أهلها المصريون، وسافرت بالعطلة الصيفية لمصر، بجعبتها طفليها (ألحان وشادي)، ثم عادت بنهاية العطلة وبمعيتها (ألحان) فقط، ضلّ (شادي) بمصر لفترة ثم انتقل فيما بعد لجماعة جدّهُ ببلد نسميه بلد (العم أبو ناجي)، وعاش حياته هناك ولم نسمع بعد ذلك عنه شيئاً.
قد يكون اليوم عازف بيانو من طراز خاص، فكلما أرى عزف على البيانو في التلفزيون، أتوقع أن تراه عيناي على الشاشة، واقول (بلكي) أقرأ أسمه ...
مستر ش . ألبير !
ربما كان أسمه ـ كعراقي ـ كافٍ لقبول لجوءه في أي بلد أوربي، فمعاناته من نوع خاص، وخاص جداً، فلجوءه ليس لجوء أنساني ولا سياسي، نوع فريد ...
لجوء (أسمائي) ... والله أعلم !
عماد حياوي المبارك
× شدا ـ يشْدو ـ فهو شادي، وشدَتْ ـ تشْدو ـ فهي شادية.
لنستمع معاً للصوت الملائكي فيروز
وهي تعاني من فَقد ـ شاديها ـ حيث تقول كلمات اغنيتها بأنها تتذكر منذ عشرين سنة كيف فقدته أيام الحرب، وبقيت بعد طول سنين لم تفقد الأمل يلقياه، أو أنها على الأقل لا تزال وَفية لذكراه.
من زمان
انا وصغيرة
كان في صبي
يجي من الاحراش
ألعب انا و ياه
كان.. اسمه شادي
انا و شادي غنينا سوا
لعبنا على الثلج ركضنا بالهوى
كتبنا على الاحجار قصص الصغار و لوحنا الهوى
و يوم من الايام ولعت الدنى
ناس ضد ناس عالابها التني
و صار القتال يقرب عالتلال و الدنيا دنى
و علقت عاطراف الوادي
شادي ركض يتفرج
خفت و صرت اندهله
وينك رايح يا شادي
اندهله ما يسمعني
ويبعد يبعد بالوادي
من يومتها ما عدت شفته و ضاع شادي
والتلج اجه و راح التلج
عشرين مره اجه و راح التلج
و انا صرت اكبر و شادي بعدi صغير عم يلعب عالتلج عالتلج