• Default
  • Title
  • Date
السبت, 29 تشرين2/نوفمبر 2014

هل تخلع (أنتركتيكا) ثوبها الأبيض ؟

  عماد حياوي المبارك
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

يمكننا ببساطة أن نُشير الى القطب الشمالي بمجرد لو نظرنا بإتجاه النجم القطبي أي لمجموعة النجوم المسماة (الدب الأصغر) وهاتين الكلمتين هما نفسيهما التي أطلقهما الإغريق على الشمال (أرك واز).

ومع أنهم ما كانوا يعلمون بوجود قارة مترامية الأطراف تكسوها الثلوج في الجهة المضادة لها أي جنوب الكرة الأرضية، لكنهم أشاروا (أنتي أرك واز) الى اتجاه الجنوب.

بعد أكتشافها قام العالم بتجميع الكلمة واختصارها لتصبح ... (الأنتركتيكا).

مشهد للأنتركتيكا وقاعدة الكرة الأرضية، تبدو فيه أفريقيا واستراليا ونيوزيلندا، أما الأقرب فهي قارة أمريكا الجنوبية (الأرجنتين).

(الأنتركتيكا) هي سابع قارات العالم، وهي الجزء من اليابسة الذي لم تُحدَد معالمه بعد، ويعتبر أكبر محمية طبيعية، يسكنها ما بين ألف وخمسة آلاف فرد من خمسة أقطار، جلّهم من العلماء والباحثين عن أسرار وعن خيرات هذه الأرض المقفرة شديدة المراس، وهي لا ترفع علم أي بلد برغم مطالبة الأرجنتين بأن تتبعها كونها الأقرب لها مثل (كرين لاند) التي تتبع الدانمارك سياسياً، لكن لأن هذه الأخيرة مسكونة من قبل الأسكيمون فكان يجب أن يتبعون مرجعاً لهم بينما (الأنتركتيكا) خالية من السكان. الأرجنتين أبقت على تواجد نشط يضم عدد من العاملين والعسكريين مع عوائلهم بمجمع (أسبيرانزا) الذي أسسته في العام 1952.

تحتوي هذه البقعة مجهولة العوالم على ثلاثة أرباع المياه الصالحة للشرب والسقي بالكرة الأرضية وبالتالي فهي (خزان المياه العذبة) الأكبر على الأرض والذي لو أصابه (ضرر) لغمرت المياه عواصماً كلندن وأمستردام ودكا، وربما بلداناً بأكملها كهولندا وبلجيكا وبنغلادش، أما لو ذاب كل جليدها ـ لا سمح الله ـ فسيرتفع منسوب البحر 60 متراً ويغمر ثلث اليابسة وتظهر خريطة جديدة لحدود قارات العالم (للعلم فإن بغداد ترتفع 30 متراً فقط عن سطح البحر) !

ويكفي المقارنة لنفهم أهميتها بالنسبة لنا بأن ثلوج شمال الكرة الأرضية (كرين لاند والألاسكا وشمال كندا وسيبيريا) كلها مجتمعة لا تشكل سوى خُمس أي (20%) فقط من ثلوجها.

تبلغ مساحة اليابسة فيها أكبر من مساحة قارة استراليا، والمطر على سواحلها شحيح للغاية، وإما في عمق القارة فنجد أنها البقعة الوحيدة على الكرة الأرضية التي ينعدم فيها المطر كلياً، فيكون الطقس جافاً متجمداً طوال العام.

ولا ترتفع درجة الحرارة فوق الصفر إلا لبضعة أيام عند الساحل وفي صيفها (كانون وشباط)فقط، أما على جبالها التي تعلو أكثر جهة الشرق فتنخفض الحرارة بقممها الى سالب ثمانين لتكون المنطقة الأبرد قاطبةً على وجه الأرض (لاحظ أن القطب الشمالي أعلى حرارته قليلاً بتأثير مياه البحر الأدفأ نسبياً).

تستمر الشمس مشرقة طيلة 24 ساعة في فصل الصيف (كانون وشباط) وتغرب طيلة الشتاء (تموز وآب) لتغرق القارة بظلام دامس وسماء صافية.

وإذا كان لدينا ما نقوله عن جغرافية هذه القارة المقفرة، فليس عندنا عن تاريخها ما يملأ صفحة واحدة، فلم تشهد يوماً غزوة ولا معركة ولا حتى نزاع ما عدا ذلك الذي يحدث بين فحول البطاريق أو الفقمات من أجل الإناث بموسم التزاوج.

كان (أرسطو) أول مَن أشار لاتجاهها جنوباً دون علمه بأنها مساحة شاسعة من الأرض يغلفها الجليد، وعندما استكشف (ماجلان) المضيق الذي يقع أقصى جنوب الأمريكتين، كان يرى جزراً يُنير بعض الهنود الحمر بمشاعلهم قمم جبالها أسماها (جزر النار)، وقال بأنها قد تكون حافات لقارة عملاقة تمتد حتى القطب الجنوبي، بعد ذلك وجد (جيمس كوك) أن قارة أمريكا تنتهي عند رأس (هورن) وأن بحراً يمتد الى الجنوب منها فقام بالابحار فيه لكنه تخوف وتراجع، وبذلك فهو كان الأقرب لها.

أما أول من وطأت أقدامه أرض القارة، كان كابتن سفينة صيد فقمات أمريكي في العام 1821 لكنه لم يجازف بدخولها، وما أن جاء مطلع القرن العشرين حتى ازداد سعير حمّى البعثات والتنافس لاستكشافها والوصول الى قطبها.

الرحلة الأولى، كانت بريطانية في العام 1901 برعاية حكومة الملكة، لم تلج كثيراً في عمق القارة ولم تقترب من القطب فوصلت لمسافة 857 كلم، وكان كابتن (روبرت فالكون سكوت) أحد أعضاء البعثة، بينما نجحت البعثة الاستكشافية الاسكندنافية في عام 1903 بالوصول لمسافة 180 كلم من المركز.

سخّن هذا التنافس الأجواء الباردة، ودفع بالجمعية الجغرافية الملكية البريطانية التخطيط لرحلة الوصول للقطب قبل الآخرين ورفع العلم البريطاني هناك، ووقـَع على الكابتن (سكوت) وأربعة من رفاقه الاختيار لإعداد وتنفيذ هذه المهمة الشاقة، فقامت السفينة (تيرا نوفا أي الأرض الجديدة) بالإبحار من نيوزيلندا جنوباً الى شاطئ القارة (كيب إيفانز).

هذه الرحلة ومن خلال مذكرات الكابتن (سكوت) كانت الأشهر بالتاريخ، لماذا ؟

دعونا نبدأ من حيث انتهى (سكوت) بكتابته وبخط يده

(لم تعُد لديّ قوة، ولا يسعني أن أواصل الكتابة بعد ...)

هذه الكلمات طرزت آخر صفحة بمفكرته اليومية بعد أن أوقد شمعة تُنير خيمته في تلك الوحدة والوحشة، كان ينازع الموت ويمتد بجانبه زميلان يغرقان في نومٍ أبدي وقد تجمّد جسدهما وتحجّر.

بعد فترة تم البحث عنه، فوُجِدَ ميتاً وهو جالساً باستقامة ورأسه مستنداً الى سجل مذكراته التي يروي من خلاله تفاصيل رحلة شاقة ومثيرة، يقول فيها بأنه وزملائه الأربعة قد تأخروا عن بعثة منافسهم النرويجي (أمدرسون) بخمسة أسابيع في الوصول للقطب مما تسبب لهم بخيبة أمل حين وجدوا العلم النرويجي يرفرف بمركز الأرض الجنوبي، وبطريق العودة أبطأت عاصفة شديدة مسيرتهم وأدت لفقدان اثنين من رفاقه، بينما أدى نفاذ مؤنهم من طعام ووقود لوفاة زميليه الآخرَين حيثُ قتلهم البرد والجوع، فوجدوا الثلاث متجمدين في خيمتهم على مسافة عدة أميال من أحد مراكز تموينهم الخلفية.

الشمعة الأخيرة التي أوقدها (سكوت) ألقت لنا الضوء على نهاية مأساوية على رحلته لاستكشاف القطب الجنوبي، ومع أن منافسه (أمدرسون) هو من وصل للقطب أولاً ورفع علم بلده النرويج، إلا أن بعثة (سكوت) وبسبب نهايتها المأساوية هذه، حصلت على شهرة أكبر.

وصل البريطاني (سكوت) في 17 يناير 1912، بينما سبَقه (أمدرسون) في 14 ديسمبر 1911 (وهي أيام صيف هناك) ليزرع علم بلاده (النرويج) أولاً.

وكان لا بد للأنكليز من البحث عن سبب فشل البعثة بتحقيق سبق الوصول أو بعودة أعضائها سالمين،

فوجدوا أن سر تفوق النرويجيون عليهم في رحلة التنافس لغزو القطب الجنوبي، كان لخطأ اقترفه (سكوت) في الأعداد للرحلة حين استخدام زلاجات كبيرة تسحبها خيول لم تتحمل البرد الشديد فنفقت هناك، بينما نجح (أمدرسون) حين أخذ بنصيحة أسدَوها له السكان الاسكيمو باستخدام زلاجات صغيرة تسحبها كلاب مدربة ذات فراء كثيف يمكنها تحمل البرد والجوع.

اليوم تقوم الآلة بدورها لتذليل أية صعوبات محتملة

لا تزال الحيود الشمالية (للأنتركتيكا) وبالتحديد في جزيرة (جورجيا الجنوبية) تتعرض ومنذ ثلاثون عام لتيارات رياح محيطية دافئة تتسبب برفع حرارة الهواء مما يجعل الكتل الجليدية تتآكل وتتحرر لتطفو حُرّة على سطح الماء.

إن زحزحة كتل جليدية وطوفانها هناك يكون من الخطورة ليس بما تضيفه للبحر، وإنما بما ستفسحه من مجال للأنهار الجليدية بسكب مياهها نحو المحيط بدل أن يتباطأ جريانها وتتجمد، لو تستمر هذه التيارات الدافئة بالهبوب، فانها سترفع مناسيب البحر نصف متراً بنهاية القرن الحالي.

الحياة على سطح (الأنتركتيكا) حتى في الشتاء ليست معدومة بشكل تام، فمشد الزرقة المائلة للاخضرار في ثلوجها يعود لنوع من العوالق البحرية المستوطنة فيها، أما في الصيف فتبدو حركة الحياة عند شاطئ القارة أكثر صخباً ويزداد عام بعد عام، وهو الأمر الذي يُقلق العلماء حقاً، فمشهد نزوح أنواع من البطاريق معروف عنها عدم مقاومتها البرد الشديد، وظهور طيوراً في سماء القارة تسعى لإيجاد حوافٍ صخرية تبني أعشاشها فيها، يعطي انطباعاً بأن الجليد بدأ ينقشع وأن أراضٍ جرداء جافة ظهرت على سطح الجزيرة.

هذه أدلة تعني أن (الأنتركتيكا) بدئت فعلياً بخلع ثوبها الأبيض الجميل !

قد يُلقي البعض سبب التغيرات المناخية والانحباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض باللوم على الإنسان وصناعته ووسائل ترفيهه، لكن هذا هو جزء من الواقع وليس كله.

صحيح الزيادة المطـّردة للسكان هو على حساب صحة الأرض ويتسبب ذلك باختلال التوازن البيئي عليها، كما وأن الإنسان مسئولاً بشكل غير مباشر عن تطرف المناخ وحدوث كوارث طبيعية في الوقت الحاضر بسبب ما تلفظه معامله من مخلفات وسموم وأبخرة.

لكن علينا العلم بأن كوكب الأرض يمر بدورات على مدى عمره البالغ أربعة مليارات عام ونصف، مثل الفصول الأربعة، هذه الدورات تكون مدياتها عشرات آلاف السنين، في أحد فصولها، ترتفع حرارته تدريجياً وينقشع الجليد صوب القطبين (دورة أحترار)، ثم ما يلبث أن يمر بفصل آخر لتنخفض درجات الحرارة ويزحف الجليد باتجاه مداري السرطان والجدي، وهذه هي (دورة الإنجماد) فيلف الجليد بقاع شاسعة من سطح الأرض وهكذا تستمر فصول الأرض وتتغير حدود قاراته حين ينحت الثلج في الصخر وفي السواحل كما نشاهده في اسكندنافيا وشمال كندا وجنوب الأرجنتين، الأماكن الأقرب للقطبين والتي تعرضت لعدة مراحل من الزحف الجليدي.

ستستمر الأرض بلا كلل دون أن يشعر أحداً بها ـ لقصر عمرنا نسبةً لفتراتها ـ لكن لو يُكتب لأحدنا أن يُعمّر عشرات ألوف السنين، لعاش فصلي الأرض هذه مثلما نعيش نحن فصولها الأربعة كل عام، ولكان شاهداً على أن (أنتركتيكا) لها سوابق بأنها قد (خلعت) ثوبها الأبيض عدة مرات ثم ارتدت غيره، ويبدو أن هذا هو حالها وحال الدنيا ولله في خلقه شؤون !

عماد حياوي المبارك

قاعدة البحوث الدائمة في القطب الجنوبي، سُميت باسمي (أمدرسون ـ سكوت) تقديراً وتخليداً لهما.

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014