• Default
  • Title
  • Date
السبت, 14 أيار 2016

نافذة على أدب خولة الرومي

  بدور زكي محمد
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

كنت قد شاركت صديقتي الأديبة خولة الرومي احتفالها بالإنتهاء من كتابة روايتها الثالثة: آدم عبر الأزمان، قبل ثلاثة اشهر، وقد صدرت الرواية في بغداد، عن دار الرواد المزدهرة في نهاية العام الماضي. وقد تزامن ذلك مع اللقاء الذي دعت له مؤسسة الحوار الإنساني في لندن، في شهر أكتوبر للإحتفاء بروايتيها السابقتين. وقد أسعدني أن أقدم قراءة موجزة عن روايتها الأولى، رقصة الرمال، بينما تحدث الناقد الأدبي عدنان حسين أحمد عن روايتها الثانية، الصمت حين يلهو.

ومع أن هناك أحداث يزخر بها المشهد السياسي في بلادي العراق، وفي سوريا ولبنان، ويعصف البؤس بملايين اللاجئين، بينما يعبث القتلة على اختلاف توجهاتهم بحياة الأبرياء، فقد اخترت بعد انقطاع أربعة أشهر عن كتابة المقال السياسي، أن أكتب في موضوع أدبي، لأن الرمال المتحركة التي كتبت عنها الدكتورة خولة، هي التي تتحرك الآن تحت أقدام الملايين في العراق، فالمواجهات في الأنبار تضع مستقبل البلاد على حافة الخطر، وتزداد عواصف السياسيين الذين فقدوا الإحساس بالأنتماء للوطن.
أول ما يهمني تسجيله قبل الدخول في تفاصيل الرواية والتوقف عند بعض مشاهدها، هو إن الكاتبة نجحت في أن تأخذنا إلى مرحلة الخمسينيات، ليس كوقائع فحسب، بل جعلتنا نعيش أحلام نخبة من المناضلين بغد أفضل، فقد تباعدت الأحلام عن خيالنا منذ أن انتكست فرحتنا بزوال الطاغية، وتقطعت أوصال الوطن بسيوف الإرهاب، ونما على أرضه طغاة صغار، وتكاثر المفسدون.
بشكل عام أستطيع أن أقول دون أن أفوّت على من لم يقرأ الرواية، متعة قراءتها، بأنها قدمت تاريخاً مصغراً لبغداد، أبطالها يقطعون مسافات بين العقل والجنون، الفقر والغنى، الطهر والإثم، مفاهيم وعادات قديمة تستوطن عقول البعض منهم، تضعنا أمام أسئلة عن معاني الشرف، أجساد مغمورة بالعار حتى قمتها، لكن ألسنتها تلهج بشرف مستعار، شباب يصنعون مفاتيح المستقبل، يقتربون من باب الوطن، فينفتح أمامهم لتبدأ قصة الثورة في تموز من العام 1958 فيسدل الستار على ماضٍ لأناس تأصلت فيهم طباع دنيئة، فمن مدير الأمن حازم، والشرطي الخسيس محمد، إلى عائلة أبي شاكر، التي تغرز أنيابها في جسد شابة بائسة، تقطع رأسها، وتلهج بصرخة كريهة، معلنة غسل العار، وأي عار أكثر من قتل نفسٍ بريئة كانت ضحية اثنين من الوحوش، أحدهما ابن عمها، والثاني ذلك الشرطي، أسم الفتاة "ضمير"، سلب الموت عقلها حين فقدت عائلتها واستشهد أخوها باسم، ماذا أرادت الكاتبة بهذه التسمية؟ هل لتقول لنا بأن الضمير يغيب عند الطغاة، كبارهم وصغارهم؟ أم أن الفقر قد يسحق إنسانية البعض، ويدفع رجل إلى ربط ابنة أخيه بالحبال ويركلها لينفس عن قهره وبطالته؟ وعندما يقطع رأسها وتطوف به زوجته بين الجيران وتطلق الزغاريد، ألا يعني هذا موت الرحمة في القلوب؟ كيف لغبار الهمجية أن يملاْ الأجواء، وتعمى العيون عن المأساة ثم نزعم بأن هناك ضمير؟ أليس مشهد اغتصاب الشرطي للشابة المجنونة، محاولة للإنتقام مما عاناه في طفولته؟
غير إن صاحبة "الرمال" مع كل ما تكشفه من آلام في زوايا البيوت والشوارع، لا تريد لنا أن نغرق في دروب الحزن، فتبتعد بنا عن طقوس القسوة، لتروي لنا فصولاً عن عشاق تفتحت في قلوبهم الشابة زهور الأمل. للحب رائحة في ثنايا الرواية، عبيرها لا يفرق بين الفقر والغنى، بيوتات مترفة يتبادل أبناؤها وبناتها مواعيداً، ويصنعون أحلاماً، هكذا كانوا؛ بشار ونادية، سمر وسامر، عزّام ودينا، وإلى جانبهم عاشقان ينتزعان الفرح من عمق المأساة، إنهما خديجة وصبحي، يكدحان من الفجر حتى آخر النهار من أجل حياة أفضل وحلم بالمستقبل. الحب ذلك العابر للمسافات، يخفف من ظلمة الأسى، والألم المحفور في زوايا الرواية، ذلك المسافر دوماً والعائد أحياناً ليرسم الفرح على وجوه الأحبة، حتى حين توشك شمسهم على المغيب، هكذا يروي لنا الغروب قصة أمل، زوجة العقيد الفاسد، ساقتها أقدارها لتودع حبيبها بعد أعوام من الفراق، لينتهي بها الأمر إلى السجن دونما ذنب، وتحرم من ابنتيها وابنها، لكن الحب يجمعها معهم في ساعاتها الأخيرة.
كثيرة هي المواقف التي تغرينا بالتأمل في أحداث الرواية، فالكاتبة تأخذنا بسلاسة لاستعادة هتاف مجيد تشمخ به ذاكرة العراق، صوت الجواهري الصادح:
سلام على جاعلين الحتوف
جسراً إلى الموكب العابر
ذلك الجسر الذي عبرته امرأة فأيقظت حماسة الجموع وتقدم الرجال، ثائرين ضد الظلم، نعم لم يخل عصر من ظالمين، لكن الناس كانوا يهتفون ولم تقطع ألسنتهم، أو تقطع آذانهم. في العهد الملكي كان للمعارضة حق الحياة، لكنها في عهود حكم البعث أما محكوم عليها بالموت في الداخل، وأما منفية في بلدان شتّى، لذلك كان لحديث الخمسينيات في رواية الرمال، طعم الذكريات العذبة، مهما كانت مرارة بعضها.
في محاولة موفقة، تمزج الكاتبة بين تعبير الناس عن حزنهم المعتّق على استشهاد الإمام الحسين، ولوعة السجناء خلف القضبان، فقد وحدت بين إيقاعات هتافاتهم، ثورتهم وغضبهم، تقول في وصف طقوس عاشوراء في حضرة الكاظمية:
" زادت الثورة، زاد القهر، واشتدت الضربات عنفاً، فوجد البؤس متنفساً له، وقذفت الصدور العلقم الذي تختزنه .. تدافعت الأيدي وارتطمت الأكتاف، واشتبكت الأذرع .. وامتدت أذرع أخرى من بين القضبان .. دوت هتافات .. لقد سقط سجين آخر .. رفيق ثانٍ، بقعة حمراء تتوسع ... موتوا جميعاً، إنه يوم الشهيد .."
وبعد ففي الرواية شاهدان لا يملان من متابعة فصولها، يقول أحدهما عن الشابة ضمير: " إنها ضحية" فيجيبه الآخر: " عندما يجلس الطغاة على الكراسي، تنتشر الكراهية، ويعمّ الإنحطاط والبغض، فيشتد الحقد، ويموت الحب فتكثر الضحايا ". غير إن عتمة الكراهية لا تملك أن تحجب وهج المشاعر الجميلة، فهذه نادية التي ترددت طويلاً في الإستجابة لعاطفة صادقة، لما تركه والدها في نفسها من خوف ونفور من الزواج بسبب قسوته على أمها، ها هي تفتح قلبها لزميلها بشار فيتفقان على أن يمضيا حياتهما سوية دون عُقد. وكذلك أختها سمر، ودينا، كلتاهما عرفتا الحب في أوقات عصيبة، عزّام هو الآخر لم تمنعه مهامه وانهماكه في التخطيط للثورة، من أن يعشق ويحلم بحياة هانئة.
رقصة الرمال، رواية تستحق القراءة والتقييم، ليس لأنها فريدة في موضوعها ولكن لأنها حملت المأساة على أكّفٍ من أمل، قرنت الحياة بالموت، فحين يموت الجلادون يحيا الوطن. عرفت من سطورها كيف يأتي الموت نهاية لصبر جميل، حين تغمض الأم عينيها لآخر مرة، بعد أن كحلتهما برؤية ابنتيها، واطمأنت إلى أنها في بيتها وحولها عيون ترعاها. وكيف يكون الموت جزاءً مخزياً لمن تكللوا بالعار، فهذا مدير الأمن تعلق له الجماهير حبل المشنقة، وذاك العقيد الفاسد يطلق النار على ابنته سهاد وشريكها الشرطي الدنيئ، ثم يعجل لنفسه بالرصاصة الأخيرة، ليكون موتهم نهاية للشر والوضاعة.
أكثر ما علق بخاطري من اشخاص الرواية، تلك الشابة التي فقدت عقلها حزنا على شقيقها باسل، إنها المحبة حين تصدح بالنداء فيجيبها الفقدان بكل قسوته، فتسقط في قاع الجنون.
في الختام أود التأكيد على نجاح الكاتبة في تقديم شخصيات مقنعة، فكأن بعض أبطال الرواية كانوا حقاً يخططون لثورة تموز، وهم من تولوا إعلانها، لفرط ما استغرقت في شرح الخطوات التي ستعقبها وتؤمن لها الإنتصار. بالطبع لا تخلو الرواية من بعض العبارات المباشرة، وهذا دائماً هو ثمن الإقتراب من السياسة، ولكن بشكل عام فقد تفاعلت مع أجوائها، وسلاسة السرد، وراعني ما دار فيها من أحداث دامية، وكأنها تجري أمامي.

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014