• Default
  • Title
  • Date
الثلاثاء, 05 تموز/يوليو 2016

ضرورة الاستقراء قبل الحُكم اللغوي ، كلمة ( بَين ) نموذجاً

  عزيز عربي ساجت
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

الاستقراء : عبارة عن تتبع او تفحص الجزيئات للحصول على حُكم كلّي ، ويقال استقراء : بمعنى أخذ القراءة ، وفي المفهوم العام هو نوع من الاستدلال في الأحكام ، وضابطه هو : الحصول على حُكم كلي من تتبع جزئياته . مثل : أن نستقرىء ونتتبع ( الفاعل ) في مختلف الجمل في اللغة العربية لنعرف حكمه من خلال الفروق بين الملاحظة والتجربة ، واستدلال الفرق بين الاستقراء الناقص المعلّل وغير المعلّل ، ويعتبر الاستقراء خلاصة علم المنطق المتداول ، والفرق بين الاستنتاج والاستقراء كما جاء في "ظنية العلم التجريبي " في منتدى الاصلين بالقول : بين الاستنتاج والاستقراء يتبع الاستدلال العقلي وعلى القياس المنطقي الاستنتاجي الى أكثر من المعرفة اللغوية ، مع التأكيد على ضرورة بقاء هذا الشرط دائماً للحافظ على هذا الاعتبار ، والاستقراء في اللغة هو التتبع ، وقرأت الشيء جمعته بعضهُ الى بعض للتعرف على اجزائه ومضامينه .
من بعض الاجزاء الى تعميم الحكم على الكل ، واستقراء تام يستخلص فيه الباحث الحكم ، من جميع الجزيئات ويعممهُ على الجميع اعتماداً تاماً على السماع ، كما ورد في ضرورة الشعر .
وأما التام فهو انتقال الذهن من الحكم على جميع الجزيئات الى الحكم على الجزء الواحد ، ويعتبر المنهج الاستقرائي من المناهج المشتركة بين العلوم .
نوابغ العرب في عصورهم الذهبية ، أغنوا اللغة العربية العالم بالعلوم ، فكانت القوانين المعيار الدقيق في الحكم على النصوص وقدرة اصحابها على التطوير والابداع في هذا هذا المجال ، ولاحظ علماء اللغة المتقدمون ضرورة أستنباط القوانين اللغوية من خلال عملية الاستقراء .
اما الاستقراء ومجالاته في العلوم الشرعية ، كان لمقاصد علماء الحديث في الحكم على الحديث كثيرة منها اهمية استعمال الاستقراء في دراسة القواعد الأصولية والفقهية والحديثية والعقدية وغير ذلك ، لغوياً ، والموازنة بين الاستقراء التام والاستقراء الناقص .
والاستقراء عند الاصوليون فانه يمثل الاحكام اللغوية الكلية والذي يصل الى مرتبة القطع وصيرورتها من العلوم من الدين بالضرورة المطلقة والبرهان .
فبينوا في كتاباتهم عن دور الاستقراء اللغوي على استنباط المعرفة وعلى التدريس والفلسفة والعلوم الرياضية .
لقد تناولت الدكتورة مها خيربك ناصر في بحثها الموسوم ( اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي) في دراسة وافية لهذه الحالة اللغوية بالقول : ان المخزون الثقافي والحضاري لامتنا قوة كامنة في أصالة تكوينها ، وهو يمنحها الحصانة الثقافية ، التي ترعى قدراتنا وطاقاتنا ، وتكسبها فاعلية الحركة للبحث عن الجوهر بلغة عربية سليمة ، عُرفت عبر تاريخها الطويل بمقاومة التيارات ، وإثبات الذات ، بفضل تمسك أبنائها بها ، وبفضل مقاومتها وخصائصها المتميزة ، التي جعلت منها لغة حية قادرة على احتواء منتج الفكر الانساني ، واداة تعبير وتواصل بين العرب والمستشرقين الذين أكدوا على عظمة اللغة العربية ، وعلى اهمية دورها العربي والانساني ، وعلى فاعليتها ، واصالتها المتجذرة في التاريخ ، هذه الاصالة رأى فيها أحد المستشرقين عريناً ، التجأ إليه العرب في أثناء محن التاريخ فقال : "إن العرب في ظل الاستعمار لجأوا لحماية هويتهم وأصالتهم إلى اللغة العربية" .
وفي مكان آخر تحدثت هذه الكاتبة المقتدرة عن دور علماء اللغة العربية في النحو والصرف في تثبيت دعائمها وتطويرها والحفاظ عليها من الخفوت والانقراض ، لم يُجمد علماء العرب اللغة في قوالب جاهزة ، وفي بطون الكتب فقط ، بل قاموا باستقراء نصوصها ، ووضع مفرداتها في الاستعمال ، بما تقتضيه قواعد تراكيبها ، فاغنوا اللغة بالمفردات والمصطلحات وأساليب التعبير وأوصَّلوا مهمة اللغة في خلق المعرفة اللغوية ونشرها ، والتي تكشف عن سلامة النطق والتعبير وسهولة استخدام المصطلحات العلمية ، وأثبتوا قدرتها على التعبير عن الفكر وما يطرحه من موضوعات ، او ما يبحثه من حقائق " فلوا ان علماءنا المحدثين عمدوا الى مثل هذا النهج لضمنا ثروة لغوية عربية تتناسب تماماً مع ما ينتجون من علم ومعرفة أو يقدمون من فن .
ولعل نحن المندائيين يراد لنا مثل هكذا وقفات ، كي نحافظ على تراثنا وكي تثبت لغتنا المندائية على التلقي الصحيح والنطق السليم مع الاهتمام الفاعل والتفاعل والتطور مع مسار اللغات الاخرى ومنها لغتنا الثانية ، اللغة العربية الجميلة .
معتبرة الكاتبة اللغة وحسب وصفها هي نتاج الإدراك العقل ، والإدراك العقلي السليم متجسد بمنهجية المنطق ، وما يولده من علاقات لغوية ، لها دلالاتها في عملية التواصل ، كي تكتسب الألفاظ دلالاتها في السياق من معانيها المعجمية ، ودلالاتها الصرفية والنحوية ذات الخصائص الثابتة التي تمنحها هويتها الشخصية المميزة ، وهذه الخصائص اثبتها علماء اللغة عن طريق الاستقراء العلمي لنصوص عربية ، هداهم الاستقراء الى وضع فرضيات بنوا عليها نظرياتهم وقوانينهم اللغوية ، فكانت ىهذه القوانين المعيار الدقيق في الحكم على النصوص وقدرة أصحابها على التعامل الصحيح مع اللغة .
لقد تحدثتْ عن علماء الفكر واللغة منهم ابن سينا وابن وحشية الصابي وابن جنية بالقول : وعن ارتباط النحو بالمنطق على وضع فرضيات تتبنى صياغة ألفاظ على نسق ألفاظ الصياغة الصحيحة ، وكشف علاقاتها : فكان ابن جنية يضع الفرضية ، ويطرح السؤال ، ثم يجيب عن سؤاله بالبرهان لإثبات صحة الفرضيات ، او ينقضها ، كفرضيته الناتجة عن الاستقراء ، والقائلة : إن المسند اليه "الفاعل مرفوع " ثم سأل : ما سبب رفع الفاعل ؟ فأجاب : ارتفع بفاعله .ثم طرح سؤالا آخر : لم يصل الفاعل مرفوعاً ، فبرر الرفع بقوله : ان صاحب الحديث أقوى الأسماء ، والضمة أقوى الحركات فجُعل الأقوى للأقوى . وفي مكان آخر : وعن كيفية صياغة الفرضيات نظريات ، وانتجت بالتعليل والبرهان قواعد يقاس عليها ، ولاحظ علماء اللغة المتقدمون ضرورة استنباط القوانين اللغوية من خلال عملية الاستقراء ، فبرر ابن جنية الاتفاق على اللغة وقواعدها ، وقال إنها تتكرس في المجتمعات بعقدٍ بين المتكلمين بها ، ثم جاء النحو علماً على ما جاء من قولهم " فهو علم منتزع من استقراء اللغة " ، حسب ما جاء في كتابه ، "الخصائص اللغوية" ، وفي "وسائل اللغة والنحو".
وبذلك أثبت هؤلاء العلماء في اللغة ، أن التعامل اللغوي كان مفهوماً فطرياً وطبيعياً بين أفراد المجتمع الواحد ومجرداً عن التوصيف ، كمفهوم المجتمع البدائي للعدالة والإنصاف .
وفي كتب الأخطاء الشائعة تناول لموضوع (بَين ) المكرّرة في اللغة المتداولة ، والغالب على تفكير المؤلفين أنّ تكرارها لا يجوز إلا إذا أضيفت الى ضمير ، نحو : بَيننا وبين جيراننا وئام ، ونحو : بيننا وبينك موعد . وأحد المتناولين للموضوع يعرض لرأي المجيزين تكرارَها في غير ذلك ، واستنادهم إلى أبيات لعنترة وذي الرمُّة وعديّ بن زيد وأعشى همدان ، فيزعم أن تكرار هؤلاء لها كان لضرورة شعريّة لم يلحظها المؤلّفون من الضرورات (كذا )، وأنّ ابن منظور لجأ ، مّرة واحدة فقط ، إلى تكرارها في عطف اسم ظاهر على آخر ، وذلك في كلامه على (بَين) وان الزبيدي صحّح له ذلك التكرار ، وكما استعملها ابن منظور ايضا في معجمه الضخم كلمة ( بَين ) مكررة مع اضافتها الى اسماء ظاهرة ، عشرات المرات . وحقيقة القول ، لا يعتقد بأن من ضرورات الشعر تكرار الألفاظ غير الجائز تكرارها ، ولا سيّما ب (بَين) المكرّرة مضافة إلى اسمين ظاهرين ، والمستعملة في أبيات كثيرة من الشعر العربي .
ومعروف أنّ (بَين) ظرف يدل على ما يتوسّط شيئين أو موضعين أو زمنين ، أو يكون مشتركاً بينهما ، وقد تجيء (بَين) ظرفاً مجازياً يدلّ على علاقة اشتراك او تضادّ .
فإذا كان التوسّط بين أشياء متماثلة أضيفت (بَين) إلى المثنى أو الجمع ، نحو : بين القصرين ، بين الأشجار ، وقد يقال : بين آونة وآونة ، وبين لحظة وأخرى ، بعطف المتماثلين أو ما ينوب عنهما ، لكنه قليل ، وأن تكرار (بين) بين اسمين ظاهرين يقضي أن يكون هذان مركبين تركيباً وصفياً أو عاطفياً.
أما إذا كان التوسّط بين أشياء متعدّدة مختلفة فإن (بَين ) تضاف الى مركب عطفيّ، نحو : حَكَم القاضي بين المراة وزوجها وأبيها ، وكأنّ المنشىء يقول : حكم القاضي بين ثلاثة أشخاص : المرأة ، إلخ . لكن حين يكون التوسّط بين شيئين مختلفين يدلّ عليهما اسمان ظاهران ، فالأكثر إضافة (بَين) الى مركب عطفي ، كالذي في الجمع ، ومثاله قول الآية : (( يخرج من بين الصُلب والترائب )). و(بَين) تُكرر دائماً إذا أضيفت إلى ضمير ، لامتناع العطف على الضمائر المجرورة أو عطف الضمائر على مجرورات ، وقد مثّلنا لذلك ابتداء . لكنهم كرّروها ايضاً مضافة إلى اسمين ظاهرين ، وهنا تكمن الحقيقة .
ومن الشعراء الذِين استخدموا هذا الضرب من التكرار امرؤ القَيس وكعب بن مالك وأبو داود واللعين المنقريّ والسيّد الحِميَري ومُليح الهُذَليّ والمتنبي وغيرهم كثيرون ، ونكتفي بامرىء القيس والمتنبي شاهدين :
يقول امرؤ القيس في معلقته المشهورة :-
قعدتُ له وصُحبتي بَين حامِر وبَين إكام ، بُعدَ ما متأمَّلِ
وفي قول ابو الطيب المُتنبي ، أبياتاً على هذا النسق ، ومنها :-
وبَين أعلاهُ وبَين الأسفلِ شَبيهُ وَسمِي الحِضارِ بالوَلي
وقد نسب الجاَحِظ إلى ابن المقفّع نصّاً يقول فيه : (( وفرق بين صَدر خِطبة النكاح وبَين صدر خُطبة العيد )) .
واستخدم سيبويه هذا الضرب من التكرار نحو ستّين مرّة في كتابه المشهور (كتاب سيبوية في علم الصرف والنحو) ، وكان استعماله له بعد أفعال فرّق وفصَل وأشرك وأشباهها ، ومن ذلك قوله : (( لأنك قد فصَلتَ بين المبتدأ وبين الفعل )). واستخدمه الجاحِظ سبع مرّات في الجزء الأول وحده في كتاب ( البيان والتبيين ) في إحداها قول ابن المقفع السابق ذكره ، ومن اقواله : ( وما الفرق بين أشعارهم وبَين الكلام ) . واستعمل الواحديّ هذا الضرب بكثرة في شرحه لديوان المتنبي ، وبدا مفضّلاً له على الضرب الآخر ، كقوله : ( سيوفه فرّقت بين رؤوس القوم وبَين أبدانهم حتى صارت مغافرهم على رؤوس بلا ابدان والهام ) ، وكما أكثر ياقوت الحمويّ من استعماله في (( معجم البلدان )) كقوله متكلّماً على أليَل: ( موضع بين وادي يَنبُع وبين العُذَيبة ) .
خلاصة القول ، من الخطأ الحكم على الأمر من غير استقراء الشواهد الممكنة ، كالاكتفاء بمادّة واحدة من معجم ، او كاهمال النصوص الحيّة الموثوقة ، والأخطر من ذلك ان تُبنى استنتاجات على الاجتزاء ، اي ان اسلوب التحكم والتسرّع مع توهّم الصواب ، وهو اسلوب ينبغي تجنبه ، لان المادة قد تصل الى المتلقي مبتورة المعاني وغير واضحة المورد.
المصادر :
-د. مها خيربك ناصر / اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي - صحيفة اللغة العربية
- د. مصطفى الجوزو ، اكاديمي من لبنان / الاستقراء قبل الحكم اللغوي .
- الموسوعة الحرة - وكيبيديا.
- منتديات
- المنهج الاستقرائي عند الامام الشاطبي / في اقلام الديوان .
اقتباس وبتصرف

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014