• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 24 تموز/يوليو 2016

الچلیلو .. الچلیچلاوه

  صلاح جبار عوفي
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

ذبابة مايو ، الحشرة اليومية ، حشرة تيسا
ما بين عام 1955 و 1961 ، كنتُ تلميذا في مدرسة سوق الشيوخ الابتدائية .. وفي صباحاتٍ من فصل الربيع ، نُفاجأ ـــ نحن الذين نسكن شواطئ الفرات ـــ بغطاءٍ أبيض ، كلُّ جزءٍ فيه مرتعش ، قد كسى سطح ذلك النهر الخالد ، ونعرف فيما بعد ، أنَّ هذه الارتعاشة ذات الإيقاع الموسيقي الجميل ، تعودُ للحركة المتناسقة لأجنحة تلك الحشرات البيضاء اللون التي غطَّت وجه الماء ، والتي أطلقَ عليها أهلنا إسماً محلياً جنوبياً ، فحفضناه ، خصوصاً بعد أن إرتبط بواحدة من أغاني طفولتنا السعيدة ، التي كان مطلعها :ـ
چلیلو ماتت أُمَّك ... وكت العصر أطمَّك
لقد عرفنا أنَّ هذه الحشرة هي ( الچليلو ) .. وعلى ما يبدو أنَّ هذا الإسم قد جاء من تكدّس هذه الحشرات بأعداد هائلة على سطح الماء ، أي أنها " چلچلت " على سطح الماء ، ( ولم أجد أثراً لهذه الكلمة في اللغتين الفارسية والتركية .. فقد تكون آرامية الأصل ) ، وقد وردت أيضاً ، في الأغنية التراثية المعروفة :ـ
چلچل علیَّه الرمّان ... النومي فزعلي
هذا الحلو ما أريده ... ودُّوني لهلــــي
وظلَّ إسمها هكذا بالنسبة لي والآخرين ، دون أن أعلم عن تفاصيلها شيئاً ، حتى إنهاء دراستي الثانوية وإختياري لقسم العلوم البايولوجية ( الحيوان والنبات ) ، وهو أحد أقسام كلية ( التربية ــ العلوم ) .
وفي السنة الثانية من دراستي ( 1968 م ) ، وبينما كان الدكتور محمد عمار الراوي المتخصص بعلم الحشرات ، يشرحُ لنا عن حشرةٍ ، قال إنها (ذبابة مايو أو ذبابة مايس) .. فهنا إنتبهتُ ، أنَّ جميع صفات هذه الحشرة وطريقة تكاثرها تشبه تماماً الحشرة التي نسمِّيها الچليلو وهي حشرة تنتمي إلى رتبة تسمى " رتبة الحشرات المجنَّحة " وقد سُمِّيت هذه الحشرة بــ ( ذبابة مايو ) ، لأنها تظهر في أوربا في شهر مايو ، وعندنا في الربيع ( آذار ونيسان ) .. وتسمى بــ ( الحشرة اليومية ) ، لأنَّها تعيش ليوم واحد فقط أو أقل من يوم .. وهي تسمى أيضاً بــ " حشرة تيسا " ، نسبة إلى ( نهر تيسا ) الذي هو فرع من نهر الدانوب في جمهورية المجر .. ويتراوح طولها بين ( 0.5 ـــ 5 سنتميتر ) ، وقد تصل الى 12 أو 15 سم في أنهار أوربا .. وهي ذات أجنحة أربعة بيضاء اللون ( الانواع الاوربية منها ذات أجنحة ملونة ) ، ولها لواحق ذنبية بشكل خيطين رفيعين ، يساعدانها مع الاجنحة على الطيران لمسافة قصيرة جدا .. وهي لا تتغذى ، إذ ليس لها فم متكامل ( بينما الحشرات الحقيقية لها جناحان فقط ، وفم متكامل ) ، وتتنفس عن طريق الغلاصم .
أما دورة حياتها وتكاثرها لجميع أنواعها ، البالغة أكثر من 2500 نوعاً ، فتبدأ بالبيوض الملقَّحة من قبل الذكور في الدورة السابقة ، والتي تطرحها الاناث فوق سطح الماء ، لتستقر في قاع النهر ، حيث تنمو وتفقس بعد 45 يوماً عن حوريات مائية ، وفوراً تبدأ هذه الاخيرة ، بحفر أنفاق ( جيوب) في قاع النهر ، لتسكن فيها أعداد هائلة من هذه الحوريات بما يشبه المستعمرات المحصَّنة بكل وسائل الحماية لمدة ثلاث سنوات ( مُو بس البشر يفتهم !!!) .. وبعد إنقضاء السنوات الثلاث ، تتحول الحوريات المائية ، بعد الانسلاخ الأخير ، إلى حشرات كاملة وبأجنحتها الأربعة ، فتنطلق ( ذكوراً وأُناثا ) من أعماق النهر نحو سطح الماء .
ومع هذا الظهور المفاجئ والانتشار الواسع لقطعات الطرفين ( الذكور والأناث ) ، تكون ساعة الصفر قد بدأت ، فتنطلق الذكور بكامل عددها وعدتها مهاجمةً الأناث أينما وُجدت (كل ذكر لأنثى) ، لتلقيحها وتخصيب بيوضها ( لا لقصد ، إلاّ للحفاظ على النوع )ا
أما الاناث فتراها تطير لمسافة قصيرة ، تارَّةً ، ومنزلقة على سطح الماء أمام الذكور ، تارةً أُخرى .. ثمَّ تحط .. وتطير .. وهكذا .. ( لا أعتقد أنها مهزومة ، فربما هي حركات إغراء ، أو نوع من الغزل ، ليس إلاّ !! .. فالحب بين الحيوانات أصدق من الحب بين بعض البشر !!) .. أما الذكور ، فمن خلفها ، تطيرُ وتحط بنفس الطريقة ، ليتحول سطح النهر إلى ساحةٍ لزواج جماعي ، دون أن يعلم الجميع ( أناثاً وذكورا ) ، بأنَّ رقصة الزواج هذه ، هي رقصة الوداع ..!ا
وعندما يحصل ، أنَّ عدد الأناث أقل بكثير من عدد الذكور ، فماذا يحدث ؟ هل تبقى الذكور التي لم تحصل على أناثها متفرجة ؟ فذكر الچليلو لا يتحمَّل هذا الظلم !! وهو يعلم ، أنه سيموت بعد ساعات !! ... فحَلاً لهذه الأزمة ، وخوفاً من شماتة زملائهم ، تتفق الذكور المحرومة ، لتشكيل مليشياتها !! ( كل مليشيا من 20 ذكر ) ، ليُلقِّحوا بالتناوب أنثى واحدة ، كزوجة مشتركة للجميع !!! ( خلافاً لكل القوانين الانسانية ، عدا ما حصل في عصر قبل الاسلام ، المسمى " عصر الجاهلية " )
وبعد ما تتم عمليات التلقيح ، تقوم الأناث الملقَّحات ، بطرح بيوضهنَّ على طول الطريق المائي ، فتأخذ البيوض طريقها لقعر النهر ، لتبدأ دورة تكاثرية جديدة .. أما مصير جميع الأناث والذكور ، بعد إنتهاء هذا العرس الچليلوي الكبير ، سيكون الموت ( عساه عرس الاگشر !!! ) .. فتتكدس مئات الآلاف أو أكثر من جثث هذه الحشرات الجميلة ، لتغطي وجه الماء وظفتي النهر ، لتصل أعداد من الجثث إلى الشوارع المحاذية للنهر .
( فالرحمة والمغفرة لجميع موتى الچلیلو فی العالم )ا
والآن لماذا غاب ( الچليلو ) ، ولم يظهر في أنهارنا ؟؟
فآخر ظهور لهذه الحشرات في أنهار العراق ، كان فی بداية الستينيات من القرن الماضي
أنا أُرجّح الإختفاء لسببين : الاول ، كان لتنظيف نهري دجلة والفرات ( عمليات الكري ) ، التي على ما يبدو إقتلعت أنفاق مستعمرات اليرقات من قاع النهرين ، ولن تبقي أثراً لبیوضها وحورياتها ، حتى تتكائر من جديد لتستمر دورة الحياة ... والسبب الثاني ، في بداية ثورة 14 تموز ، أرادت وزارة الزراعة في عصر الزعيم عبد الكريم قاسم ، أن تقضي على الملاريا والبلهارزيا ، فأمرت بإستيراد نوع من الاسماك الآكلة لبيوض ويرقات بعض الامراض المستوطنة في البيئة المائية ، فكانت ( سمكة صغيرة حمراء اللون سريعة الاقتناص تشبه " أبو الزمَّير" ) ، والتي سمّاها العراقيون في حينها بــ ( سمكة الزعيم أو السمك الجمهوري !!! ) .. ولكن وبالرغم ما أدت هذه السمكة من وظائف ، لكنَّها أضرَّت في جانب آخر ، فهي كانت تلتهم بيوض أسماكنا الجميلة ، وأعتقد بسبب ذلك قامت وزارة الزراعة بحملة مضادة لتنظيف الانهار من سمكة الزعيم هذه .
-----------------------------------
وختاما ...شكراً للاستاذ حامد مغشغش أبو نزار ، مرجعنا في اللغتين العربية والانكليزية ، والذي حفزني موضوعهُ ( أفراحنا وعرس الچليلو !!! ) ، لكتابة موضوعي العلمي هذا ، بالرغم من أنَّ هدف موضوعهِ ، كان العمل المندائي .
وشكراً للأستاذ فاضل فرج أبو عمار ، مرجعنا في العلوم البيولوجية ، الذي إطَّلعَ على الموضوع وشجَّعَ على نشره .
مع أجمل التحايا للقرّاء الأعزاء

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014